حقيقة الصراع في “وادي الغيوم” وتشظياتها الأيديولوجية
د. محمد عبد النبي حدرج*
تمهيد
لم تعد الكتابة مجرّد مرآة تعكس الحياة وقضاياها الاجتماعيّة، كما يرى باختين و”بأنّ الروايات مستودع مفتوح يمتصّ خبرات العالم ويختزنها”([1]). صحيح أنّها تنطلق من واقع يوميّ معيش، إلا أنّها تحلّق عاليًا في فضاءات الخيال الذي يتفرّع، من خلال رموزه وشيفراته إلى دلالات تُسائل القدر والوجود الإنسانيّ، وتستنطق الغريب واللامتوقّع، فتصبح شبيهة بالألغاز والأحلام بآلياتها في الترميز والتكثيف، وبقدرتها على تخطّي الحدود بين الواقع والتخييل.
بذلك تكون الرّواية قد استمدّت قيمتها من قدرتها على بناء رؤية معمّقة للإشكاليات التي يواجهها الفرد على مدار وجوده الإنسانيّ، واتصاله المجتمعيّ، وكأنّها، أي “الرّواية لا يمكن أن تكون إلّا نوعًا خاصًا من البحث والشّك، والقلق وإعادة النّظر في كثير من أمور حياتنا، واعتقاداتنا ومسلّماتنا بطريقة تمزج بين التخييل السّردي، والتأمّل الفلسفي”([2]).
والبحث الخاص برواية “وادي الغيوم” للكاتب والناقد علي نسر، هو محاولة تبيّن جدليّة ذات منطلقات ثقافيّة “أيديولوجيّة”([3])، على أساسها تشاد معظم أحداث الرّواية، وأهمّ تطوّراتها، وترصد تعدّد الأصوات في أداء خاص ومميّز لسرد يتلاءم ومعطيات الحكاية والتخييل. فيُلاحظ انجدال في النّص جسّده المسعى السياسي أو الفكري بالمسعى الغرامي، وهي ثنائيّة بين تأكيد الذاتيّة الجماعيّة والذاتيّة الفرديّة.
هذا ما يطرح إشكاليّة مهمّة تحاول الدراسة معالجتها، وفك رموزها وتضميناتها والتي تتمحور حول شخصيات الرواية، ورؤاها المتعارضة وما يعتمل فيها من صراعات واضطرابات، وما تفضي إليه من مواجهات تبنيها الرواية بين أيديولوجيات متنوّعة ومتفرّعة، وهذا “ما يراه (زيما) إلى المجتمع بوصفه مجموع جماعات متخاصمة بشكل ما، يمكن للغاتها الجماعية (السوسيولكتات) أن تدخل في نزاع في ما بينها”([4]). والأصوات في وادي الغيوم تتعارض وتتنافس عند تجسيدها قضايا إنسانيّة أو اجتماعيّة، وتأخذ في بعض الأحيان بعدًا حواريًّا وأيديولوجيًّا.
من أجل الوصول إلى هذه الأهداف، توسّلت الدراسة أداة منهجيّة من طبيعة مركّبة: نفسيّ – اجتماعيّ. ذلك أنّ الأدب يقدّم وجهة نظر حول واقع الإنسان ووسطه، والكيفيّة التي يدرك بها الإنسان هذا الواقع والرّوابط والعلاقات التي يقيمها معه.
المنهج النفسي
إنّ الأدب والتّحليل النفسيّ يشتغلان بالطريقة نفسها، فهما يقرآن الإنسان في حياته اليوميّة، وداخل قدره التاريخيّ، ويسعيان إلى بلوغ حقائق بالحديث عن الإنسان وهو يتحدّث. وهذه من العناصر التي يختزلها مضمون كتاب جان بيلمان – بويل – التحليل النفسي والأدب([5]). وبهذا تحضر الكتابة لتؤدّي وظيفة نفسانيّة، فالأنا الكاتبة لا تنجذب إلى الكتابة إلا في لحظة الوحدة والألم والانفصال، وتصدر عن الفقد والغياب.
وهذا ما يراه أرسطو في نظريّة التطهير التي رأى فيها أنّ العمل الدرامي مصدر تحرير النفس من الانفعالات الضارّة، وهذا ما قال به المحلّلون النفسيّون الحديثون الذين أكّدوا أنّ الفنّ رديف للعلاج النفسيّ، لأنّه يدلّ على غياب، يسعى إلى تحويله حضورًا. ولأنّه مصدر تعويضيّ لإشباع شهوات في مقابل حظر ثقافيّ([6]).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* دكتور في اللغة العربية وآدابها.
وفي هذا السّياق، ركّز المفكّر الفرنسي “لاكان” (1901-1981) على علاقة الذّات باللّغة، وربط نصّ فرويد النّظري بنصّ الأدب التخييلي ليقبض على الحقيقة([7])، وطوّر المنهج النّفسي بجمعه بين اللّسانيّة البنيويّة والفرويديّة، عادًّا أن اللّاوعي بنية اللّغة نفسها، فالإنسان لا يعلم وهو يصنع الأشياء بالكلمات، المدى الذي تصنعه به الكلمات. وعدَّ أنّ اللاوعي بيئة تؤثّر على أقوالنا وأفعالنا، فهو يثرثر، ويكشف عن نفسه في الأحلام، وتشوّش الذّاكرة، وزلّات اللّسان، وتكرير الكلام، والحركات الجسديّة، وعلينا وصفه وهو يتكلّم في مواجهة الكبت والرّقابة([8]).
المنهج الاجتماعي
أمّا المنهج الاجتماعي فيُعنى بقراءة الاجتماعي والأيديولوجي، والسّياسي والتّاريخي، والدّيني والثّقافي في الموجودات النّصيّة، بوصفها شكلًا غريبًا معقّدًا، وهذا لا يعني سقوط الأدبي والجمالي. وعلى الرّغم من قول الماركسيّة بنظريّة الانعكاس، وبأن الأدب هو مرآة الواقع، وبأنّ الكتابة تترجم حقائق زمنها، إلا أنّها على مستوى النظريّة، لا تقول بالانعكاس وحسب، إنّما الماركسيّة سياسة، وسياستها على صعيد الأدب تقول بقدرة الكتابة على تغيير مجتمعها، وهي تدعو إلى إنشاء أدب جديد لجمهور في حال تعديل وتغيّر، لذلك، لا تعدّ الكتابة انعكاسًا لواقع المجتمع القائم وحسب، إنّما هي خلق لمجتمع آخر يمكن أن ينشأ([9]). ويؤكد ذلك Badiou بمعادلته القائلة: “ليس النّص انعكاسًا للواقع، إنّه واقع الإنعكاس”([10]). يستند لوكاتش إلى هيغل وماركس، وينشئ نظريته على العلاقة الجدليّة بين الأدب والمجتمع، رابطًا التطوّر الأدبي بالتطوّر الاجتماعي، ويرى أنّ ثمّة شكلًا أدبيًّا يوافق كلّ مرحلة من مراحل التاريخ الاجتماعي([11]).
أمّا ميخائيل باختين (1895 – 1975) فيرى أنّ الشكل اللغوي يعطى دائمًا للمتكلمين في سياق تلفّظات محدّدة ما يفترض سياقًا إيديولوجيًّا ما، فلا تعود الكلمات كلمات ننطقها أو نسمعها وحسب، إنّما تصبح حقائق وأكاذيب، تحمل دائمًا معنى أيديولوجيًّا أو حدثيًّا([12]).
سيميائيّة العنوان
رواية “وادي الغيوم” تتحرّك في إطار واقعي، شديد الالتصاق والارتباط بالهموم اليوميّة والقضايا المركزيّة التي اتّسقت في مسار تاريخي أرخى بثقله وظلاله على المجتمع وصيرورته، وكأنّ الراوي يتحرّك في اتجاه معرفة الواقع، إضاءته وتجاوزه في آن معًا. هذا لا يعني أنّ واقعيّة الرواية أزاحت الرمز، ونفت وجوده، بل يمكن للقارئ أو الناقد أن يُخرج من واقعيّتها المستوى الرّمزي. فعنوان الرّواية يشكل علامة سيميائيّة قد تكون مُضلّلة، لأنّه لا يقدم لك مفاتيح الدلالة الكليّة، قبل الانتهاء من قراءة فصول الرّواية، بسهولة وبساطة، ولكنّه يسلّم القارئ تأويليّة، يصل منها إلى دلالات متعدّدة. “وادي الغيوم” عنوان يتألف من لفظتين، تشكّلان ثنائيّة ضدّيّة. الغيم يوحي بالعلو والارتفاع، وهو رمز سماويّ يفترض الارتقاء والسموّ، حيث الإتساع اللّامتناهي. أمّا الوادي فيوحي إلى الدنوّ والغور، هو رمز أرضيّ يفترض الهبوط والنزول إلى القعر حيث الضيق والاختناق. هذه الثنائيّة المتعارضة المتضادة، تقابلها ثنائيّات متكاملة ومتفاعلة، دورًا ووظيفةً، فالغيم يمكن تأويله بدلالة الظلّ والاحتجاب الذي يمنع النور، ويوحي بالألم والقهر، وكذلك الوادي الذي يمكن إلباسه تلك الدلالات والمعاني. هذا التأويل السلبي تقابله علاقة إيجابيّة، فالغيم بوصفه عنصرًا سماويًّا يقدّم المطر. وهو رمز القداسة والطهارة، لا تتحقّق وظيفته الممثّلة بالحياة، إلا عندما “يلتصق بالأرض رمز الدونية، فتتشكّل الينابيع والأنهار التي تنحدر في الأودية، وبذلك يكتسب الماء، بالإضافة إلى بعده الرّمزي، بعدًا واقعيًا، يتمثل بالحياة والانبعاث، وذلك بالاستناد إلى قوله تعالى ﴿وجعلنا من الماء كل شيء حيّ﴾([13])، فالأرض اليباب تتحوّل إلى جنّة غيداء، بفعل السماء. إن الكثافة التأويليّة الرمزيّة التي اكتسبها عنوان الرّواية يمكن أن تؤسس وتشير إلى الدلالات الكليّة التي يحاول البحث اقتناصها من تلافيف الرواية وشخوصها، والتي تتمثّل بجملة ثنائيات ثقافيّة وسلوكيّة، وأيديولوجيّة، تتشظّى أحيانًا، وتلتقي وتتضافر أحياناً أخرى. وهكذا يكون للمفارقة الجادّة بين مواقف الشخصيّات من الذّات والواقع دور في تصعيد الحركة الدراميّة للأحداث الروائيّة، خاصة مع وجود فضاء مكاني وزماني تتشارك فيه شخصيات الرواية مواقف حياتها، ومشاهد صراعاتها المتعدّدة، هذا الفهم للعلاقات بين العالم والحيّز الثقافي والاجتماعي كان استجابة لقراءة منهج يونغ عن اللّاشعور الجمعي، وكيف يعمل داخل النّصوص التي تتطرّق إلى جماعة وعالم واحد، وكيف يتشكل ذلك في صورة علامات دالّة مبنيّة ومنظّمة وفاق منطقها الخاص([14]).
حقيقة الصراع وتأثيم الذات
شهدت رواية “وادي الغيوم” وجودها على يد عدة رواة. تولّوا عمليّة السرد، وكانوا مشاركين في إنجاز الأحداث، ويبدو أنّهم تخرّجوا من مدارس ثقافية وأيديولوجيّة مختلفة إلى حدّ ما، على الرغم من أنّهم عانوا الأزمات نفسها، وتجرّعوا مرارة الحياة الواحدة، وعاشوا زمن الحروب والهزائم، بنكساتها وتردّداتها، وزيادة على ذلك فإنّ وجود المرأة من ضمن الرواة يفضي إلى مكانتها والدور الذي يجب أن تؤدّيه في مجتمع مثقل بالموروث. وقد شكّل حضورها أيضاً ثنائية جعلتها إلى جانب الرجل، لتكون ولادة الرّواية تشبه كل ولادة من ذكر وأنثى. وهذه الوظيفة تمثّل رؤية تنتمي إلى الحقيقة الطبيعيّة، والذي فعلته الرّواية من خلال رواتها أنّها أمسكت الشّعلة المعاندة والتي كانت متوارية تحت الرّماد، محاولة أن تنفخ فيها الحياة من خلال رؤى متقابلة ومتنوّعة ومتفرّعة، متولّدة من سياقات سابقة، أو آنيّة، أسّست عليها من أجل تشكيل وعي ثقافيّ اجتماعي مشرّع للشمس. وقد استحدث ميخائيل باختين مصطلح تعدّد الأصوات المذكور في كتابه عن دوستويفسكي، فذكر أنّ أخلاقيات وأفكار الشخصيّات تنبع من ذواتها ولا تفرض من الرّاوي، بحيث تعطي لكلّ شخصية استقلاليتها وحريّتها([15]). وفي المنظور النفسي اتجهت الرّواية الحديثة إلى تغليب المنظور الذاتي النّابع من الشخصيات، بحيث تقدّم المادّة القصصيّة من وعي شخصية، أو عدّة شخصيات، وليس من خلال منظور خارجي([16]). وفي المنظور الايديولوجي تتمثّل في الرواية بواسطة طرح القيم والأفكار والسلوكيات، من خلال عدّة شخصيات من دون أن يكون ذلك مفروضًا عليها من الخارج بشكل شبه تامّ.
يحدّد الفصل الأوّل، من الرواية، صوت يوسف بداية لمسارها، إنّه مثقّف، ينتمي إلى واقع اجتماعي وايديولوجي. لم يسع إلى الشهرة خوفًا من الآخر. الذي يختلف عنه، أو الذي لم يتخلّص بعد من رواسب المجتمع التقليدي الذي يقيّد التحرّك. “فأقدام الصيّادين الحاقدين التي تدوس سنابل الحقول”([17]) تشي بأن العالم الذي يراه يوسف معادٍ ومسكون برموز الاضطهاد، كما أنّ كلمة (صيّاد) تعود بالإنسان إلى حالته البدائية المسكونة بالحقد والعقد. لذلك يجد يوسف أن المخرج من الواقع الذي يعيشه يسير في خطّين، وهو شكل من أشكال الهرب الذي يحدُث عند فقْدِ القدرة على المواجهة. الخطّ الأوّل يسير ويمشي باتجاه عبث الجسد: “عوامل خوف تجعلني أستكثر علاقاتي بالنساء، لكي يقلّ الشّامتون بي، ولو علانيّة، خوفًا من افتضاح أمرهم وأمرهنّ، بل سيدافعن عنّي ويُسكتن أخوتهنّ أو أزواجهنّ، وهم يتحاملون عليّ حين تنزلق قدي أمام أوّل عثرة، يراها الآخرون جريمة ارتكبتها بحقّ الله والأخلاق والإنسانيّة”([18]).
الملاحظ في هذا السّياق أنّ يوسف شخصيّة متحرّرة تبحث عن المتعة والحريّة الشخصية، محاولًا التغلّب على الرّوادع الدينيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة التي تمثّل الأنا الأعلى والآخر، من خلال رفض قيمه التي لم تعد تجاوب بحسب رؤية الشخصيّة ووعيها، عن متطلّبات الحياة الحديثة. وتفصح هذه المواجهة عن ضعف وخوف، لأنّه استخدم وسائل مواجهة ترتبط بالعلاقات الجنسيّة والتي تظلّ دائمًا متخفّية وراء ستائر العيب، وجدران الحرام. على الرغم من قوّة حضورها وسطوتها “إنّ شباكي التي لا تخطئ هي نظراتي التي استخدمها بإتقان”([19]).
أمّا خط الخروج الثاني فيتمثّل بالكتابة: “دخلت إلى البيت، توجّهت إلى دفتري…”([20]). دفتره لا يفارقه، في إشارة إلى الموقع الذي تحتلّه الكتابة في مسيرة الخلاص التي اختارها يوسف، وما تضفيه من معانٍ ودلالات، وبعدٍ ثقافيّ معرفيّ، تتيح له التخلّي أو تخطّي الدوافع الغرائزيّة، أو تلافي الإستلابات المرتبطة بالجهل، لتشكّل محرّكًا ودافعًا في طريق الخلاص. “فالكتابة من أرقى المستويات الثقافيّة والمعرفيّة، لا تمثّل حلًّا فرديًّا وحسب، إنّما أيضًا حلًّا جماعيًّا”([21]).
يتمثّل التناقض في شخصيّة يوسف، من خلال صراع داخليّ، فهو فرديّ متحرّر، يسعى إلى إشباع رغباته، ممارسًا ساديّته على النساء، في الوقت الذي يكون فيه منتميًا إلى جماهير أمّته، ونضالاتها، ومشغولاً بقضاياها، وصراعاتها، وقد تحمّل مسؤولياته في النضال من أجل تحقيق أهداف أمّته، وغاياتها. وقد يكون محور الصراع الداخلي هو التخلّي، وهو التحوّل من عالم إلى عالم آخر، نقيض له، ويمكن تبيان هذا التحوّل من اقتباسات دالّة، ومنها: “أنا المتعب من ثقل الخيارات، الواقف أمام الحياة وجهًا لوجه كطحلب نابت في جوف صخرة نهريّة، لا يعرف سبب ولادته. أنا المشرّع وجهي لللاجهات، كأنّي ريح، ذهابها وإيابها متشابهان لا تعرف مرسى لوجهتها، وأنا لم أختلف عنها إذ يرهقني غياب القرار”([22]).
يوظّف الكاتب المونولوج الداخلي في سرد الوقائع والأحداث، أو وصف الحالات، فيرهق المونولوج الذات بالأسئلة الوجوديّة التي تعلن بداية رحلة التيه التي طرأت على حياة يوسف، فشكلت إزدواجيّة ومنعطفًا حادًا، حطّم بنيانه، لأنّ سؤال الهويّة والوجود يشيان بالانكفاء والانهزام. هنا يتحوّل يوسف من إنسان إلى رمز، وهي محاولة من الكاتب لرسم الحياة، وفتح النّص على احتمالاتها وظروفها المتعدّدة، وكشف عميق ومؤلم، عن أبعاد التشويه الذي تسبّبه الحروب والهزائم للأخلاق، والنفسيّة الإنسانيّة، والعلاقات بين البشر، فالحرب الأهليّة اللبنانية تأتي ضمن سلسلة حقب دمار وخراب، حرّفت البندقيّة المقاومة عن مسارها، وسبق ذلك حروبًا وهزائم خيّمت على المنطقة العربيّة منذ النكبة ومرورًا بالنكسة، وصولًا إلى الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982 حيث جاثت الدبابات الإسرائيليّة شوارع بيروت، موقعة هزيمة مدويّة، أسكتت من خلالها البندقيّة الوحيدة، ورأس الحربة في الصراع العربي الإسرائيلي، أي المقاومة الفلسطينيّة التي أيّدها وانضوى في صفوفها خيرة الأبطال اللبنانيين والفلسطينيين وغيرهم الذين خرجوا من عاصمة المقاومة بيروت عبر بواخر شارات النصر المزعومة. يفصح يوسف، عن ذلك، صراحة من خلال رواية احتضنها بين يديه، وكان يقرأها مرات ومرات ويقول: “كم تشبهني (وفاء) التي قضى الرحيل على شقاوتها وعفويتها في حبّ شبه محرّم أقامته مع فلسطينيّ غريب أسهم في خراب البلد كما يزعم أهلها في تلك الرواية المعنونة بـ (رقص على موسيقى الرصاص)، تفرك (وفاء) الوقت، وهي تنتظر منه رسالة كل شهر، وغالبًا ما كانت تشعر بإحباطه وهو يحدّثها بسطور متقطّعة كأنفاسه عندما كان يركض بين القنابل وزخّات الرصاص، عن أطول مشوار قطعه في البحر، وطلقات الإعلان عن نصر مختلق عبر شارة خدعته وكسرت أحلامه، تلعلع في الجوّ على هدير البواخر التي أقلّتها بعيدًا من الحدود…”([23]).
هنا فلسطين حاضرة في دلالاتها ورمزيتها، بكلّ ما تمثّله من وقع الهزيمة على مجتمع لم يتخلّص بعد من التدخلات الخارجيّة الاستعماريّة، ما يعني أنّ فلسطين تتحوّل إلى رمز للهزيمة العربيّة الشاملة. يتحرك هذا العامل في خلفيّة الرواية، بوصفه رمزًا صارخًا على ضرورة التغيير، والكاتب يقحمه ليبيّن أثره وتردداته، وخصوصاً على المثّقفين الحزبيين الذين ناضلوا طويلًا، لكنّهم شعروا بالخيبة، وتحوّلوا وانكفاؤوا من خطوط المواجهة الأماميّة، إلى مقاعد الضجر والتثاؤب، وهرب بعضهم إلى الخمرة والجنون والجنس: “رشفت ما استطعت من كؤوس النبيذ ومن سطور الرواية، ورحت مستلقياً بكلّ ما عليّ من ثياب فوق سرير اعتدت على صريره، وتكيّفت مع اهتزاززاته…” ([24]). وقد أكّد فرويد هذا التغيّر والانحراف عن المسار مبيّنًا “أنّ الهو يتعرّض إلى تغيير خاصّ بسبب العالم الخارجي الواقعي المحيط بالشخصيّة”([25]).
يواجه يوسف إشكاليّة معقّدة من قضايا التحرّر، تتداخل فيها القضيّة الاجتماعيّة السياسيّة اللبنانيّة، بالقضيّة العربيّة المركزيّة المتمثّلة بالصراع العربي الإسرائيلي الذي كان لبنان عامّة، والجنوب خصوصًا خطّ مواجهة رئيس وساحة له. ولذلك يظهر عامل معاكس يتمثّل من ممثلين، أوّلهما الواقع الاجتماعي السياسي اللبناني الذي أفضى إلى الحرب الأهليّة، وثانيهما العدو الإسرائيلي الذي اجتاح لبنان، وصولًا إلى عاصمته بيروت. وبالاستناد إلى هذا الاستنتاج يمكن القول إنّ شخصيّة “وفاء” في رواية (رقص على موسيقى الرصاص)، رواية يوسف المحبّبة، وملاذه الأخير، تمثّل رمز القضيّة الفلسطينية، القضيّة الإنسانيّة النقيّة، ويمكن التماس قداستها ونقاوتها من قول يوسف: “تخرج وفاء ببسمتها وانتظارها الذي أصبح مصدر قلق، لتكسف بنورها جميع الوجوه”([26]). وفاء أحبّت المناضل الفلسطيني بكل ما تملكه من عاطفة وإخلاص، بحثت عنه بعدما علمت أنه عاد من منفاه، وجدته، فصبّ عليها عدوانيّة قذرة، واغتصبها وصديقه، وقال لها: “الأرض حين تغتصب يصبح اغتصاب كل نسمة حياة متحرّكة سهلًا علينا، لم ينفعها الصراخ، أفرغ فيها الصديقان حمل الأيّام والسّفر والتّعب المعتّق، وانقلبا على ظهريهما، سالم ينشد بعض القصائد الثوريّة، وجلال ينادي أمّه أن تأتيه وتخلّصه من حبال الحياة الملتفّة حول عنقه”([27]).
من البديهي قراءة فعل الاغتصاب هذا، من حيث “هو تعبير مكتمل عن العدوانيّة الذكوريّة في حالتها الأكثر تفعيلًا”([28]). فيما لو كانت المرأة تُختزل في فعل الاغتصاب، إلى مجرّد أنثى، يصل المُغتصِبُ إلى ذروة نشوته، والثمل والغيبوبة من خلال تماهيه مع رغباته. وفعل الاغتصاب هذا يكتسي مزيدًا من الدلالة، ما دام فاعله لا يساوره ندم أو حرج. وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إنّ فعل الاغتصاب وبما يمثّله من عدوانيّة، ومتعة عنف يرتبط بالدونيّة، وقلق الخصاء، وهذا يدلّ على مدى الانهزام والقهر، “لأنّ الإنسان المقهور مضطر إلى اعتماد أوالياته الخاصّة في الدفاع عن خطر أناه، كأن يتماهى بالمعتدي ليجابه قلقه الخاص”([29]). فالمقاوم الذي تحوّل من شخصيّة سويّة إلى شخصيّة عصابيّة مريضة، يبدو أنّ تحوّله نتيجة انكساره وفشله، لأنّه خسر معركته وترك سلاحه الملاذ الأخير للخروج من النفق الذي دخله بفعل الاحتلال الإسرائيلي، فتحوّلت مقاومته المنكسرة إلى عدوانيّة تطال كلّ شيء يمكن التغلّب عليه. “فلا أحد يمارس العنف على الآخرين، خصوصًا على المرأة، إلّا إذا تلقّى عنفًا شديدًا أصاب منه شللًا في نموّ النزاعات الإيجابيّة”([30]). وبذلك تكون (وفاء) في الرواية تحمل ذاكرة فلسطين التي تواجه عاملين معوّقين، الأوّل خارجي يتمثّل بالعدوّ الاسرائيلي ومن يدعمه، والثاني داخلي يتمثل بالمقاومين الذين يحملون الفكر الانهزاميّ والذين أشار إليهم الكاتب من خلال التحاوريّة بين يوسف وأصدقائه، جاء فيها: “مهزوم من المهزومين القدامى”([31])، ولهذا أخذت الهزائم المتلاحقة، وآخرها الخروج من بيروت شكل الكابوس الذي يطبق على الشخصيّة، لأنّ تحقيق قضايا العصر الأساسيّة ترتبط بحركات التحرّر الوطني، وهذا ما خلصت إليه الماركسيّة من مبادئ، “بأنّ النضال سبباً للتطوّر والتحوّل التاريخيين”([32])، ويتأكّد ذلك من قول أحد مسؤولي الثورة حين سُئل عن علاقة الفكر بالسلاح، فقال: “الفكر يخرج من فوّهات البنادق”([33]).
هذه الاحتماليّة التحليليّة تشي أنّ الكاتب يسلّط الضوء على أيديولوجيا الهزيمة وعلى الذاكرة العربيّة التي تستظلُّ وتبشّر بها، ويقدّم مفتاحًا للخلاص من خلال شخصيّة يوسف الذي يمثل جيل الحرب، مقدّمًا الوعي النظري، ويرسم الطريق الموصل إلى خلاص الفرد والوطن، وما علاقته الوطيدة، وصداقته الحميمة مع “صلاح” إلّا تأكيد على خيار المقاومة، وتحريض الصامتين المهزومين على القول والفعل، ودفعهم من الهامش إلى دائرة الفعل، فتتضح أسرار العلاقة بين يوسف وصلاح اللذين يمثّلان ثنائيّة ضديّة تنشطر إلى ايديولوجيّتين مختلفين، صلاح إذًا هو الشرارة التي أعيدت إليها الحياة من تحت الرّماد، مشكّلاً بفعله الثوري المقاوم الأنا الأعلى بالنسبة إلى يوسف. والحال أنّ مثال الأنا يبدو وكأنّه يأتمر في مشروع التماهي البطولي، بأمرة الأنا الأعلى. “فالبطولة، بالمعنى الإيجابي للكلمة، هي عنوان للتطابق ما بين ما يريد أن يكوّنه المرء، وما يجب أن يكوّنه. والبطل، هو بالتعريف، إنسان أعلى يلبّي في آن معًا أقصى المتطلّبات النرجسيّة لمثال الأنا وأقصى المتطلّبات الأخلاقيّة للأنا الأعلى”([34]). إنّ يوسف يحبّ في المناضلين نضالهم، ويحمل لهم احترامًا خاصًا، على الرغم من المسافة الايديولوجيّة التي تفصله عنهم. يقول يوسف في تحاورية مع صلاح: “أنت يا صلاح الأنا الأعلى الذي أشعر برجفة كلّما اقترفت شيئًا خوفًا من لومك لي ومعاتبتك القاسية أحيانًا”([35]).
إنّ لغة الحوار المبسّطة تصف واقعًا بشكل تقريريّ، وتفضح حقيقة الصراع بين الرغبة في الإخضاع والمقاومة، وتؤكّد أنّ الروح التحرّرية الثوريّة مكينة في الإنسان، يمكنها أن تضمر تحت الظلم والاحتلال والتهميش والمجازر، لكنها تظلّ متوقّدة لا تنطفئ جذوتها. وبذلك يكون “صلاح” يمثّل حلقة جديدة، بفكره الايديولوجي الديني، من حلقات السّعي إلى الخلاص، وهو سعي المواطن اللبناني العادي. هذا يعني أن هذه الشخصيّة تؤدّي وظيفة اتخاذ قرار، “وإبرام عقد مع النفس على بدء سعي جديد يقتضي أن يتّخذ سياقًا من الاختبار”([36]) وهي بذلك تدافع عن المصير والوطن والكينونة الحقّ من دون تهيّب الموت، ولا يثنيها كلّ أشكال المحو وطمس الهويّة. ما يعني أيضًا أنّ حلقة جديدة تبدأ في مسلسل التحوّل بين زمنين، ويبدو ذلك جليًّا “في الموقف الذي أبداه صلاح من رواية يوسف: “أين أصبحت الأحداث؟ هل ألقوا أسلحتهم في المزابل والآبار والحواكير المهجورة واختباؤوا؟ أم لم يحن الوقت في الرواية بعد؟ استفزّ هذا الكلام يوسف، وكأنّه يقول له: إصحَ وانظر إلى زمن النصر اليوم. إصحَ وتخلّص من أطلال بطولات لمرحلة كان أصحابها يتلذّذون بالهزيمة أكثر ممّا يعني لهم النّصر، أطلقوا النّار في الهواء وهم منسحبون أكثر مما أطلقوه على الغزاة، أجابه يوسف مخفّفًا من حدّة توصيفه، لكنّه أكّد بزوغ فجر جديد: السلاح الذي رماه المقاتلون… لم يبتلعه التراب… وقبل أن يتحلّل التقطته أياد وعرفت كيف توجههه من جديد”([37]).
تبرز هنا دلالة تتمثّل في أنّ العامل الذات المقاوم يمثل الطليعة، ويسهم في التحوّل من أجل مواجهة العدوّ المحتل، وتحقيق الرغبة، ليس على مستوى الوطن فحسب، وإنما على مستوى الوطن العربي بعامة، لأنّ قضيّتهم المركزّية هي فلسطين، وهذا يشير إلى وجود روح المقاومة في أعماق الشّعب، والراسخة في وجدانه، على الرغم من الأحلام العربيّة القوميّة التي التبست أحيانًا، بسبب الهزائم المدويّة التي أسهمت فيها عناصر خارجيّة أو بسبب تشوّه داخليّ، أنجزته عناصر خارجيّة وداخليّة معًا. وقد بدا واضحًا من خلال المجتزأ، أنّ المحتل يتخلّى للمرّة الأولى في تاريخ صراعه مع العرب، على أرض احتلّها، وبسط سلطته وهيمنته عليها، ما يفيد أن المواجهة قادرة على تحقيق الانتصارات، والتحرير ممكن، وإن صعبًا، ويكلّف غاليًا، وقد تمثّلت هذه الطريق في مقاومة العدوّ المحتل التي تقتضي المعاناة، والصبر، والتضحية، وقد يصل الأمر إلى الشهادة، وهي الفداء الأمثل والأنقى. هذا الوعي لا يفهمه إلّا الذين انطوت في صفحات تاريخهم، وفي وجدانهم سلالات حافلة بالتضحية والفداء منذ مئات السنين، وهذا المستوى من الوعي تعبيرٌ عن وعي مجتمعي بهذا الأمر، يتجاوز خصوصيّة المكان والمرحلة، ليصير وعيًا بالخطر الإسرائيلي الذي يهدّد إنسانيّة الإنسان، وحقّه في الحياة. تتحقّق فرضيّة الاستشهاد، ويعلم يوسف من خلال اتصال هاتفي أن صلاح استشهد: “الأمر أنّ (صلاح) استشهد، وحين فتحنا وصيّته وجدنا أنّه قد أوصاك أنت بنفسك بأن تخبر زوجته وأهله”([38]).
شعر يوسف بخفقان، وسقط الهاتف من يده، لأن معاناة الموت تظلّ قاسية، مهما كانت دوافعه نبيلة. وهذا الموت ليس موتًا مجانيًا، إنه موت موظّف في التحرك إلى التغيير والولادة الجديدة، هو شبيه بالبذرة التي تسقط على الأرض، ثم تعود وتربو من جديد.
يمثل موت صلاح- القتل الذي يتّخذ صفة الاستشهاد- الحياة بكل أبعادها، وهو محرّك الناس إلى الفعل، وهذا يعيد إلى الذهن دلالة الشهادة في كربلاء التي تمثل الشجاعة والقوّة، والطريق إلى خلاص المعذّبين، وقدوة تُحتذى في كل زمان ومكان، يستبدُ فيه طاغية، وتُسلب فيه حقوق، فالفداء الذي اختاره صلاح يمثل أيضًا الصّلب، حيث سلك طريقًا تشبه طريق المسيحيين الأوائل. وهو موت نقيض للموت الذي يجعل الإنسان العادي الضعيف لعبة لقوّة قاهرة، تفعل به ما تشاء، وتجعله خارج دائرة الفعل. والمثال على ذلك ما جاء على لسان يوسف: “يا لهول هذا المنظر الذي أدمنّا رؤيته، إنها عائلة من اللاجئين، يتربّص بهم الموت، يهربون من الرصاص، فتبتلعهم البحار، أو يموتون جوعًا تحت نيران الطائرات والقصف بعد أن تصبح أضلاع الصدور ناتئة كصخرة بحرٍ تلمع من بعيد”([39]).
الايديولوجيات وتشظيّاتها
إنّ من أهم آليات الأيديولوجيات تكمن في إحاطتها بمعتنقيها، فالوجود خارج الأيديولوجيا يعني المقدرة على تحويلها إلى موضوع، ومن ثمّ القدرة على كشف تناقضاتها، وزمنيّتها، وارتباطها بمصالح طبقيّة معيّنة، إذن لا تهمُّ السلامة “النظريّة المنغمس” في الأيديولوجيا، وإنما تهمّه في المقام الأول ما تحقّقه له على المستوى الفردي من تبرير ذهني، يصنع توازنه النفسيّ والأخلاقيّ عمومًا، وما تحقّقه للفئة أو الطبقة أو الجماعة الاجتماعيّة أو القوميّة من حفاظ على تماسك البنيان الاجتماعي، ثمّ فإنّ الأيديولوجيا تمثّل على حدّ تعبير (ألتوسير) الإسمنت الاجتماعي الذي ينبثّ في بنيان المجتمع، فيقيه السقوط والتضعضع، ذلك لأنّ الأيديولوجيا تعني التحقّق العملي للفاعليّة Subjectivity([40]).
رواية “وادي الغيوم” تتكوّن في مجال القيم، محدّثة عن إرادات راكدة وخارج دائرة الفعل، أو متحرّكة ترى طريقًا نحو الخلاص، محدّثة عمّا هو موجود، ملمّحة عن واجب الوجود. لتبدأ دورة جديدة تستمدّ قواها من شروط بديلة، وحسابات تختلف قيمها ودوافعها. لذلك، تقول الرواية بجملة من التناقضات الأيديولوجيّة والتي تنطلق من الهزيمة، لتعيد على أساسها تقييم جانب مهمّ من التجربة الاجتماعيّة والسياسيّة. والنقطة الأيديولوجيّة مشروعة، لأنّ أي عمل فنّي لا يستطيع الانطلاق من فراغ. لذلك فإنّ شكل تداخل المنطلق الأيديولوجي مع الحركة الداخليّة للعمل الإبداعي هو الذي يحول العمل الفنيّ من مجرّد نقطة انطلاق أيديولوجيّة إلى حقل صراع([41]). وقد اختار الكاتب العديد من الشخصيّات الروائيّة لتمثيل هذا المسار، يوسف الشخصيّة الحزبية المتأثر بالفكر المادّي، ينهض بمسار يشي بالغياب والتحوّل: “وجدتُ نفسي أرسم مركبًا وشراعًا فوقه يقترب من التمزّق”([42])، هذا المحكي يعزّز مسار الخيبة وخطاب الفشل، وهو إشارة إلى أداة الهزيمة، الباخرة التي أقلّت المقاومين. وتمزّق الشّراع يشير إلى الخطأ في الاتجاه، وربّما الضّياع، ويتعارض ذلك مع النظريّة السياسيّة اليساريّة التي رسمت لنفسها طريقًا واضحًا، لا يبقى أمام متّبعيها إلّا التنفيذ، هذه القناعة أنتجت حساسيّة عانى المثقّف من أوجاعها، خصوصًا أنّ المسافة القائمة بين القول والفعل ليست قرارًا يتّخذ، إنها أعقد من ذلك بكثير([43]). وقبل بناء الجسر الذي يعبره الإنسان إلى وطنه، يجب عليه تكوين الجسر الذي يعبره إلى نفسه، وفي ظل هكذا مناخ يتحوّل الحزب إلى نظريّة عاجزة عن الفعل، فيغترب عن واقعه.
إن المغالاة في النزعة المشهديّة، أمام عرض مكرّر لحالات الضعف والإخفاق: “ليس من العدل والمنطق أن تكون النتائج هي ما نفكّر فيه فقط، فما كان لهذه العاصفة أن تردّ من اجتاحتهم إلى الوراء، وأن تخلع أبواب بيوتهم التي كانوا مقتنعين بأنّها متماسكة وقويّة، وأن تبعثر دفاترهم وتقتلع أشجارهم، لولا حصل الانتباه قبل هبوبها فوضعوا بتشابك الأيدي والأجساد والفكر سدودًا منيعة في وجهها”([44]). إنّ هذا العرض ليس بقصد إظهار الضعف، بل بقصد إظهار القوّة من خلال وضع الإمكانات الماديّة والفكريّة، على تنوّعها واختلاف مشاربها، وتضافرها جميعًا، لتشكّل قوّة متماسكة ومعوّقًا أمام التحدّيات. لذلك يسير الحدث الروائي في زمن موضوعي. وبأسلوب ممسرح تلتقي مجموعة من الشخصيّات الواقعيّة في المقهى، وغير مكان، ويأتي الحوار الفكري والايديولوجي، المتنوّع بين الماديّة الماركسيّة والقوميّة والإسلاميّة، وكذلك الحوارات المتكرّرة بين يوسف وصلاح، وكأنه هروب إلى الأمام، وهي محاولة للهروب من حال التأزّم والضياع إلى مكان صالح للزرع والحياة. يقول صلاح في نهاية إحدى الجلسات الحواريّة: “أنا الوحيد بينهم من يحمل فكرًا دينيًّا، وينبغي أن أكون مثالًا للجدال بماهو أحسن وأن يكون لي أسوة بالأنبياء والأئمّة والصحابة”([45]).
من خلال هذه الحوارات الجدليّة، يتمكّن الكاتب من تسليط ضوء على الواقع السياسي والفكري وتشظياته الأيديولوجية في البيئة اللبنانيّة التي تتحلّق في فضاء الممانعة ورفض الاحتلال، وكل أشكال الظلم، وجاءت هذه الحوارات محمّلة بأصوات الغير، فالصوت عند باختين ليس تعبيرًا فرديًّا نابعًا من الذات الفرد، ولا هو في الطرائق الجماعيّة التي تصدر من خارج الشخص، إنّما يمثّل ذلك التقاطع بين الاستعمال الفردي للكلمات واستعمالاتها السّابقة التاريخيّة.
وهكذا، باتت الحواريّة مترادفًا لتعدّد الأصوات، وتاليًا لتعدّد وجهات النّظر([46]). وإذا كان الكاتب يكشف عن تناقضات ايديولوجيّة اتخذت منحى ثنائيًا بين الماديّة والدينية، في آخر فصول الرواية، والمثال على ذلك النقاش المحصور بين حسام وصلاح. وبنتيجته يقول حسام: “إنّ ماركس دافع عن الدين، وهو لا يدعو إلى إلغائه بل إلى إلغاء الظروف القاهرة التي جعلت النّاس يتعلّقون به كوهم”([47]). إذا كان الكاتب يكشف عن ذلك، أو يتلطى خلف شخصيّات تتبنّى الفكر المادّي، وتدافع عن الماركسيّة الماديّة، وتدعو إليها بوصفها انعكاس الواقع، حيث “ورث ماركس عن هيغل فكرة العلاقة الجدليّة بين المادة والفكر، لكنّه أجرى تعديلًا لهذه العلاقة، فنسب الأوّلية للمادّة والواقع، وحسب أنّ الأفكار الحاصلة في الوعي هي انعكاسات الأشياء والأحداث الواقعيّة”([48]). إذا كان الكاتب يكشف عن ذلك فإنّ النّص، على غير قصديّة الكاتب يكشف عن فجوات النّظريات الأيديولوجيّة، ويظهرها منقلبة ضدّ نفسها: “كلّما أنهيت كتابًا، تشعر بأنّ اتخاذ قرار الانتماء إلى نظريّة معيّنة قد حان، فيأتي كتاب آخر لينسف لك هذا التوقّع، ويرميك في شباكه المناقضة فترى نفسك مجدّدًا، على مقاعد الدراسة في المراحل الأولى من التعليم”([49]).
هذا الإعلان يشي بأنّ النظريّات، ومنها الماديّة، تجعل الإنسان يعيش اضطرابًا داخليًا يدفعه إلى البحث الدائم عن حقيقة ما، والتخلّص من المفاهيم الفكريّة والنظريّة المشوّهة، والحال، “يجد الأنا نفسه، في موقع دفاع أمام قوّتين: أخطار العالم الخارجي من جهة، والقوّة الغريزيّة العنيفة الصادرة عن الهو من جهة أخرى”([50])، هنا يتوجّه الإنسان إلى عالم الغيب بوصفه قوّة يلجأ إليها عندما يشعر بالضعف، أي الامتثال إلى السّماء، وسيطرة الجانب الروحي على الجانب المادّي الذي يعزّز إنسانيّة الإنسان. وهذان العاملان يؤدّيان، أيضًا، وظيفة الرؤية إلى الحقيقة الطبيعيّة، ويلبّيان في الوقت نفسه رغبة الإنسان، في الأيديولوجية الماركسيّة، على مستوى المناضل، حيث يكون “المرسل إليه هو الإنسانيّة”([51]). يتّخذ هذا التحوّل في الرواية بعدًا روحيًّا يتمثل في العديد من الومضات السرديّة، يقول يوسف: “خرج من شفتيّ استغفار غريب…/ وقفت قرب النافذة فوجدت زرقة السّماء تعد بيوم جديد… شاهدت نورسًا يحطّ فوق سور أمام البحر، ينظر إلى أترابه وهي تلعب معلنة عن جمال الحياة، تخيّلته شيخًا حكيمًا يراقب الأجيال ويحاول أن يسيّرها بما يجعلها تتجنّب السقوط”([52]). لهذا البحر ملامح أسطوريّة، يمكن تأويلها من زاوية نفسيّة، والمرئي، من زرقة السماء، وطيور النّورس والأمواج رمز إلى اللامرئي، يشير إلى حالات نفسيّة داخليّة، فالبحر هو الأزل، وقد يكون تعويضًا عن الشعور بالأبوّة المفقودة. ومهما يكن من أمر، “فإنّ الماء بالضديّة مع التراب عنصر الدونيّة ورمزها يبدو كالهواء الذي هو مادّة السّماء عنصرًا صالحًا لمقام الآلهة أو للمتألهين من البشر”([53]).
لم يتوقّف يوسف عند هذا الحدّ بل تعدّاه إلى مازوشيّة كانت قد رفضتها الماركسيّة على لسان حسام، بأنّ الدين أفيون الشّعوب، فاستعان يوسف بالبكاء، والصبر، والمخاض بوصفها طريق خلاص وسعادة، فيقول: “إنّ حلاوة البسمة لا تكون إلّا بعد بكاء، فالنهر لا يمكن أن يسير إلّا بعد تألّم الغيم وتشققه، ليس للعيد طعم إن لم يكن محفوفًا بالتّعب والعطش والصبر، والمحارة لا تكشف عن جنينها اللؤلؤي إلا بعد مخاض وتفسّخ الصدفة وصراخ الولادة”([54]).
الرّاوي هنا، أمام الطبيعة الأمّ، رمز الولادة والتجدّد، تخطّى فرديته التي قد تكون متأرجحة بين المنحيين المادّي والديني، ليختزل وعي البيئة الاجتماعيّة التي ينتمي إليها، وهذه الرؤية، هي وعي القيم المثلى، إنها أقصى الوعي الممكن في بيئة استطاعت بالاعتماد على روحيّة الإنسان، ومساره التاريخيّ القيمي. أن تحقّق انتصاراتها، وحضورها الإنساني. وتخطّي فرديّة الكاتب لا يعني بالضرورة انحيازه إلى الايديولوجية الدينيّة، إنما تقديمها على أنها تمتلك القدرة على تحقيق التوازن النفسي، “لأن الإيمان يتحقّق عبره الإنسجام بين الإنسان والوجود “الطبيعة والناس والغيب”([55]). وصلاح مثل بحضوره، ثم بشهادته، شاهداً على النموذج القادر على بناء جسر الخلاص داخل الذات وخارجها.
الخاتمة
يتبيّن من خلال هذه الدراسة أنّ رواية وادي الغيوم تقوم بنيتها على ثنائيّات ،وتناقضات فكريّة وايديولوجيّة ، مثّلتها أصوات الرواة .تبدأ ملامح هذه الثنائيّة من عتبة النّص الأولى ، فالعنوان يشكّل ثنائيّة متعارضة ، لكنّها متآلفة في الوظيفة الطبيعيّة الممثلة بالحياة . ثمّ يأتي متن الرّواية ليفصح عن صرعات الذّات والآخر ، فتتكشّف أسباب الخيبة والفشل ، والهزائم المتلاحقة التي لحقت بالانسان والمجتمع . لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل التحوّل ، تتمثّل بالتغيير الايجابي ، وفي التزام قيم الانسان ، والثورة على النّفس ، وهي التي ينبغي أن تشكّل جسر خلاص ، يمكن من خلاله العبور الى الوطن . أمّا قضيّة المرأة وعوالمها الممزّقة ، وصراعاتها التي تشي بالقهر والتهميش ، فيمكن أن تشكّل قضيّة محوريّة لدراسة نقديّة لاحقة ، تسلّط الضوء على واقع المجتمع ، وقيمه ، وثقافاته السائدة ، الموروثة أو المستحدثة .
مكتبة البحث
القرآن الكريم.
المصادر والمراجع العربية:
- أيّوب، د. نبيل: نص القارئ المختلف (2)، سيميائيّة الخطاب النّقدي، بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، ط1، 2011م.
- بدوي، محمد: الرواية الجديدة في مصر، دراسة في التشكيل الايديولوجي، بيروت: المؤسسة الجامعيّة للدراسات والنّشر والتوزيع، ط 1، 1993م.
- تادييه، جان ايف، ترجمة: منذر عيّاشي، النقد الأدبي في القرن العشرين، حلب: مركز الإنماء الحضاري، ط 1، 1994.
- خوري، إلياس: الذاكرة المفقودة، دراسات نقديّة، بيروت: دار الآداب، ط 2، 1990.
- زيتون، د. علي: في مدار النقد الأدبي، بيروت: دار الفارابي، ط 1، 2011م.
- زراقط، عبد المجيد: بناء الرواية اللبنانية، ج1، بيروت: دائرة منشورات الجامعة اللبنانية، لا ط، 1999م.
- سويدان، سامي: فضاءات السرد ومدارات التخييل، الحرب والقضيّة والهويّة في الرّواية العربيّة، بيروت: دار الآداب، ط 1، 2006م.
- الطحاوي، ميرال: محرّمات قبليّة، بيروت: المركز الثقافي العربي، ط 1، 2008م.
- طرابيشي، جورج: الروائي وبطله، مقاربة اللاشعور في الرواية العربية، بيروت: دار الآداب، ط 1، 1995م.
- طنّوس، جان نعّوم: العنف في الرّواية والقصة العربيّة، ثنائية الحبّ والقهرن بيروت: دار النهضة العربيّة، ط 1، 2012م.
- غانم، محمود: تيّار الوعي في الرّواية العربية الحديثة، دراسة أسلوبية، بيروت: دار الجيل، القاهرة: دار الهدى، ط 2، 1993.
- المودن، حسن: الرّواية والتحليل النصّي، قراءات من منظور التحليل النّفسي، الرباط: دار الأمان، الجزائر: منشورات الاختلاف، بيروت: الدّار العربيّة للعلوم ناشرون، ط 1، 2009م.
- النابلسي، محمد أحمد: فرويد والتّحليل النّفسي الذّاتي، بيروت: دار النهضة العربيّة للطباعة والنّشر، لا ط، 1988م.
- نجم، خريستو: في النقد الأدبي والتحليل النفسي، بيروت، دار الجيل، ط 1، 1991.
المصادر والمراجع الأجنبية:
- Bakhtin, M, Problems of Dostoevskgls Poetics, trans. R.W, Rostel, Ardis Press, Ann Arbd, 1973.
- Barsky Robert, Introduction à la théorie littéraire, presses de l’université du Québec, 1997.
- Bergez Daniel, Barbéris pierre, Introduction aux méthodes critiques pour l’analyse littéraire, Paris, 1990.
[1]- أيّوب، د. نبيل: نص القارئ المختلف (2)، سيميائيّة الخطاب النّقدي، بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، ط1، 2011م، ص 93.
[2]– المودن، حسن: الرّواية والتحليل النصّي، قراءات من منظور التحليل النّفسي، الرباط: دار الأمان، الجزائر: منشورات الاختلاف، بيروت: الدّار العربيّة للعلوم ناشرون، ط 1، 2009م، ص 125.
[3]– الايديولوجيا: نشأت الايديولوجيات بعد رفض نظام القيم الكونين ونشوء القيم الخاصة بكل طبقة اجتماعية… أنظر: نصّ القارئ المختلف (2)، د. نبيل أيوب، م. س، ص 79.
[4]– أيوب، د. نبيل: م، س، ص 100.
[5]– كشف المؤلّف في مقدّمة كتابه أهمّ ما يميّز طرفي الثنائيّة: التحليل النفسيّ / الأدب، فبيّن أنّ أهميّة التحليل النفسي تكمن في خلخلته بعض المسلّمات. أنظر: المودن، حسن، الرّواية والتحليل النصي، م. س، ص 13.
[6]– أيوب، د. نبيل: م. سن، ص 36.
[7]– Barsky Robert, Introduction à la théorie littéraire, presses de l’université du Québec, 1997, p : 167.
[8]– أيوب، د. نبيل: م. س، ص 32.
[9]– م. ن، ص81.
[10]– Bergez Daniel, Barbéris pierre, Introduction aux méthodes critiques pour l’analyse littéraire, Paris, 1990, p : 138.
[11]– تادييه، جان ايف، ترجمة: منذر عيّاشي، النقد الأدبي في القرن العشرين، حلب: مركز الإنماء الحضاري، ط 1، 1994، ص 115.
[12]– أيوب، د. نبيل: م. س، ص 93.
[13]– القرآن الكريم، سورة الأنبياء، الآية 30، ص 324.
[14]– الطحاوي، ميرال: محرّمات قبليّة، بيروت: المركز الثقافي العربي، ط 1، 2008م، ص 17.
[15]– Bakhtin, M, Problems of Dostoevskgls Poetics, trans. R.W, Rostel, Ardis Press, Ann Arbd, 1973, p: 82
[16]– غانم، محمود: تيّار الوعي في الرّواية العربية الحديثة، دراسة أسلوبية، بيروت: دار الجيل، القاهرة: دار الهدى، ط 2، 1993، ص 63.
[17]– نسر، علي: وادي الغيوم ص5.
[18]– م. ن، ص 5.
[19]– م. ن، ص 8.
[20]– م. ن، ص 10.
[21]– سويدان، سامي: فضاءات السرد ومدارات التخييل، الحرب والقضيّة والهويّة في الرّواية العربيّة، بيروت: دار الآداب، ط 1، 2006م، ص 106.
[22]– نسر، علي: م. س، ص 13.
[23]– م، ن، ص 13.
[24]– م. ن، ص 13.
[25]– النابلسي، محمد أحمد: فرويد والتّحليل النّفسي الذّاتي، بيروت: دار النهضة العربيّة للطباعة والنّشر، لا ط، 1988م، ص 46.
[26]– نسر، علي: م. س، ص 86.
[27]– م، ن، ص 146.
[28]– طرابيشي، جورج: الروائي وبطله، مقاربة اللاشعور في الرواية العربية، بيروت: دار الآداب، ط 1، 1995م، ص 96.
[29]– نجم، خريستو: في النقد الأدبي والتحليل النفسي، بيروت، دار الجيل، ط 1، 1991، ص 72.
[30]– طنّوس، جان نعّوم: العنف في الرّواية والقصة العربيّة، ثنائية الحبّ والقهر، بيروت: دار النهضة العربيّة، ط 1، 2012م، ص 83.
[31]-نسر، علي: م. س، ص 53.
[32]– أيوب، د. نبيل: نصّ القارئ المختلف (2)، م. س، ص 78.
[33]– نسر، علي: م. س، ص 36.
[34]– طرابيشي، جورج: م. س، ص 85.
[35]– نسر، علي: م. س، ص 65.
[36]– زراقط، عبد المجيد: في بناء الرواية، ج 1، ص 247.
[37]– نسر، علي: م. س، ص 66.
[38]– م. ن، ص 228.
[39]– م. ن، ص 131.
[40]– بدوي، محمد: الرواية الجديدة في مصر، دراسة في التشكيل الايديولوجي، بيروت: المؤسسة الجامعيّة للدراسات والنّشر والتوزيع، ط 1، 1993م، ص 186.
[41]– خوري، إلياس: الذاكرة المفقودة، دراسات نقديّة، بيروت: دار الآداب، ط 2، 1990، ص 98.
[42]– نسر، علي: م. س، ص 163.
[43]– زيتون، د. علي: في مدار النقد الأدبي، بيروت: دار الفارابي، ط 1، 2011م، ص 94.
[44]– نسر، علي: م. س، ص 132.
[45]– م. ن، ص 63.
[46]– أيوب، د. نبيل: م. س، ص 94.
[47]– نسر، علي: م. س، ص 181.
[48]– نبيل، د. أيوب، م. س، ص 75.
[49]– نسر، علي: م. س، ص 171.
[50]– النابلسي، محمد: فرويد والتحليل النفسي الذاتي، م. س، ص 81.
[51]– نبيل، د. أيوب: م. س، ص 104.
[52]– نسر، علي: م. س، ص 166.
[53]– طرابيشي، جورج: م. س، ص 140.
[54]– نسر، علي، م. س، ص 167.
[55]– سويدان، سامي: ص 93.