النّفايات تهدّد الأمن البيئيّ في لبنان
ناهدة سلامة*
المقدّمة: التلوّث والأمن البيئيّ
يواجه العالم اليوم، إلى جانب الأخطار الأمنيّة التي تسهم في تهديد الأمن العالميّ، تحدّيات بيئيّة لا تقلّ خطورة عن انتشار أسلحة الدمار الشامل، وظاهرة العنف والإرهاب. فالمشكلات البيئيّة أصبحت تشكّل تحدّيًا كبيرًا أمام دول العالم كافّة، فالدول النامية هي الأكثر تضرّرًا من ناحية الخسائر البشريّة، والاقتصاديّة، لكنّ الدول المتقدّمة لم تعد بمنأى عن هذه الأضرار.
منذ انطلاقة الثورة الصناعيّة، والدول الصناعيّة المتقدّمة تُتّهم بأنّها المسبّب الرئيس للتدهور البيئيّ في القرن العشرين والحادي والعشرين، في عصر الثورة الصناعيّة والتطوّر التقنيّ، لأنّها استغلّت إمكاناتها التقنيّة والعلميّة الهائلة في استغلال الموارد الطبيعيّة، ما أدّى إلى استنزاف هذه الموارد وتلوّث البيئة. أمّا الدول النامية فقد ساهمت بدورها في تلوّث البيئة نتيجة غياب التشريعات البيئيّة، والقوانين التي تحدّ من مشكلاتها البيئيّة، بحيث أضحت هذه الدول الأكثر تلوّثًا في العالم.
لذلك تفاقمت الأخطار البيئيّة في العالم، نتيجة التفاعل غير الرشيد للنشاطات البشريّة مع مكوّنات النظام البيئيّ، وهذه الأخطار تتمثّل بالتلوّث البيئيّ، الاحتباس الحراريّ، ترقّق طبقة الأوزون، اتّساع نطاق التصحّر، اختلال التوازن البيئيّ، فقدان التنوّع البيولوجيّ، بالإضافة إلى الكوارث الطبيعيّة المتمثّلة بأضرار الزلازل، البراكين، الأعاصير، والفيضانات… هذه الأخطار البيئيّة أقلقت المجتمعات الدوليّة وهيئاتها منذ زمن، ودفعتها إلى تضافر الجهود لمعالجة هذه الأخطار التي باتت تشكّل تهديدًا للطبيعة، للإنسان، وللأمن العالميّ.
فبمبادرة من المنظّمات غير الحكوميّة، عقدت منظّمة الأمم المتّحدة، والوكالات المتخصّصة التابعة لها، والمنظّمات الإقليميّة العديد من المؤتمرات الدوليّة، والإقليميّة في مجال حماية البيئة، وصدر عنها العديد من الاتّفاقيّات الدوليّة التي تهدف إلى مواجهة المسائل، والمشكلات البيئيّة من منظّمة الأمم المتّحدة والوكالات التابعة لها وبرنامج الأمم المتّحدة وخصوصًا برنامج الأمم المتّحدة للبيئة (UNEP)، منظّمة العمل الدوليّة (ILO)، منظّمة الأمم المتّحدة للتربية والعلوم الثقافيّة (UNESCO)، ومنظّمة الملاحة الدوليّة (IMO). وحاليًّا يوجد أكثر من 500 اتّفاقيّة دوليّة تتعلّق بالبيئة من بينها 323 اتّفاقيّة إقليميّة.
وتعهّدت الدول المشاركة في هذه المؤتمرات الدوليّة بالتقيّد والالتزام بهذه الاتّفاقيّات التي تناولت الأراضي، أو المناطق الرطبة، والاتجار الدوليّ بالحيوانات، والنباتات المهدّدة بالانقراض، حماية التراث العالميّ الثقافيّ والطبيعيّ، حماية طبقة الأوزون، التنوّع البيولوجيّ، التغيّر المُناخيّ، والاحتباس الحراريّ، الكوارث الطبيعيّة، التصحّر الجفاف، الملوثّات العضويّة الثابتة، نقل النفايات الخطرة(1).
كما تواصلت جهود هذه المنظّمات والمؤسّسات الماليّة الدوليّة في عقد المؤتمرات، والمنتديات العالميّة من أجل تنفيذ هذه الاتّفاقيّات وتطويرها، والعمل على تقديم المساعدات التقنيّة، والمادّيّة إلى الدول الأعضاء من أجل مكافحة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
** حائزة على شهادة دراسات عليا في الجغرافيا، وشهادة الكفاءة في تعليم الجغرافيا، طالبة دكتوراه، الجامعة اللبنانيّة، المعهد العالي للدكتوراه، قسم الجغرافيا.
الأخطار البيئيّة. إضافة إلى ذلك تزايد التعاون الدوليّ في مجال الطاقة المتجدّدة من أجل الحفاظ على بيئة سليمة ومستدامة. لكن في المقابل، وعلى الرغم من التعاون العالميّ في الإطار القانونيّ لحماية النظام البيئيّ، يواجه المجتمع الدوليّ صعوبات، وعوائق جمّة على الصعيدين الاقتصاديّ، والمادّيّ تحول دون تنفيذ هذه الاتّفاقيّات المتعلّقة بالبيئة بشكل كامل.
في عام 1983، شكّلت الأمم المتّحدة لجنة عالميّة للبيئة والتنمية، برئاسة غروهارليم بورنتلاند رئيسة وزراء النرويج آنذاك وعضويّة مجموعة من الخبراء، وذلك من أجل دراسة مشكلات البيئة والتنمية على كوكب الأرض، ووضع الاقتراحات لحلّها، ووضع حدّ للصراع بين البيئة، والتنمية، والخروج بمفهوم يعمل على اتّزان العلاقة بين البيئة، والتنمية، واحتياجاتهم، من دون الإضرار بأحدهما، عبر صيغة برنامج عالميّ للتغيير، واقتراح استراتيجيّات بعيدة المدى. وكانت حصيلة عمل هذه اللجنة إصدار كتاب مستقبلنا المشترك our common future الذي حمل مفهومًا جديدًا للتنمية، وهو مفهوم التنمية المستدامة، وهي التنمية التي تلبّي حاجات الحاضر من دون المساومة على قدرة الأجيال المقبلة في تلبية حاجاتهم. لقد أدّى مفهوم التنمية المستدامة إلى ظهور فلسفة تنمويّة جديدة تضع في الحسبان محدوديّة الموارد البيئيّة الطبيعيّة، وحدود قدرة الأرض على تحمّل إجهاد الاستنزاف من ناحية، والتلوّث، والتدهور من الناحية الأخرى.
ولعلّ أفضل تعريف تمّت صياغته حتّى الآن من أجل التنمية المستدامة، هو التعريف الذي وضعته هذه اللجنة (لجنة برونتلاند)، إذ أكّدت من خلاله بأنّ التنمية هي عمليّة تغيير يكون فيها استغلال الموارد واتّجاه الاستثمارات واتّجاه التطوّر التكنولوجيّ، والتغيير المؤسّسيّ كلّها في وئام، وتغزّز الإمكانيّات الحاليّة، والمستقبليّة على حدِّ سواء لتلبية الاحتياجات والتّطلّعات البشريّة”(2). هذا ما أكّد عليه أيضًا المبدأ الرابع الذي أقرّه مؤتمر ريو دي جينيرو العام 1992، إذ ربط بين التنمية وحماية البيئة، “لكي تتحقّق التنمية المستدامة ينبغي أن تمثّل الحماية البيئيّة جزءًا لا يتجزّأ من عمليّة التنمية، ولا يمكن التفكير فيها بمعزل عنها”(3).
لقد شكّلت التقارير الدوريّة الصادرة عن برنامج الأمم المتّحدة للبيئة، وبرنامج الأمم المتّحدة الإنمائيّ حول التنمية البشريّة، وغيرها من اللجان الدوليّة، خلاصة للجهود المبذولة لإنتاج أفضل معرفة متوافرة بشأن المشكلات البيئيّة وتأثيرها على الأمن الغذائيّ، المائيّ، الصحّيّ والاقتصاديّ.
فقد أظهر التقرير العلميّ الذي أصدره المنتدى العربيّ للبيئة، والتنمية عام 2009، أنّ البلدان العربيّة هي من المناطق الأكثر تعرضًا لتأثيرات تغيّر المُناخ المحتملة، وأبرزها الإجهاد المائيّ، وتراجع إنتاج الغذاء، وارتفاع مستوى البحار، وتردّي الصحّة البشريّة(4)، نتيجة تزايد التداعيات البيئيّة وسوء إدارة الأخطار البيئيّة.
والمشهد البيئيّ في لبنان لا يختلف كثيرًا عن الدول العربيّة، ذلك أنّ الطبيعة، تعرّضت إلى أخطر أمراض العصر، أي التلوّث البيئيّ (تلوّث الهواء، تلوّث المياه الجوفيّة، والسطحيّة وصولًا إلى الشاطئ، تلوّث التربة، ومعها المنتجات الزراعيّة على أنواعها…). وتعود أسباب التدهور البيئيّ إلى أطنان من النفايات الصلبة والسائلة، مياه الصرف الصحّيّ، المبيدات، والأسمدة، الزراعيّة، النفايات، والانبعاثات الصناعيّة، وانبعاثات ثاني أوكسيد الكربون من الآليّات والمركبات(5).
فالبيئة في لبنان تواجه اليوم أنواعًا متعدّدة من التّحديات، منها تحدّيات قضائيّة، وسياسيّة، وعلميّة، بحيث إنّ التّحدّيات القضائيّة تتمثّل في القوانين البيئيّة التي عفا عليها الزمن التي تعيق التقدّم في مجال البيئة، وفي تنفيذ القوانين، فالعديد من القوانين غير واضحة، أو غير معتمدة علميًّا، لذا الحاجة إلى تعديل هذه القوانين وتحديثها. ومثال على ذلك قانون الأملاك البحريّة، حيث نجد من جهة عدم تنفيذ للقانون، وذلك تزامنًا مع التّحدّيات السياسيّة، ومن جهة أخرى عدم وجود تحديد علميّ في القانون للحدود الساحليّة.
أمّا التّحديات العلميّة فتتلخّص بالنقص في الأبحاث، وبانعدام التطوّر في القطاع البيئيّ، نتيجة نقص المهارات، والخبرات المطلوبة، ما يفاقم الأزمة البيئيّة في لبنان، ويزيد من تكاليفها. في الواقع لقد حدّد البنك الدوليّ سنة 2004، كلفة التدهور البيئيّ في لبنان، من جرّاء رمي النّفايات وحرقها بطرق عشوائيّة، بحوالي 10 مليون دولار سنويًّا، وهذه التكلفة بتزايد مستمرّ(6).
أوّلًا – مشكلة النّفايات في لبنان وفق الإحصائيّات المتوفّرة
تعدّ مشكلة النفايات على تعدّد أنواعها، إحدى المشكلات البيئيّة الكبرى، التي تعجز الدولة اللبنانيّة في الوقت الراهن عن إيجاد حلول جذريّة لها. فمع ازدياد عدد السكان، ارتفاع المستوى المعيشيّ، والتّقدّم الصناعيّ، والتقنيّ السريع تنوّعت، وازدادت كمّيّات النّفايات الصلبة الناتجة عن الأنشطة البشريّة المتعدّدة، وأصبحت عمليّة التّخلّص منها من أبرز المشاكل التي تواجه البيئة في لبنان، نظرًا إلى ما تشكّله من أخطار على الموارد الطبيعيّة، وعلى صحّة الإنسان وسلامته.
فآلاف الأطنان من النفايات، والملوّثات الصناعيّة تُقذف سنويًّا في مياه البحر بسبب رمي مياه الصرف الصحّيّ مباشرة من دون أيّ معالجة، بالإضافة إلى رمي النفايات المنزليّة العضويّة، والصناعيّة، والزراعيّة، والنفايات الصلبة. فالنفايات تُرمى بشكل عشوائيّ في المياه الإقليميّة، وبعضها يصل إلى مياه البلدان المجاورة. وقد أدّى تراكم النفايات إلى تغطية كاملة لقشرة الأرض على الساحل اللبنانيّ بأنواع النفايات المتعدّدة من البلاستيك، والنايلون التي لا يمكن أن تتآكل، أو تتحوّل حتّى بعد عشرات السنوات.
فبحسب إحصاءات البنك الدوليّ، بلغ الإنتاج اليوميّ للنفايات في لبنان سنة 2010 (4300 طنّ يوميًّا)، أي ما يعادل (1.57 مليون طنّ سنويًّا)، ومن المتوقّع أن تتزايد كمّيّة النفايات إلى (2.3 مليون طنّ)عام 2030. وعليه يبلغ معدل الإنتاج اليوميّ للفرد الواحد (0.95 كلغ)، وهذا المعدّل يتنوّع بين سكان المدن (1.1 كلغ يوميًّا)، وبين سكان الأرياف (0.7 كلغ يوميًّا)، ويتنوّع أيضًا حسب المحافظات اللبنانيّة، فمحافظتي بيروت وجبل لبنان ينتجان أكبر كمّيّة من النّفايات، ما يقارب (58%) من مجموع النفايات في لبنان، ويعود ذلك إلى ارتفاع الكثافة السكانيّة في هاتين المنطقتين (شكل رقم 1).
شكل رقم1: توزّع إنتاج النفايات حسب المحافظات اللبنانيّة
المصدر: SWEEP.NET
ثانيًا – أنواع النّفايات في لبنان
كما أنّ النّفايات في لبنان فهي متعدّدة الأنواع، لذلك يمكن تقسيمها بين نفايات عضويّة، صلبة، سائلة، ونفايات سامّة خطيرة، لها تداعيات كبيرة على الطبيعة الإنسان وصحّته:
- النّفايات الصلبة (Sold waste): هي النفايات التي تنتج عن مخلّفات المنازل، والمصانع، والمتاجر، والمدارس، والعمليّات الزراعيّة، والركام الناتج عن عمليّات البناء والهدم. ويمكن تخيّل كمّيّة النفايات الصلبة التي تنتج عن الأنشطة البشريّة. لقد أشار التقرير العربيّ إلى أنّ العالم العربيّ ينتج حوالي 300 ألف طنّ من النفايات الصلبة يوميًّا، ينتهي معظمها، من دون معالجة، في مكبّات عشوائيّة، بينما لبنان ينتج أكثر من مليونَيْ طنّ من النفايات المنزليّة سنويًّا. وهذه النفايات المنزليّة الصلبة لا تختلف كثيرًا بمكوّناتها بين الريف والمدينة. فالنفايات العضويّة تشكّل ما يقارب نصف كمّيّة النفايات المنزليّة (50% في المدن و55% في الريف)، والكمّيّة المتبقّية تتوزّع بين كرتون وورق (بنسبة 16% من مجموع النّفايات)، (بلاستيك 11.5%)، معادن (5.5%)، زجاج (3.5%)، منسوجات (3%)، خشب (3%)، ونفايات أخرى (5%) (شكل رقم2).
شكل رقم2: التوزيع النسبيّ لمكوّنات النّفايات الصلبة في لبنان
المصدر: SWEEP.NET
- النّفايات السَّائلة (Liquid waste): وتشمل مياه الصرف الصحّيّ، والمياه الناتجة عن المصانع، وعمليّات التعدين، والأسمدة، ومحاليل مبيدات الآفات، بالإضافة إلى السوائل التي ترشح من الفضلات، وقد تحتوي هذه الفضلات على موادّ عضويّة سامّة، أو موادّ غير عضويّة وغير سامّة. لذلك يعدّ الشاطئ اللبنانيّ، والمياه الجوفيّة أبرز ضحايا هذا النوع من التلوّث، في ظلّ غياب محطّات تكرير المياه المبتذلة في العديد من المحافظات اللبنانيّة.
- النّفايات الغازيّة (Gaseous wastes): وهي الغازات التي تنتج عن أنشطة المصانع، دخان السيّارات… وتشمل النفايات الغازيّة أوّل أكسيد الكربون، وثاني أكسيد الكربون، وأكاسيد النيتروجين، وأكاسيد الكبريت، والميثان، ومركّبات الكلوروفلور وكربون. وغالبًا ما تتحوّل هذه الغازات إلى أمطار حامضيّة تلوّث التربة، والمياه السطحيّة، والجوفيّة.
- النّفايات الخطرة (Hazardous waste): وهي النّفايات التي قد تسبّب الضرر للإنسان أو البيئة، وذلك إمّا لأنّها قابلة للاشتعال، أو لكونها سامّة، أو لأنّها قد تسبّب الضرر عند تفاعلها مع موادّ أخرى، قد تكون النّفايات الخطرة سائلة، أو صلبة، أو غازيّة، ومنها الزئبق، والديوكسينات، ومبيدات الآفات، وبعض مخلّفات التعدين التي تحتوي على مركّبات كيميائيّة سامّة، والتي تتفاعل مع الأوكسجين فتكوِّن أحماضًا يمكن أن تلوّث المياه الجوفيّة عندما تختلط بمياه المطر. توجد الكثير من المنتجات التي تُستخدم في المنزل، وتُعد من النفايات الخطرة لاحتوائها على موادّ كيميائيّة سامّة، ومنها منظّفات البواليع، والدهان، والموادّ المستخدمة لتخفيف قوام الدهان، ومعطر الهواء، وطلاء الأظافر، والغراء وغيرها.
- النّفايات الإلكترونيّة: وتشمل الأجهزة الكهربائيّة والإلكترونيّة، مثل أجهزة الحاسوب وأجزائها المتعدّدة كلوحة المفاتيح، والفأرة. وأجهزة التلفزة، وأجهزة الاتّصال، والمعدّات الرياضيّة التي تحتوي على مكوّنات كهربائيّة أو إلكترونيّة، وغيرها(7). وتحتوي هذه النفايات الإلكترونيّة على مجموعة من المعادن، والكيماويّات السامّة، مثل الرصاص، الزئبق، الكادميوم، الكروم ومعوّقات اللهب المحتوية على برومين، وثنائيّات الفينيل(8). وغالبًا ما تتخلّص الدول المتطوّرة من نفاياتها الكيميائيّة السامّة، ونفاياتها الإلكترونيّة الخطرة في دول عالم الجنوب التي تعاني من الفقر، أو الاضطرابات الأمنيّة. هذا ما حصل في لبنان خلال الحرب الأهليّة، حين دخلت مئات من البراميل السامّة الآتية من أوروبا على متن الباخرة الإيطاليّة.
- النّفايات السامّة المطمورة في الطبقات الجوفيّة التي أدخلت إلى لبنان من الخارج خلال الحرب: إنّ النفايات الإلكترونيّة، الكيميائيّة، والصلبة لا تشكّل وحدها النفايات السامّة الضارّة ببيئة لبنان وصحّة أبنائه، بل نضيف إليها النفايات السامّة المستوردة من الدول الصناعيّة الأوروبيّة التي أدخلت إلى لبنان خلال الحرب، وتمّ طمرها في مناطق لبنانيّة عدّة.
في 21 أيلول 1987، دخل 15800 برميل و20 مستوعبًا من النفايات السامّة الحوض الخامس لمرفأ بيروت آتية من إيطاليا على متن الباخرة التشيكيّة “ردهوست”، ثمّ نقلت هذه البراميل إلى مناطق لبنانيّة متعدّدة، بحيث تكدّست علنًا في كسارات شننعير، وساحل علما، وإنطلياس، ومرفأ بيروت، وغزير، وذوق مصبح، وعيون السيمان – كفردبيان، وجعيتا، وصور، والصرفند، وطرابلس وغيرها من المناطق اللبنانيّة.
تكمن خطورة هذه النفايات الكيميائيّة بتداعياتها السلبيّة على بيئة المواطنين وصحّتهم من جهة، وعلى التعتيم عن هذه الكارثة البيئيّة من جهة أخرى، إذ لا نيّة حتّى اليوم بإعادة فتح هذا الملف ودرسه من قبل الأختصاصيّين البيئيّين لإيجاد حلول جدّيّة للتخلّص من هذه الكيميائيّات السامّة. فالدولة اللبنانيّة، لم تسعَ يومًا إلى إنهاء هذا الملف بشكل جدّيّ.
ويرى الخبير والاستشاريّ في علم السموم الكيميائيّة الصناعيّ د. ناجي قديح احتمالًا أن تكون هذه النفايات لمصانع كيميائيّة تكلّف الدول الأوروبيّة مبالغ طائلة لمعالجتها، لذلك تتخلّص منها في الدول النامية المضطربة، وتحتوي هذه النفايات على موادّ سامّة عضويّة، ومعادن ثقيلة ممزوجة مع التراب الملوث بالموادّ الكيميائيّة، فتصنّف نفايات خطرة، لها قدرة على الاشتعال فهي موادّ سامّة. لقد كلّفت الدولة اللبنانيّة لجنة من الخبراء (تضمّ الاختصاصيّين في الفيزياء والهيدرولوجيا د. ولسون رزق، رئيس أكاديميّة الطاقة والبيئة في كلّيّة العلوم في الجامعة اللبنانيّة د. ميلاد جرجوعيّ، والصيدليّ بيار ماليشيف) التجوّل في المناطق بحثًا عن هذه البراميل والكشف عنها. جال الخبراء في المناطق وأكّدوا أنّ هذه البراميل موجودة في أكثر من منطقة لبنانيّة، وأنّ الناس يستعملونها دون أيّ وقاية.
وفيما تابع الخبراء عملهم، وجدوا أنّ أهالي هذه المناطق عمدوا أيضًا إلى استعمال محتويات هذه البراميل متجاهلين علامات الخطر الموجودة عليها. في شننعير مثلًا، التقوا بعائلة الحاج، وأطلعهم ربّ العائلة عبدو بأنّه استعان بمحتوى أحد البراميل كمعجون للحلاقة، ثمّ توفِّيَ عبدو الحاج لاحقًا بالسرطان. ويشير شهود عيان آخرون في بلدة كفردبيان أنّ صاحب محطّة بنزين في البلدة أقدم على غسل بعض البراميل لاستعمالها، فأصيب بمرض خطير أدّى إلى وفاته بعد شهرين. وتؤكّد اللجنة على وقوع حوادث مماثلة في مناطق لبنانيّة أخرى. كما أكّد ولسون أنّ “بعض الناس أفرغت البراميل من نفاياتها، وغسلتها، وباعتها للمطاعم التي استخدمتها لوضع المخلّلات كالكبيس، والزيتون، والعرق. وللمنازل التي استخدمتها لتخزين المياه، وموادّ أخرى. لم تكن تعلم ماذا تحتوي عليه البراميل، وهذا ما أدّى إلى إصابة عدد منهم بأمراض متعدّدة، منها سرطانيّة. ولم تشر اللجنة إلى وجود موادّ مشعّة لأنّها لم تكن تملك المعدّات اللازمة للتأكّد من صحّة وجود هذه الموادّ. أذاع صدور تقرير الخبراء موجة ذعر كبيرة بين اللبنانيّين. فعمد البعض منهم إلى التخلّص منها إمّا عبر حرقها، أو رميها في البحر. ففي بلدات جرود كسروان عمد البعض إلى حفر الأرض في منطقة عيون السيمان، وبناء مستوعبات من الباطون حيث تمّ طمر النفايات فيها، وتسكيرها مجدّدًا بطبقات من الباطون المسلح، ظنًّا منهم أنّهم يتخلّصون من خطورتها إلى الأبد.
أمّا في المناطق الأخرى وبعد تنازع بين الدولة اللبنانيّة، والسلطات الإيطاليّة بتحريض من جمعيّة غرينبيس، استعادت إيطاليا قسمًا قليلًا من هذه البراميل ونقلتها بطريقة بدائيّة تؤدّي إلى تلوّث الأماكن المارّة بها، ولم تصرّح الدولة الإيطاليّة للخبراء اللبنانيّين عن مصير هذه النفايات، ويرجّح د. ولسون أنّها رميت في البحر(9). ويقول فؤاد حمدان، المتحدّث باسم “غرين بيس” في هامبورغ، فرع منطقة البحر المتوسّط، “أنّ وزارة البيئة ارتكبت خطأ صيف 1994 عندما حاولت طمر هذه النفايات في جبال لبنان، لأنّ طمر هذه النفايات ليس حلاًّ للتخلّص من النفايات الكيميائيّة”. ونوعيّة هذه النفايات تذوب بالمياه، ويمكن أن تخترق بسهولة الطبقات الجوفيّة في الأرض للوصول إلى المياه. حتّى لو كانت الموادّ الكيميائيّة غير سامّة، فإنّ الرائحة الكريهة لمادّة الأكريليت تجعل مياه الشفة غير صالحة للشرب.
صورة البراميل المجهزة للترحيل في الحوض الخامس من مرفأ بيروت – 1988
المصدر: legal-agenda.com/article.php
وأخذت المنظّمة عيّنات من موادّ مطمورة في جبال كسروان بواسطة مصدر خاصّ، وموثوق في بيروت، وكانت نتيجة التحليل تبيّن أنّ الموادّ يمكن أن تؤذي الجهاز الهضميّ، والجهاز العصبيّ، بنسب مرتفعة تؤدّي هذه الموادّ إلى خلل في الدماغ خصوصًا لدى الأطفال(10).
وحتّى اليوم نشرت مقالات عدّة، وأقيمت دراسات جامعيّة عدّة تناولت هذا الموضوع، وآخرها مقال نشر في جريدة الديار نشر بتاريخ 8/2/1995، إعتبرت فيه أن النفايات السامّة تذوب مع المياه، وورد بعدها تقرير في جريدة النهار بتاريخ 9/ 2/ 1995 من وزارة الموارد المائيّة والكهربائيّة أعلن فيه أنّ المياه الجوفيّة هي غير ملوّثة بموادّ سامّة.
وبناء على هذه التقارير، استنتجت دراسة جامعيّة درست نقاط التلوّث لمياه نهر الصليب في بلدات جرود كسروان، أنّ النفايات السامّة قد تكون قد انحلّت مع المياه الجوفيّة، وأنّ المياه الجوفيّة تجدّدت، ولم تعد تحتوي على أيّ رواسب منها، أو البراميل السامّة لم تتحلّل بعد، وسوف تشكّل خطرًا في المستقبل، لذلك يجب على الدولة إعادة فتح الملفّ ودراسته من جديد. واستكملت الدراسة بأخذ عيّنات من المياه، وتحليلها في المختبر، وخلصت أنّ مياه الشفة في بلدات جرود كسروان غير صالحة للشرب لاحتوائها على جراثيم تؤكّد تلوّث المياه(11).
ثالثًا- أسباب تفاقم أزمة النّفايات في لبنان
- غياب الخطط الوطنيّة الشاملة لإدارة النّفايات
لم يطبق لبنان خطّة وطنيّة لإدارة النفايات الصلبة تشمل البلد بأكمله، فلبنان أنتج أكثر من مليوني طنّ من النّفايات المنزليّة في 2014، وبحسب باحثين في “الجامعة الأميركيّة في بيروت”، 10 إلى 12% فقط من نفايات لبنان لا يمكن تسبيخها (تحويلها إلى سماد) أو إعادة تدويرها، مع ذلك 77% ترمى في مكبّات مكشوفة أو تُطمَر. بالاعتماد على أرقام وزارة البيئة، هناك 941 مكبًّا مكشوفًا في البلاد، منها 617 للنفايات المنزليّة الصلبة. أكثر من 150 منها تُحرق في الهواء الطَّلْق بمعدل مرّة واحدة في الأسبوع على الأقلّ. ويعود تاريخ أزمة إدارة النفايات في لبنان إلى عقود عدّة، في ظلّ إدارة وتخطيط حكوميّينِ سيّئينِ، الإفراط في استخدام المطامر، والمكبّات المكشوفة، والحرق في الهواء الطَّلْق، الاعتماد على القطاع الخاصّ، والمانحين الدوليّينَ، ونقص الشفافيّة. لم تعتمد إدارة النفايات في لبنان يومًا على أفضل الممارسات السليمة البيئيّة والصحّيّة العامّة، إنّما كانت القرارات المُهِمَّة تُتّخذ في آخر لحظة وبشكل طارئ.
فمنذ انتهاء الحرب الأهليّة اللبنانيّة عام 1990، كلّفت الدولة شركة سوكلين لخدمة جمع النّفايات في بيروت، وجبل لبنان، وشركة سوكومي لخدمات المعالجة والطمر. أمّا في باقي المناطق اللبنانيّة فقد حمّلت الدولة البلديّات واتّحاداتها أعباء جمع النفايات والتخلّص منها. وتتّهم هذه البلديّات بدورها الحكومة بالمماطلة في توزيع مستحقّات “الصندوق البلديّ المستقلّ” في السنوات الأخيرة، ما صعّب عليها إدارة النفايات الصلبة، وغالبًا ما تخلّصت منها في المكبّات العشوائيّة في الهواء الطلق.
ووزارة البيئة المسؤولة عن المراقبة البيئيّة للمطامر والنّفايات، تقف عاجزة عن تأدية دورها في معالجة أزمة النفايات بحجّة النقص في عدد الموظّفين، ولا تملك التمويل الكافي للقيام بعملها، (فميزانيّة وزارة البيئة بلغت سنة 2010 7.325 مليار ليرة لبنانيّة فقط). على الرغم من توقيع لبنان على العديد من الاتّفاقيّات الدوليّة للحدّ من التلوّث البيئيّ وكيفيّة التخلّص من النّفايات (الخطرة وغير الخطرة) كاتّفاقيّة منع التلوّث البحريّ (1973)، اتّفاقيّة برشلونة لحماية البحر المتوسّط من التلوّث (1976)، بروتوكول أثينا لحماية البحر المتوسّط من التلوّث (1980)، اتّفاقيّة بازل للتخلّص من النّفايات السامّة عبر الحدود (1994)، اتّفاقيّة ستوكهولم بشأن الحدّ من استخدام الملوّثات العضويّة لكي لا تتحوّل إلى نفايات خطرة، إلاّ أنّ الحكومات المتعاقبة من السبعينيّات حتّى اليوم، لم تمنع حرق النفايات في الهواء الطلق، التخفيف من النفايات البلديّة والطبّيّة، فرز النفايات من المصدر تدويرها بهدف إعادة استعمالها، والتشجيع على استخدام منتجات صديقة للبيئة. في الواقع، وعلى الرغم من اعتماد الحكومات خلال الخمس عشرة سنة المنصرمة، سلسلة من الخطط لإدارة النفايات، ومنها ثلاثة خطط جديرة بالذكر: خطّة الطوارئ لإدارة النفايات الصلبة (1997)، الخطّة الشاملة لإدارة النفايات (2006)، خطّة تحويل النفايات إلى طاقة (2010)، إلاّ أنّ أكثر من (80%) من نفايات لبنان تنتهي اليوم في المطامر والمكبّات العشوائيّة(12).
- المعالجة الخاطئة للنفايات والنقص في الفرز والتدوير وفق الطرق العلميّة
إنّ السبب الرئيس لمشكلة النفايات في لبنان يكمن بعدم فرزها من المصدر، بحيث تتكدّس النّفايات في أكياس النايلون في مكبّات غير صحّيّة. أمّا النّفايات التي يتمّ فرزها يدويًّا وميكانيكيًّا فهي النّفايات التي يتمّ طمرها لاحقًا في مطامر صحّيّة. في الواقع يمكن تلخيص طرق معالجة النّفايات على الشكل التالي: (8%) من النّفايات الصلبة يتمّ إعادة تدويرها، (9%) من النّفايات العضويّة يتمّ تسبيخها (9%)، (51%) يتمّ طمرها، أمّا النسبة المتبقّية (32%) فتنتهي في مكبّات عشوائيّة من دون أيّ معالجة تذكر (شكل رقم3). وتعدّ المكبّات العشوائيّة الطريقة الأسوأ للتخلّص من النّفايات في لبنان، لأنّها غالبًا ما تكون في الهواء الطلق ويتعرّض البعض منها للحرائق اليوميّة والأسبوعيّة (خريطة رقم1).
شكل رقم3: الطرق المستخدمة في معالجة النّفايات الصلبة في لبنان
خريطة توزّع مكبّات النفايات على الأقضية اللبنانيّة، ومعدّل الأيّام التي يتمّ فيها الحرق أسبوعيًّا
المصدر:/12/01/311575 https://www.hrw.org/ar/report/2017
- غياب التربية البيئيّة
في ظلّ غياب برامج تربويّة بيئيّة جدّيّة في المدارس، والجامعات، وفي وسائل الإعلام، يميل الناس للإستهلاك المضاعف للسلع، وخاصة للموادّ البلاستيكية في الأعياد والمناسبات، غير مهتمّين بإعادة الاستعمال، ما يؤدّي إلى تضاعف كمّيّة النّفايات. كما أدّت أنماط الحياة الاجتماعيّة، ووسائل التسويق للمنتجات إلى الإفراط في تعليب السلع، واستعمال الموادّ غير القابلة للتدوير التي تتنتهي في نهاية الأمر في مكبّات النفايات.
ثالثًا- الآثار الناجمة عن التلوّث بالنّفايات
- أثر النّفايات على البيئة الطبيعيّة في لبنان
تعدّ النّفايات من المشكلات البيئيّة الأكثر خطورة على البيئة الطبيعيّة في لبنان. فمكبّات النّفايات في الهواء الطلق لا تؤدّي فقط إلى تشويه البيئة الطبيعيّة، وإنّما إلى فرز غازات لها روائح كريهة. فتفاعل النّفايات العضويّة مع الهواء الطلق من جهة وتزايد عمليّات الحرق من جهة ثانية، يؤدّيان إلى انبعاث غازات سامّة تلوّث الهواء كثاني أوكسيد الكربون، غاز الميثان، غاز الأمونيا، غاز كبريتد الهيدروجين…
كما أنّ تزايد الحرائق في مكبّات النّفايات تضاعف من انبعاث هذه الغازات السامّة. فبحسب إحصاءات الدفاع المدنيّ، لقد بلغ عدد حرق النفايات في الهواء الطلق في بيروت وجبل لبنان 3612 حريقًا سنة 2017 و814 في باقي البلاد، وبذلك ارتفع عدد حالات حرق النّفايات في الهواء الطلق في جبل لبنان 330% في 2015، ثمّ 250% في 2016.
أمّا الطريقة الثانية التي يُلجأ إليها للتخلّص من النّفايات على أنواعها هي الطمر، وغالبًا ما تتمّ بشكل عشوائيّ بحيث تتغلغل النّفايات لدى تحلّلها إلى المياه الجوفيّة والينابيع، وهو أمر غاية في الخطورة يحتاج معالجة فوريّة لأنّه يلوّث التربة والمياه الجوفيّة. وأهمّ الغازات التي تنبعث من أماكن الطمر الميثان، وثاني أوكسيد الكربون…
- أثر النّفايات على صحّة الإنسان
عادة يتمّ حرق النّفايات الصلبة للتخلّص منها، ما يسبّب انبعاث الغازات السامّة التي تشكّل خطرًا على صحّة الإنسان. من هذه الغازات أحادي أوكسيد الكربون المدمّر للجهاز التنفّسيّ والقلب، وهو يؤدّي إلى الموت إذا استُنشق بكمّيّة كبيرة، ويعرقل نقل الأوكسجين إلى الدماغ، والقلب، والعضلات إذا استُنشق بكمّيّة صغيرة. ويسبّب غاز أوكسيد الكبريت اضطرابات الجهاز التنفّسيّ، وعضلات القلب، وأزمات الربو…
أمّا الديوكسين فيؤدّي إلى آثار خطيرة على جهاز المناعة، والأعصاب، والهرمونات كما يسبّب السرطانات المتعدّدة… كما أنّ طمر النفايات بشكل عشوائيّ يؤدّي إلى تلوّث التربة، والمياه الجوفيّة فتتكاثر الحشرات والقوارض التي تنقل السموم والأمراض إلى السكان.
- تلوّث الشاطئ والبحر يقضي على الثروة البحريّة
إنّ الشاطئ اللبنانيّ هو أكبر ضحايا التلوّث البيئيّ في لبنان، على الرغم من توقيع لبنان العديد من الاتّفاقيّات التي تحدّ التلوّث في البحر المتوسّط. فالشاطئ اللبنانيّ عرضة للتلوّث من جراء مخلّفات المصانع المنتشرة على طول الساحل، كما أنّه منطقة للصيد البحريّ العشوائيّ، يضاف إلى ذلك آثار النفط المتسرّب من مستودعات معمل الجيّة التي قصفت خلال العدوان الإسرائيليّ الأخير، فالبقع النفطيّة تغطّي 160 كيلومترًا من الشاطئ شمال الجيّة. فكمّيّات النفط التي كانت موجودة في الخزّانات حينها قدّرت بنحو 30 ألف طنّ، أو أقلّ بقليل. والمادّة النفطيّة التي تسرّبت إلى البحر بواسطة البوارج الإسرائيليّة شكّلت بحيرات نفطيّة مساحتها عشرات الكيلومترات المربّعة وصلت كثافتها إلى ما يزيد عن 40 سم، كما تمّ اكتشاف كمّيّات هائلة من الفيول في قاع البحر مقابل الجيّة. والمحاولات التي جرت لتنظيف قاع البحر، والشواطئ اللبنانيّة من التلوّث النفطيّ، ساهمت إلى حدّ ما في الحدّ من هول الكارثة، ولكنّها لم تحلّ المشكلة جذريًّا. نضيف إلى ذلك رمي مياه الصرف الصحّيّ مباشرة في البحر من دون أيّ معالجة الأمر الذي يفاقم المشكلة مع تراكم النفايات المنزليّة العضويّة، الصناعيّة، الزراعيّة، والنفايات الصلبة(13). كلّ هذه العوامل تؤدّي إلى التلوّث الكيميائيّ حيث ترتفع نسبة الكيميائيّات وخصوصًا الزئبق المسبّبة للسرطان قرب المصانع، والتلوّث البكتيرولوجيّ من جراء الصرف الصحّيّ قرب المناطق السكنيّة الكثيفة. تعدّ هذه الملوّثات، وارتفاع درجة الحرارة والسموم العضويّة المسؤولة عن تراجع الثروة السمكيّة في لبنان، والقضاء على ما تبقّى من مكوّنات الحياة البحريّة.
- أثر النّفايات على القطاعات الاقتصاديّة
ممّا لا شكّ فيه أنّ هناك أثرًا للنّفايات على الاقتصاد اللبنانيّ، فالضرر المباشر للنّفايات هو على القطاع السياحيّ، وإغلاق مرافق معيّنة مثل المطار، بالإضافة إلى الضرر على الصحّة العامّة، والكلفة التي ستتكلّفها الدولة لمعالجة هذا الضرر ولإزالة النّفايات. أمّا الأضرار غير المباشرة هي الخسارة التي تأتي من عدم استغلال النّفايات التي تعدّ ثروة إذا تمّ الاستفادة منها لإنتاج الطاقة. فتجدر الإشارة إلى أنّ كلّ 1 طنّ من النّفايات يولّد 0.13 كيلوواط/ الساعة من الكهرباء، و0.3 كيلوواط/ الساعة من التدفئة (الحرارة)، ولبنان ينتج 1.4 مليون طنّ تقريبًا من الّنفايات، لا يجب أن يتمّ طمر سوى نسبة 10% أي 140 ألف طنّ منها، ويستفيد من الباقي لإنتاج الطاقة. في السويد مثلًا، 900 وحدة سكنيّة يستخدمون التدفئة المولّدة من النّفايات و250 ألف وحدة سكنيّة تستخدم الكهرباء المولّدة باستخدام النّفايات، لأنّ كلّ 6 مليون طنّ من النّفايات تعادل الطنّ الواحد من الفيول من ناحية توليد الطاقة، وهذا دليل على خَسارة لبنان نتيجة طمر النّفايات.
رابعًا- استراتيجيات التنمية البيئيّة والتخلّص من النّفايات بطرق سليمة
من أجل ضمان الاستدامة البيئيّة في لبنان، وحفظ الموارد الطبيعيّة للأجيال القادمة، فإنّ الكلّ معنيّ بالمحافظة على البيئة من أفراد، سلطات محلّيّة، مجالس بلديّة، وزارات، جمعيّات أهليّة، جمعيّات بيئيّة، ومنظّمات دوليّة، … لذلك يتوجّب على الدولة تحديث الخطّة الوطنيّة الشاملة لإدارة النّفايات البلديّة الصلبة التي يُعمل بها منذ 2006، وذلك من خلال اتّخاذ سلسلة من التدابير، والقوانين التي تلزم الأفراد، البلديّات والجمعيّات البيئيّة وغيرها، للتعامل مع المخاطر البيئيّة بمسؤوليّة من أجل تحقيق الأمن البيئيّ للأجيال القادمة في لبنان:
- على مستوى الأفراد، على المعنيّين في الدولة إصدار قانون يلزم الأفراد باعتماد تقنيّة فرز النّفايات من المصدر، كخطوة أولى لحلّ مشكلة النّفايات، فعلى الأسر واجب فرز النّفايات في المنازل بالتنسيق مع البلديّات المحلّيّة بين نفايات عضويّة، بلاستيكيّة، ورق، وكرتون، وغيره…
- بعدها تقوم البلديات بتخصيص مستوعبات للنّفايات التي تمّ فرزها، ومعالجة كل نوع من النّفايات وفق الأصول العلمية والطرق التي تشكّل أقلّ ضررًا على البيئة. لذلك يتوجّب عليها توفير العدد الكافي من الحاويات المخصّصّة لرمي النفايات المنزليّة داخل التجمعات المنزليّة لتتّسع لاستيعاب كمّيّة كبيرة من النّفايات اليوميّة.
- تحويل البلديّات النّفايات العضويّة إلى أسمدة عضويّة: تعمد البلديّات إلى تجميع النّفايات العضويّة التي تشكّل تقريبًا نصف النّفايات المنزليّة، وضعها في أماكن مخصّصة لتسبيخها، وتركها مكشوفة لتبدأ البكتيريّا الهوائيّة، والحشرات، والديدان، والفطريّات بتحليل الموادّ العضويّة فيها، مع الحرص على تقليبها بين فترة وأخرى للسماح للأوكسجين بالتخلُّل بينها حتّى لا تلجأ البكتيريا إلى التحلّل اللاهوائيّ الذي يُنتج غاز الميثان، وغازات أخرى تسبّب رائحة غير محبّبة. عند انتهاء عمليّة التحلّل تتحوّل النّفايات إلى سماد حيويّ – يُسمّى أحيانًا الذهب الأسود – يمكن خلطه بالتربة، وتوزيعه بأسعار تشجيعيّة على المزارعين.
- إعادة تدوير النّفايات (Recycling): تقوم اتّحاد البلديّات بالتنسيق مع البلديّات المحلّيّة بجمع النّفايات القابلة للتدوير وتنشئ معامل لإعادة تدويرها بغية إعادة استخدامها لإنتاج موادّ جديدة، ومن مميّزات هذه الطريقة أنّها تقلّل من الحاجة إلى موارد جديدة، كما أنَّ الطاقة اللازمة لإعادة تدوير الموادّ تكون أقلّ من الطاقة اللازمة لإنتاج منتج باستخدام موادّ جديدة، والأهمّ من ذلك كلّه أنَّ إعادة التدوير تقلّل من كمّيّة النّفايات التي تتطلّب التخلّص منها بالحرق، أو الدفن. من أهمّ الموادّ التي يمكن إعادة تدويرها، المعادن، والزجاج، والورق، والبلاستيك.
- إصدار وزارة البيئة قرارًا تمنع من خلاله حرق النّفايات كوسيلة سهلة للتخلّص منها، لأنّ عمليّات الحرق في الهواء الطلق تتسبّب بأمراض خطيرة.
- أمّا بالنسبة إلى النّفايات التي لا يمكن تسبيخها وتدويرها، تقوم وزارة البيئة بتحديد مطامر لها وتُطمر وفق المواصفات العلميّة الصحّيّة.
- يتوجّب على وزارة البيئة، إعادة فتح ملفّ النّفايات السامّة في لبنان، ومعالجتها بطريقة علميّة دقيقة. لذلك يتوجّب على بلديّات القرى، والبلدات التي طُمرت في أراضيها النّفايات السامّة، تقديم طلب إلى وزارة البيئة، بإعادة استخراج النفايات ومعالجتها بطريقة علميّة تخفّف القدر الأمكن من خطورتها على البيئة الطبيعيّة وعلى السكان.
- توعية المواطنين بمخاطر النّفايات المنزليّة على الصحّة وعلى البيئة عن طريق الحملات التحسيسيّة من أجل الابتعاد عن السلوكيّات السلبيّة التي يقومون بها كرمى النّفايات في الأماكن غير المخصّصة لها، وتنشئة التلاميذ على النظافة، ورفع الوعي البيئيّ لديهم بخطورة النفايات المنزليّة.
- تشجيع الجمعيّات البيئيّة على توعية السكان على أهمّيّة المحافظة على نظافة البيئة، وتسليط الضوء على الانتهاكات البيئيّة في المناطق اللبنانيّة المتعدّدة.
خاتمة
إنّ الاهتمام بالبيئة، والموارد البيئيّة يعدّ أمرًا ضروريًّا للتنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة، حيث إنّ استنزاف الموارد البيئيّة التي تعدّ مقوّمًا أساسيًّا لأيّ نشاط اقتصاديّ كيفما كان نوعه (زراعيّ، صناعيّ، سياحيّ…)، سيكون له آثار سلبيّة على مسلسل التنمية الاقتصاديّة بشكل عامّ، ولهذا فإنّ أوّل أمر في مفهوم التنمية هو الحرص على ضمان التوازن بين النظام الاقتصاديّ، والنظام البيئيّ من دون استغلال مفرط للبيئة من جهة، مع مراعاة الأمن البيئيّ من جهة أخرى، من هنا كانت الحاجة ماسّة إلى دمج أمور البيئة، والتنمية في عمليّة صنع القرار.
ومن هنا يبرز مفهوم الإدارة البيئيّة الذي يحيل على كلّ ما يتقرّر من سياسات، وما يوضع من خطط واستراتيجيّات للبيئة، والموارد الطبيعيّة، والبشريّة، ويكون الهدف الرئيس منه تعبئة الطاقات البشريّة الضروريّة، والاستفادة من الخيرات البيئيّة الطبيعيّة وفق شروط لا تسمح بهدر هذه الموارد واستغلالها دون حاجة، بما يؤدّي إلى الانتفاع بها على المدى الطويل تحقيقًا لاستدامتها.
ولما كانت التنمية تعتمد اعتمادًا مباشرًا على استهلاك موارد الطبيعة، فإنّ زيادة معدّل التنمية دون دراسات متكاملة للبيئة تؤدّي حتمًا إلى استنزاف الموارد، وتدهور إنتاجيّة موارد أخرى، من هنا كانت أهمّيّة التخطيط البيئيّ (العمليّة التي بموجبها تتحوّل أهداف السياسة البيئيّة إلى استراتجيّات، وأهداف عمليّة على أساس تشخيص دقيق للنظام البيئيّ القائم، وهو إلى جانب عمليّات إدارة البيئة، وتدبير شؤونها التي تضطلع به الأجهزة المكلّفة بتنفيذ تلك الأهداف يعدّ أداة لتطبيق السياسة البيئيّة). فالتخطيط البيئيّ على هذا الأساس هو الذي يضع حماية البيئة في مجال الأولويّات استنادًا إلى العناصر التالية: الحفاظ على التكامل البيئيّ، السعي إلى تحقيق كفاية اقتصاديّة، والسعي إلى تحقيق العدالة، بالإضافة إلى الوعي الحاسم بضرورة حماية البيئة بكلّ أبعادها، مع خلق الحسّ البيئيّ عند جميع المتدخّلين، مخطّطين، أو منفّذين كانوا، وحتّى السكان المحلّيّين. وإلى جانب ذلك فإنّ التخطيط لا يمكن أن ينجح إلاّ مع وجود القدرات الوطنيّة الكافية، والمؤهّلة لمتابعة المتغيّرات البيئيّة وتقييمها بطريقة فاعلة من خلال التعرّف إلى المشكلات، ووضع الحلول المناسبة لها، وتنفيذ هذه الحلول بكفاءة عالية، ثمّ اتّخاذ التدابير اللازمة لضمان استمراريّة الوضع المرغوب فيه على مرّ الزمن، مع ما يستلزمه ذلك من إعداد للتشريعات، والمؤسّسات التي يعهد إليها بنشر الوعي البيئيّ وتعميمه(14).
لذلك التخطيط ضمن الركيزة الاقتصاديّة للتنمية المستدامة، يؤكّد على أهمّيّة الانتقال إلى الاقتصاد الأخضر، وأهمّيّة التدريب، وإعادة التدريب، والوظائف الخضراء. إنّ الاقتصاد الأخضر هو اقتصاد يشهد ارتباطًا بينه وبين المجتمع، والبيئة، وهو يتناول تحوّلًا في أنماط الإنتاج والاستهلاك، بحيث يتمّ تنشيط الاقتصاد وتنويعه، وخلق فرص العمل اللائق، وتعزيز التجارة المستدامة، والحدّ من الفقر، وتحقيق الإنصاف، وتحسين نوعيّة الدخل. (برنامج الأمم المتّحدة للبيئة، 2011). وللانتقال إلى الاقتصاد الأخضر في لبنان، يجب وضع استراتيجيّة للتنمية البيئيّة، تكون من أولويّاتها التّخلّص من النفايات بطريقة علميّة عبر فرزها، تسبيخها، وإعادة تدويرها. لذلك يجب على الحكومة اللبنانيّة وضع ملفّ النّفايات كأولويّة على جدول أعمالها، لأنّ مشكلة النّفايات إذا ما بقيت طرق معالجتها كما هي عليه في الوقت الراهن سوف تشكّل قنبلة موقوتة تنفجر كلّ يوم وتؤدّي إلى تدمير البيئة الطبيعيّة، وبالتالي إلى انقراض العديد من الحيوانات البرّيّة والبحريّة. لذلك الكلّ معنيّ في حماية الأمن البيئيّ في لبنان، وفي حلّ مشكلة النّفايات، لأنّ الأمن البيئيّ بات حقًّا من حقوق الإنسان يجب احترامه، ويستحقّ بذل الجهود لكي نترك بيئة نظيفة للأجيال القادمة.
المراجع
- أبو جودة، الياس، الأمن البيئيّ في إطار الأمن العالميّ، دائرة المنشورات في الجامعة اللبنانيّة، الطبعة الأولى، بيروت 2015، صفحة 445 – 446.
- Saglam, Gulshan Youssef, Reinforcing Stability and Development,in Arab Countries and The Middle East, 8th Regional Conference,19-23 February 2018, Lebanese Armed Forces, pages311.
- مهنا، إبراهيم سليمان، التحضّر وهيمنة المدن الرئيسة في الدول العربيّة: أبعاد وآثار في التنمية المستدامة، دراسات اقتصاديّة، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجيّة، العدد 44، 2000، صفحة 22.
- نجيب صعب، حصّة العرب من “ضرائب المُناخ”، مجلّة البيئة والتّنمية، العدد 174، أيلول 2012.
- الموقع الإلكترونيّ: https://www.lp.gov.lb/Resources/Files/ec2e3c4b-ac91-4c89-afe9-eaf63db6b77a.pdf
- World Bank,Cost Of Environmental Degradation, the case of Lebanon, June 2004).
- محمّد بشير العامريّ، الإنسان والبيئة: دراسة اجتماعيّة تربويّة (الطبعة الثالثة)، عمان، دار المأمون للنشر، صفحة 203 – 209.
- تقرير برنامج الأمم المتّحدة للبيئة حول النفايات الإلكترونيّة، نيويورك، الأمم المتّحدة، 22 شباط 2010، صفحة 34 – 46.
- المرجع: https://legal-agenda.com/article.php?id=
- جريدة الأنوار 1/ 2/ 1995.
- Zokra Latifé: Etudes des points de pollution dans le basin versant du nahr es salib publication de l’université Libanaise Beyrouth, 1995, p5.
- إحصاءات وزارة البيئة 2010.
- https://www.lebarmy.gov.lb/ar/content/%
- 65454https://www.ammonnews.net/article/