الترجمة وتأثيرها في تطوير آفاق اللّغة العربيّة
Translation and its impact on developing the horizons of the Arabic language
oday Dahham Turki Al-Dulaimi عدي دحام تركي الدّليمي()
تاريخ الإرسال : 19-3-2024 تاريخ القبول : 8-4-2024
الملخص
من خلال هذه الورقة البحثيّة نحاول التّطرق الى موضوع مهمّ ألا وهو التّرجمة الآليّة وما لها من أهمّيّة في هذا العصر، وما مدى العلاقة الجبريّة بين التّرجمة واللغة العربيّة وخاصة بعد التّطور التّكنولوجي الحاصل، ونحن نسابق الزّمن مع التّكنولوجيا الحديثة التي تُذهل الجميع يومًا بعد يوم في سرعة إنتاج التّطبيقات التي تعالج اللغة أو تساهم في الترجمة من اللغة العربيّة الى عشرات أو مئات اللغات وبالعكس، وبما أنّ اللغة العربيّة تعدُّ لغةً حيّةً واسعة الانتشار والتّطور، فإنّ التّرجمة تعدُّ أحد العوامل المهمة في تطور اللغة العربيّة. كما نتطرق في هذا البحث المتواضع الى مشكلات الترجمة الآلية في اللغة العربيّة . ونتطرق بعض الشيء الى علم الهندسة اللغويّة الحديث وتأثيرة في الترجمة الآليّة. ويهدف البحث الى ما وصلت إليه اللغة بعلاقتها مع التّرجمة ومن الله التوفيق .
الكلمات الافتتاحيّة : الترجمة، اللغة العربيّة، التكنولوجيا، الرّقمنة.
Abstract
Through this research paper, we are trying to address an important topic, which is machine translation and its importance in this era, and the extent of the algebraic relationship between translation and the Arabic language. Especially after the technological development that has occurred we are racing against time, where modern technology amazes everyone day after day in the speed of producing applications that process the language or contribute to translate from Arabic into dozens or hundreds of languages and vice versa. Since Arabic language is considered a living, widespread and evolving language, thus translation is considered one of the important factors in the development of the Arabic language. In this modest research, we also address the problems of machine translation in the Arabic language. We discuss some of the modern science of linguistic engineering and its impact on machine translation. The research aims to investigate what the language has reached in its relationship with translation, and may God grant us success.
Keywords: translation, Arabic language, technology, digitization
المقدمة: إنّ التّرجمة اليوم تعد نشاطًا بشريًا مهمًّا سواء أكان على المستوى العلمي أو الاقتصادي أو المهني وغيرها، فهي وسيلة التّواصل بين الثقافات والتّفاهم بين الشّعوب واللغات المختلفة. وإذا كان هذا النّشاط اللغويّ موغلًا في القدم وضاربًا في عمق التّاريخ الإنساني، فإنّ أهميّته تزايدت بشكل كبير نظرًا إلى التطوّرات والمتغيرات الطارئة على مرّ التّاريخ والأزمان. فقد أضحت التّرجمة أداة لا غنى عنها، تتجدد اللغات بها وتتطور وتعزز حيويتها، بالإضافة إلى دورها الكبير في إثراء اللّغة بحدّ ذاتها وتطويرها، فهي تُسهم في صناعة المعرفة وإنتاجها بكل أشكالها، وقد اهتم العرب بالتّرجمة منذ اتصالهم بالثقافات المجاورة، وقد نقلوا العلوم والآداب عن الفرس والیونان والصین والهند.
ومن خلال الاطلاع والدّراسة في هذا المجال نستطيع القول إن ازدهار حركة التّرجمة ازدهارًا كبیرًا في خواتيم العصر الأموي، وبدایات العصر العباسي -لاسیما حین تحولت إلى عمل مؤسساتي في عهد الخلیفة العباسي المأمون- وكان عاملًا مهمًا من عوامل النّهضة والتّقدم في تلك الحقبة، إذ كان الخليفة العباسي هارون الرّشيد يرسل العلماء إلى مختلف بلدان العالم بحثًا عن الكتب والمخطوطات، كما كان يكافئ المترجمين بكرم لا مثيل له.
وفي ما بعد، جهّز ابنه المأمون أفضل العلماء والمترجمين للقيام بالأبحاث العلميّة والتّرجمة والتّأليف في مختلف المجالات، وقد برز في هذا العصر علماء كبار على درجة عظيمة من العلم والتّبحر في المعرفة ومن أمثال هؤلاء نذكر الخوارزمي، والجاحظ والكندي بالإضافة إلى مترجمين عظماء ومن أشهرهم حُنين ابن إسحاق الذي جمع المهارة في الطب إلى النّبوغ في التّرجمة والتأليف.
وقد تكلّلت كلّ هذه الجهود بإنشاء بيت الحكمة() في بغداد، والتي كانت أول أكاديميّة في العالم الإسلامي تُجمع خلف جدرانها أفضل العقول والعلماء والباحثين. وما يثير الاهتمام أنّ المأمون كان قد منح المترجمين زمن خلافته أعلى المناصب في البلاط تكريمًا لجهودهم الحثيثة وتقديرًا لهم في إثراء التّذراث الإسلامي والعربي في مختلف ميادين المعرفة الجديدة آنذاك. وهو ما أكده الباحث ديمتري جوتاس في كتابه “الفكر اليوناني والثقافة العربيّة: حركة التّرجمة اليونانيّة – العربيّة في بغداد والمجتمع العباسي المبكر”.
ومن الدّراسات المتصلة بهذا الموضوع بشكل أو بآخر، نعرض ما يأتي :
1.للغة العربيّة في عصر الرقمنة : حلول ودراسات: الناشر: جامعة الخرطوم – المؤلف الرئيسي ( علي عواطف جسن )- المجلد (8، 6) 2014- نوع المحتوى بحوث ومقالات- المصدر(موقع:دارالمنظومة) http://search.mandumah.com
2.اللغة العربيّة والتنمية الرقميّة: د.صالح غيلوس- تاريخ النشر :5/ سبتمبر / 2021
(العربيّة) الشّبكة العنكبوتيّة www.alarabia./qafilah/2021/09/5
3.المعالجة الآليّة للغة العربيّة في ظل الفجوة الرقميّة والانفجار المعرفي
أ.د.م محمد خليفة محمود – كتاب منشور في مجلة كلية دار العلوم .القاهره 2001.
4.دور اللغة العربيّة في نقل المعلومات الرقمية والتبادل الثقافي عبر الشبكات “صناعة المعجم الآلي نموذجًا” د.عباس عبد الحليم عباس .2007 الأردن.
مفهوم الترجمة وطرقها: لقد شهدت القرون السّابقة وفرة في الدّراسات النّقديّة التي عنيت ببحث الطرائق المعتمدة في مفهوم الترجمة. لكنها دراسات كانت تغلب عليها التّقييمات الانطباعيّة لما ينبغي أن تكون عليه التّرجمة الجيّدة، وظلت الدّراسات التّرجميّة على حالها تلك إلى منتصف القرن العشرين، وقد ظهرت أولى الدّراسات اللسانيّة التي اهتمت بـ “مفهوم الترجمة”، وهي دراسات لم يعد أصحابها يعدّون التّرجمة مجرد فن، بل أصبحوا يعدُّونها، علم من العلوم، ويسعون، من ثم، إلى منهجيّة سيرورة عمليّة بتحليل مفهوم الترجمة().
أصل لفظ ترجم : لم يكن للفظ Traduire (على صيغة الفعل) وجود في اللسان الفرنسي قبل القرن السّادس عشر. ما يعود، في أصله، إلى فعل لاتيني قديم جدًا، كانت هيأته في صيغة المصدر المضارع Transferre، وفي صيغة اسم المفعول Translatus وكان المترجم يعرف في اللسان اللاتيني باسم Interpres واسم التّرجمان في اللسان الفرنسي Interprète كما في اللسان الإنجليزي Interpreter يطلق على من كانت وظيفته فكّ مستغلقات النّصوص التي يستعصي فهمها. وكان يطلق، كذلك، على الشّخص الذي يرافق الخارجين إلى البلاد الأجنبيّة.
وقد كان هذا الشخص يعرف في الماضي، باسم دراكومان (في مصر)، أو دروكمان Drogmanno) في اللسان الإيطالي(، وهو اسم مشتق من الكلمة العربيّة ترجمان() التي تعود في أصلها، كذلك، إلى الكلمة الأشورية Ragamoوتعني تكلم() ثم وجدنا موليير() (Molière) قد كتب هذه الكلمة كذا (Truchement أو Traucheman ) ويفيدنا() أنّ اسم دروكمان كان يطلق في القسطنطينيّة وفي سائر بلاد الشرق على من يقوم بمهمة التّرجمة الرسمية لوفد من الوفود، أو سفارة من السّفارات، وكان يطلق على التراجمة الذين يوكل إليهم، رسميًا، مرافقة الدّيبلوماسيين والقناصلة المعتمدين في بلدان الشّرق، وبخاصة منها البلدان المسلمة.
وقد تُخُلِّي عن لقب دروكمان في العام 1902، بينما أصبح اسم ترجمان مقصورًا على الأعوان العاملين في بلدان الشّرق الأقصى. ويرى ستاينر() (Steiner)() أنّ لكلمة Truchement في كتاب باسكال Les provincials إيحاءات قدحيّة. فهي تجعل اسمًا لوسيط لا يبلغ كل ما يسمع في أمانة تامّة! ولقد كانت هذه الكلمات تشير في المقام الأول، إلى عمليًة ذهنيًة، لأنّ غالبيًة النّاس كانوا أُميين أو لأنّ اللسان المتداول شفاها كان يعدُّ أكثر أصالة من الكتابة. ويعود الفضل إلى روبير إيتيان() (Robert Étienne) في إدخال فعل Traduire إلى اللسان الفرنسي (كان ذلك في 1539)، ليحل فور ذلك محل فعل Translater. ثم أضاف إليه إتيان دولي كلمتين، هما: Traducteur و Traduction (1540).
دور التّرجمة في تطوير اللّغة العربيّة: وبعد الحديث عن دور الترجمة الثقافي والحضاري سننتقل الآن إلى الحديث عن دور الترجمات القديمة في تطوير اللّغة العربيّة، ومدّها بالمصطلحات اللازمة والتي كانت تفتقد إليها في العصور السّابقة. إذ لا يخفى اليوم على أحد أنّ الحضارة العربيّة اليوم تعاني من أزمةٍ تطال مختلف جوانب حياة الإنسان العربي، وتظهر آثارها جليّة في ما تنتجه حضارة العرب على الصعد الفكريّة والعلميّة والتكنولوجيّة جميعها، بل وصل الأمر إلى اللّغة والأدب والهويّة العربيّة. ولا شكّ في أنّ الإنسان العربي وخصوصًا المثقف بات مأزومًا، فهو المتضرر الأول من هذه الأزمة الحضاريّة العميقة، فقد أصبح المثقفون يعانون التّشتت والضياع أضف إلى شعورهم البالغ بالعجز أمام الأزمة، كلّ ذلك في ظلّ غياب شبه تام للحكومات العربيّة التي لا تحرّك ساكنًا في مواجهة هذه الأزمة؛ ولا تحاول دعم المثقفين والمفكرين العرب تمهيدًا لتوظيف جهودهم في النّهضة المرتجاة().
ومن المعلوم أنّ الحضارة العربيّة بلغت أوج مجدها، وزهوها في العصر العباسي عندما كان الحكّام العرب يدعمون الحركة العلميّة في البلدان العربيّة التي تجلّت بداياتها في حركة الترجمة والتّعريب، وتطورت لتصبح حركة بحث وتأليفٍ نشطة في مختلف العلوم والفنون، وانتشرت مراكز التّرجمة في مختلف الأقطار العربيّة والتي كانت تُعرف ببيوت الحكمة مستفيدةً، ومسهمةً في آنٍ معًا في حضارة عربيّة سطعت شمسها في مختلف الآفاق.
وبالعودة إلى أيّامنا الرّاهنة فإنّ المراكز المختلفة في العالم العربي تعاني العديد من الأزمات، ويغيب دورها الفاعل في السّاحة الثقافيّة بسبب تهميشها، وبدل أن تكون مسهمة في النّهوض من الواقع الراهن أصبحت، مع ضعف الترجمة إلى العربيّة، تعكس الأزمة الحضاريّة عندنا بمختلف وجوهها().
إنّ أزمة الإنسان العربي الحضاريّة هي في الواقع أزمتان، أزمة فشل في إنتاج حضارة في الوقت الراهن وصناعة نهضة تحقق للإنسان العربي كيانه وذاته، وأزمة تضييع حضارة سابقة دانت لها الأمم. وإن كنّا لسنا من دعاة الانغلاق والعودة إلى الذات العربيّة، ولا ندعو إلى محاولة إحياء حضارة القرن السّابع الهجري لنواجه بها مشاكل القرن الحادي والعشرين، فإنّنا ندرك أهميّة التراث في حضارة أيّ أمّة. إذ يقول د. طه عبدالرحمن(): “لا سبيل إلى الانقطاع عن العمل بالتّراث في واقعنا، لأنّ أسبابه مشتعلة فينا على الدّوام آخذة بأفكارنا، وموجهة لأعمالنا، متحكّمة في حاضرنا ومستشرفة لمستقبلنا، سواء أقبلنا عليه إقبال الواعي بآثاره التي لا تمحى، أم تظاهرنا بالإدبار عنه غافلين عن واقع استيلائه على وجودنا ومداركنا”().
لقد حثّ الإسلام العرب، منذ مجيئه، على طلب العلم “أطلبوا العلم ولو في الصين”، وبدأت وبشكل مضطرد ترتفع أعداد من يتقنون الكتابة والقراءة في المجتمع العربي من النّساء والرجال، وذلك ليتمكنوا من قراءة القرآن، وما إنّ أرسى العرب قواعد الدّولة في العصر الأُموي، حتى أدركوا حاجتهم إلى العلوم والمعارف، والتقنيات المتاحة في عصرهم لحفظ هذه المعارف وتبادلها ونقلها. وسارعت الدّولة العربيّة الناشئة إلى احتضان الثقافة العربيّة والإنفاق عليها، خصوصًا حركة التّرجمة ونقل الكتب إلى العربيّة التي غدت لغة الثقافة في ذلك العصر، بعدما نُقلت إليها المؤلفات اليونانيّة المتوفرة جميعها. “وسرعان ما أنتجت رعاية النّخبة للمؤلفين وكتبهم مكتبات كبرى، فتح بعضها للعامة وفيها حجرات قراءة وأدوات نسخ. وكان الأمويون قد أنشأوا في دمشق أول مكتبة عربيّة، تضم أعمالًا يونانيّة ونصرانيّة في السيمياء والطبّ وعلوم أخرى”().
إذًا؛ وضع الأمويون الأوائل أساس البحث العلمي، لكنهم ركزوا كثيرًا أول الأمر على مسائل الشّريعة وممارسة الطب، “أمّا الخلفاء العباسيون فقد تعمدوا توسيع نطاق هذه الحدود المعرفيّة لتتسع أكثر لدراسة الفلسفة والعلوم المحكمة”().
ولاستيعاب ضخامة العمل المطلوب لترجمة ونسخ ودراسة وخزن هذا الحجم الضخم من الفنون الفارسيّة والسنسكريتيّة واليونانيّة؛ أنشأ الخليفة المنصور مكتبة ملكيّة على غرار ما كان لملوك الفرس العظام. واحتاج الأمر كذلك إلى حيز للعمل والدّعم الإداري والمساعدة الماليّة لجيش العلماء الصغير الذين سيتولون هذه المهام، ثم يبنون عليها بطرائق إبداعيّة أصيلة. كان هذا أصل ما بات يُعرف ببيت الحكمة، التّعبير المؤسساتي الإمبراطوري الجامع للطموح الفكري العباسي الأول والسياسة الرسميّة للدولة، “ومع الوقت، صار بيت الحكمة يشتمل على مكتب للتّرجمة، ومستودع للكتب، وأكاديميّة من العلماء المفكرين والوافدين من أرجاء الإمبراطوريّة، لكن وظيفته الأولى كانت حفظ المعرفة التي لا تقدر بثمن، ما ظهر أحيانًا بتعبيرات أخرى لدى المؤرخين العرب استخدموها لوصف المشروع، كخزانة كتب الحكمة أو ببساطة خزانة الحكمة”().
كان هذا شكلًا من أشكال الرّعاية الرّسميّة للمثقفين والمراكز البحثيّة، وقد أنفقت الدولة بسخاء على بيت الحكمة، وعلى مشروعات الإغناء الثقافي والفكري المتصلة به، حتى الدبلوماسيّة والعسكريّة، اللتان كانتا تسخرّان لدفع عجلة المعرفة إلى الأمام. “فغالبًا ما كانت الوفود العباسيّة إلى البلاط البيزنطي المنافس تنقل إليه طلبات للحصول على نسخ من المتون اليونانيّة النفيسة، ونجحت في الحصول على أعمال لأفلاطون Plato وأرسطو Aristotle وأبقراط Hippocrates وجالبنوس Albinus وإقليدس Euclid”().
لقد كانت هذه المشروعات الثقافيّة بداية لتأسيس مجتمع عربي قائم على المعرفة، “فقد أصبح العلم وسواه من المساعي الفكريّة وسيلة أساسيّة للتقدم الاجتماعي، ما أسهم في تحطيم ما تبقى من الهرميّة الاجتماعيّة التقليديّة للعرب”()، وهكذا أحدثت المعرفة أولى التّغييرات في بنية المجتمع العربي، وقد “عزز ذلك تنافس العلماء ذوي الأصول المختلفة، ولاسيما العرب والفرس، على الفوز بالرعاية، وهي ظاهرة ضمنت استمرار العمل العلمي والأدبي الرفيع قرونًا”().
وهكذا حقق بيت الحكمة سلسلة من الإنجازات الثقافيّة، “وعلى امتداد 150 عامًا، ترجم العرب كل كتب العلم والفلسفة اليونانيّة، وحلّت العربيّة محل اليونانيّة كلغة عالميّة للبحث العلمي، وغدا التعليم العالي أكثر فأكثر تنظيمًا في أوائل القرن التاسع”(). وكان في أغلب المدن الإسلاميّة الرئيسة جامعة من نوع ما. ومن هذه الجامعات، مجمع الأزهر بالقاهرة الذي ظلّ مركز التدريس لألف عام بلا انقطاع، وكان طلبة العلم يقطعون مسافة شاسعة للتتلمذ على أشهر الأساتذة القادمين من أرجاء الإمبراطوريّة.
كان من أولى إنجازات بيت الحكمة ترجمة عمل مهم لأرسطو في المنطق، “اختير خصيصًا لتعزيز موقف علماء الدّين العباسيين في مجابهة أتباع الديانات الأخرى المنافسة”(). فقد رأى المسلمون، أوّل الأمر في الدّافع الدّيني للبحث عن المعرفة سبيلًا للتقرب إلى الله. ولم تظهر التّوترات بين متطلبات الإيمان ومتطلبات العقل إلّا في مرحلة لاحقة، ومع دخول العالم المسيحي في سبات، “ظهر بيت الحكمة كأول مساحة صراع كبرى بين موجبات العلم الحديث، ومفهوم الإله الواحد في العصور الوسطى الذي يشترك فيه المسلمون والنصارى واليهود. ففي أعين كثير من رجال الدّين في الأديان الثلاثة، بدت أي رغبة من جانب الإنسان لفهم محيطه بل السيطرة عليه تتعارض مع المفاهيم التقليديّة لطلاقة القدرة الإلهيّة”(). وقد مهّد هذا السّبيل إلى نشوء الصراع المصيري نفسه في أوروبا المسيحيّة بعد قرون.
وقد بلغ الدّعم الرسمي لبيت الحكمة أبرز مع وصول المأمون إلى الخلافة. وصحيح أنّ رعاية النّشاط العلمي والفلسفي، والبحث والاختراع، كانت تهدف إلى خدمة المصالح السياسيّة والدينيّة والدبلوماسيّة الحيويّة للدولة العباسيّة الأولى، لكن ذلك لا يمنع أنّ شغف بعض الخلفاء بالعلم كان حافزًا لذلك أيضًا، فقد أورد ابن النديم() خبرًا في فهرسته، “أنّ المأمون رأى في منامه رجلًا أبيض اللون… أصلع الرأس… جالسًا على سريره. قال المأمون: وكأنني بين يديه قد ملئت له هيبة. فقلت من أنت؟ قال: أنا أرسطاليس (Aristotle)، فسررت به وقلت له أيّها الحكيم أسألك؟ قال: سل، قلت ما الحسن؟ قال ما حسن في العقل. قلت: ثم ماذا؟ قال: ما حسن في الشّرع. قلت: ثم ماذا؟ قال: ما حسن عند الجمهور”(). وهو رد عدّه المأمون دليلًا على أنّ تعلم العلم واجب ديني، فكان هذا المنام من الأسباب المهمّة التي دفعت المأمون إلى الاهتمام بالعلم والمعرفة في زمانه.
وحصيلة الأمر أنّ المأمون قد اهتم اهتمامًا عميقًا بعمل العلماء في بيت الحكمة، فكان يتردد إليه بانتظام للتباحث مباشرة مع الخبراء والمستشارين في آخر ما انتهت إليه البحوث، وفي مسائل التمويل، وسوى ذلك في مسائل ذات صلة.
لقد رسمت هذه الثلاثيّة: دعمًا رسميًا- مراكز أبحاث- لنخب مثقّفة، ملامح مجتمع المعرفة العربي الأول، والدولة القويّة القادرة، والأمة التي صنعت حضارة شعّت في مختلف آفاق العالم. ولعلّ وصف اليعقوبي لمدينة بغداد ومجتمعها في تلك الحقبة لخير دليل على أنّ مجتمعًا عربيًا قويًا، كان قد تأسس على بنيان حضاري معرفي راسخ، يقول: “بغداد المدينة العظمى التي ليس لها نظير في مشارق الأرض ومغاربها، سعة وكبرًا وعمارة وكثرة مياه، وصحة هواء”() ثمّ يصف مناقب أهلها، فيقول: “فليس عالِم أعلم من عالِمِهِم، ولا أروى من راويهم، ولا أجدل من متكلمهم، ولا أعرب من نحويهم، ولا أقرأ من قارئهم، ولا أمهر من مطببهم، ولا أحذق من مغنيهم، ولا ألطف من صانعهم، ولا أكتب من كاتبهم، ولا أبين من منطقهم، ولا أعبد من عابدهم، ولا أورع من زاهدهم، ولا أفقه من حاكمهم، ولا أخطب من
خطيبهم، ولا أشعر من شاعرهم…”().
إنّ هذا الكلام السّابق يثبت بما لا يقبل الشّك أهميّة العناية بالتّرجمة التي تؤدي إلى تطور اللّغة ونهوضها وتسهم بشكل فاعل في تطوير الأمة العربيّة وتقدمها وعودتها إلى الرّيادة، والقيادة في عالم يتحول اليوم إلى عالم متعدد القوى في ظل عولمة ثقافيّة وفكريّة تؤدّي الترجمة فيها أدوارًا فاعلة ومهمة، وتتكئ فيها على تطور رقمي متسارع، تؤدي فيه التقنية الدور الأبرز، وهذا ما سيقودنا إلى الحديث عن اللّغة العربيّة والترجمة الآليّة.
اللّغة العربيّة والترجمة الآليّة: أدّت الترجمة على امتداد التاريخ البشري دورًا مهمًا في التواصل بين الشّعوب والأمم، لكنّ هذا الدّور التّواصلي سرعان ما توسع أفقه وامتدّ، بفضل تكنولوجيا الإعلام والاتصالات الحديثة التي ساعدت كثيرًا على تقريب المسافات بين البشر، وتقليص المدّة الزمنيّة في التّواصل والاتصال معًا. وبهذا التّحول في مسار وسائط الاتصال، أصبح الإنسان المعاصر يعيش على إيقاع قفزة نوعيّة تعود في الأساس إلى الانتشار الكبير للمعلوميات، والاستخدام الواسع للحواسيب بمختلف أنواعها وأحجامها. وهذا ما دفع المفكر الفرنسي فرنسواز ليوطار() (Jean-François Lyotard) إلى وصف المجتمع الحديث باسم المجتمع ما بعد الحداثي أو ما بعد الصناعي أو المجتمع المعلومياتي أو مجتمع المعرفة، وتلك الصفات تدل على إحدى السمات البارزة التي تؤشر على عمق التحول الذي شهده مجتمع ما بعد الحداثة أو مجتمع المعرفة()، وهذا يتّضح بشكل جلّي في المجالات المعرفيّة الجديدة التي أصبح يرتادها العلماء، والفلاسفة وعلماء النّفس واللسانيون وغيرهم.
فإذا كانت الثورة الصناعيّة قد اكتشفت الآلات التي تحول الطاقة إلى حركة، فإنّ الثورة المعلوماتيّة المتقدمة اقتحمت منطقة عدّت أحيانًا، في أنظار البعض، محظورة أو محرمة، ألا وهي منطقة الدّماغ البشري. في المقابل، فإنّ الكثير من المفكرين، يرى أنّ الطفرة النوعيّة لهذه الثورة التقنيّة الحديثة تحققت من خلال الجمع بين بروميثيوس (Prometheus) و أوديب (Oedipus)(): الأول هو الذي حمل إلى البشريّة مشعل العلوم، وحَلَّ لغز الكثير من ظواهر الطبيعة، والثاني هو مرتكب الخطيئة (أي خطيئة آدم)؛ وقد تجلى ذلك باقتحام المنطقة الأشد خصوصيّة، وما ترتّب على ذلك من نتائج وحيثيات سواء على المستوى الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي، وأصبح الأفراد نسخًا متشابهة، وغزا تيار العولمة القطاعات والمرافق جميعها، ولم يسلم من معاولها حتى الجانب الثّقافي الذي يميز فئة عن أخرى، وجعلت الخطيئة ما هو مقدّس أو محرّم أو محظور، مرتعًا خصبًا للبحث العلمي، يتساوى فيه الإنسان والحيوان، وأصبح في إمكان العلوم وتطبيقاتها التقنية معالجة الفكر ومحاكاته من خلال ما يسمى «الذكاء الاصطناعي (Intelligence (Artificial ، وأن تتعرف على أسراره من خلال التجارب الفيزيولوجيّة والبسيكولوجيّة والتصوير الإشعاعي، وأن تحدد مجالات اشتغاله من خلال آليّات متطورة جدًا، ومن ثم أمكننا الـقـول: “إنّ التطور التكنولوجي الصناعي وأدوات البحث (العلمي) قربت المسافة بين الروحاني والجسماني، وبين الروحاني والمادة، وجعلت الآلة، وكأنها أصبحت إنسانًا جديدًا وكشفت علـى جود كوجيطو صنعي يقف مع الكوجيطو الذاتي على قدم المساواة من حيث المعرفة، والقدرة على الكشف والاختراع”().
إنّ مفهوم الفضاء، بالمعنى الفيزيائي، اليوم، قد اندثر ولم يعد له محل من الإعراب في الثقافة الرقميّة الحديثة، إذ تهدمت الحدود بين المناطق الجغرافيّة، والقارات إلى درجة أصبح معها العالم أشبه ما يكون بالغرفة الصغيرة، مما يَسَّرَ سُبُلَ تبادل المعلومات بين الشّعوب والأمم؛ كما أنّ الأقراص الممغنطة وأقراص التّسجيل الصوتي سهلت عمليّة تخزين المعلومات وأرشفتها كيفما كان نوعها، ومهما بلغ حجمها. ولهذا فإنّ الثّورة التّقنيّة الحديثة ارتكزت على سندين أساسيين ومتكاملين وهما:
أولًا: سند علمي دقيق وصارم، يتجلى في الدّراسات والبحوث المنجزة في ميدان العلوم الدّقيقة كالعلوم العصبيّة، ومنها البيولوجيا العصبيّة والفيزيولوجيا العصبيّة، وهي علوم تهتم أساسا بكيفيّة اشتغال العقل البشري: تمثيل المعرفة، التّخزين في الذاكرة، وطرق المعالجة.
ثانيًا: سند معرفي، ويتمثل، تحديدًا، في العلوم المعرفيّة مما يتصل بالمنطق والفلسفة والرياضيات واللغويّات وغيرها.
وانطلاقًا من الجمع بين السندين معًا، أمكن اختراع الحاسوب الرقمي الذي يعدُّ تجسيدًا للنتائج المتوصَّل إليها في مختلف هذه العلوم بنوعيها النّظري والتّطبيقي. إنّه (أيّ الحاسب الآلي) ثمرة لالتقاء علوم الفيزياء والرّياضيات والمنطق والهندسة الإلكترونيّة، وقد أدّى ذلك إلى ثورة تكنولوجيا المعلومات صنيعة الامتزاج الخصب لثلاثيّة: العتاد الحاسوبي، والبرمجيات، وشبكات الاتصال وعلى مدى النّصف الأول من القرن العشرين، ارتقت هذه التكنولوجيا بصورة غير معهودة، خلال سلسلة من النّقلات النوعيّة لتتوالى أجيال تكنولوجيا المعلومات، ويتسارع معدّل ظهورها، وانقراضها إلى درجة أمكن معها لمروجي ومؤرخي هذه التكنولوجيا ذات الخمسين ربيعًا أن يتحدثوا عن عصورها الحجريّة، وحفرياتها الرّمزيّة().
وفي بداية الربط بين الحاسب واللّغة في أوائل الأربعينيات، أوّل ما انصب عليه الاهتمام هو الترجمة الآليّة التي وجهت لخدمة الأغراض العسكريّة والاستراتيجيّة، وذلك بترجمة الوثاق العسكريّة وأرشفتها من لغة إلى أخرى. لكن ما يسجّل على هذه المرحلة الأوليّة من تاريخ المعالجة الآليّة للغات الطبيعيّة، فشلها في تحقيق ترجمة صحيحة، والسّبب يرجع إلى غياب عتاد لساني صوري قادر على استيعاب خصائص النّقل والتّحويل من اللّغة المصدر إلى اللّغة الهدف. وقد تُغُلِّب، في ما بعد، على هذه العوائق اللغويّة والتقانيّة بفضل تطور الأبحاث اللسانيّة والحاسوبيّة، وظهور برمجيات متطورة خاصّة بالتّرجمة الآليّة ونُظُمها، إذ توسعت مجالات تطبيق التّرجمة لتشمل ميادين عدّة وفي مقدّمها المجال اللغويّ. وقد تدرج الالتقاء بين الحاسب، واللّغة حتى بلغ مستوى عاليًا من التفاعل العلمي والتقني لأسباب عديدة، نذكر من أهمها:
ظهور الحواسيب الفائقة السرعة، والتوسع في استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، ونظمه الخبيرة التي تعد آليّات التعامل اللغويّ من مقوماتها المهمّة، وتطوير قيود الحيز والزمن، واللّغة لمضاهاة الإيقاع الطبيعي للتعامل البشري.
بداية ظهور النّظم الآليّة الجيّدة التي تحاكي مهام الخبراء البشريين مثل تلك الخاصة بتشخيص الأمراض، وتقديم الاستشارات الفنيّة وغيرها.
إمكانيّة إكساب النّظم الآليّة للخلفيّة اللازمة، وذلك باختزال مضمون الخبرة البشريّة بكل ما تشمله من معلومات ومعارف ومهارات وأحكام.
انتشار الحاسوب في نواحي الحياة عامة، وفي التّعليم خاصة، بوصفه وسيلة لتعليم اللغات وتعلمها.
التّسابق العلمي والتّقني بين دول العالم المتقدم في مجال التّرجمة الآليّة، وأذكر هنا التنافس بين المعسكرين الغربي والشرقي سابقًا.
وعلى إثر هذه التّحولات العميقة، لم تعد التّرجمة منحصرة في تحقيق التواصل الحضاري والثقافي بين الشعوب والأمم، بل أصبحت مصدرًا من مصادر المعرفة والتعلم ونشر الثقافات واللغات، ووسيلة أساسيّة في بناء مجتمع المعرفة والمعلومات. لذا، فالعربيّة -اليوم- تعيش عدة فجوات، ومنها فجوة الترجمة بنوعيها البشري، والآلي وتلك ثغرة من ثغرات البحث اللغويّ الهندسيّ العربيّ()، الذي يحتاج اليوم إلى خبرات علميّة متخصصة في ميادين اللغويّات الهندسيّة والذكاء الاصطناعي والهندسة المعلوماتيّة، وهندسة المعرفة، وهندسة الترجمة، بغية مسايرة اللغات المتقدمة تقانيًا ومعرفيًا، ومن ثمة تقليص الفجوة الرّقميّة بين لغة الضاد، واللغات الأجنبيّة على مستويات عدة وعلى مستوى الترجمة بصفة خاصة. وفي نظرنا، إنّ مؤتمر التّرجمة والحاسوب الذي تشرف عليه المنظمة العربيّة للترجمة بالتّعاون مع وزارة الثقافة المغربيّة وجامعة محمد بن عبد الله واتحاد المترجمين العرب، يمكن أن يشكل أرضيّة خصبة للخروج بتوصيات ناجعة، يترتب عنها تشكيل لجنة علميّة مكونة من خبراء في الموضوع من الأقطار العربيّة كافة، تسهر على تنفيذ مشروع التّرجمة العربيّة. وهذا لن يتحقق فعلًا، إلّا بمأسسة هذا العمل الضخم والكبير، وتوفير الموارد الماليّة والفكريّة اللازمة، لأنّ المشاريع العربيّة التي بدأت عوجاء كثيرة، ماتت في مهدها، بسبب البراغماتيّة المطلقة التي تحكّمت في مسيريها ومنفذيها. وقد حان الوقت، لإعادة الاعتبار لفعل الترجمة وعلمويته()، وإخراجه من دروبه الضيقة، وإحلاله المكانة اللائقة من خلال إشراك أصحاب القرار السياسي، والجامعات والمعاهد والمجامع اللغويّة والمنظمات الأهليّة وغير الأهليّة والجمعيّات، وحثهم على الاستشعار بأهميّة الترجمة في الوقت الراهن للنهوض باللّغة العربيّة تنظيرًا، وممارسةً حتى تضطلع بدورها الوظيفي في تحقيق التنمية العلميّة والثقافيّة والاقتصاديّة في الوطن العربي.
الترجمة بين الإنسان والآلة: هناك تعريفات مختلفة للترجمة بنوعيها البشري والآلي، تتراوح بين التركيز على مكوناتها، والتركيز على أهدافها، وبين الجمع بينهما معًا. ومع ذلك، فقد رصدت للترجمة نظريات يضيق المقام للوقوف عندها، لأنّها بعيدة كل البعد من مقصدنا في هذا الباب. لهذا سنركّز على ما له ارتباط مباشر بورقة العمل، أيّ كل ما يتصل بالتّرجمة الآليّة والهندسة اللغويّة، بوصف الترابط الداخلي والبيني بين هذين المجالين المعرفيين.
تحدد الترجمة عمومًا أنّها عمليّة نقل المعنى من لغة إلى أخرى، في ما تحدد التّرجمة الآليّة أنّها استخدام الحاسب في ترجمة نصوص من لغة مصدر إلى لغة هدف، ويتألف نظامها من أربعة مكونات رئيسة هي():
1.مكوّن التعرف إلى مفردات وتراكيب النّص الأصلي، ثم تحليلها لغويًا على المستويات الصرفيّة و النحويّة والدلاليّة.
2.مكون معجمي للغتين – أو اللغات – المترجم منها والمترجم إليها، وهو قاموس إلكتروني مخزن في ذاكرة الحاسوب، وقد يضاف إليه قاعدة معارف أو مخزون نصي تبعًا لمنهجيّة الترجمة المستخدمة().
3.مكون نحوي مقارن للغتين – أو اللغات – المترجم منها والمترجم إليها، يحتوي على قواعد الصرف والتركيب النحوي وكيفيّة تناظرها بين لغة وأخرى.
4.أما مُكوِن التوليد أو الإنتاج، فيحوِل نتيجة تحليل المفردات والتراكيب، بعد إجراء الضبط اللازم للصيغ والتصريفات، إلى نص باللّغة المترجم إليها.
وتصنف التّرجمة، عمومًا، بحسب المنفذ لها، إلى صنفين كبيرين وهما: ترجمة بشرية، يعدُّ منفذها الأساسي هو العنصر البشري، وترجمة آلية يقوم بها الحاسب الآلي، وكل صنف من هذين الصنفين يتفرع إلى أصناف فرعيّة وصغرى نعرضها كما يلي:
الصنف الأول: التّرجمة البشريّة (العاديّة) التي تعتمد على الإنسان (Humain Translation)
الصنف الثاني: الترجمة الحاسوبيّة ( Machine Translation)، وتتفرع إلى ما يلي:
ترجمة بشريّة بمساعدة الحاسوب.
ترجمة آليّة بمساعدة الإنسان.
ترجمة آليّة.
وفي الحقيقة، على الرّغم من سعي العلماء إلى تطوير أنظمة التّرجمة الآليّة إلى مستوى عالٍ وجيد، فإنّه بات من المؤكد، أنّ تحقيق الترجمة بمساعدة الحاسوب من دون تدخل الإنسان، بشكل مطلق، يبدو أمرًا مستحيلًا. إذ لا ترجمة آليّة من دون استحضار العنصر البشري، الذي يتولى مهمة تشغيل الحاسوب، ومراجعة النّص المترجم.
1.3.2. الهندسة اللغويّة والترجمة الآليّة
إنّ الحديث عن العلاقة البينيّة بين الترجمة الآليّة والهندسة اللغويّة، يستدعي، أساسًا، الإشارة إلى المجالات المعرفيّة المختلفة التي تتحاقل معهما، ذلك أنّ معالجة اللغات الطبيعيّة آليًا، يدخل في إطار علم مخصوص وليد التطورات التكنولوجيّة المتقدمة ألا وهي الهندسة اللغويّة، أو اللغويّات الحسابيّة (Computational Linguistics) مجالها البحثي دقيق وجديد يعرض لآخر النظريات، والتطبيقات الحاسوبيّة المجربة على اللغات الطبيعيّة. لأنّه ميدان أقرب إلى العلوم الصلبة منه إلى العلوم الإنسانيّة، أطلق عليه اسم العلوم الإنسانيّة الصلبة في مقابل العلوم الإنسانيّة المرنة. إذ يلتقي فيه الجانب النظري اللساني بكل خلفياته المعرفيّة والمنهجيّة بالجانب التّقني المعلوماتي بكل تطوراته، ليشكلا معًا ما يسمى بالهندسة اللغويّة ((Linguistic engineering، أو تكنولوجيا اللّغة (TechnologyLanguage) التي أصبحت تمثل اليوم قمة المعرفة البشريّة”()، التي تقوم على أساس هندسة المعرفة، وهندسة الإدراك، وغيرهما.
ولعلّ ما جعل أنظمة اللغات الطبيعيّة أكثر ارتباطًا بالتكنولوجيا المعلوماتيّة المتقدمة، هو التطور العلمي الصّلب الذي أصبح الآن فارضًا نفسه بإلحاح كبير على المختصين والباحثين في مختلف المعارف العلميّة، وفي مقدمتهم علماء اللسانيات المطالبين أكثر من غيرهم بكشف كيفيّة عمل النظام اللغويّ واشتغاله في دماغ الإنسان. وقد تأكد للجميع أنّ الدّماغ البشري مزود بنظام معقد، يقوم بتخزين اللّغة واسترجاعها، وهو مبني على شكل آلة لها دخل ولها خرج. ففي الدخلInput نجد عنصر التّحليل Analysis، حيث قواعد المعطيات أو المعارف التي يتمرس عليها الإنسان لتحصل لديه التجربة اللغويّة. هذه التّجربة هي الأساس الذي تنجز عليه الآلة “الذكيّة” نسق الخوارزميات الذي يقوم بخزن اللّغة في الدّماغ على شكل قوانين حسابيّة صوريّة، وهذا هو معنى الكفاية اللغويّة. وأمّا مرحلة الخرج المؤطرة بعنصر التوليد (Generation) ففيها يكون إنتاج اللّغة واستقبال إشاراتها، وتحليلها قبل عرضها على النّظام الخوارزمي الذي يقوم بإنتاج لانهائي للإرساليات اللغويّة تمهيدًا لعمليّة التواصل، وهو ما يعبر عنه عادة بمفهوم النحو (Grammar)، أي عملية إنتاج خوارزميات (Algorithms)، يقوم بها الدّماغ البشري، وهذا ما يسم عمليات الإنتاج المعرفي/ اللغويّ جميعها من أصوات وصرف ومعجم وتركيب ودلالة في اللغات الطبيعيّة جميعها في شكلها الثباتي لا الأدائي الخاص بلغة معينة. وإنّ هذا التوجه ميّز اللسانيات المعاصرة في البحث في ما هو كلي لفهم جوهر اشتغال اللّغة بوصفها عمليات معرفيّة بشريّة عامّة().
وإذا كانت اللسانيات النظريّة والصوريّة، قد توصلت إلى تحديد الكفايّة اللغويّة في الدّماغ البشري، فإنّ التقنيات الحاسوبيّة لم تكن إلّا وسيلة لتجريب مكونات هذه الكفاية التي يفترض أنّها مبنيّة على منظومة من المعادلات المكتوبة بلغة برمجة منطقيّة صوريّة مجرّدة، وهذا ما جعل أهل الذّكاء الاصطناعي يقيمون هندستهم على فكرة تقييس ونمذجة الدّماغ البشري من الجانب الإبداعي والإدراكي والمعرفي عمومًا، خاصّة وأنّ الجزء الأكبر من المعرفة الإنسانيّة موجود في نصوص لغويّة، ومن هذا المنطلق فتحت هذه الأبحاث الباب واسعًا أمام اللغويّين والمهندسين لفهم مكون الكفاية في الدّماغ أولًا، ولبناء كفاية صوريّة خوارزميّة تقوم بإنتاج اللّغة على مستوى الآلة ثانيًا. لذلك أصبح الآن ممكنًا تصور حوار إنسان – آلة، بلغة أقرب ما تكون إلى اللغات الطبيعيّة. ومن هنا أيضًا جاءت أهميّة بناء برمجيّات تطبيقيّة لمعالجة اللغات الطبيعيّة، ووفق التّصورات المذكورة، من خلال بناء وميكنة المعجم آليًا، ثم صياغة أنظمة للترجمة الآليّة تعالج النصوص، وتنتجها آليًا، وكان الغرض الأساسي من ذلك كلّه هو تقييس العمليّات المعرفيّة الإنسانيّة بوساطة الحاسوب().
ومن هنا يتبين الدّور الطلائعي الذي يقوم به المهندس اللغويّ بالنسبة إلى المترجم الآلي، فالأول يلمّ بالمعرفة اللغويّة قديمها وحديثها، وتنحصر مهمته في توصيف المعطيات اللغويّة وتخزينها على الرّقائق والأوعيّة الإلكترونيّة بناء على قواعد ومبادئ صارمة، فيما يقوم الثاني ببرمجة الحاسب وتقييس الآلة للمعرفة اللغويّة في ضوء لغات البرمجة المعروفة.
وبناء على هذا المسار المعرفي المتشعب، نشأت تكنولوجيا اللغات التي تعدُّ في الأصل، المادة الأساسيّة لتكنولوجيا الترجمة (Translation Technology) التي أرست دعائمها ومرتكزاتها على أساس قواعد هندسيّة، ومبادئ لغويّة باتت تعرف اليوم باسم الهندسة اللغويّة، وهي فرع من فروع اللغويّات التّطبيقيّة. وتعتمد تكنولوجيا اللّغة على علوم مختلفة ومعارف: علوم نظريّة كاللغويّات النّظريّة والمعجميات، وعلوم تطبيقيّة كاللغويّات الحسابيّة، والمعجميات الحسابيّة، والمدونات اللغويّة أو الحسابيّة، واللغويّات الإحصائيّة.
إنّ وظيفة هذا الاتجاه اللغويّ الهندسي تنحصر في (…تطبيق تقنية المعلومات كومبيوتريًّا وإسقاطها على قواعد الصرف والنّحو والدلالة، والمعجم إلى درجة بات في مقدورنا التّحدث عن تكنولوجيا اللّغة، سعيًا إلى رسم صيغة تنفيذيّة لعلوم اللسانيات والمعجميات والمدونات الحاسوبيّة من خلال البرمجيات والأجهزة العمليّة المختلفة ومنها: التّرجمة الآليّة والقواميس والموسوعات الإلكترونيّة وبنوك المصطلحات، وقواعد البيانات المعجميّة والفهم الآلي للكلام والتّدقيق الهجائي والنّحوي، إلخ، وهي جميعًا فروع معلوماتيّة تفرعت عن علم هندسة التّرجمة الذي يعدُّ بدوره أحد تشعبات الشّجرة الكبرى المسماة هندسة المعرفة)()
وهكذا، إنّ الهدف الأساسي من الاشتغال على الهندسة اللغويّة يتمثل في إعطاء قيمة مضافة للنتائج المتوصل إليها في الدّراسات اللسانيّة الحاسوبيّة من جهة، ومن ثم التّمكن من تحقيق الصّرامة والدّقة في البنيّة الاتصالاتيّة للغات من جهة أخرى. ومن هنا تصبح اللغات الطبيعيّة عامة، واللّغة العربيّة على وجه الخصوص في حاجة ماسة، أكثر من أي وقت مضى، إلى تطبيقات الهندسة اللغويّة، بهدف سدّ الفراغ الحاصل على مستويي التنظير، والممارسة وتلك ثغرة من ثغرات البحث اللساني الحاسوبي، والهندسي العربي التي ينبغي التّصدي لها بكل حزم وجدية، من أجل تطوير أنظمة الترجمة من وإلى اللّغة العربيّة، و التمكن من بناء مجتمع معرفة عربي أصيل.
مشكلات الترجمة الآليّة في اللّغة العربيّة: إنّ معالجة اللغات الطبيعيّة بالحاسوب، تقتضي توظيف مفاهيم صوريّة/ نمذجيّة سيتبناها الجيل الرابع() في اللغويّات وهي من قبيل الخوارزميّات والأتمتة بأنواعها،.. لوصف أواليات اللّغة التركيبيّة. ومن هنا أتت الضرورة الملّحة لتطوير أنحاء شكليّة قابلة للتوظيف في خوارزميّات تشبه إلى حد بعيد لغات البرمجة الاصطناعيّة. ومن الجهود التي صبت في هذا الباب، نجد أعمال الرياضيين واللسانيين والمناطقة، وقد استفادت منهم أبحاث اللغات الطبيعيّة، وظهرت نماذج، إثر ذلك، أكثر تعقيدًا وأكثر تطورًا لتقييس اللّغة. وعندما صُمم الحاسوب الرّقمي الثنائي خلال الأربعينيات، بدأت المحاولات الأولى للترجمة الآليّة بإنشاء قاموس آلي ثنائي اللّغة، يساعد على ترجمة كلمة مصدر بكلمة هدف. غير أنّ النتائج كانت مخيبة للآمال، فكان التّفكير في إدخال القواعد اللغويّة إلى الحاسوب، ما يتصل بالسّمات الدلاليّة والنحويّة والصرفيّة للمفردات. ومع ذلك، فقد طرحت هذه التّطبيقات الآلّية مجموعة من المشاكل اللغويّة، وخاصة الدّلاليّة والتّداوليّة والتّأويليّة. وقد بُوشرت معظم المقترحات ببناء أنظمة لتحليل المادة اللغويّة تحليلًا معجميًا وتركيبيًا ودلاليًا، مع وضع معادلة لهذا التّحليل في اللّغة الهدف. في ما وُجدت صيغة يتمكن فيها الحاسب من التّوفر على عناصر شكليّة لاستقبال المادة اللغويّة، وتحليلها – سواء أكانت هذه المادة ألفاظًا أم جملًا- وأخرى للتعامل مع القواعد المخزونة في ذاكرته، ثم تحويل هذه المادة إلى لغة ثانية فتكون الإجراءات نفسها. ومع ذلك، لا يبدو هذا ناجعًا، ما دامت بقيت مشاكل مطروحة على الترجمة الآليّة ().
إنّ الملاحظة الجديرة بالاهتمام هنا هي أنّ الحاسوب يوظف “الفهم والتّخزين الاصطناعيين”، ما يعني أنّ مسألة » تمثل« المعرفة اللغويّة بالنسبة إلى آلة محدد بشكل مجرد، لذلك تبقى المسافة ما بين التّمثل البشري والتّمثل الحاسوبي للمعرفة قائمة، ومن هنا فإنّ جودة التّرجمة الآليّة للنصوص وللوثائق، لا يمكن أن تعزى إلى هذه المسألة فحسب، بل كذلك إلى نوعيّة التّنظيرات اللسانيّة، والأبحاث الآليّة المنصبة على الترجمة والتي اعتُمِدت منذ سنوات عديدة. لهذا يمكن الاستفادة مما حققته بعض النّظريات اللسانيّة الصوريّة من تفوق تجريبي على مستويي الشّرح والتّفسير أثناء معالجتها لأنظمة اللغات، وتعدُّ اللغويّات التّأليفيّة إحدى النّظريات التي استطاعت إلى حد كبير تحقيق إمبريقيّة عاليّة في معالجة منظومة اللّغة الفرنسيّة، ويتجلى ذلك يشكل واضح في ما أنجزه مختبر المعلوميات والتّوثيق اللساني المعروف بـ LADL() .
إنّ الترجمة الآليّة من لغة مصدر إلى لغة هدف كالترجمة – مثلًا- من الفرنسيّة إلى الإنجليزيّة أو من الإنجليزيّة إلى العربيّة تطرح مشاكل جمّة، تقلّ حدّة، عندما يتعلق الأمر بترجمة بسيطة أو مباشرة، وتزداد حدّة وتعقيدًا عندما يتعلق الأمر بترجمة غير مباشرة تترجم أساسًا التعبيرات المتلازمة والمسكوكة من لغة إلى أخرى. ولتوضيح المسألة أكثر، ننطلق من عينة لغويّة نوردها كما يلي:
mode de vie
Un
Est
Le mode
life style
A
Is
Fashion
وعندما نمعن النظر في هذه الترجمة، سنجد أنّها غير دقيقة، لأنّها لم تراع المظاهر التركيبيّة والدلاليّة والتّداوليّة في الانتقال من معنى الجملة المصدر (الفرنسيّة) إلى معنى الجملة الهدف (الإنجليزيّة)، ثم إنّ تحديد المعنى يتم من خلال السّياق، وسياق العبارة هنا هو سياق المترادفات. والأمر يزداد تعقيدًا عندما نترجم من لغة إلى أخرى التّعبيرات المتلازمة والمسكوكة، لنتأمل العبارات الآتيّة:
Montrerpatte blanche
Show one’s credentials
يتبين من خلال هذا المثال، أنّ ترجمة النّصوص التي تتضمن عبارات مسكوكة أو متلازمة، تبدو معقّدة جدًا، لأنّ تحقيق ترجمة آليّة صحيحة لهذا النّوع من المفردات يستدعي أخذ السياق بالحسبان في عمليّة الترجمة، أيّ مراعاة الجوانب التركيبيّة والدلاليّة والسياقيّة والأسلوبيّة.
إذا كان هو حال التّرجمة الآلية في اللغات الطبيعيّة عامّة، فما حال العربيّة خاصّة؟
إنّ الترجمة الآليّة من اللّغة العربيّة إلى لغة أخرى أو العكس، تواجه مشاكل عدّة، يمكن تصنيفها إلى صنفين:
مشكلات تقنيّة.
ومشكلات لغويّة.
في ما يتعلق بالصنف الأوّل، يمكن القول إنّ علوم الحاسوب تشهد تطورًا مستمرًا، وتقدمًا سريعًا، إلى درجة أنّه غطّى المشكلات جميعها والمسائل المتعلقة بالتّطبيقات الحاسوبيّة، وتأتي التّرجمة الآليّة والترجمة بمساعدة الحاسب في مقدمة المجالات التي استفادت كثيرًا من هذه التقنيّة. أمّا بالنسبة إلى الصنف الثاني، فهي كثيرة، وتتباين من اللّغة المصدر إلى اللّغة الهدف. لهذا الاعتبار، لا بدّ من مواجهتها، وإيجاد الحلول المناسبة لها، وإلّا فما الفائدة من البحث العلمي المتخصص في الترجمة الآليّة؟
وهكذا، يمكن حصر أوجه التّقصير بشأن التّرجمة الآليّة للغة العربيّة في الأمور الآتيّة:
طريقة التجزيء والتّشتت التي تهيمن على الجهود العربيّة المتخصصة في التّطبيقات الآليّة العربيّة عامة، وفي ميدان التّرجمة الآليّة على الخصوص، ما جعلها تنحرف عن الهدف المنشود، ذلك أنّ معظم الحلول المتوفرة حاليًا، تعدُّ حلولًا جزئيّة، كالمعاجم الإلكترونيّة، وبرامج التّشكيل الآلي والصرف، وغيرها. على أنّ إنجاز ترجمة آليّة من وإلى اللّغة العربيّة، وبجودة عاليّة تتطلب توحيد كل تلك الحلول، بالإضافة إلى عمليات التّحليل الدّلالي والنّحوي والصّرفي ونقل المعاني، ربحًا للوقت، وادخارًا للمال العربي الذي ينفق- في بعض الأحيان- في مشاريع نفعيّة وتجاريّة، قد لا تعود على لغة الضاد بطائل.
قصور في الدّعم المادي الحكومي المخصص لمثل هذه المشاريع التطبيقيّة من البحث والتطور، وإن وُجد فهو دعم قليل لا يساعد على تغطية تكاليف المشروع من بدايته حتى نهايته، أو أنّه قصير الأمد بسبب البحث عن الرّبح السّريع، وتلك ثغرة من ثغرات اللغويّات الهندسيّة العربيّة.
غياب رؤية علميّة لمفهوم الترجمة عامة، والتّرجمة الآليّة خاصّة، من شأنها أن تؤسس فعلًا لبيت حكمة عربي، قادر على إثراء الخزانة العربيّة بالمؤلفات والكتب في مختلف العلوم والفنون والآداب. ومن هنا، لا بدّ أن ننّوه بالعمل القيم الذي تقوم بـه المنظمة العربيّة للترجمة إلى جانب مؤسسات أخرى، في هذا الصّدد، إذ استطاعت في ظرف وجيز أن تفتح أفق القارئ العربي على عوالم ممكنة من المعارف، والأفكار من خلال ما يترجمه باحثون عرب في مجالات معرفيّة مختلفة.
نحو هندسة لغويّة للترجمة العربيّة: إنّ العمل في إطار الهندسة اللغويّة يتطلب الأخذ بالحسبان ثلاثة أساسات:
الأساس الأول: يتمثل في ضرورة الاعتماد على إطار لساني صوري، قادر على توصيف الأنظمة اللسانيّة للغة المدروسة، لأنّ بناء المعطيات والمعارف من دون إطار نظري ومنهجي، من شأنه أن يعطل تشغيل المعالج الآلي، أو يجعل النتائج غير شاملة ودقيقة. وفي نظرنا، إنّ فشل بعض البرمجيات العربيّة المستخدمة في معالجة اللّغة العربيّة آليًا، يرجع، إلى حدٍ كبير، إلى غياب عتاد مفاهيمي ومعرفي خوارزمي قادر على تقييس ونمذجة المعطيات اللغويّة العربيّة على ذاكرة الحاسوب.
الأساس الثاني: ونقصد به ضرورة الانطلاق من قاعدة المعطيات أو المعارف أثناء المعالجة الآليّة، لأنها تعدُّ من أساسيات اللغويّات الرّقميّة التي تختلف جذريًا عن اللغويّات النظريّة التقليديّة. فإذا كان الباحث اللغويّ النظري قد يستغني أحيانًا عن قواعد المعطيات، فإنّه في البحث اللغويّ التّطبيقي الآلي، لا غنى له عن البيانات. إذ، لا يمكن أن نتحدث عن التّوصيف اللساني الحاسوبي للمفردات بنوعيها البسط والمركب، المعرب وغير المعرب، ما لم تكن هناك معطيات، وتلك ركيزة من ركائز التوصيف اللساني الحاسوبي().
الأساس الثالث: ويتمثل في ضرورة الجمع بين الخبرات اللغويّة والخبرات الهندسيّة في معالجة أنظمة اللغات الطبيعيّة، ذلك أنّ الخبير اللغويّ هو من يتولى مهمة جمع المعطيات اللسانيّة بطريقة مضبوطة وواضحة، ويقوم بتوصيف – هذه الأساسيات- اعتمادًا على مقاربة لسانيّة معينة. على أن إسناد هذه الأساسيات برمتها إليه ليس من قبيل العبث، بل ينسجم ويتلاءم مع معرفته العميقة والمتأصلة بخصائص اللغات الطبيعيّة، إلى جانب إلمامه بالنّظريات اللسانيّة القديم منها والحديث. أمّا المهندس المعلومياتي، فهو الذي يتقن لغات البرمجة، والحوسبة، الشيء الّذي يسمح له ببرمجة المعطيات وتحويلها إلى ملفات محوسبة توليدًا وتحليلًا.
وإذا ما تأملنا، العوائق التي تطرحها الترجمة الآليّة من اللّغة العربيّة إلى لغة أخرى كالإنجليزيّة أو الفرنسية (أو غيرها)، نجدها في العمق ذات طبيعة لسانيّة، ما يتطلب صياغة نظريّة لغويّة صوريّة قادرة على استيعاب خصائص نقل معاني النصوص من اللّغة المصدر إلى اللّغة الهدف. ولنا اليقين أنّ ما تتيحه الهندسة اللغويّة من أدوات الوصف والشّرح والتفسير، يمكن أن يعدُّ حلًا ناجعًا للعديد من المشاكل اللغويّة التي تنجم عن الترجمة بمساعدة الحاسوب. لذا ندعو في هذا السّياق إلى ضرورة تطوير الأبحاث والدّراسات التي تنصب حول الهندسة اللغويّة والذكاء الاصطناعي،..من أجل الرقي بوضعيّة الترجمة في الوطن العربي().
الخاتمة : في النهاية، إنّ العمل المشترك بين القطاعات المختلفة، سواء العلميّة أو الصّناعيّة أو الفنيّة، يعد السبيل الأمثل لتحقيق تقدم حقيقي. يجب أن نتّحد كمجتمع لدعم البحث والابتكار، وضمان استفادة اللّغة العربيّة من التّقنيات الحديثة بشكل إيجابي وفعّال في مجال الترجمة .
يجب وعلى الرّغم من التّحديات الكبيرة، ألّا ننسى أن اللّغة العربيّة تحمل ماضيًا عظيمًا وأصولًا تاريخيّة غنيّة. إنّها لغة العلم والأدب، وهي قوة حضاريّة تلزمنا ألّا نستسلم أمام التّحولات الحديثة. إذ بالاستفادة من الفرص المتاحة والعمل المشترك، يمكننا أن نحقق تقدمًا أكيدًا في تعزيز اللّغة العربيّة والمحافظة على هويتها.
إنّ الترجمة كونها إحدى عناصر تطور اللغة العربيّة إلّا أنّ مستقبل اللّغة العربيّة في العصر الرّقمي يتوقف على تكاتفنا، وتفانينا في تحقيق التّوازن بين التّحول التكنولوجي والحفاظ على الهُويّة والقيم الثقافيّة. فلنكن متفائلين ومستعدين للتّحديات، ولنعمل جميعًا على نحو تطوير وتحديث اللّغة العربيّة في هذا العصر الرّقمي، لتظل محفوظة ومزدهرة في مواكبة التقدم والإبتكار.
المصادر والمراجع العربيّة
ابن النديم، الفهرست، تحقيق إبراهيم رمضان،دار المعرفة، لبنان،بيروت،1997، ج 84، ص 583.
أبو الهيجاء أحمد، تقييس استخدام اللّغة العربيّة في الحاسب، جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية، الأردن، 2003.
أدهم سامي، الذكاء الصنعي، ثنائية الآلة والدّماغ، مجلة كتابات معاصرة،ع 28-29، بيروت، 1996، يناير 1997، ص35.
أهمية التعريب في حوسبة اللّغة العربيّة، مجلة التعريب، المركز العربي للتعريب والترجمة والتأليف والنشر العدد 26-س، 2007.
البعلبكي روحي، الترجمة الإلكترونية…آفاق الحاضر والمستقبل، بيروت، 2013، ص.4.
بن فارس أحمد، معجم مقاييس اللّغة، ص220
جلال شوقي، الترجمة في العالم العربي والواقع والتحدي، ص48.
الجندي زكريا، الاتصال الالكتروني وتكنولوجيا التعليم، مكتبة العكيبان، جامعة ام القرى، 2005
حامد صلاح الدين، خوارزمية التعرف على أخطاء التلاوة، دكتوراه، كلية الهندسة جامعة القاهرة، 2004
الحسن الأمير، حول اللّغة العربيّة والتواصل، الدستور، ع 719، ص 13.
حمادة سلوى السيد،، تهيئة اللّغة العربيّة لمواجهة طوفان المعلومات والعولمة”، مؤتمر لسان العرب بمقر جامعة الدول العربيّة، القاهرة، 2000.
حناش محمد، اللّغة العربيّة والتقنيات المعلوماتية المتقدمة، وقائع المؤتمر الدولي الثاني، مجلة التواصل اللساني، المجلد الثالث، 1996، ص.5.
الحناش محمد، لسانيات الجيل الرابع ومجتمع المعرفة، مجلة التواصل اللساني، مج 15، 2013، ص.5.
زغبوش بنعيسى، نماذج تقييس اللغات الطبيعية، مجلة العلوم التربوية والنفسية، مج4،ع2 يونيو 2003، ص54.
زغبوش بنعيسى، نماذج تقييس اللغات الطبيعية، مجلة العلوم التربوية والنفسية، مج4،ع2، الكويت، 2003، ص54.
سايلي أيدين، المرصد الفلكي في الإسلام، مطبعة مجمع التاريخ التركي، أنقرة، 1960، ص 53.
ستاينر ج،Après Babel Une poétique du dire et de la traduction، نشر Albin Michel، باريس، 1978، 237p .
صليبا جورج، العلوم الإسلامية وقيام النهضة الأوروبية، الدار العربيّة للعلوم ناشرون، كلمة، بيروت، 2014، ترجمة محمود حداد، ص 27.
عبدالرحمن طه، تجديد المنهج في تقويم التراث، المركز الثقافي العربي، لبنان، 1994، ص 19.
علي نبيل، اللّغة العربيّة والحاسوب، تعريب، 1988، ص2؛ علي نبيل وحجازي نادية، الفجوة الرقمية، رؤية عربية لمجتمع المعلومات، عالم المعرفة، 318 غشت، 2005، ص1.
علي نبيل، عالم الفكر ( مجلة الحاسوب)، مجلد 18، عدد 3، وزارة الإعلام الكويت، 1987
غماري مصطفى محمد، العربيّة بين مفهومين، جريدة الشروق الثقافي، العدد 6، الجزائر، 1993.
غوتاس ديمتري، الفكر اليوناني والثقافة العربيّة،حركة الترجمة اليونانية- العربيّة في بغداد والمجتمع العباسي المبكر، مركز دراسات الوحدة، بيروت، 2003، ص 2.
غوتاس ديمتري، م. س، ص 65.
غوتاس ديمتري، م. س، ص 69.
الفار ابراهيم عبد الوكيل، تربويات الحاسوب وتحديات مطلع القرن الحادي والعشرين، الفصل الأول، القاهرة، مصر، 2004، ص311.
فيلسوف مغربي، متخصص في المنطق وفلسفة اللّغة والأخلاق. ويعد أحد أبرز الفلاسفة والمفكرين في مجال التداول الإسلامي العربي منذ بداية السبعينيات من القرن العشرين.
فيلسوف وعالم إجتماع ومنظر أدبي فرنسي. جان فرانسوا ليوتار، الناشر:روتليدج ـ لندن 2006، ص 179.
كاري، 1963، 5.
كتيب مدخل لفكر طه عبد الرحمان باللّغة الإيطالية: محمد حصحاص، الأخلاق الإسلامية حسب نسق المسؤولية عند طه عبد الرحمان، ترجمة صابرينا لاي، روما: مركز تواصل-أوروبا للبحث والحوار، 2018، ص. 53. العنوان الأصلي للكتيب:
كذا كانت تنطق في الأصل. وقد جاءت كذلك عند الجاحظ، حيث قال: “إن الترجمان لا يؤدي أبدا ما قال الحكيم”. انظر كتاب الحيوان، جزء 1، ص75، منشورات المجمع العلمي العربي الإسلامي، بيروت-لبنان. وقد انحرف النطق بهذه الكلمة في الوقت الحاضر على نحو ما نعرف.
ليونز جوناثان، المرجع السابق، ص 91.
ليونز جوناثان، بيت الحكمة،كيف أسس العرب لحضارة الغرب، ترجمة مازن جندلي، الدار العربيّة للعلوم ناشرون، لبنان، 2010، ص 85.
ليونز جوناثان، م. س، ص 92.
ليونز جوناثان، م. س، ص 93.
مؤرخ وكاتب سيرة ومصنف وجامع فهارس ولد في بغداد
مؤلف كوميدي مسرحي، وشاعر وممثل ومحامي ومخرج مسرحي ودراماتورج فرنسي.
هناك أساليب وطرق متنوعة تستخدم في الترجمة الآلية من قبيل المقاربة المباشرة والمقاربة غير المباشرة،…..ولمزيد من التوسع ينظر:
هو عالم آثار كلاسيكية فرنسي. العنوان : Annuaireprosopographique : la France savante — معرف شخص في لجنة العمل التاريخي والعلمي: https://cths.fr/an/savant.php?id=108144 — باسم: Robert Étienne — تاريخ الاطلاع: 9 أكتوبر 2017
هو مفكر، وناقد أدبي أمريكي، فرنسي المولد، كما أنه كاتب مقال وروائي، وفيلسوف، ومحاضر.
هيَ أول دار علمية أقيمت خلال العصر الذهبي للإسلام، أُسِّسَت في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد، واتُّخذَ من بغداد مقراً لها
اليعقوبي، المصدر السابق، ص 5-6.
اليعقوبي، كتاب البلدان، دار الكتب العلمية، بيروت، 2000، ص 4.
المواقع الإلكترونيّة الأجنبية :
_http://infolingu.univ-mlv.fr/
6. كاري، “Pour unethéorie de la traduction II“، مجلة Journal des traducteurs، المجلد الثامن،العدد1، ج: 36 ، 1963.
-2Hashas Mohammed، L’ eticaislamicanelparadigma di responsabilità di Taha Abderrahmane، traduzione a cura di Sabrina Lei (Roma: Tawasul Europe، Centro per la ricerca ed il dialogo، 2018) 53 p.
http://www.alarabimag.org/arabi/common/book/afaq013_1.htm
-3Murphy، Rex. “ERRATA: An Examined Life by George Steiner”. شبكة سي بي سي، January 3، 1998.
Rubino Rafael، Traduction automatique statistique et adaptation à un domaine spécialisé، Thèse de Doctorat، Académie d’Ex-Marseille، Université، Université d’Avignon et des pays de Vaucluse، 30 Nov. 2011، p.16.