دلال عبّاس في كتابها “بهاء الدين العامليّ” باحثةٌ عن صدق الحقيقة من زيفها
د. درّيّة كمال فرحات*
تشير الدّكتورة دلال عبّاس في مقدّمة كتابها “بهاء الدين العامليّ أديبًا وفقيهًا وعالمًا”[1]، إلى الدّافع الذي حفّزها إلى البحث عنه، فتقول: “إنّ اهتمامنا بالشيخ البهائيّ، وإحياءنا لتراثه، تطلّع مخلصٌ لخدمة الثّقافة الإنسانيّة التي شكّل هذا العالم الفذّ حلقة مُهِمّة من حلقاتها، ورغبة في تصحيح الكثير من الأوهام التي تتعلّق بسيرته، وفي تعرّف شخصيّته في جميع مراحلها، وتعدّد تجلّياتها لمعرفة النّظام الفكريّ لصاحبها”[2]، ومنذ ذلك الزّمن الذي خطّت به الباحثة دلال هذا الكلام، باتت سيرة الشّيخ بهاء الدّين العامليّ مترافقة مع شخصيّتها، معبّرة عن نفسها. بل يمكن القول إنّ دراسة بهاء الدين العامليّ قادتها إلى القراءة الفقهيّة، فتوالت دراساتها باحثة في هذه القضايا، ومنها كتابها “القرآن والشّعر”.
يسيل يراع الدّكتورة دلال عبّاس، فتكتب الكثير من الكتب والمؤلّفات، وتسهم في ترجمة كتب عدّة، ونقلها إلى العربيّة، كما نشرت أبحاثًا ومؤلّفات عدّة، إضافة إلى مشاركتها في مؤتمرات عربيّة وعالميّة، فكان نتاجها غزيرًا أثرى المكتبة العربيّة بعناوين عديدة، وموضوعات متنوّعة، ومن مؤلّفاتها: “بهاء الدّين العامليّ، أديبًا وفقيهًا وعالمًا”/ ” القرآن والشّعر”/ “نمر صبّاح وليوبولد، لقاء مبدعين ولقاء ثقافتين” / “المرأة في المجتمع الإيرانيّ”/ “القِصّة القرآنيّة دراسة أدبيّة”/ “بانو إيراني السيّدة نصرت أمين عالمة مجتهدة”/ “المرأة الأندلسيّة مرآة حضارة شعت لحظة وتشظّت”. والمتتبّع لهذه العناوين يرى أنّ الباحثة تحرص على أن تطرق موضوعات جديدة، لم يتناولها الباحثون في كتاباتهم، فكانت الإضاءة على حياة المرأة قديمًا وحديثًا، مبرِزة دورها في إشعاع الحضارة. وبالإضافة إلى هذا الموضوع كان اهتمامها بارزًا في البحث عن الثقافة الفارسيّة، وهي ترى أنّ هناك أهمّيّة بالغة لنقل آثار الأدب الفارسيّ إلى العالم العربيّ كالفلسفة، والفقه، وكتب المجتهدين، وتشير إلى أنّ الشعر الفارسيّ بمعانيه السّامية، والرّاقية هو موجّه للإنسان بالدّرجة الأولى مهما كان لونه، وعرقه، ودينه. وأبدعت الباحثة أيضًا في كتبها المترجمة، فاستطاعت أن توصل بين الثقافتين: العربيّة والفارسيّة، مظهرة أوجه التأثير والتأثّر.
ولعلّ أبرز ما جذب دلال عبّاس هو بهاء الدين العامليّ، ابن جبل عامل الذي رحل إلى إيران وقضى حياته هناك، وهو قد هاجر إلى إيران في حمأة الصّراع المذهبيّ الدّمويّ بين الأمبراطوريّتين العثمانيّة والصّفويّة، وعاش فيها ولم يغادرها إلاّ لمامًا، ودفن في أرضها وبات ضريحه مزارًا في صرح مزار الإمام الرضا عليه السلام.
وبهاء الدّين العامليّ هو الذي رأت الباحثة فيه رجلًا يعيش منذ أربعمئة عام وهو متقدّم أميالًا عن زمننا الحاضر، فكتبت عنه لأنّه الشّاعر الذي أبدع باللغتين العربيّة والفارسيّة، وهو عالم الرّياضيات، فكانت له مؤلّفات في هذا المجال ومنها كتاب “خلاصة الحساب” الذي يعدّ أهمّ كتبه العلميّة، وبسببه نال شهرة لا مثيل لها، لما في هذا الكتاب من منهجيّة علميّة، وتبويب وترتيب، أمّا كتابه “بحر الحساب” فهو كتاب لم يُستنسخ في عصره، لهذا رجّحت الباحثة سرقة هذا الكتاب من أحد أولئك الأوربيّين الذين زاروا إيران كسيّاح، وتجّار، ومبعوثين، ومبشرين. وبهاء الدين العامليّ كان مهندسًا حيث وضع تصميمًا لمعظم المباني في أصفهان. وهو الفقيه المجتهد الذي كتب في علم الحديث، وعلوم القرآن، وفي المسائل الاعتقاديّة. ومع الفقه يتّجه بهاء الدّين العامليّ إلى الفلسفة والتّصوّف.
هكذا كان بهاء الدّين العامليّ رجل جمع العلوم جميعها، وأبدع في ما وصل إليه، فكانت الكتابة عنه وإبراز مكنونات علمه واجبًا علينا وحقًّا له، لذلك اختارته الباحثة، وكما قالت في مقدّمة كتابها بأنّ لبهاء الديّن العامليّ “من القيمة الحضاريّة ما يدفع إلى دراسته، فعلى الرّغم من كثرة مدوّني أخباره منذ عصره حتّى يومنا الحاضر، لا تزال جوانب من حياته لم تدرس كما ينبغي، وقد كانت مجالًا لحشر كثير من الأقاويل والأساطير، التي تناقلها المؤرّخون دون تمحيص، ونُسبت إليه نوادر، وغرائب أكثرها من الأكاذيب، ولا مستند لها، وكتبه العربيّة لم تدرس كما ينبغي”[3].
وقد صدر الكتاب بطبعته الأولى عام 1995 عن دار الحوار[4]، وبطبعة جديدة عن دار المؤرّخ عام 2010، وإذا كانت شخصيّة بهاء الدّين العامليّ تتطلّب هذه الإعادة في طباعة الكتاب، لحاجة الطلاّب الجامعيّين إليه ولأهمّيّة الشّخصيّة التي يدور عليها مضمون الكتاب، فإنّ للباحثة الدكتورة دلال عبّاس الفضل كلّه في ذلك، لما تبعته من منهجية علميّة محدّدة في كتابها، ولما قدّمته من معلومات غنيّة في طيّات الأوراق.
ولنترك الإجمال ونفصّل في ذلك فنقول بأنّ القارئ للكتاب يلمس إحاطة تاريخيّة، واجتماعيّة كاملة وشاملة، فقد تقصّدت الباحثة قبل أنّ تتحدّث عن بهاء الدّين العامليّ أن تقدّم الظّرف الزّمانيّ والمكانيّ الذي عاش فيه، فعرضت للبيئة السياسيّة، والصراع بين الدولة العثمانيّة، والدّولة الصفويّة، وعرّجت على تأثير الشاه عبّاس الكبير، وفي ذلك إثراء للقارئ وتعميق لمعلوماته.
ومن الأمور التي يكتسبها القارئ للكتاب هو الوصف الدّقيق للأماكن، ويدرك اهتمام الباحثة في نقل التّفاصيل، ولم يكن ذلك استطرادًا، أو حشوًا في متن الكلام بقدر ما هو إحاطة شاملة للفكرة، ومهارة في عرض الموضوع من جوانبه كلّها، والأمثلة كثيرة في الكتاب، نختار منها ما عرضته الباحثة في أثناء حديثها عن علاقة الصفويّين بالعمران، حيث قدّمت تفصيلًا لطبيعة المدارس التي بناها الصفويّون، فتقول عن مدرسة “ملا عبدالله” التي ما تزال قائمة حتّى الآن، فهي “تضمّ على جوانبها طابقين من الحجرات إضافة إلى الفسيفياء المزخرفة على الجدران الخارجيّة للغرف من أعلى وأسفل التي تعدّ من ناحية التّصميم، وتآلف الألوان بالغة الأهمّيّة في السّوق الحاليّ لأصفهان: هناك مدرستان متبقّيتان حتّى اليوم باسم “جدة بزرك” (الجدة الكبيرة)، “جدة كوجك” (الجدة الصغيرة). ومن خصائص المدرستين المذكورتين إضافة إلى الهندسة المعماريّة الجميلة واللافتة للنّظر، هناك الزّخارف، والفسيفساء، والكتابة على الجدران، التي تمّت على يديّ الخطّاط الفنان (محمّد رضا إمامي)”[5].
ومن هذه التفاصيل التي حرصت الباحثة على إيرادها ما له علاقة بالتّوثيق التّاريخيّ، والآثار، والسّياحة، ومن الأمثلة على ذلك ما ذكرته عن روائع الفنّ في العصر الصّفويّ التي ما تزال ماثلة “تزيّن متاحف العالم في باريس، ولندن، ونيويورك، ولينيغراد؛ نماذج من السّجاد، والقماش الموشى بالذهب، والمخمل، والرّسم، وصناعة الفخار، والكاشاني، والحديد المصنّع والخشب الذي بلغ الحدّ الأقصى في المهارة والإتقان. إنّ شهرة فنّاني أصفهان، وشيراز حدت بملوك التيموريّين في الهند أن يستقدموهم لمساعدتهم في العمارة، وتزيين القصور، والمساجد، والتّكايا، ومقابر دلهي، ولاهور وغيرها من المدن بالرّسوم والتّخطيط”[6]، وفي ذلك تأكيد من الباحثة على تقديم الصورة الكاملة عن الشخصيّة محور الدّراسة، وفي ذلك أيضًا إشارة إلى المهارة التي تمتّعت بها الباحثة، وإلى منهجيّتها الدّقيقة، واتّباع ما يتطلّبه البحث العلميّ.
وبناء على هذه المنهجيّة نقرأ الكتاب، والإطمئنان يغمرنا بأنّ ما تقدّمه الباحثة يعتمد على التحليل، والاستنتاج، والاستنباط، فلم تسرد خبرًا، أو فكرة إلّا محصّتها، وحلّلتها لتبيّن صدق الحقيقة من زيفها، فنراها تعرض الأمثلة، والشّواهد، وتفصّل فيها بطريقة واضحة مبيّنة الثغرات في الخبر المتداول، وقد تلجأ أيضًا إلى المحاججة والاستقراء، ومن الأمثلة على ذلك ما يتعلّق بولادة بهاء الدين العامليّ، التي تعدّدت الآراء حولها، فاستطاعت أن تبرهن على ولادته في بلاده جبل عامل وليس إيران، فتفنّد خبرا ذكره البهائيّ في سانحة من سوانحه في الكشكول، وتستند إلى لفظة “أخرجني” لتتثبّت أنّ ولادته لم تكن في إيران، فهو قد أخرج من بلاده، وأقام في هذه البلاد[7]. ولأنّ هذه المنهجيّة لم تأت عرضًا مع الباحثة، فإنّ الشّواهد تتعدّد في الكتاب، مع توثيقها بوثائق مثبتة، ومنها مشجّر أسرة البهائيّ الذي ورد في ثنايا الكتاب، بالاستناد إلى أكثر من مرجع وفي ذلك تثبيت للمعلومة الدّقيقة[8].
والقارئ لكتاب الباحثة يخرج منه بثروة كبيرة، ومخزون من الأخبار، والرّوايات، وتعرّف الأمكنة، والأحداث التّاريخيّة، وذلك من خلال ما ورد في حواشي الكتاب وهوامشه، حيث أغنتها الكاتبة بكلّ شاردة وواردة، فلم تغفل أي توضيح أو تعريف بشخصيّة، بحيث تغني المتلقّي عن عناء البحث عن المعلومة، فيشعر وكأنّه فوق بساط ألف ليلة وليلة، ينتقل سريعًا جامعًا ما يحتاجه من زاد ومؤونة. وهذه الراحة التي يتّكئ عليها المتلقّي تستند إلى ما قامت به الدّكتورة دلال عبّاس من جهد ومشقّة، فقد نحتت في الصخر، وغاصت في الأعماق لتخرج الدّر لنا، فنرى أنّ هوامش الكتاب تنقسم إلى قسمين منها ما يرتبط بالمراجع والمصادر، والقسم الثاني يرتبط بالتعريف عن الشّخصيّات، والأمكنة، والحوادث التّاريخيّة[9].
وإذا تركنا القلم يسطر كلماته عن منهجيّة الباحثة في هذا الكتاب، فإنّ الكلام يطول ويطول، ونكتفي بما ذكرنا لنترك للقارئ أن يقود رحلته في الكتاب، ويترك أنامله تحرّك القرطاس أمامه مكتشفًا متعة الرحلة مع الدكتورة دلال عبّاس في كتابها بهاء الدّين العامليّ.
* أستاذ مساعد، الجامعة اللبنانيّة، كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، الفرع الخامس، وأستاذة في التعليم الثانويّ الرسميّ، نائب رئيس تحرير في مجلّة منافذ ثقافيّة.
[1] دلال عبّاس، بهاء الدّين العامليّ أديبًا وفقيهًا وعالمًا، بيروت، دار المؤرّخ العربيّ، ط 1، 1431ه – 2010م.
[2] المصدر نفسه، المقدّمة ص 7 – 8.
[3] المصدر نفسه، المقدّمة ص 7.
[4] دلال عبّاس، بهاء الدّين العامليّ أديبًا وفقيهًا وعالمًا، لا م، دار الحوار، ط 1، 1995.
[5] دلال عبّاس، بهاء الدّين العامليّ أديبًا وفقيهًا وعالمًا، ص 53.
[6] المصدر نفسه، ص 54.
[7] انظر المصدر نفسه، ص 94 إلى 97.
[8] المصدر نفسه، ص 87.
[9] تجدر الإشارة إلى أنّ الهوامش في طبعة دار الحوار اعتمدت التمييز بين النوعين، فكان لكلّ منها ترقيمًا خاصًّا، أمّا في طبعة دار المؤرّخ فقد جاءت الهوامش متتالية من دون فواصل.