عنوان البحث: الانتظام الإيقاعيّ المضبوط، اقتداء نموذجيّ نحو مجتمع أفضل
اسم الكاتب: دة. ماري أبو جوده
تاريخ النشر: 12/09/2024
اسم المجلة: مجلة أوراق ثقافية
عدد المجلة: 33
تحميل البحث بصيغة PDFالانتظام الإيقاعيّ المضبوط، اقتداء نموذجيّ نحو مجتمع أفضل
Exact rhythmic order, an exemplary example towards a better society
دة. ماري أبو جوده([1]) Dr. Mary Abou Jaoude
Fadi Yacoub الأستاذ فادي يعقوب([2])
تاريخ الإرسال:23-7-2024 تاريخ القبول 10-8-2024
ملخص
تُعدّ الموسيقى بأنغامها وإيقاعاتها مرتكزًا أساسيًّا للنتاج الثّقافي الإنساني، وهي انعكاس تعبيري صادق لواقع الشّعوب ونبْض مجتمعاتها ورديفًا واقعيًّا يُحاكي المسار التاريخي للأفراد والجماعات، إنّها وسيلة للتواصل والتّشارك والتّفاعل تنعكس عبرها كل المفاهيم الإنسانيّة والأخلاقيّة والقيميّة. ويمتدّ مدى تأثيرها وفاعليّتها في علاج الظواهر السلبيّة والإنحرافيّة للمجتمعات.
لقد تفاوتت الرؤية الجماليّة للفنّ عامة، والإيقاع الموسيقي خاصة في أذهان الأكاديميين والموسيقيين والفلاسفة… وعبّروا عن وجهات نظر متّفقة أحيانًا ومختلفة أحيانًا أخرى في تفسير البعد الجمالي للفن الإيقاعي وشرحه، وبقيت ثابتة وحيدة أجمع عليها كل هؤلاء حول أهميّة الإيقاع الموسيقي كمنظومة مُتسّقة، ومنسّقة على شكل ضروب ودورات إيقاعيّة فائقة الدقّة تساهم بتنمية مزاج الفرد، والمجتمع ولجم سلبيات الجموح الانفعالي المتفلّت.
تحرص غالبيّة الشّعوب على إرثها الحضاريّ النوعي الذي يتشكّل من إبراز هويّاتها الثّقافية، لأنّه يرتبط إرتباطًا وثيقًا بالسيّاق الاجتماعي والثّقافي الذي نشأت فيه وترعرعت. وهو يُسهم في نقل صورة التّماهي بين الفرد ومجتمعه ويبقى عصيًّا على الذوبان والإنمحاء إذا ما سعينا للمحافظة على مكوناته على الرّغم من هيمنة العولمة المتوحّشة وقدرتها الهائلة على السيطرة والتحكّم.
انطلاقًا من تلك الثوابت، عقدنا العزم في هذا البحث على فتح الجدليّة العلميّة حول الدّور المركزي للإيقاع الموسيقي في تشكيل البُنية الاجتماعيّة، وتعزيز مفهوم الانتماء الثّقافي متجنّبين الوقوع في كمائن السؤال الممجوج عن الهُويّة، وكيفيّة إيجاد ضوابط وحدود مرسومة لعدم تذويب خصوصيتنا في بحر الكونية الحديثة الواسع.
الكلمات المفاتيح: الإيقاع الموسيقي – المجتمع العربي – الهُويّة الثّقافية – البيئة الجغرافيّة – الإرث الحضاري – العولمة.
Abstract
Music, with its melodies and rhythms, is considered a fundamental foundation for human cultural production. It is a true expressive reflection of the reality of peoples and the pulse of their societies, and a realistic synonym that simulates the historical path of individuals and groups. It is a means of communication, participation, and interaction through which all human, moral, and value concepts are reflected. Its influence and effectiveness extends to treating negative and deviant phenomena in societies.
The aesthetic vision of art in general and musical rhythm in particular has varied in the minds of academics, musicians and philosophers… and they expressed viewpoints that agreed at times and differed at other times in interpreting and explaining the aesthetic dimension of rhythmic art, and it remained a single constant upon which all of them agreed on the importance of musical rhythm as a consistent and coordinated system in the system highly precise rhythmic forms and cycles that contribute to developing the mood of the individual and society and curbing the negatives of rampant emotional unruliness.
The majority of peoples are keen on their specific cultural heritage, which consists of highlighting their cultural identities, because it is closely linked to the social and cultural context in which they were born and raised. It contributes to conveying the image of identification between the individual and his society and remains difficult to dissolve or erase if we seek to preserve its components despite the dominance of brutal globalization and its enormous ability to control.
Based on these constants, we resolved in this research to open the scientific debate about the central role of musical rhythm in shaping the social structure and enhancing the concept of cultural belonging, avoiding falling into the ambushes of the vexed question about identity and how to find controls and drawn boundaries so as not to dissolve our privacy in the vast sea of modern cosmopolitanism.
Keywords: musical rhythm – Arab society – cultural identity – geographical environment – cultural heritage – globalization.
المقدمة
لقد أبحرت الموسيقى العالميّة في رحلتها الكونيّة وسط حركة البشريّة الدائمة بشعوبها المختلفة وعصورها المتتالية؛ إبحارًا متقلّبًا دائمًا مئات السنين بسكونها وأمواجها العاتية، بسلمِها وحروبها المدمّرة، برخائها وعوزها المدقع؛ ولا يخفى على أحد أن تلك الرّحلة المضنية تطلّبت تراكمًا معرفيًّا، وتشاقعًا إنجازيًّا وتلاقحًا خبراتيًّا نقّح المشهد المتفاعل – تناغمًا حينًا وتقارعًا أحيانًا أخرى – إلى أنّ استقرّت الحصيلة على نظام واضح صار بديهيًّا تحكمه المعايير المنطقيّة؛ إذ أرسى كل قواعد اللغة الفنيّة بشكل عام والسمعيّة الموسيقيّة بشكل خاص، وانحصر التّضاد بكيفيّة التلقّي الإبداعي وتأثيره على الإنسان والكائنات بتلقّفات متبارزة ومتصارعة على أرضيّة واحدة. منذ القدم، أثارت فكرة الفنون خيال الإنسان وحفّزته على التأمل والابتكار، ولاحظ أن مسار الكون كلّه نظام هائل لا تشكّل حياته بكلّيتها كإنسان سوى نبضة واحدة من نبضاته. هذا المسار المتكرّر، من بدايته حتى نهايته مضبوط بنظام ثابت ومُحكم، تُمثّل كل دورة كونيّة منه تردادًا متشابهًا لا نهاية له يُسمّى بحسب الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه “بالعَود الأبدي” (Eternal Return) (2019, Ross).
وكما هو معلومٌ؛ فإنّ الحالة الفنيّة هي إفراز للمتغيّرات العامة وتعكس التبدّلات المجتمعيّة الكبرى التي يموج بها العالم، وتسبح بها الشعوب من حروب ونزاعات وصراعات، واتّفاقيات وتكتّلات … مضافةً إلى الأعباء المحليّة والخارجيّة التي تؤثّر جليًّا، وبشكل مباشر في سلوك الفرد وتعديل البنيات الاساسيّة للمجتمع. ينفرد المجتمع اللبناني بخاصيّة جغرافيّة، وبيئيّة ودينيّة مميّزة ما ينعكس على ثقافته وفنونه وموسيقاه التراثيّة والفولكلوريّة وحتى المعاصرة منها، ويجعلها مركز إستقطاب لكلّ الشّعوب. ويقوم أدب الموسيقى اللبنانيّة على عناصر متعدّدة تُكسبه أبعادًا جماليّة خاصّة، تتنوّع بين المقاميّة والإيقاعيّة والآلاتيّة التصويتيّة، والشّعريّة الغنائيّة التي بنيت لبناتُها من مقالع الزّجل والأغاني الشّعبيّة والعديّات والمواويل والأهازيج وبحور الشّعر العربي، والألحان الدينيّة والرقصات الفولكلوريّة وموسيقى الغُزاة والمستعمرين وخاصة خلال القرون الأخيرة. وبما أن الإيقاع يشكّل ركنًا أساسيًّا في الهيكل الموسيقي المتجانس، نرى من المفيد اعتماده كممرٍّ حتمي للولوج إلى أيّة دراسة موسيقيّة ومجتمعيّة دقيقة وقيّمة. ورد في معجم النقد العربي القديم (مطلوب، 1989) أنّ “الإيقاع لغة الميقع؛ والميقعة: المطرقة، والإيقاع من إيقاع اللحن والغناء وهو أن يوقع الألحان ويبنيها”. أُشير إليه في اللغة العربيّة على أنّه صيغة مشتقّة من فعل “وقع” فيُقال مثلًا: وقع الخبر، وقع الأقدام، وقع المطر، وقع الصدمة، وصوت ضرب الشيء (موسوعة اللغة العربية، 2023). ويتضمن هذا المعنى أيضًا التنظيم والتكرار الذي يشارُ للدلالة عليه بكلمة “إيقاع” بالمفهوم العربي. إنّ الحقيقة الراسخة هي أن حياتنا كلها غارقة في محيط من الإيقاع لا ينقطع هديره، وظواهر الكون من حولنا تدور بإيقاع منتظم بأفلاكه وكواكبه ونجومه، إنّه النّبض الكوني – وما نبض قلوبنا إلاّ صدىً داخليًّا له. والإيقاع ليس حكرًا على الموسيقى وحدها، فهو مثلًا يمتلك دلالات ومعان تضعه في مقدّمة الخصائص الجماليّة للغّة العربيّة، إذ إنّ علم العروض يقوم على أساسٍ صوتيّ يتّخذ الأسباب والأوتاد والفواصل عناصر له لتكوين التفاعيل العروضيّة… (العروضية، 2015).
وتشكّل الضروب الإيقاعيّة تكوينًا موسيقيًّا كاملاً تُبنى عليه حركات الرقص وتعابيره، فهو يصاحبها بدقةٍ وتلازمٍ مُحكم… فإن اختلّ تختلُّ الحركة بكلّيتها التي يحكمها الوزن، والضّبط والإحكام مثل حركة إيقاع الإنسان والحياة. فالإيقاع يسود علاقات البشر في المجتمعات، نراه في تعاقب الأجيال، وفي التبدّل الدّوري لأذواقهم وميولهم ويراه ذوو النظرة الموسوعيّة الشّاملة من المؤرخين الكبار متجليًّا في دورات كبرى تمرّ بمراحلها كل حضارة بشريّة فاعلة. إنّ ضوابط ونُظم الإيقاع الموسيقي تتّسم بالثبات لحِقبٍ زمنيّة طويلة على الرّغم من وجود تفاوت اجتماعي مناطقي وطبقي، وتأكيد ذلك يأتي من خلال تأمّل ورصد واقع الموسيقى العربيّة عمومًا، واللبنانيّة خصوصًا لأكثر من قرن منصرم إذ ظلّت المجتمعات عرضة للتحوّلات الكبيرة مرفقة بمجموعة من المتغيّرات المبنيّة على تلك التحوّلات التي فعلت فعلها بالتأثير في العديد من الاتجاهات الفكريّة والفنيّة والمجتمعيّة. فمع حملة نابوليون بونابرت على مصر وزحف الفرنسيين، والإنكليز الاستعماري إلى بلدان المشرق العربي الذي كان يرزح تحت نير الاحتلال العثماني، بدأ تسرّب الثقافة الحديثة إلى المشرق العربي يتزايد، ويتظّهر شيئًا فشيئًا ومعه النّقاش حول هُويّة الفنون عامة والموسيقى خاصة، واشتدّ تأثير الحداثة الغربيّة الوافدة على ثقافة المشرق العربي عامة، ولبنان ومصر تحديدًا لأنّهما البلدان الأكثر استضافة للإرساليات الأجنبيّة التي ثبّتت حضورها الثّقافي في الحياة والمجتمع. إنّ إنتاج نظم مبتكرة تميّز ذواتنا هو انعكاس لما بداخلنا، فالإيقاع بداخل أجسامنا حقيقة لا تُنكر، إنّه المنظّم لشتّى وظائفنا العضويّة بدقّة وإحكام، لحِقبٍ ودورات ثابتة ما يؤكد لنا بما لا يقبل الشك أنّ أعمق وظائف حياتنا ذات طابع إيقاعي صرف.
كل هذه العوامل وغيرها حفّزتنا لطرح جملة من التّساؤلات المفصليّة، ودراسة العلاقة الاجتماعيّة الموسيقيّة والثّقافية بين حركة المجتمعات، ومساراتها التاريخيّة والإيقاع الموسيقي في المجتمع اللبناني.
قد يقول قائلٌ إنّ التّفاوت الإيقاعي بين المجتمعات يعدُّ رؤية جديدة إبداعيّة وليس خللًا مستحكمًا بمساراتها؛ وإنّ الجغرافيا البيئيّة تستطيع تلبية الحاجات الفنيّة للإنسان اللبناني من خلال الإشباع الفعليّ التّعبيريّ والوجداني لخوالجه. وهنا نسأل: هل حدث التّغيير الإيقاعي نتيجة توالد فنّي طبيعي بين الأصيل، والمعاصر ناتج عن تلاقح فكري إبداعي محسوب، أم سلك مسارًا تخريبيًا بأشكال فنيّة قبيحة يحمل تهديدًا حقيقيًّا للأصالة ويؤسّس لمخاطر طمس الموروثات وإهلاك الهُويّة الإيقاعيّة الوطنيّة؟
وهل تعبّر الإيقاعات الموسيقيّة العصريّة المستوردة، والمستولدة حديثًا بفعل التطوّر الاجتماعي عن واقع المجتمع اللبناني ومساره التاريخيّ وحقيقته؟ وهل شكّلت انعكاسًا وإرتقاءً أبهى لمكوناته أم محوًا لجانبه التّعبيري البديع ؟ أتتقدّمه أم تسير وراءه ؟ أتقوده أم تتبعه؟
للإجابة على هذه التّساؤلات وغيرها، سوف ينقسم هذا العمل إلى ثلاثة أقسام، الأول يتطرّق لعلاقة البيئة الجغرافيا اللبنانيّة بالإيقاع الموسيقي، والآلات القرعيّة ومدى تأثير المتغيّرات الاجتماعيّة عليها وتأثّرها بها. ويُحاكي الثاني العلاقة التّلازميّة بين الهُويّة والإيقاع الموسيقي والمسار التدرّجي لهذا التّرابط الوثيق. أمّا الثالث، فيسلّط الضوء لوطأة الموسيقى على الإنسان في مجتمع متحرّك وخاضع لتغيّر وتطوّر دائم، ما يساهم في تحوير وتحويل المفاهيم الإيقاعيّة، والموسيقيّة لتتناسب وتلك المتغيّرات الاجتماعيّة في خضمّ زحف العولمة والتطوّر وهيمنة الذكاء الاصطناعي على الشعوب.
نعلم علم اليقين أنّ بعض الضروب الإيقاعيّة الحديثة المستعملة في وقتنا الحاضر، لا تلبّي بالكامل الإشباع الوجداني اللبناني وحاجاته الفنيّة، ولا تلهج كليًّا بلهجة بيئته الشعبيّة ولا تؤمّن بصورة كاملة إنعكاسًا تعبيريًّا أمينًا للنبض المجتمعي المعاصر، ما يضعف الكفالة لحفظ الضمانات المطلوبة وتأمين عناصر الأمان الضروريّة التي من شأنها عدم تشويه الهُويّة الوطنيّة وتمزيق خاصيّتها. قيلَ قديمًا: “الموسيقى هي فن التفكير والتأمل، إنّها فن الأصوات”. وأشار أفلاطون أنّ تربية الجسد إنما تكون بالرياضة، أمّا تربية العقل وتغذية الرّوح فتكون بالموسيقى؛ وفي بحوثه عن تأثير الموسيقى في التربية وجد هذا الفيلسوف المربّي أن “هذا الفن هو أحد وسائل دعم الفضيلة والأخلاق، فالموسيقى تؤثر في مشاعر الإنسان وفي حياته الباطنيّة، حيث تأثير الإيقاع واللحن في هذا الفن أقوى من تأثير العمارة والتصوير[الرسم] أو النحت، على روح الإنسان وحياته الانفعاليّة” (الصيفي، 2020).
ومن العناصر المهمّة التي تساهم بتكوين خصائص الموسيقى وملامحها الأولى، ظروف نشأتها البيئيّة والطبيعيّة والاجتماعيّة والدّينيّة والمناطقيّة … تلك الحاضنة التي تشكّل إطارًا ومرتعًا تنمو في كنفه الخاصيّة الجيو-موسيقيّة، نشرح أبعادها وحيثيّاتها بقدر ما تتّسع لنا مساحة هذا البحث في الفصل الأول.
الفصل الأول: الجغرافيا، عامل تكوين أول للخطاب الإيقاعي
للجغرافيا الطبيعيّة أشكال مختلفة ومظاهر متعدّدة لا تُعدّ ولا تُحصى، وهي تُشكّل عامل التأثير الأول المتحكّم بحياة البشر ومساراتها، رسمت للإنسان أنماط عيشه وساهمت بكتابة تاريخه وإنتاج حضارته، وفرضت عليه أساليب عيش وإيقاع حياة متدرّج بين منتهى السّهولة وجلافة القساوة والتعقيد. وما سعي الإنسان الدؤوب عبر التاريخ لاكتشاف مناطق جديدة إلّا بحثٌ دائمٌ عن رفاهٍ مأمول بأراضٍ خصبة وغنيّة مليئة بالخيرات والثّروات. سعى الإنسان منذ فجر التاريخ وراء قوته من مأكل ومشرب، فاستوطن السهول وضفاف الأنهار والمراعي الخصبة، وسكن بجوار الحقول التي توفّر له الموارد الطبيعيّة لعيشٍ آمنٍ ومستقر. تلك الطبيعة المتفاوتة فرضت عليه في كثير من الأحيان عواملها القاسية، ونُظمها المُتحكّمة فشرّدته وصلّبت طباعه ووتّرت سلوكه وأفعاله، كما وأهدته جمالها وسحرها ورخاء العيش فيها أحيانًا أخرى. كل تلك المسارات انعكست تعابير متفاوتة ترجمها الإنسان قرعًا أو لحنًا، رسمًا أو نحتًا، غناءً أو عزفًا وبشتّى أنواع الفنون المعروفة. اختلفت أنماط التّعبير الإنساني من خلال الموسيقى والغناء بتفاوت الجغرافيا المكانيّة والعوامل البيئيّة التي عاش فيها. هذا الاختلاف من وجهة نظر ابن خلدون هو نتيجة تقسيم أقاليم العمران البشري. ويعدُّ ابن خلدون أنّ الاقليم الرابع (الوسط) هو أكمل هذه الأقاليم عمرانًا. “وسكان هذه الأقاليم هم الأعدل أجسامًا وألوانًا وأخلاقًا وأديانًا، وهم على غاية من التّوسط في مساكنهم وملابسهم وأقواتهم وصنائعهم” (حمد، 2008). يضيف الجابري على نظريّة ابن خلدون قائلًا: “حتى النّبوءات فإنّما توجد في الأكثر فيها (…) وأهل هذه الأقاليم يتّخذون البيوت المنجّدة بالحجارة المنمّقة بالصناعة ويتناغون في استجادة الآلات والمواعين. وتوجد لديهم المعادن الطبيعيّة (…)” (الجابري، 2008). أينعكس هذا العدل في البيئة الجغرافيّة وهذه المعرفة في صناعة الآلات والمواعين على الموسيقى وخاصة الإيقاع؟
لبنان، الذي يعرف رسميًّا بـ”الجمهوريّة اللبنانيّة” هو دولة عربيّة صغيرة بمساحتها الجغرافيّة وعدد سكّانها، وذات نظام ديمقراطي متعدّد واقتصاد حرّ. ولشعبه ديانات وطوائف ومذاهب وانتماءات مختلفة الخ… هذا التّعدّد التّكويني والتّباين المجتمعي والاختلاف الدّيني أكسبه ثقافة هجينة مُركّبة لها سمات وميزات خاصّة، وتبرز ملامحها المسيحيّة والإسلاميّة، العربيّة والفينيقيّة، الشّرق أوسطيّة والغربيّة في أنواع الفنون والطقوس كافة التي تتجلّى عند كل محطّة تاريخيّة، وتُقدّم نموذجًا فريدًا يوصف بالحضاريّ عن التآلف الإنساني والتآخي الجوهري بين الدّيانات السماويّة المتنوّعة. وأنتج هذا التّحاذي والتّجاور والتّلاصق ثقافة لبنانيّة جديدة ذاخرّة بالعناصر المتناقضة اللا تماثليّة بأبعادها الدّينيّة والثّقافيّة والفنيّة، وهُويّة مازالت في طور التشكّل، إنّها هُويّة النّماذج المتعدّدة. وبما أنّ الموسيقى هي مرآة المجتمع والإيقاع الموسيقي مترجم أمين لنبضه وحياته بأكملها، سوف نستعرض أهميته وعلاقته بنبض المجتمع وتأثيره، وتأثره بكل المعايير الاجتماعية والجغرافيّة التي تُنتجه، ولكن يجدر بنا أن نبدأ بعرض بعض آراء المفكرين، والفلاسفة الذين شدّدوا على أهمية الموسيقى ودور الإيقاع في البناء الاجتماعي والإنساني.
الإيقاع، هذا الركن الألمع في ثنايا الموسيقى العالميّة عامّة والعربيّة خاصّة يشكّل المدماك الثابت والجسر الصلب الذي تُبنى عليه لُبناتها الاساسيّة. لقد جعل العالِم الموسيقي اليوناني دامون (Damon) “مكانة هامة للموسيقى في تربية وتكوين المواطن الصالح، فقد كان يعتقد أن التأثير العميق للموسيقى لا يؤدّي إلى إثارة الانفعالات المختلفة وتهدئتها فحسب بل إلى بثّ الفضائل جميعها، كالشّجاعة وضبط النّفس والعدالة ذاتها. وكان دامون يرى أن الموسيقى ضروريّة لا للتعليم الثّقافي فحسب، بل من أجل تكوين دولة قويّة سليمة، وذهب إلى أنّ التّجديد في الإيقاعات الموسيقيّة يُعدّ نذيرًا بتغيّر اجتماعي أو ثورة” (الصباغ، 1990). أمّا الفيلسوف اليوناني ديمقريطس (Democritus)، “يرى أنّ الفنان يحتلّ موقعًا وسطًا بين الآلهة والإنسان، وأنّ الرسالة الإلهية للفنان تُحتّم عليه أن يساعد الإنسان على بعث التوافق بين نفسه وبين النّفس الكليّة عن طريق إيقاع الموسيقى ورشاقتها. […] وكان يرى أن للموسيقى قوة تعليميّة واجتماعيّة تُتيح للإنسان أن يحفظ التّوازن بين الرّياضة البدنيّة والآداب” (الصباغ، 1990). هذا ما يؤكّد أهمية الموسيقى وخاصة الإيقاع في بناء أية جماعة في أي وقت كان. ويُشدّد أفلاطون أيضًا على هذا الأمر بقوله: “حياة الإنسان في كل جزء منها تحتاج إلى الإنسجام والإيقاع” (الصباغ، 1990). هذا الإيقاع الموسيقي له معايير خاصة مرتبطة بمكان وزمان محدّدين، كما إنّه نتاج لتركيبة اجتماعيّة ومفاهيم ثقافيّة محدّدة. فإنّ الموسيقى بجماليّتها تُعبّر عن الخير العام للشّعوب، وهي خاضعة لمعايير معينة ومبادئ محدّدة تتجلى بعلاقتها الوثيقة بحياة الإنسان.
على الرّغم من مرور عقود طويلة على طرح الفلاسفة والعلماء هذه الآراء، ما زلنا لغاية اليوم نعيش هذه العلاقة القويّة بين ثلاثي: الموسيقى، الإيقاع والإنسان. ويقول نادل (Nadel) (Nadel & Baker, 1930) أنّ كل أشكال الفن هي بمنزلة التّحويل للخبرة الإنسانيّة إلى شكل غير عادي. ولذلك فإنّ المعنى الجوهري للموسيقى يبرز بقدرتها على التّمظهر على هيئة خصائص مبتدعة خارقة للطبيعة (language supernatural) وهي لا تستمدّ أي مسوّغٍ لوجودها من ضروريات الحياة اليوميّة العاديّة، فهي بنظره هبة من الآلهة ولغة سحريّة خاصة. لقد ظلّ الكثيرون من اتجاهات فكريّة متعدّدة ينظرون إلى الإيقاع بطريقة سطحيّة، ويتعاملون معه بمفاهيم منقوصة وغير مكتملة بدوائرها العلميّة، والفنّية ما تسبّب بخللٍ كبير طال مفهومه الصحيح ودوره وأهمّيته في الإتجاه المجتمعي العام من جهة والتّخصّصي الخاص من جهةٍ أخرى. فيما ظلّ العديد من العلماء يعتقدون أن الإيقاع مهم في النّمو اللغوي لدى الطفل، فتعليم اللغة بإيقاع معيّن أو إعطاء الكلمات الجديدة للطفل بنمط إيقاعي معيّن تساعده في حفظ، وترديد تلك الكلمات بسهولةٍ أكبر (Buchoff, 1994) إنّ كلّ ما يستمع إليه الإنسان بشكل عام؛ والطفل بشكل خاص من زخم سمعي موسيقي وإيقاعي في البيت والمدرسة والمناسبات الاجتماعيّة، والدّينيّة والوطنيّة ووسائل النقل والأماكن العامة ووسائل الاعلام وغيرها، يُكوِّن مخزونًا هائلًا في ذهنه وذاكرته يكون جرعاتٍ ثقافيّة ومؤونة وافرة تمكّنه من إدراك وفهم وتقليد العديد من الأنماط الإيقاعيّة التي تساهم بتشكيل هويّته الخاصّة. لذلك، فإنّ الإيقاع تحديدًا يّشكّل مجالًا واسعًا تتجلّى فيه هُويّة التفكير بالانتماء، والتجذّر وذلك لأنه أقلّ عرضةً للتغيّرات والتبدّلات من الألحان النغميّة.
لم يكن لبنان يومًا يمثّل كيانًا ثقافيًّا موحّدًا، ومتماسكًا بسبب نسيجه الاجتماعي الفسيفسائي المؤلف من أديان وعقائد مختلفة تتوزّع فيه وتتقاسم مناطقه وخيراته، إلّا أنّ اجتياح ثقافة العولمة والتّكنولوجيا المستوردة في السنوات الأخيرة أحدث انقلابًا جوهريًّا في شكل الهُويّة الثّقافيّة اللبنانيّة، وقلّل من التأثيرات الدّينيّة والعقائديّة عليها وآلَ إلى تعميم لغة تصالحيّة مع الآخر، ونجح بزعزعة بعض أركان المعتقدات البائدة وجانب من العادات والتقاليد الموروثة المتحجّرة، كل ذلك انعكس تأثيرًا مباشرًا على فنون الموسيقى عامّةً والإيقاع خاصّةً نتيجة هذا التّصاهر والتّلاقح والتّفاعل الاجتماعي والثّقافي المنفتح.
وكما ذكرنا سابقًا، للجغرافية اللبنانيّة خصائص تميّزها عن جميع الدول المجاورة والبعيدة، العربية والغربية؛ وللموسيقى اللبنانيّة سمات خاصة نستطيع استشعارها، الإحساس بها، والتّفاعل معها من خلال الإيقاع المؤسّس لها الذي بدوره، يمتلك خصائص وميزات وأسس يجب الالتزام بها. هذا ما شدّدت عليه نتالي إينيك (Natalie Enek) في طرحها لأسلوب التفرّد بمزايا خاصة (singularization process) “وهو أسلوب في التّصرّف والسلوك وسلسلة من أشكال العمل تمنح التميّز قيمة، فيغدو بحد ذاته هدفًا منشودًا تتزايد الرّغبة في تحقيقه” (إينيك، 2011). لذلك، ولإظهار أسلوب التفرّد الخاص بالإيقاع الموسيقي اللبناني العربي، وبعد الاستدلال بشواهد عديدة سوف نقدّم نماذج مختصرة (وذلك لضيق مساحة هذا البحث) لآلات إيقاعيّة مناطقيّة تغطّي جزءًا كبيرًا من الجغرافيا اللبنانيّة مع عرض عيّنات للإيقاعات التي تتدفّق عبرها والتي تومئ إلى طقوس شعبيّة متفاوتة وعادات إجتماعيّة مختلفة.
بعض الآلات الإيقاعيّة
أولاً: الطبول
كما هو معلوم، فللطبول مسيرة طويلة ضاربة في عمق التاريخ، وقد تنوّعت أشكالها وأحجامها وأسماؤها مع مرور الزّمن بتنوّع ثقافات الشّعوب وموروثاتها الشعبيّة، وهي كما يقول المؤرخ والعالم الموسيقي كورت زاكس (Curt Sachs 1881-1959) (Gautier, Gualda & Mefano, 2022) عُرفت في الحضارات القديمة بأشكال وأحجام مختلفة منذ الحضارة السّومريّة التي عرفت اثني عشر نوعًا منها: “طبل المسوندو، كاسر، الأغبر، باتو، بوَدّقة، تشابوا، الجغبوي، الحرسوسي، الدمّام، الدنّان، الدنبق، مريم، المكرماني، الرحماني، التمتم، إمكابي، المعدني”… وكان دليله على ذلك عثوره على اثني عشر اسمًا لها في اللغة السّومريّة واثني عشر مرادفًا لها في اللغة الأكديّة. ففي قديم الزّمان كانت الطبول بمنزلة تلغراف الأدغال وكانت تُعدُّ إشاراتها وسائل معروفة تمامًا للتّخاطب عبر المسافات الطويلة، لكن تلك الإشارات تقوم أساسًا على الإيقاع وعدد الدقّات وأسلوبها.
إنّ أكثر الطبول شيوعًا وانتشارًا في الوطن العربي هي الطبول الاسطوانيّة التي تتألف من إطار خشبي دائري الشكل، يُشدّ عليها بالحبال من كلتا الجهتين قطعة من جلد الحيوان كالأبقار أو الجواميس أو الجمال أو الماعز الخ. والطبل البلدي اللبناني، المماثل لعدة طبول في الأقطار العربيّة كالطبل “الجوبي” و”المكرماني”، هو خشبيّ اسطوانيّ غالبًا ما يُصنع من خشب الجوز الفاخر وغشاءين من جلود الحيوانات كالغزلان أو الماعز أو الأبقار، يُعلّق بكتف العازف برباط جلدي ويُضرب عليه بعصوين خشبيّتين من كلتي الجهتين، الأولى باليد اليمنى تكون غليظة ملتوية قليلًا أو ذات رأس كروي من اللبّاد أو الخشب، والثانية رفيعة مرنة غالبًا ما تكون ذراعًا من الخيزران من دون رأس وتُنقر باليد اليسرى.
تؤدي الطبول منفردة، أو بمصاحبة بعض الآلات النّغميّة التراثيّة دورًا أساسيًّا وفاعلًا في تكوين أدب الرّقص الشّعبي والدبكات اللبنانيّة على أنواعها، وغالبًا ما يرتبط حضورها بإيقاعات وضروب شعبيّة معيّنة تتناسب وطبيعة النّقر عليها، وتلهج بلهجات الجماعات التي غالبًا ما تبني خطوات الرّقصات والدّبكات عليها فهناك الضروب الثنائيّة، والثلاثيّة والرباعيّة والخماسيّة والسداسيّة والسباعيّة… والتي تتناوب النبرات لتوقيع متجانس ومحكم بين القرع والحركة.
ثانيًا: الدربوكة Darbouka أو الطبلة Tabla كما يسمّيها المصريّون، عرّفها السومريّون والبابليّون حوالي العام 1100 ق.م. وهي عبارة عن جسم اسطواني شبيه بالكأس، مصنوع بالأصل من الطين والجصّ والفخّار أو الخزف (الذي يُسمّى في تونس : الشَّقَفْ) ويُشدُّ على فتحتها الأوسع قطعة من جلد السّمك أو الماعز أو غيرها… وقد تبدّلت صناعتها من الفخّار إلى المعادن كالألومينيوم والفونت والنّحاس والألياف الزّجاجيّة (Plexiglass) في ما تحوّل الإطار من جلد الحيوانات إلى بلاستيكي مصنّع… للدربوكة في العالم العربي أسماء عديدة بحسب حجمها، فأكبرها تسمى “الدُّهُلَّة” Duholla تليها “السنباطي” Sumbatiأمّا الأصغر من الدربوكة العاديّة فتسمى “فرايحيّة” Frayhiyyaفيما أصغرها يسمى “إسكندراني” Iskandarani؛ وللعزف عليها، يضعها العازف على فخذه الأيسر ساندًا ذراعه الأيسر فوق جسمها، وناقرًا على طارتها بكفّيه وأصابعه من دون الحاجة إلى مضارب.
ثالثًا: الرقّ Riq المعروف شعبيًّا باسم (الدفّDaff ) ويسمى بتسميات عديدة بحسب حجمه، منها “طار الجلوة” في مدينة صفاقس التونسيّة، وهو طارٍ خشبي دائري عليه جلد رقيق مشدود من إحدى جهاته، ويحوي عشرة أزواجٍ من شرائح النّحاس الأصفر المستديرة وتسمى الصنوج أو الصاجات … يُشكّل أحد الأعمدة الأساسيّة بتشكيلة التّخت الشرقي الذي أدّى على مرّ العصور دورًا أساسيًّا في تقديم الموسيقى الشرقيّة، والتأسيس فيما بعد لأشكال المنظومات الأوركستراليّة العربيّة كافة.
رابعًا: المزهرMazhar ، بدأ استعماله في غالبيّة بلدان شمال إفريقيا ومن ثَمَّ انتقل إلى شرق البحر الأبيض المتوسط ومنها لبنان، يشبه كثيرًا آلة الرقّ إلا أنّه أكبر منها حجمًا وأثقل وزنًا وأصدح صوتًا… كثير الاستعمال في المناسبات الاجتماعيّة والحفلات الراقصة وخاصّة حفلات الزّفاف والأفراح…
من هذا الميدان الثري بإيقاعاته وضروبه المتنوّعة، ميدان التّراث والتّقليد الموسيقي المتناقَل بين الأجيال، تبرز العلاقة التكامليّة والتأثيريّة بين الإيقاع والمجتمع، بين النّظام الإيقاعي التّقليدي وارتباطه بطبيعة وانفعالات الإنسان المتحرّك؛ إنّ هذا النظام الإيقاعي النموذجي المكوَّن من نُظم إيقاعيّة ثلاثة: ثنائيّة، ثلاثيّة ورباعيّة تنبثق منها كل سلالات الموازين والخلايا الأخرى التي لا تحصى، تحكمه مبادئ ثلاثة تبني مضمونًا إنفعاليًّا يؤثّر على مشاعر الإنسان وعواطفه وهي:
- مبدأ التّجاور أو التقارب فيتقارب الحدّ العلوي من الخليّة الإيقاعيّة الأولى مع الحدّ السّفلي للخليّة الثانية.
- مبدأ التّحاذي أو التواصل، فتتصل حدود الخليتان الأولى والثانية ببعضهما البعض.
- مبدأ التداخل أو التقاطع فيتداخل الجزء العلوي للخلية الأولى مع الجزء السفلي للخلية الثانية.
عيّنة مختصرة من الضروب الإيقاعيّة العربيّة
نستعرض في ما يأتي عيّنة مُنتقاة لأبرز الضروب الإيقاعيّة المستعملة في الأقطار العربيّة، وسندوّنها برموز ومصطلحات خاصة تُعتمد في المعهد الوطني العالي للموسيقى في لبنان بشكل رسمي منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، وهي على الشكل الآتي:
دُم (dum) تُمثّل الزمن القوي.
تك (tak) تُمثّل الزّمن الضعيف.
السكتة (rest) تُمثّل الزمن الصامت.
- الكاتكوفتي: ويسمى “نوّاري” باللغة الشّعبيّة، وهو ضربٌ إيقاعي رباعي يكتسب رونقه من نبره القوي المؤجل والذي يتناسب مع خطوات أنواع مختلفة من الدّبكات والرّقصات الشعبيّة والفولكلوريّة الشّائعة. ويكتب على الشكل الآتي:
- الأيوب: وهو ضرب إيقاعي ثنائي، يُستعمل بشكليه السّريع، والبطيء ويمتاز بشكله المنتظم وضرباته المتلاحقة بسبب مقياسه القصير.
- المصمودي الصغير: الذي يُعرف في بلاد الشّام بالإيقاع البلدي، هو رباعي التركيب، ميزاته المهمّة الثبات والفرح.
- الوحدة الشّاميّة أو اللّف: ويُطِلق عليه البعض اسم ملفوف. شكله قصير ودائري ومستعمل بكثرة في الموسيقى الشّعبية والغنائيّة…
- المقسوم: رباعي الوحدات وغالبًا ما يُعزف بسرعة وحماس، من أكثر الضروب الإيقاعيّة إنتشارًا في المشرق العربي على الاطلاق.
- الزفّة: يُماثله إيقاع النّقشبندى الشّائع في شمال السودان لدى القبائل النوبيّة، اكتسب اسمه في لبنان، وبلاد الشّام لكثرة عزفه في حفلات الزفاف التي يُعزف فيها على الآلات القرعيّة الصاخبة من طبول ومزاهر وغيرها تُرافق زغردات النّسوة وتهاليلهنّ.
- السُداسي: إيقاع شائع في دول المشرق العربي وخاصةً لبنان وفلسطين، وهو يرافق رقصات الدّبكة والألحان التراثيّة والفولكلوريّة كالدلعونة مثلًا.
الشّكل الثاني لإيقاع السّداسي الأكثر شيوعًا في رقصات الدبكة اللبنانيّة.
- الشَفثًه ثًلّي (شفثتلي): إيقاع شائع كثيرًا في الموسيقى العربيّة غنائيّة كانت أم آلاتيّة. وهو من أصول تركيّة، عادة يُعزف ببطءٍ وتمهّل وخاصة بمرافقة مقاطع الارتجال الآلاتي والغنائي.
- الصعيدي: نشأ في منطقة صعيد مصر الذي استمدّ اسمه منها، ثم انتشر في الأقطار المجاورة لمصر، وصار من أكثر الإيقاعات استعمالًا في الحفلات الشّعبيّة الصاخبة في لبنان، يتميّز بطابعه الحماسي الراقص.
هذه الأمثلة الإيقاعيّة ليست إلّا تعبيرًا عن “تكوّن أو تشكّل” (configuration) للتّماسك الجغرافي والاجتماعي في مدّة زمنيّة محدّدة. هذا المصطلح التّقني وضعه السوسيولوجي نوربير إلياس (Norbert Elias) وهو يُفيد سياق التّماسك والتّلازم والمجال الزمكاني (spatiotemporal) (Elias, 1991). هذا التشكّل يُظهر أيضًا أن الإيقاع لا يكون كلًا واحدًا، تمامًا مثل المجتمع الذي هو مركّب من جماعات وفئات وطبقات وأوساط مختلفة تتغيّر وتتفاعل وتُنتج ثقافة خاصة.
على مرّ السنين، وككل مجتمع حيّ، دأبت البيئة اللبنانيّة على تكوين إيقاعاتها الخاصة من خلال تطوير أو تحريف متدرّج لما هو متوارث من الموسيقى العربيّة والعالميّة، وقامت بتعديل لبعض الآلات الإيقاعيّة فواءمت بين أشكالها وتصويتها لتتناسب مع البيئة الجغرافيّة والاجتماعية المرتبطة بها، ومع العوامل الحياتيّة المؤثرة بشكل واضح (قساوة الحياة في الأرياف – رفاهية العيش في المدن وسهولة التواصل – التفاوت الثّقافي والعلمي بين المناطق – النزوح – الوضع الاقتصادي – المعتقدات الدينيّة المختلفة…).
أكثر من أي موسيقى أخرى، للموسيقى الشّعبيّة التّقليديّة هدف أساسي؛ وهو تجذير انتماء جمهورها وغرس قيم الثقافة فيه والموروثات التي حفظها الآباء، والأجداد ونقل التّراث الاجتماعي والعلم من جيل إلى جيل. ونؤكّد دور الإيقاع الموسيقي في نقل هذه الثّقافة وخاصة أنّه يحمل تعابير رمزيّة عن نمط ثقافي، وتنظيم اجتماعي من خلال التنوّع الكتابي (rhythmic figures) والآلات القرعية المستخدمة.
تجدر الإشارة أنّه إلى جانب الآلات القرعيّة الإيقاعيّة التي يستخدمها الإنسان لهدف تصويتي موسيقي، هناك مجموعة من الآلات الإيقاعية المصوِّتة بنفسها (Idiophones) وهي أدوات لم يكن القصد منها موسيقيًّا بل كانت للزينة أو لوظائف معيشيّة، وقد يكون لها استخدام أثناء الرّقص أو الحركة عمومًا، وهي ما يُطلق عليها اليوم اسم “الآلات المصوِّتة بنفسها”. إنّ مثل هذه الآلات التي ثبُت وجودها منذ العصر النّاطوفي، أي حوالي 12000 – 8500 ق.م.، استمرّ وجودها حتى أيامنا هذه. ومن هذه الآلات: الخلاخل والصلاصل والقلادات والأساور المصنوعة من الأصداف أو الحجارة، أو غير ذلك من مواد طبيعيّة (Braun, 1999)، وغيرها الكثير…
إنّ العديد من الضروب الإيقاعيّة ليست إلاّ وليدة ممارسات اجتماعيّة قبليّة متكرّرة من مهن، وأفعالٍ جماعيّة تراكمت عبر السنين لتكوّن بناءً إيقاعيًّا متماسكًا يعكس تلك الطقوس ويتلازم معها، وفي ما يلي عرضٌ لبعض الأمثلة على ذلك:
إيقاع الحداء الذي يدوّن كالآتي:
هو من فصيلة الأعرج ويُعرف في مدينة البصرة العراقيّة بالسّامري، وهو من أصل بدوي ومنتشرٌ في دول الخليج كالمملكة العربيّة السعوديّة والكويت وغيرها… ويُعدُّ امتدادًا لغناء الحداء الذي يترافق وسير القوافل في الصحاري الشّاسعة؛ هذا الضرب الإيقاعي انتقل عبر السنين شيئًا فشيئًا إلى سكّان المدن، وأصبح يُستخدم في حفلات السّمر من النّساء والرجال على حدٍّ سواء، كما استخدمه العديد من الملحنين بقوالب موسيقيّة أو غنائيّة في لبنان ولا يزال مُستخدمًا حتى يومنا هذا.
وكما هو معلومٌ، فإنّ كلمة “الإيقاع” وردت في الثّقافة العربيّة للدلالة على مكوّن من مكونات الموسيقى، يُقابله مفهوم “الوزن” في الشّعر، ويشترك المصطلحان في طبيعتهما المتعلقة بالزّمن وتعاملهما معه، بنيتهما ونوعيّة الاحساس الذي يُثيره كلّ منهما عند السّامع المتلقي وتقاطع وتلاقي مجاليهما في الغناء وفن الأصوات، وسمة الفطريّة التي يمتاز بها كل ممارس لهما.
تتحدّر بعض الضروب الإيقاعيّة (أوزان الموسيقى العربيّة) من مصدرها الأصلي الذي هو بعض التفعيلات الشعريّة ومطابقتها للأوزان الموسيقيّة. فلو أخذنا مثلًا من بحر المتقارب التّفعيلات الخماسيّة كـ”فعولٌ” مثلاً نترجمها إيقاعيًّا كالآتي:
إيقاع المجرّد المغربيّ. هذا الشّكل الإيقاعي مطابق لتفعيلات “فعولٌ”.
ولو أخذنا مثلًا من بحر المتدارك تفعيلات خماسيّة كـ “فاعلنٌ” فإنّنا نترجمها إيقاعيًّا كالوزن الآتي:
إيقاع الإنصراف الجزائري.
بناءً على كل ما تقدّم، تتضح لنا الأهمية القصوى للإيقاع كعنصر مكوّنٍ للهوية المجتمعيّة ومؤثّر فيها وكناقل أمين للتراث الثّقافي والفني للشّعوب. من هنا يبرز التّحدي الأكبر وهو حول كيفيّة صون هذا الكنز الإيقاعي، والمحافظة عليه في مجتمع مشرّع على شتّى أنواع التّغيّرات والتبدّلات التكنولوجية المستوردة طمعًا باللحاق بركب التّطور والحداثة. بعد هذا العرض الوجيز، يطفو على خاطرنا سؤال جوهري وهو: كيف تُساهم الفنون بأشكالها المختلفة وخاصة الإيقاعيّة منها في تشكّل الهُويّة الفرديّة والمجتمعيّة وبالتالي الوطنيّة؟ وأين يكمن دور النُخب والمبدعين بحمايّة الصناعة الإيقاعيّة من التّشويه أو التّقوقع او الإنحراف القاتل؟
الفصل الثاني: الإيقاع مرآة المجتمع وصانع الهُويّة
“الهُويّة”، وما أكثر التّعاريف والمرادفات التي تُحاول شرح هذا التّعبير وتفسيره والدّلالة عليه. تعدّدت التّحاليل والمقاربات وأهتمّ العديد من العلماء، والفلاسفة والمفكرين بمفهوم “الهُويّة” محاولين إيجاد تعريف علمي واضح ومحدّد. سوف نستعرض بعضًا من هذه التّعريفات التي تبدو أكثر واقعيّةً وارتباطًا بموضوع بحثنا هذا. يحدّد عالِم الاجتماع الأميركيّ بارسون (Parsons) الهُويّة على أنّها “مراعاة قيم النّموذج الذي يتضمن مجموعة توقعات الأدوار التي يتقاسمها أعضاء النّظام. لا يتصرّف الفاعل الاجتماعي فقط وفقًا لنظام القواعد الدّاخليّة التي لا تختلف عن الدور الذي يتوافق مع منصب أو وظيفة في النظام الاجتماعي، لذلك تُقدّم الهُويّة على أنّها تكامل لأوضاع وأدوار الفرد استجابةً لحالات، وأدوار الآخرين التي تشكل بيئَته الاجتماعية” (Baugnet, 1998). وللموسيقى أدوار يتقاسمها الأفراد المعنيّون في خلقها وفق نظام اجتماعي محدّد. فالمؤلف الموسيقي والعازف مثلًا، يعملان وفقًا لمتطلبات العمل ووفقًا لنظام الأدوار والمعايير الدّاخليّة وخصائص بيئتهما الجغرافيّة؛ ما يعطي لهذه الموسيقى صورة مطابقة لمجتمع معيّن في بيئة جغرافيّة محدّدة. تُولّد الهُويّة الاجتماعية للموسيقى فكرة الوعي الجماعي أو الحالة المعرفيّة والعاطفيّة والمصالح والقيم الثّقافية للجماعة بأسرها، فضلًا عن قيم النّموذج الذي يتضمن الأدوار والتّوقعات الاجتماعيّة. إنّه أيضًا بناء معبّر عن الذّات الاجتماعيّة المرغوبة. وبالتّركيز على تحليل التّفاعل من خلال السّلوكيات الرّمزيّة (اللغة واللعب)، يكشف جورج هربرت ميد (G.H. Mead) تأثير البراغماتية التي تتم فيها إحالة الهُويّة إلى مجال الفعل من منظور غير نفعي. “النماذج التّفاعليّة للذات الاجتماعيّة تُشير إلى أنّه من خلال ممارسة الأدوار، يقوم الأفراد ببناء هُويتهم بنشاط كمواءمة بين الأعراف الاجتماعيّة والتّجربة الشّخصية لديهم” (Baugnet, 1998). يبني كلٌّ من المؤلف، والملحّن، والكاتب، والعازف، وكل شخص مرتبط بالإبداع الفني، هُويتّه الاجتماعيّة وشخصيّته الموسيقيّة، من خلال أداء دوره بحرفيّة عالية متكئًا على إرثه التّاريخي وغارفًا من مخزونه الثّقافي. وإذا اتفقنا مع بونيه (Baugnet) على أنّه “في مجال العمل الجماعي، تبدو الهُويّة قوّة دافعة، ومؤازرتها تسمح بعمل ليس موجّهًا فقط من المصلحة الشّخصيّة” (Baugnet, 1998)، نجد في مفهوم “القوّة الدّافعة” التي هي الهُويّة الشّخصيّة والاجتماعيّة، تأكيدًا نظريًّا لفكرة أنّ ممارسة الموسيقى، وتذوّقها يُسهّل التّواصل والتكامل الاجتماعي، وأنّ المكوّن الإيقاعي الذي يشكّل عصبها وأساسها يُرسي عند الفرد انتماءً ثقافيًّا ورابطًا اجتماعيًّا متينًا يصعب تفكيكه. فنرى مثلًا صورة الطبيعة اللبنانيّة الخلابة من شلالات ومروج وأنهار وينابيع حاضرة في التّكوين العضوي للأغنية الشّعبيّة اللبنانيّة وإيقاعاتها. ومثال على ذلك وصف خُضرة سهول البلاد وخيراتها بأغنية أحد أشهر صنّاع الأغنية اللبنانيّة وديع الصافي “خضرا يا بلادي خضرا” من مقام البياتي (كلمات مارون كرم، ألحان وغناء وديع الصافي) المبنيّة على التّقطيع الإيقاعي السّداسي الذي يمتاز بصلابة نبره ونمطيّة تلاحقه، عاكسًا بذلك خصائص صمود وثبات وشموخ الجبل اللبناني والشّهامة والعنفوان اللذان يمتاز بهما سكانه.
إيقاع السّداسي
نلاحظ أنّ التقطيع الشّعريّ في هذه الأغنية هو سداسيّ النبض، ما يتلاءم مع الوزن “السّداسي” المعروف في الموسيقى العربيّة والمبني على ضربات ست مقسمة إلى ثنائيات ثلاث؛ يتوزّع فيها النّبر بين أزمنته المختلفة ما يُكسبه قدرة على التأثير المباشر بالمستمع وإشعاره بالقوة والصّمود وعزّة النّفس والثّبات. وهو يُدوّن على الشكل الآتي:
قدّم أستاذ علم النفس الاجتماعي فِشر (Gustave-Nicolas Fischer) مفهوم الهُويّة على أنّه “فكرة تركيبيّة تُعبّر عن نتيجة التّفاعلات المعقّدة بين الفرد والآخرين والمجتمع. تُبنى الهُويّة على أساس البناء الذاتي في علاقتها مع الآخر والمجتمع. إنها أيضًا هذا الوعي الاجتماعي الذي يمتلكه الفرد لنفسه، ولكن بقدر ما تضفي علاقته بالآخرين صفات خاصة على وجوده” (Fischer, 2003). بالفعل فإنّ الهُويّة مبنيّة على تراكمات وتفاعلات اجتماعيّة وإنسانيّة، جغرافيّة وزمانيّة… تظهر جليًّا في الهُويّة الموسيقيّة الإيقاعيّة المستخرجة من التّشاقعات الثّقافية المستمرة. يجهد الإيقاع للمحافظة على هويّته الجغرافيّة والثّقافية، وتجذيرها شكلًا ومضمونًا متصديًّا لكل موجات التّغيير العشوائي حينًا والممنهج أحيانًا أخرى الذي يهدّد وجوده ودوره اللصيق بمجتمعه وبيئته؛ وفي هذا الإطار، يشدّد تورين (Touraine) في علم اجتماع العمل (1965) (Baugnet, 1998)، على عدة مبادئ، أولها هو مبدأ الهُويّة أي حركة اجتماعيّة يجب أن تكون قادرة على بناء أو إعادة بناء هُويّة جماعيّة لقاعدتها. الإيقاع، وهو عاكس للهُويّة الجماعيّة، ينشّطها ويحفّز الجماعة للتّمسك بها والمحافظة عليها. أمّا ثانيها، فهو مبدأ التّعارض أي إنّ كل حركة اجتماعيّة تقوم على أساس الصراع الذي يسمح لها بتعزيز هُويّتها والتّشبث بها. في ما المبدأ الثالث هو مبدأ الكليّة أي إنّ للحركة مشروع تغيير اجتماعي شامل، وإعادة تعريف نظام العمل التّاريخي للمجتمع في خضمّ كل الحركات التحرّريّة التي تمخضّت عن التّغيّرات والتّطورات الاجتماعيّة.
بالنسبة إلى عالم الانتروبولوجيا فرنيه (Jean-Pierre Warnier) فإنّ مفهوم الهُويّة هو “مجموع بيانات للفعل، للّغة وللثقافة تمكّن الفرد من التعرّف إلى انتمائه لمجموعة اجتماعيّة والتمثّل بها” (Warnier, 1999). وبالتالي فإنّ كلّ رابط بين أفراد يشكلّون بوتقة اجتماعيّة واحدة، تفترض وجود سمات مشتركة يتقاسمونها ليقوموا بأفعال داخل نظام رمزيّ معيّن. وهذا الأمر يدلّ على تشارك لغويّ ثقافيّ بين أفراد تلك الجماعة. إذا أردنا اختصار هذه التّعريفات وغيرها، نقول إنّ الهُويّة هي انخراط وتماهٍ لفرد مع جماعة معيّنة ينتمي إليها، فيتقاسم معها الرّموز، الأدوار، الصفات المشتركة… لتأمين التّلاحم المتين. من هنا، فإنّ المعيار الأساسي لأيّ موسيقى، وبالتالي لأيّ إيقاع موسيقي لتثبيت حيثيته وضمان ديمومته وحجز مكانته في الذّاكرة الاجتماعيّة والجماعيّة، منوط باستحواذه على رموز وسمات وروابط اجتماعيّة وثيقة. ويؤكّد كوستالا – فونو على أنه يكون “دائمًا دراسة الهُويّة على أنّها منتج خارجيّ عن الإنسان وتفرض نفسها عليه” (Costalat-Founeau, 2001). في هذا الإطار، نطرح السؤال البديهيّ: هل فعلًا أنّ الهُويّة منتج خارجيّ؟ وماذا عن الموسيقى والإيقاع؟ انطلاقًا من مفهوم “الاجتماعي” (The social) الذي حدّده المفكر والباحث الجزائري مالك شبل على أنّه “عنصر من عناصر هويتنا، يتم استثماره وفقًا لخصائصنا الفردية” (Chebel, 1986)، نقول إنّ البعد الاجتماعي للهُويّة الموسيقيّة ليس مجرّد حقيقة خارجيّة نتعرّض لها، بل إنّه النّسغ العميق الذي يُغذي رغباتنا وقيمنا ويحيكنا نسيجًا متلاحمًا ضمن نظام مضبوط ومتّسق. ويمكن تعريف الهُويّة الموسيقيّة وخاصة الإيقاعيّة على أنّها بنية ذاتيّة مستقرّة نسبيًّا بمرور الوقت، على الرّغم من ندرة قابليّتها للتّغيير والتبدّل. فيكون للهُويّة مفهوم ذو جوانب محدّدة : فهي مكانيّة، زمانيّة، اجتماعيّة، فرديّة وجماعيّة تعكس سلّة من القيم والأعراف والعادات والموروثات والقوانين والمتغيّرات أي أنها حسيّة ومجرّدة. وبما أنّ الموسيقى بإيقاعاتها تفعل بالفرد وبالمجتمع فعلًا ثقافيًّا تغييريًّا، فهي حكمًا منبع مكوّن للهُويّة. كما يُشير كاميليري (Camilleri) “الهُويّة ليست تكرارًا غير محدود لنفسها، ولكنها عملية ديالكتيكية، من خلال إنخراط الآخر في نفسه، ومن خلال التغيّر في الاستمرارية” (Lavallee, Ouellet & Larose, 1991).
لقد ساهم التّطور الإنساني والانفتاح العالمي بعرض أوسع لموروثاتنا الفنيّة عبر وسائل التّواصل المتعدّدة أبرزها الشبكة العنكبوتيّة، فأدّى إلى اطلاع كمٍ أكبر من الشّعوب على هذا الإرث ما سهّل الطريق نحو تلقّف هويتنا الموسيقيّة، والتّفاعل معها وتلاقح مكوناتها محوّلًا طبيعة النّظم الثّقافية عن طريق استيراد عناصر تقنية خارجية (إيقاع، لحن، آلات، لغة، تقنيات …) ودمجها بذلك الموروث الثري. وهكذا تُختبَر الهويات الموسيقيّة على عدة مستويات وفي سياقات تفاعليّة مختلفة. لذلك نجد أنّ معنى الهُويّة الثّقافيّة مركّب، إذ يعيش الفرد هويّات متعدّدة قد تتداخل أو تتعارض في ما بينها. هذا التنوّع في الهويّات الذي نلاحظه عند المؤلفين والفنانين مشابه للظاهرة التي حدّدها مفهوم ديسروش (Descroches) “للهُويّة التراكميّة”. فيحمل كل موسيقي من عناصر موروثاته الفنيّة حفنة مختارة يكدّسها فوق الأكوام، والمحاصيل الفكريّة لدى الآخرين فيتعالى البناء التّراكمي المشيّد بحجارة الثّقافات المتعدّدة التي باتت ضرورة اجتماعيّة وإنسانيّة ملحّة. لا ضير إذا كانت تلك العناصر غير متجانسة وغير تماثليّة بزمانياتها، ومكانياتها ومنسوب الخبرات فيها لأنّ التّشاقع الثّقافي كفيل بتخمير وتأطير تلك الخبرات وتصفيتها. بهذا المعنى، يحدّد ديسروش (Descroches) الهُويّة على أنّها “الأصالة، التّقاليد والممارسة الموسيقيّة، هي بناء رمزي ينشأ من الخبرات والتّعديلات الثّقافيّة والاجتماعيّة، والأحكام القيميّة، السّلوكيات المكتسبة والمشتركة والتي غالبًا ما تكون موضع تساؤل؛ وبذلك يصبح هذا البناء نقطة الانطلاق لبناءات جديدة من المعرفة” (Guertin & Descroches, 2003).
تقدّم الموسيقى للناس بالنسبة إلى عالم الاجتماع بيتر مارتن (Peter Martin)، “إحساسًا بالهُويّة الآمنة والشّعور بالانتماء في وقت تُصعّب الوتيرة المتسارعة للتغيّر الاقتصادي، والتّكنولوجي تحقيق الاستمراريّة والاستقرار في الحياة الاجتماعيّة. لذلك، فإنّ الهُويّة هي وجه لا غنى عنه لأهمّية الموسيقى، وهي سمة تصوّر عادةً من منظور البنى الاجتماعيّة مثل الجنسيّة، والجنس والعرق” (Wright, 2011). فإنّ الإيقاع الموسيقي بمادته ومكوناته جميعها، ما هو إلا بصمة موقعة صوتيًّا وآلاتيًّا بالجسد للجماعات والإثنيات. ولذلك يُشدّد دوركهايم (Durkheim) على أهمّية الروابط الاجتماعيّة وعلى مفهوم الوعي الجماعي الذي هو “حالة تعبيريّة، معرفيّة وعاطفيّة تشمل، بالإضافة إلى الشّخص نفسه، أفراد المجموعة جميعهم، فضلًا عن الاهتمامات والقيم الثّقافيّة” (Baugnet, 1998). وبتصور دوركهايم، المجتمع هو مؤسّسة، ومبتكر الموسيقى بإنتاجه الموسيقي يدمج هويّته الاجتماعية انطلاقًا من كونه فردًا ينتمي إلى هذه “المؤسّسة”، بالاضافة إلى الوعي الجماعي، فضلًا عن الحالة المعرفيّة والعاطفيّة المتعلقة بالمجتمع الذي ينتمي إليه. ويُشكل هذا تعزيزًا للهُويّة الاجتماعيّة لأولئك الذين يستمعون إلى هذه الموسيقى، فيساهم في زيادة إمكانيّة التّواصل والاندماج الاجتماعي. كما أنّ البيئة الجغرافيّة بتأثيرها المباشر على الإنسان نفسيًّا وفكريًّا تعطي للتوليفة الإيقاعيّة (الضروب، والآلات القرعية…) طابعًا خاصًا وبصمة مناطقيّة فريدة. على الرّغم من كل اختلافات وتباين الهويات المحدّدة من الثّقافات، المجتمعات، الجماعات العرقيّة والفئات الاجتماعيّة، فإنّ سهولة التّواصل بينها أنشأت مصفوفة اجتماعيّة معينة لخّصتها آن-ماري غرين (Anne-Marie Green) على النحو الآتي:
- “لكل موسيقى، اختبار علائقي خاص وفريد مستمدّ من بوتقة معينة يتماهى مع سياقه التّاريخي الخاص.
- إن ممثلوا الإبداع في المجتمع، من موسيقيّين وجمهور مرتبط بهم، يتابعون بشكل سلبيّ التأثيرات الخارجيّة، أو يجلبون ببساطة الثقافة التي نشأوا فيها ودمجوها مع ثقافات الآخرين.
- هناك من يدّعي أن كل موسيقى تتوافق مع فئة أو حتى طبقة اجتماعيّة معينة، وإن هذه الأخيرة لديها إمكانيّة لتميّز نفسها عن سواها” (Green, 2000).
الهُويّة الموسيقيّة ليست ثابتة، فهي متحرّكة بديناميّة المجتمعات، وتعيد إنتاج نفسها متأثرة بالتراكمات الثّقافية للشعوب من خلال خياراتها، والتزاماتها الواضحة نسبيًا التي تضفي عليها سمات حصريّة.
إنّ ازدهار الفن الموسيقي وتحولاته المتتالية وتمظهره بأشكال جديدة، مردّه إلى الإنجازات الإنسانيّة العظيمة التي تخيّم على الفكر الفردي، والمجتمعي والتي تخضع جميعها للنظم الاجتماعيّة السائدة. فتأتي فكرة عالم الاجتماع الألماني ومؤسس علم اجتماع المعرفة كارل مانهايم (Mannheim Karl) معبّرة في هذا الصدد عندما يقول: “فقط في التّواصل الاجتماعي يمكن فهم الموسيقى على أنّها كِيان تاريخي” (Damisch, 1984, p. 1092)، يميّز الشّعوب وهُويّتها الاجتماعية والموسيقيّة.
يُساهم الإيقاع الموسيقي وتعدّد أنواعه وأوزانه في استكشاف ثقافات متباعدة وخلطها، ويفسح المجال أمام النَديّة منها بنثر بعض من شذراتها القليلة وحجز مساحة متواضعة لها في تكوين المجال الثّقافي الأرحب. انطلاقًا من ثابتة أن الإيقاع يشكّل عمودًا فقريًّا لتثبيت الهُويّة الثّقافيّة للمجموعات المختلفة، يستحضرنا السؤال الاعتراضي: هل باتت بعض نظم وتوليفات الإيقاع المعاصر ظاهرة استهلاك جماهيري لا أكثر؟
هذا البحث المتواصل عن الهُويّة هو نتيجة انفتاح المجتمعات بسبب تسارع، وسائل الاتصال والثورة التكنولوجية التي أطلق عليها علماء الاجتماع اسم “الثّورة الصناعيّة الرابعة” (فريحة، 2017). هل هذه بداية عهد جديد؟
مع تطور المجتمع وكل التّغيرات التي تُشوّه أو تُحسّن المفاهيم والمبادئ، يُفلح الإيقاع دائمًا بإبراز هويّته الأصلية المرتبطة عضويًّا بجذوره ومنشأه والمستمدّة من بيئته وموروثاته ويبقى عصيًّا على محاولات التشويه الكامل أو الإخفاء والطمس الكلّي على الرّغم من تعرّضه في كثير من حقبات الانحطاط للتّلاعب والتّفكيك الذي وصل في بعض الأحيان إلى حدّ التّهشيم والاتلاف، فيبقى مثلًا في الإيقاع الموسيقي اللبناني شيء من خصائصه التي يصعب محوها، ويستحيل إلغاءها كبصمة ثقافيّة فريدة.
إنّ صيانة الهُويّة الثّقافيّة للشّعوب لا يتقنها إلّا المبدعون والعالمون بكل موروث ثريّ وقيّم، انطلاقًا من أنّ الموسيقى بخلفيّتها كعلم فيزياء ورياضيّات، وبظاهرها كنبض ونغمة وحالة إنسانيّة، تؤثّر بوزنها، ونغمها، ونبرها، وسرعتها، ورقّتها، وحدّتها، وانسيابيّتها، وعظمتها، وتحوّل المعرفة إلى صناعة للإبداع. “إنّ فهم الموسيقى وإدراك إيقاعها يأتي كنتيجة لحسن التّعاطي مع الأصوات الرنّانة والقارعة ومعرفته، وهو يستوجب استماعًا متأنّيًا وإصغاءً عميقًا لتلك التّصويتات المختلفة والمركبة بدّقة متناهية، ومعها يرتفع الإدراك إلى مرتبة الخلق والإبداع ليُحلّ بركة سامية ممزوجة بفرح المعرفة ولذّة العطاء، لأجل صفاء الرّوح وطمأنينة النفس الحائرة المضطربة” (يعقوب، 2013).
الخلق والإبداع هما الجهوزيّة والقابليّة على طرح الأفكار، وإنتاج الأعمال الأصيلة المبتكرة التي تلتزم أطر محدّداتها لتكسب المشروعيّة وتتمايز عن البِدع والأفكار الشّاذة؛ تلك المحدّدات بتنوعاتها النّفسيّة والفيزيائيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة يُراعى فيها مفهوم المرونة لتفعل فعلها في حقول الفن والعلم والأدب. ولا ينحصر مفهوم الخلق والإبداع بالنّبوغ المطلق وإنتاج ما لم يكن موجودًا.
يقول بورديو (Bourdieu, 1984): “موضوع العمل الفنّي هو “هابيتوس” (habitus) متّصل بموقع، أي داخل حقل […]. وتفعل المحدّدات الاجتماعيّة فعلها الذي تظهر آثاره في العمل الفني من جهة أولى من خلال “هابيتوس” المنتِج. كما تظهر من جهة ثانية من خلال الطلبات والقيود الاجتماعيّة التي تنطوي عليها الوضعيّة التي تتخذها في حقل إنتاج ما. وما نسمّيه “إبداعًا” هو التقاء بين هابيتوس مكوّن اجتماعيًّا وموقع، أو موقف كان قد تشكّل أو بات ممكنًا داخل تقسيم عمل الإنتاج الثّقافي […]”. هذا التلاقي بين الهابيتوس وموقع أو موقف داخل تقسيم عمل الانتاج الثّقافي لا يعطي لمفهوم الإبداع حقّه؛ فبنظرنا، الإبداع هو رائحة البخور الذكيّة التي تضفي على الإنسان وبيئته الجغرافيّة والاجتماعيّة عبيرًا خاصًا. وأدوات الإبداع كالكتابة الموسيقيّة هي الجمرة أو السخّان التي ينحصر دورها بتذويب حبّة البخور ليعبق عطرها؛ ويتمتّع بها الحاضرون فتؤثّر على العالِم باللغة الموسيقيّة وغير العالِم بها على السواء، فكلاهما يشمّ ويتذوّق رائحة البخور أي الإبداع فيصله ويلامس حواسه ويُشعره بإنتشاءٍ خاص. فبينما يمتلك العالِم باللغة الموسيقيّة أداة تذويب الإبداع ويستمتع به على طريقته الخاصة بعد قراءة الرموز الموسيقية كافة؛ وتصل نكهة الإبداع إلى روحه فيتذوقها عن معرفة وثقافة، يطلب غير العالِم باللغة الموسيقيّة منك أن تُذوّب له بجمرتك الخاصة حبة الإبداع (البخور) ليتنشّقها ويتذوّقها متأثّرًا بأسلوبك التّفسيري. وتساهم رموز اللغة الموسيقيّة في ترجمة الحسّ الإبداعي وتحويله إلى إشارات مرئيّة تحترم الترابط الحسّيّ؛ وتمكّننا من إيصال المكنونات الرّوحيّة عبر مسامع المتلقّي. من هنا، تأتي الكتابة الإيقاعيّة كرموز وإشارات تُحذر، تُعلّم وتُنبئ بقرع وشيك.
إنّ استعمال الآلات الإيقاعيّة يحدّد الهُويّة الاجتماعيّة لهذا الإيقاع. بمعنى إذا استعمل “الدفّ” فهو يعبر عن هُويّة اجتماعيّة خاصّة؛ بينما استعمال “الكاخون” أو أيّ آلة أخرى، لنفس الكتابة الإيقاعيّة، يعكس صفات تلك الهُويّة الاجتماعية ويعرضها. “لم يؤمن فيبر أبدًا بإنفصال الإبداعات الموسيقيّة بعضها عن بعض، وإن كان كل منها يحمل سِمة الثقافة التي أنتجتها. وهو يُعنى بالدّرجة الأولى بالسلالم الموسيقيّة وبالآلة الموسيقية الاساسية التي تعبّر عن هُويّة الموسيقى التي تترجمها إلى أنغام” (فيبر، 2004). وحدّد وايلي (Wiley) الإبداع بأنّه ذات اجتماعيّة ليس أكثر وسمّاها بـ”الذات السيميائيّة” (Self-semiotic) (Costalat-Founeau, 2001)، وهو يقترح عمليّة تحويل الذات إلى حوار ثنائي الجانب: أحدهما يتجه نحو الماضي “الذات و أنا” والآخر يتجه نحو المستقبل “أنا وأنت”، فتحصل العلاقة بينهما من خلال المؤدي؛ وما يمنح تلك الذات السيميائيّة الحدّ الأدنى من التّماسك الدّاخلي أو الوحدة، هو الدّافع القوي، ومفهوم الثّقة الأساسيّة والهابيتوس. بمعنى آخر، الذّات السيميائيّة هي بناء مستمر يحدث من خلال تفاعل دائم بين ماضي الفرد (تاريخه وتجاربه) وتوقعاته للمستقبل والتي تحصل من خلال الآخر (أفراد، مجتمع وبيئة طبيعية). تحقيق الذات السّيميائيّة لا يكون في لحظة محدّدة لأنّ له فعل الاستدامة. والتّغيّرات التي تنتج عن هيكليّة ديناميكيّة مستمرّة مقيّدة بخصائص الماضي والبيئة المحيطة، تضمن الاعتراف بالذّات في مراحل الحياة وتوقعات المستقبل جميعها. كلّ هذه العوامل تؤثّر بشكل مباشر وغير مباشر بالإيقاع الموسيقيّ الذي بدوره يتّبع الدّيناميكيّة نفسها، ويتفاعل مع ذاته السّيميائيّة المتّصلة بماضيه وموروثاته، والمندفعة إلى تحقيق توقّعات المستقبل وترسيخ هُويّته الخاصّة. وفقًا لتاجفل وترنر (Tajfel & Turner)، يُعبَّر عن “الهُويّة الاجتماعيّة من خلال التّقييم والأهمّية العاطفيّة لانتماء الأفراد بناءً على التّصنيف النّاتج، وتجانس التّمثيل الذّاتي الاجتماعي” (Fischer, 2003). صحيح أنّه لدى الإنسان هُويّات، انتماءات مختلفة وأدوار متعدّدة، لكن لكل هُويّة منها خصائصها وميزاتها التي تنفرد بها وتكوّن لها معاييرها. والهُويّة الموسيقيّة، وإن كانت تبدو اجتماعيّة، جماعيّة إلّا أنّ مُنتجِها الحقيقي هو من وشمها ببصمته، وسكب فيها تجاربه الخاصّة. الموسيقى بإيقاعها النّابض مثيرة للمشاعر والأحاسيس الإنسانيّة ومروّضة للانفعالات الهوجاء، فالنّفس البشريّة تعكس نبض الكون والحياة وفيها يولّد إيقاع الإنسان الأوّل، ويترعرع وينمو فيشكّل رافد للهُويّة الاجتماعية المُهمّة وضامن لديمومتها. وما الهُويّة الموسيقيّة سوى تراكم إبداعيّ مُصفّى يُجسّد مسارات اجتماعيّة وخبرات إنسانيّة وعُصارات ثقافيّة متتالية.
يتدرّج الإنتاج الإبداعي للفرد من التّقليد المُستنسخ والمنهج المألوف، والأسلوب المُستعار ضمن المُحاكاة المُجرّدة ليصل إلى مصاف إكسير هجين له خواصه الذّاتي وكينونته المستقلّة، ويرتبط نشوء الإبداع وتطوّره بعوامل معرفيّة – إدراكيّة إلى جانب العوامل الإراديّة والبيئيّة… فكل إبداع فنيّ يمثّل شعاعًا ينطلق من داخل عبقريّة الإنسان إلى محيطه الخارجيّ، وجسرًا حسيًّا لعبور الأفكار الإبداعيّة نحو مجتمع عطش متلقّف وأناس يبحثون عن هُويّة تمثّلهم وتُشكّل حيثيتهم وتُرسّخ حضورهم وانتماءهم التاريخي.
هذه الموسيقى بعناصرها المؤثّرة تثير أحاسيس الإنسان وتؤجّج مشاعره وتتحكّم بها، فتكون بأنغامها وإيقاعاتها مصدر التبدّل المزاجي والتغيّر السلوكي والانفعالي عند الفرد. سنحاول من خلال الفصل الثالث الإضاءة بإيجاز على تأثير الموسيقى المباشر على الإنسان فكرًا وسلوكًا وثقافةً وانتماءً.
الفصل الثالث: وطأة الموسيقى على الإنسان
الموسيقى، أداة التعبير الأولى لدى الإنسان، تتغلغل في نفوسنا ونسيّج مجتمعاتنا بأنغامها وأنماطها الإيقاعيّة المؤثرة، بفضلها، اكتسب مخزوننا التّعبيري ميزته التّفاضليّة وهي القدرة على الوصول إلى الآخرين وتوصيل الرسائل المحمّلة بالأفكار والمشاعر بشكل مؤثّر. إنها ميزة تعيش معنا وحولنا، عالمٌ مليء بالأسرار والخبايا لا يزال يكتنفه الغموض اللامتناهي. تكشف الأدلة التطوّرية المتأتيّة من المجموعات الثّقافية عن تكامل شبه محقّق في ما بينها بسبب تنوّع أغنياتها وآلاتها الموسيقيّة وإيقاعاتها، ومع ذلك تظلّ هناك فجوات واعتبارات تأمّليّة إذ إنّ إحدى سمات الموسيقى المهمّة تكمن أنّها تشاركيّة، تبادليّة، تواصليّة، وعنصر تعبير موجَّه نحو الذّات والآخرين في آنٍ واحد. تُعدُّ الموسيقى أساسيّة لربطنا بجذورنا الاجتماعيّة (Cross, 2010) إذ إنّ الطقوس المنسّقة تتيح لنا الإصغاء إلى صداها المتردّد مع الآخرين في المجموعات الإيقاعيّة من خلال ترابط الحركات والأفعال التّعبيريّة المتعمّدة المشتركة مع بعضها البعض، فيثبت أنّ ممارسة الإيقاع متّصلة جذريًّا بأفعال الرّقص الجماعي والفولكلوري الذي يُعدُّ أحد العناصر التّعبيريّة المهمّة ضمن الشّرائح الاجتماعيّة المختلفة من طقوس الأفراح والأتراح وغيرها، فيُشكّل تشابك الأيدي وتلاحم الأكتاف وتنسيق الخطوات أحد الروابط والصلات المهمّة بين الأفراد والأجناس بمدلول تعاضدي متين.
يبيّن الرسم البياني أدناه (رقم 1) المسار التّفاعلي بين الموسيقى والمجتمع، وما ينتج عن تلاقحهما من نتاج حضاري مستدام.
من هنا، فإنّ الموسيقى تُعدّ تجربة إنسانيّة سامية وعمليّة إبداعيّة إنتاجيّة مستدامة تعكس القدرات المعرفيّة للفرد بعمليّات إستيلاديّة دائمة لأنها نتيجة تراكميّة لآلاف السنين من التّطور البيولوجي العصبي، فهي متشابكة مع العديد من الاحتياجات البشريّة الأساسيّة وتُساهم غالبًا بتعزيز رفاهيّة الإنسان، وتسهّل التّعبير الفريد عن الروابط الاجتماعيّة وتقويّ التلاحم العلائقي بين البشر؛ نمارسها بشكل عفوي يعكس آلية تفاعل الدّماغ المرتبط بالوظائف الاتّصاليّة، فهي تتخطى القدرات والموارد المعرفيّة المتنوّعة بما في ذلك الحساب واللغة والعلوم، وبالطريقة نفسها تتقاطع بالحدود الثّقافية، ما يسهّل “ذاتنا الاجتماعيّة” من خلال ربط تجاربنا المشتركة ببعضها البعض وتمتينها إلى أقصى الحدود (Schulkin & Raglan, 2014).
بالإضافة إلى الدور الرئيس الذي تؤدّيه الموسيقى في عالمنا الاجتماعي، تضطلع أيضًا بدور فيزيولوجي يشمل الكائنات جميعها وبخاصة الإنسان، فهي تنشّط أنظمة عصبيّة واسعة في جسمه وتحفّز على فعل التخيّل وصولًا إلى ما نسمّيه بـ”الهلوسات الموسيقيّة” التي تعدُّ سمة من سمات الصمم المكتسب، وخير دليل على ذلك تجربة بيتهوفن الابداعيّة.
إنّ الهياكل المعرفيّة موجودة لتلقّي الموسيقى وفهمها وإنتاجها، فالأنظمة المعرفيّة المستمدّة بيولوجيًا لا تنفصل عن الفعل والإدراك، ولكنها متغلغلة فيه (Schulkin & Raglan, 2014). وبلمحة علميّة موجزة، ثبت أنّ هورمون السّعادة “الدوبامين” (Dopamine) الموجود في الدماغ يُنشَّط من خلال الممارسة الموسيقيّة فهو المنظّم المركزي للقيادة والمكافآت، وهو مرتبط بحسّاسات الموسيقى المتخيَّلة والمتوقَّعة كونه جُزيء قديم ويؤدّي دورًا مهمًا في التّحكم الحركي للأنظمة العصبيّة لجميع الفقاريّات.
إنّ التّطور البيولوجي والثّقافي للإنسان، متشابكان بشكل وثيق في الموسيقى، فلا فصل بين العقل والجسد لأنّ إيقاع الدّماغ يتطوّر جنبًا إلى جنب بتطوّر القدرات المعرفيّة للإنسان، ما يؤكد مقولة أنّ الموسيقى متأصّلة في نجاحنا التطوّري والاجتماعي الدائم. هذا التّشابك شدّد عليه الموسيقي والتربوي إدغار ولمز (Edgar Willems) (Skubic, Gaberc & Jerman, 2021) في منهجيّته لتعليم الموسيقى والتي يُفترض بها أن تُثري الإنسان وتعزّز نموّه الفكري. فهو يُقارب بين الإنسان والموسيقى من خلال ربط عناصرهما: فتتوافق الحياة الفيزيولوجيّة مع الحياة الإيقاعيّة، والحياة العاطفيّة مع الحياة اللحنيّة، والحياة العقليّة مع الهارمونيّة، وأخيرًا يتوافق العقل مع الفن. هذا الأمر يسلّط الضوء على القدرة التأثيرية للموسيقى ولكل عناصرها في الحياة الإنسانيّة والمنحى الاجتماعي للشعوب.
يستهدف الاستماع إلى الموسيقى وقراءتها وتأليفها عمليًّا، كل جزء من الدّماغ. في كتابه This Is Your Brain on Music، يوضح الدكتور دانيال ليفيتين (Daniel Levitin) أن الاستماع إلى الموسيقى يغزو أولًا بنى تحت القشرة وجذع الدّماغ والمخيخ، ثم ينتقل إلى القشرة السّمعيّة على جانبيه ويكتنف أيضًا مراكز الذاكرة فيه، كما أن النّقر مع الموسيقى يؤدّي إلى إشراك المخيخ في العمليّة التّفاعليّة، هذا وتشكّل الشبكات المتزايدة بين الدّماغ الأيمن والأيسر أليافًا سميكة تربط بين المنطقتين الحركيّتين، وهي مساحة أكبرعند الموسيقيين من غيرهم، فقد بات معروفًا أنّ الموسيقيّ قد طوّر قدرةً أكبر من غيره على استخدام أطرافه وأجزائها المتعدّدة (Passion Jun, 2022)؛ نعطي مثالًا عن موسيقيّ يستخدم كلتا يديه: أثناء عزفه للموسيقى، يُحفَّز الفصّ الأمامي الخاص به للتخطيط وتنشيط القشرة الحسيّة والمحرّكة أيضًا لأن تشغيل الموسيقى يتطلب تنسيقًا كاملًا للتحكّم بالمحرّك الحسّي الجسدي للإنسان.
إلى جانب المعطى الطبيعي الفيزيائي/ الفيزيولوجي يجب أن نحسب حساب مبدأ الأسلوب الجمالي المتحوّل تاريخيًّا، فذلك متعلق فقط بالبنية التّشريحيّة للأذن، وليس بالمسائل النّفسيّة. إنّ نسق السّلالم الموسيقيّة والمقامات وبنيتها الهارمونيّة لا ترتكز فقط على قوانين طبيعيّة ثابتة، إنّما هي جزء منها كنتيجة لمبادئ جماليّة كانت في الماضي خاضعة للتحول مع التّطور المتواصل للبشريّة، وستبقى كذلك في المستقبل (إينيك، 2011). إنّ الذوق والتعوّد يحدّدان مقدار المنسوب الذي يميل السامع إلى تحمّله كوسيلة للتعبير الموسيقي. لذلك فإن الحدّ بين التناغم والنشاز قد تغيّر كثيرًا خلال التاريخ، وخضعت السّلالم والمقامات الموسيقيّة وتحوّلاتها إلى تبديل متعدّد الأشكال لدى الشعوب جميعها (فيبر، 2013).
ترتبط الموسيقى ارتباطًا وثيقًا بفعل التعلّم الذي هو ميلٌ بشريٌ فطري. ولا يكون التعلّم بالاكتساب وتطوير المهارات الموسيقيّة، فحسب بل أيضًا من خلال بناء الرّوابط المتينة بين الموسيقى والتّجارب العاطفيّة الإنسانيّة. لا شكّ أنّ الرّابط الأساسي الذي توفّره لنا الموسيقى يتعلّق بالعاطفة، والتّعبير التّواصلي السلس العائم كما أشار إيان كروس (Cross & Morely, 2008)، إذ يرتبط التنبّؤ بالأحداث بأنظمة تقييم متنوّعة يُعبَّر عنها بالموسيقى.
انطلاقًا من كوننا كائنات مرتبطة بالتّطور والتغيّر، رمزيًا واجتماعيًا، تعدُّ اللغة والموسيقى جزءًا من تقدّمنا بقدر ما تمثّلان أداة صنع الأدوات والمهارات المعرفيّة التي نرتكز ونُركّز عليها تقليديًا لبلوغ الرقي. إنّ التّطور الهائل الذي حدث في حياة البشر بمندرجاتها جميعها لاسيما الثورات الالكترونيّة، والرقميّة التي أصبحت من المرتكزات الأساسيّة في حياة الإنسان اليوميّة المعاصرة، انعكس سرعةً في التّفاعل البشري مع هذه النّمطيّة المستجدّة، فبات الإنسان – وبحكم التّدريب المستمر مع تلك الوسائل الحديثة – كائنًا سريع التّفاعل والحركة والأفعال المتزامنة والمواءمة بينها والقدرة على تلبية المتطلّبات والقيام بوظائف متشعبّة … كل ذلك تطلّب منسوبًا حركيًّا أعلى في ممارسته للفعل القرعي الإيقاعي تلبيةً لإشباع متعته الروحيّة ونشوته السّمعيّة.
تظهر هذه التّفاعلات والمتغيرات جليًّا في الرسم البياني (رقم 2) الذي يُترجم التّشعّب العلائقي بين الإنسان والموسيقى في الإستيلاد الإبداعي.
إن الاضطرابات التكنولوجيّة والاجتماعيّة التي تدور حولنا تشكّل ظاهرة تاريخيّة بالغة التّعقيد والسّطوة، ونحن غير قادرين على التحكّم بها والسّيطرة عليها كأفراد أو كجماعات، فيمكن لأيّ شخص أن يطرح باكورة خبراته وتجاربه واستنتاجاته معاينًا مسار تلك التّفاعلات بنظرة استخلاصيّة مجدية. قد تصبح العولمة أداة “نظام جديد” يسعى “البعض” لفرضها على العالم إذا خضعنا لها بإسقاطاتها المعلبة ؛ وقد تشكّل لنا أفقًا جديدًا إذا ما تلقّفناها بإدراك شامل وفكر انتقائي واعٍ، من الأفضل مقارنة نظام العولمة هذا بساحة هائلة، متفلّتة من الجوانب جميعها، يظهر تفلّتها جليًّا بتنازع الأدوار المفترض بين حارس وحامٍ لباكورة الموروثات الحضاريّة، ووسيط يجب أن ينحصر دوره في أغلب الأحيان بالجوانب المعرفيّة، واستعمال الوسائل الحديثة التي يتطلّبها ولوج بوابة العولمة والحداثة. إن وضع الضوابط التي تحكم “المسار العولمي” تشكّل وحدها الضامن الفعلي للإرث التراكمي للشّعوب، فيضطلع كلٌ بدوره، إذ إنّ الصناعة الإبداعيّة والشّؤون البحثيّة والمسارات الفنيّة تتحكّم بها إرادة العباقرة والمبدعين والباحثين، أمّا نشرها وتعميمها وإلحاقها بركب العولمة فمسؤوليّة جيل المبرمجين من أسياد الوسائل الرقميّة الحديثة بدءًا بالحواسيب وكل تطبيقاتها مرورًا بالأجهزة الالكترونيّة الرقميّة، والهواتف الذكيّة وصولًا إلى الشّبكة العنكبوتيّة والعالم الافتراضي وظاهرة الذكاء الاصطناعي التي تجتاحنا مؤخرًا.
أمّا في ما يختصّ ببعض سلبيّات العولمة، فإنّ سهولة عرض المنتوج الفكري (ولأهداف تسويقيّة تجاريّة في كثير من الأحيان) ساهم بنشر العديد من الأعمال الهشّة ذات المستويات الرّديئة تصل أحيانًا إلى الإسفاف، والدّناءة التي اسهمت بإرساء ثقافة مستوردة هجينة، ناهيك عن أنّ العديد من الشّباب المغترب الذي نشأ وترعرع بعيدًا من وطنه الأم، وفقد كمًّا هائلًا من زاده الثّقافي وتقاليده وموروثاته الحضاريّة وصلاته الاجتماعيّة، يعمل على تسويق ونشر أفكار جديدة تكون في كثير من الأحيان خلاصة مزيج ثقافي هجين مكتسب لا يعكس إرث وعادات وطنه الأصلي، معتمدًا على سياسة التعميم للتعويم داخل السوق الافتراضي الشاسع.
ميّز فالتر بنيامين (V. Benjamin) في كتابه الشهير “العمل الفني في زمن استنساخه التّقني (L’œuvre d’art à l’ère de sa reproductibilité, 1936)، بين تلقّي الفن (reception of art) وفهم الفن (perception of art) . فتلقّي العمل الفني أوسع نطاقًا من إدراكه وفهمه: الأول يشمل ردود الفعل على الأعمال الفنيّة والآراء المختلفة التي تُبدى حيالها …، إذ تجعل “دراسات تلقّي الفن” موضوع دراستها كل ما يصدر من ردود فعل عن جمهور ما ونقّاد ومُحللين تجاه عمل فنّي معيّن. أمّا إدراك الفن فيقتصر على ما ينشأ من علاقة بين المستمع الفرد والموسيقى التي يستمع إليها … من دون أن يتجلّى ذلك بالضرورة في أثر مادي محسوس (إينيك، 2011).
تبقى تلك الجدليّة الصعبة قائمةً أمام أعيننا تنتظر أجوبة مقنعة مستولدة من نتاج تفكير علمي صائب، وموضوعيّة نابعة من آراء المراقبين المحايدين: هل على المتلقّي تفحُّص كل ما يقدّم له من منتوج جديد بأذُن المستمتع والمتلذذ فقط ؟ أم على تلك النّتاجات أن تخضع لمبضع النقد ومقصّ الرقابة الذي يعمل بمعايير موروثة غالبًا ما يُعتقد أنها زَبَدْ تجارب فنية راقية؟
يتلاءم مفهوميّ تلقّي الفن وفهم الفن بشكل مباشر مع المنظورين: التّفسيري والادراكي. الأول يستخلص أسبابًا خارجية، في ما يُبين الثاني منظور الناس إلى تلك الأمور، وماهيّة الأسباب التي تحملها على ذلك؛ فيبرز هنا دور التربية التوعويّة أساسيًّا في بناء جسر صلب بين التّفسير والإدراك وبناء تواصل متين مع الثقافة الأم أمام مهدِّدات العولمة القافزة فوق بعض الضوابط الأخلاقيّة، والقيميّة التي تُشكّل الضامن البنّاء للتقدّم الاجتماعي والإنساني، من دون إغفال الانعكاس الواضح للظروف الاقتصاديّة، والاجتماعيّة، والتربويّة على الأعمال الفنية قاطبةً. تمتلك الأعمال الفنية، خصائص فريدة تمكّنها من التأثير في مختلف أصناف القدرات الإدراكيّة لدى المتلقّين من خلال تثبيتها لأنظمة التراتبيّة القيميّة أحيانًا وزعزعتها أحيانًا أخرى؛ فهي عامل تغيير يؤثر في مشاعرهم وأحاسيسهم تماسكًا أو اختلالًا. كما تؤثر أيضًا في فضاء الاحتمالات الإدراكيّة، وذلك ببرمجة أو – على الاقل – برسم خط بياني للتّجارب الحسيّة والأطر الإدراكيّة والقدرات التقويميّة التي تتيح إستيعابها من قبل المتلقّي (إينيك، 2011).
الموسيقى الراقية والإيقاع الرصين عاملان أساسيان يؤمّنان التوازن الانفعالي، والضبط السّلوكي للفرد وتصويب وجهة انتمائه الحضاري، فهما يمتلكان خصائص تثبيت الهُويّة الاجتماعية وروابط التجذّر الثّقافي العميق والمستدام وترسيخهما. ولا يعني الاعتراف بالمبادئ الجماليّة بالضرورة الاعتباط في اختيار “العناصر التقنية الموسيقيّة”، بل هو شأن الاستخلاص المركزي لـ”هلمهولتس” (Hermann von Helmholtz) بالنسبة إلى مفهوم فيبر (Weber): “تشكّل قواعد كل أسلوب فنيّ منظومة مترابطة”، وهي “لا تتطوّر من قبل الفنانين انطلاقًا من القصد الواعي أو المثابرة المنطقيّة، وإنّما وبدرجة كبيرة من خلال محاولات دؤوبة لتنشيط المخيلة […] والجدير بالذكر أن باستطاعة العلم التوسّط بين الدّوافع، سواء أكانت ذات طبيعة بسيكولوجيّة أم عقليّة تقنية. وكنتيجة لتحليلاته حول “التّقسيم” يتمسك فيبر بالسياق الأوروبي الحديث: عقلنة الموسيقى […] من خلال التقسيم الهارموني. كما يعالج في دراسته عن الموسيقى مكوّنات ذلك “النسق المترابط”، لهذه “العناصر في التقنيّة الموسيقيّة، لكن ليس من خلال تطلّعات فيزياء الصوت، وإنما من خلال رؤيا تاريخيّة عالميّة إثنولوجيّة موسيقيّة (فيبر، 2013).
يقول ماكس بلانك (Max Planck) داعمًا نظرية هلمهولتس “إن كل تقدّم وكل إجادة في الانجازات في فن من الفنون إنّما هما مرتبطان بشكل وثيق بتعدّد وتكامل وسائل التّعبير التّقنيّة” تبعًا لكل تجاربنا (فيبر، 2013). أمّا أرنولد شونبرغ (Arnold Schōenberg) فيحدّد في عمله “نظرية الهارموني”، ويقول : “ليست أذننا اليوم معتمدة فقط على الشروط التي قدّمتها لها الطبيعة، بل هي تتعرّض إلى عملية تربية من قبل تلك الشّروط التي حقّقت منظومة ناضجة، وخلقت للأذن طبيعة ثانية مستندة إلى هارمونيك الاكورد” (فيبر، 2013). من هنا يبرز الدور الأساسي والمحوري للتربية والإعداد الفني للأجيال الجديدة، وتعريض المجتمعات لمناخات فنيّة متأتّية من تراكمات التجارب الحضاريّة للشّعوب. إنّ خلق بيئة ثقافيّة ملائمة متشابكة مع الموروثات الإبداعيّة الثريّة لهو كفيل بطرح جدليّة ثقافيّة منتجة تتناسل منها مواد إبداعيّة جديدة تطرح معادلات جدّية لتغيير بنيويّ في الهيكل الإبداعي الكبير.
تُشكّل المناهج التربويّة وتحديدًا الفنيّة منها في المراحل التعليميّة كافة، الرّكن الأساسي لبناء فنيّ سليم قيتلقّى الطالب الجرعات الفنيّة المتلاحقة بطرائق تربويّة متدرّجة، تاركين لفكره الخلّاق مساحة تفاعليّة تُؤمن بيئة ملائمة للتعبير الإبداعي. إنّ الموروثات الفنيّة للشّعوب التي تأطّرت وتنقّت بفعل التراكم الحضاري المستدام، تُمثل الإطار المرجعي لأيّ عملية صقل وتأهيل للأجيال الفنية، وبالتالي يجب أن تكون الممر الإلزامي لعبور الخطط التّربوية الحديثة المُنتجة داخل مختبرات الفكر التربوي الحديث. إنّ جوهر الفعل الفني الإبداعي يقوم على لا محدودية الرؤية والتفكير، الأمر الذي يتلاقى مع مفهوم الفكر التربوي الحديث الذي بات يبتعد من أسلوب التلقين والإسقاط للمعلومة لينتقل إلى مبدأ التّفاعل والتّشارك الفكري بين المعلّم والمتعلّم لإنتاج وتأهيل فكر نقدي تحليلي قابل للتكيّف مع المعطيات المتغيّرة.
خلاصة
لا نزعم أنّنا من خلال هذا البحث بلغنا المرتجى أو أقفلنا الطريق أمام محاولات جديدة للتّطوير، بل على العكس فقد قصدنا تشريع باب التّنقيب والاستقصاء وزيادة المعرفة لكل إمكانية تحديثٍ وتوثيق؛ وحسبُنا أن يكون خطوة متواضعة في مسيرة المعرفة الشّاقة من أجل صناعة ثقافيّة رائدة، ورُمْنا من خلاله إلى توجيه النّظر ولفت الانتباه إلى محوريّة الإيقاع الموسيقي في تكوين البنية الثّقافية للفرد والمجتمع، ودوره الأساسي كناقل مضمون للمكوّنات التراثيّة والفولكلوريّة والحضاريّة للشعوب عبر التاريخ. هذا الدور يظهر جليًّا عبر المسار التّاريخي المتلازم بين الإنسان وطقوسه الإيقاعيّة الذي يتفاعل إنتاجًا وإزدهارًا في أزمنة الرخاء، ويستولد نفسه بمخاض عسير بعد كل جولة تدمير وتفكك.
يعدُّ التّفاعل بين الإيقاع الموسيقي والإنسان صلة الوصل بين الجذور التاريخيّة والتغيّر الاجتماعي، ولهذا المسار المجتمعي تأثير لا يُستهان به على الفكر الإنساني، سلوكه، ردود فعله الحس-حركية (sensorimotrices)، نظرته لمختلف العوامل المحيطة به، ما يؤكد دوره وأهميته في بناء مجتمع متطوّر وعصري متّصل بجذوره، فخور بهويّته ومتباهٍ بإنتمائه.
ومهما تعدّدت النظريات السوسيو- موسيقيّة وتنوّعت، يبقى تأثير الموسيقى على حياة الإنسان عموديًّا لما لها من قدرة فائقة على اختراق أنماط عيشه المسطّحة لتصل إلى قُمرة التحكّم والتغيير التي تستوطن عمق أعماقه. “يقول شارل لالو (Lalo, 1921) إنّنا “لا نُعجب بلوحة فينوس (Venus) للفنان ميلو (Milo) لأنّها لوحة جميلة، بل هي لوحة جميلة لأننا نُعجب بها”. هذا التّذوق والتّفاعل الفني هو نتيجة تراكمات ثقافيّة، فنيّة، موسيقيّة، اجتماعيّة، بيئيّة تُفتّح مسام الإدراك الثّقافي والتلقّف الواعي لدى المُتلقّي لتجعل من أسماعه مختبرًا حقيقيًّا للتحليل والنقد.
“يصف تيودور أدورنو الموسيقى الجديدة، في كتابه (Philosophie de la nouvelle musique, 1958a)، أنّها واقعة اجتماعيّة تتناقض فيها مثلًا حداثة سترافنسكي (Stravinsky) المعتدلة والمنخرطة في “الأيديولوجيا السّائدة”، مع “راديكاليّة” (radicalism) شونبرغ (Schonberg) التي تجمع بين استقلاليّة الفن والهدم الإيديولوجي. ويرى أدورنو في كتابه (Notes sur la littérature, 1958b) أن الفن والأدب هما أداتان لنقد المجتمع، ويكفي مجرّد وجودهما ليكون لهما قوة “السلبيّة”. وفي وقت لاحق دافع أدورنو عن استقلاليّة الفنّ والمجتمع في وجه قوّة “الجمهرة” أو “الغوغائيّة”، تلك الغوغائية المتعمّدة في كثير من الأحيان عند طرح بعض المقاربات الفنيّة والموسيقيّة تحديدًا، لها قوة تأثير هائلة على محرّكات “العجلات الاجتماعيّة” وتمثّل عنصر الاعوجاج والجنوح الأساسي الحاصل في المسار الموسيقي التّاريخي، وإن اللهث الدؤوب لبعض الامبراطوريات الإعلاميّة وراء الاستقطاب الجماهيري – الذي يتلذّذ باللهو والتّسطيح الموسيقي كأداة سهلة للترفيه والسّعي للكسب المادي اللا محدود – يراكم مفاهيم التّسليع عبر الأجيال لكل الموروثات القيميّة الإنسانيّة ما يطرح في أذهاننا مخاوف حقيقيّة من سدّ الروافد الأساسيّة بيننا وبين هذا الإرث وتقطيعها وصولًا إلى بتر شرايين التّواصل التّاريخي بالإكسير الحضاري للشّعوب.
يشدّد فرنكاستل في كتابه الفن والتقنيّة (Art et technique, 1956) الذي يُبرز فيه الظروف الماديّة والتقنيّة لإنتاج العمل الفني، على أن الفن ليس “انعكاسًا” كما تزعم الفكرة الماركسية بل هو “بناء” وقدرة على التنظيم والتصوّر، فالفنان لا يترجم، بل يؤلف ويخترع ويُبدع. إنّه ميدان الحقائق المتخيّلة” (إينيك، 2011). إذا كان الفنان كذلك كما يقول فرنكاستل، نكون أمام مسؤوليّة تربويّة دامغة بتوفير الإعداد الصحيح والتنشئة العلميّة للأجيال الفتيّة التي تمثّل أرحامًا خصبة للتلاقح الفكري، وحضانات صحيّة للنموّ الإبداعي المأمول مدركين تمامًا بأنّ فعل الابتكار والاختراع والإبداع هي ملكات إنسانيّة بالدّرجة الأولى، ينحصر دورنا التربوي بصقلها وتذخيرها وتأجيج شراراتها المضيئة لبناء فرد ذوّاق ومجتمع منقّى.
يقول نيكولاوس بفزنر (N. Pevsner, 1940) صاحب الكتاب الرائد في تاريخ الأكاديميات التي ظهرت في الحرب العالميّة الثانية: “بدأتُ أدرك شيئًا فشيئًا أنّ تاريخ الفنّ يمكن تصوّره والنّظر إليه من خلال جملة العلاقات بين الفنان والعالم المحيط به، لا من خلال تغيّرات الأساليب” (إينيك، 2011).
أمّا وقد اتّضح لنا أنّ الفنون وبخاصة الموسيقى تمثّل مكوّنًا رئيسًا من مكوّنات المجتمع، وتعكس كلّ ما يدور فيه من نبض وخصائص اجتماعيّة لارتباطها المباشر به، يتماهى إلى أذهاننا سؤال بديهي ما إذا كان تأثير الإيقاع الموسيقي ذي البنية الأفقيّة الأحاديّة على الإنسان هو نفسه ذا البنيّة العموديّة المتعدّدة والمتزامنة؟ وبعد رصد تاريخي دقيق للمسار الثّقافي للشعوب العربيّة استطعنا الوصول إلى إجابات أكيدة عن أنّ التّراث الشّعبي والتّقاليد والعادات المجتمعيّة، والموسيقات الفولكلوريّة لكثير من الجماعات والإثنيات تحوي بداخلها أنساقًا وبنيات تعدّديّة للضروب القرعيّة الإيقاعيّة ما يُكسبها مساحات أرحب، وتوليفات أثرى تُغني أفانين الابتكارات وتختزن بداخلها ديناميّة إبداعٍ مدهشة تحطّم الرّتابة والخط النّمطي المضجر. “إنّ الإيقاع فنٌّ له جماليّته النّابضة بالحياة، فهو ليس قرقعة هوجاء أو ضجيجًا صاخبًا يُفسد الذّوق ويضرب الإحساس المُرهَف والاستشعار الذّوّاق لدى كل مُتذوّق راقٍ، بل هو ضبط متقن وقرع صائب منظّم يحاكي كل ما هو منفعل بداخل الإنسان، ويدغدغ كل نبضات قلبه ليحمله إلى نشوة إنخطاف مضبوط ومتدرّج. وبما أنّ الإيقاع هو انعكاس لما في داخل الإنسان من نبض وخفق، ولما في الطبيعة من حركة موقّعة أو فوضويّة، منتظمة أو مضطربة على حد سواء، فيكون الإيقاع هو التّعبير عن الزّمن الموسيقي بالتآلف والتّوافق مع الزمن الكوني الفيزيولوجي، ذلك أنّه ضارب في الزّمان إلى حدود البدايات الأولى في عالم الوحي والإلهام” (يعقوب، 2013).
إستنادًا إلى وصف نتالي إينيك للفنان “بالمتفرّد العظيم”، يمكننا إسقاط هذا التوصيف على النتاج الإبداعي لذاك الفنان والذي يُمثّل الإيقاع الجزء المؤسّس له وبالتالي فإنّ باستطاعتنا استعارة هذا التوصيف لنقول أنً الإيقاع الموسيقي هو أيضًا متفرّد عظيم.
وفي ختام هذا البحث، نخلص إلى الاستنتاج أنّ التّرابط والتّلاحم بين الإيقاع الموسيقي؛ والمجتمع أمر حتميّ ودامغ فيكون الواحد منهما مرتكزًا وملهمًا للآخر إذا توفّرت مجموعة شروط وأهمها:
- الفهم والإدراك الصحيح لمفهوم الثقافة الفنيّة أي الموروث الثّقافي بإيقاعاته الأصليّة ومكوّناته الأساسيّة.
- الإقرار بوجود العديد من المهدِّدات الفنيّة والثّقافية في مجتمعنا اللبناني والعربي في زمن العولمة التي تُرخي بظلالها على الجيل الناشئ وقراءة تلك المستجدات بموضوعيّة، وتقييم آثارها ومفاعيلها على المجتمع.
- اتخاذ خطوات جادّة وجريئة على مستوى مراكز الأبحاث العلميّة، والفنيّة تُفضي إلى نتائج مفيدة للعاملين بالموسيقى على أرض الواقع بمقاربات عصريّة تُخرجنا من دوائر الجدليّات التّاريخيّة العقيمة التي تكتفي بعرض التباين الثّقافي عامة، والإيقاع الموسيقي خاصة بين المجتمعات العربية.
- إعداد الأجهزة التكنولوجيّة والكوادر البشريّة الكفوءة القادرة على وضع سياسات ثقافيّة تحمل برامج، واستراتيجيات حديثة مبنيّة على حقائق الموروثات الفنيّة للمجتمعات ومُعدّة للتنفيذ والتطبيق بخطط محكمة.
- وضع خطط تربويّة وإنفاذها من خلال الكتب والمناهج المتخصّصة والنّشرات الثّقافية والمجلات العلميّة والبرامج الوثائقيّة والإصدارات الموسيقيّة … تتمحور حول إبراز المشتركات في الموسيقى وضروبها الإيقاعيّة، وإفساح المجال لعرضها وتداولها للتعبير عن نفسها تمهيدًا لتوظيفها ضمن المنظومات التشاركيّة الحديثة.
- القيام بورشة جمع وإحصاء وتدوين وتحليل كل الضروب الإيقاعيّة القديمة الشّعبيّة، والحديثة إذا أمكن من خلال القيام بأبحاث ميدانيّة تغطّي كامل الجغرافيا اللبنانيّة، والعربيّة كتوطئة لتوثيقها وتصديرها وتعريف شعوب العالم على الثقافة الموسيقيّة الخاصة بأوطاننا.
- إنشاء أكاديميات ومعاهد متخصصة بتصميم البرامج وتنمية مهارات العزف على الآلات الإيقاعيّة بطرق سليمة تحافظ على خصوصيّة بيئتها الأصليّة، وإنشاء متاحف لعرضها وتعريف الجمهور عليها وتخصيص بعض إصدارات دور النشر لموسوعات الآلات الإيقاعيّة العربيّة، وضروبها المعروفة وتلك الآيلة إلى الاندثار والانمحاء وتنظيم النّدوات العلميّة والمهرجانات الفنيّة وإصدار المجلات والمطبوعات والمنصات الرقميّة الحديثة.
- احتضان ودعم كل مصانع الآلات القرعيّة الإيقاعيّة العربيّة والحرفيين من أصحاب الخبرة بالتصنيع اليدوي المُتقن جميعهم، وتشجيع الرأسماليين للانخراط بالاستثمار في حقول هذه الصناعة الثّقافية التي تضمن للأجيال القادمة حفظًا للموروث والهُويّة التي تنطق من قرقعة تلك الآلات.
المراجع
-1 أبو العيني ، حسين أحمد،. (1980). دراسة في الجغرافيا الطبيعية. لبنان.
-2 إينيك، نتالي. (2011). سوسيولوجيا الفن. بيروت، لبنان: ترجمة حسين جواد قبيسي، المنظمة العربية للترجمة، مراجعة فواز الحسامي.
-3 باحثو اللغة العربية، موسوعة اللغة العربية، (مايو 2023)، الكتابة العروضية أو التقطيع العروضي، https://arabicres.com/ketabah-arodyah/
-4الجابري، محمد عبد، (30 حزيران، 2008). أبن خلدون وجغرافية العمران، مركز الاتحاد للأخبار، تم الاسترداد من https://rb.gy/bb4x7v
-5حمد، علي خليل، (2008)، البيئة عند ابن خلدون، أفاق البيئة والتنمية، مجلة الكترونية شهرية تصدر عن مركز العمل التنموي /معا، كانون الأول، https://www.maan-ctr.org/magazine/Archive/Issue9/torath/torath1.htm
-6الخوري، سهام ، (2000). أضواء على جغرافية لبنان والعالم العربي – التعليم الاساسي، السنة الثالثة (المجلد الطبعة الاولى). بيروت – لبنان: المركز التربويي للبحوث والإنماء.
-7الصباغ، رمضان، (أيلول، 1990). التّفسير الاخلاقي للفن عند أفلاطون. الآداب، مجلة شهرية تعنى بشؤون الفكر ، العدد 907، 70- 78.
-8الصيفي، محمد، (2020)، أي دور للتربية الموسيقية في التنمية البشرية، مركز ابن النفيسي للدراسات والأبحاث، https://rb.gy/qo9e66
العروضية، (2015)، قناة الدعم في اللغة العربية : https://www.bacfacarabic.com/2020/02/blog-post_80.html
-9فريحة، نمر، (2017)، المواطنة العلمية والمواطنة الرقمية، وما بينهما، دار سائر المشرق، بيروت.
-10 فيبر، ماكس، (2013)، الأسس العقلانية والسوسيولوجية للموسيقى، ترجمة ح. صقر، بيروت – لبنان، المنظمة العربية للترجمة.
-11مرتضا- نفوسي، لميا، (2014)، صراع الاجيال: إنتماء أم تغرب؟، كيف نفهم المجتمع؟ أشكال التضامن الاجتماعي ، مجلة الحداثة، فصليّة ثقافيّة تُعنى بقضايا التراث الشعبي والحداثة، العدد 159-160 – 57-68.
-12مطلوب، الدكتور أحمد، (1989)، معجم النقد العربي القديم، وزارة الثقافة والاعلام، دار السؤؤن الثّقافية العامة، بغداد.
-13المعاني، لكل رسم معنى، (2010)، قاموس ومعجم المعاني، معجم المعاني الجامع – معجم عربي-عربي، https://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/%D9%88%D9%82%D8%B9/
-14يعقوب، فادي (2013)، La Polyrythmie، منشورات المعهد الوطني العالي للموسيقى، الجزء الأول، الطبعة الثانية، بيروت – لبنان.
-15 يعقوب، فادي (2013)، Solfège Rythmique, Lecture de notes – Dictées Rythmiques Progressives، منشورات المعهد الوطني العالي للموسيقى، الجزء الأول، الطبعة الثانية، بيروت – لبنان.
References
15-Baugnet, L. (1998). L’identite Sociale. Paris: ed. Dunod.
16-Bourdieu, P. (1984). Mais qui a créé les créateurs? Questions de sociologie . Paris: Minuit.
17-Braun, J. (1999). Die Musikkultur Altisraels. Freiburg: Vandenhoeck Ruprecht Goetlingen.
18-Buchoff, R. (1994). Joyful Voices: Facilitating Language Growth through the Rhythmic Response to Chants. Young Children, 26-30.
19-Chebel, M. (1986). La formation de l’identité politique. Paris: PUF.
20-Costalat-Founeau, A.-M. (2001). Identité Sociale et Langage, La construction du sens. Paris: Harmattan.
21-Cross, I., & Morely, I. (2008). The evolution of music: theories, definitions and nature of the evidence. In S. M. Trevarthen, Communicative Musicality (S. Malloch and C. Trevarthen ed., pp. 61-82). Oxford University Press.
22-Cross, I. (2010). “The evolutionary basis of meaning in music: some neurological and neuroscientific implications,” in The Neurology of Music. (I. C. Press), Ed.) London: ed. F. C. Rose .
23-Damisch, H., (1984). Sociologie de l’Art, in Encyclopeadia Universalis, Corpus IV, éd. Universalis, Paris.
24-Elias, N. (1991). Mozart, Sociologie d’un gene. Paris: Seuil.
25-Fischer, G.-N. (2003). Les concepts fondamentaux de la psychologie sociale (2ème éd.). Paris: Dunod.
26-Founier-Lecuyer. (2009). L’intelligence de l’enfant. (P. Bibliotheque, Ed.) Editions Sciences Humaines.
27-Gauthier, J., Gualda, S., & Méfano, P. (2022, octobre 8). PERCUSSION, musique. Paris, France: Encyclopædia Universalis. Retrieved from https://www.universalis.fr/encyclopedie/percussion-musique/#i_92144:
28-Green, A.-M. (2000). Musique et Sociologie, Enjeux mméthodologiques et approches empiriques. Paris: L’Harmattan.
29-Guertin, G., & Descroches, M. (2003). Construire le savoir musical, enjeux épistémologiques esthétiques et sociaux. Paris: L’Harmattan.
30-Lalo, C., (1921), L’Art de la vie sociale, Doin, Paris.
31-Lavallee, M., Ouellet, F., & Larose, F. (1991). Identité, Culture et changement social. (ARIC, Ed.) Paris: L’Harmattan.
32-Nadel, S., & Baker, T. (1930, October). The Origins of Music. The Musical Quarterly, 16, 531-546 .
33-Passion Jun, M. (2022, january 22). Brain World . Retrieved from Music, Rhythm and the Brain: https://brainworldmagazine.com/music-rhythm-brain/
34-Ross, A. (2019, October). Nietzche’s Eternal Return. Annals of Philosophy. Retrieved from https://www.newyorker.com/magazine/2019/10/14/nietzsches-eternal-return
35-Schulkin, & Raglan. (2014, Septembre 17). The evolution of music and human social capability. doi:doi: 10.3389/fnins.2014.00292
36-Skubic, D., Gaberc, B., & Jerman, J. (2021, April-June). Supportive Development of Phonological Awareness Through Musical Activities According to Edgar Willems. SAGE, 1-11. doi:DOI: 10.1177/21582440211021832
37-Spinger, R. (1999). Fonction Sociale du Blues. Paris: Parenthèses.
38-Warnier, J.-P. (1999). La Mondialisation de la Culture. Paris: La Decouverte.
39-Wright, R. (2011). Sociology and Music Education . England: Routledge, Ashgate.
[1] – دكتوراه في العلوم الاجتماعية من الجامعة اللبنانيّة، أستاذة محاضرة في علم الاجتماع والموسيقى في كلية التربية في الجامعة اللبنانيّة، لديها العديد من الابحاث وكتابين، شاركت في العديد من الحفلات الموسيقية (عزفًا وقيادة)، عضو في مركز الدّراسات والابحاث التربوية في كلية التربية، محكمة في أوسكار مبدعي العرب وأفريقيا.
Doctorate in social sciences from the Lebanese University, lecturer in sociology and music at the Faculty of Education at the Lebanese University, has many research papers and two books, participated in many concerts (playing and conducting), member of the Center for Educational Studies and Research at the Faculty of Education, judge in Oscar for Arab and African creators Email:drmarieaboujaoude@gmail.com
[2] – مؤلف موسيقي، أستاذ علم الإيقاع والمواد النظريّة، وقائد أوركسترا الشباب للموسيقى الشرق عربيّة في المعهد الوطني العالي للموسيقى في بيروت. أستاذ مدرِّب في مركز التعليم المستمر، وقائد الأوركسترا العربية لبرنامج زكي ناصف في الجامعة الأميركيّة في بيروت، ومؤسّس الفرقة اللبنانية للإيقاع Libra منذ 1996.
Composer, professor of percussion and theoretical subjects, and conductor of the Youth Orchestra of Oriental Arab Music at the National Higher Conservatory of Music in Beirut. Trained professor at the Continuing Education Center and conductor of the Arab Orchestra for the Zaki Nassef Program at the American University of Beirut and founder of the Lebanese Percussion Ensemble Libra since 1996. Email:fadyacoub@hotmail.com