جداريات مدينة طرابلس: قراءة أنتروبولوجيّة لدلالاتها
هالة محمود منقارى)[1] (
لطالما ظهرت الكثير من الخطوط، والرّسوم، والخربشات هنا وهناك، ودومًا ما نقرأ العبارات والحكم والتّعليقات على جدران المدينة، وكثيرًا ما يعمد سكان المدينة على توقيع أسماءهم وأسماء من يحبون على بعض الجدران، أو يرمزون من خلال الأحرف إلى علاقات حب، كما تتضمن الجدران الموزعة في أماكن مختلفة من المدينة صورًا لزعماء معاصرين ولشّخصيات سياسية مشهورة توفّت فخلدت ذكراها على أحد جدران المدينة، لطالما تحولت جدران المدينة إلى مساحات للتّعبير عن وجع النّاس وتعبهم.
موضوع البحث
اشتُقت كلمة “جدارية” من الجذر اللاتيني Murus الّذي يعني الجدار، وهي تعني قطعة فنيّة منفذة على جدار أو على قطعة قماشٍ أولاً، ثم تم تثبيتها على جدار، وهو التعريف الفنّيّ([2])، ونعني بالجداريّات، الأعمال الفنّيّة، وأشكالها من التّعبير الكتابيّ المنفذة مباشرة على جدار في المجال العام من الحيّز المدينيّ، وهو تعبير فنيّ قابل للملاحظة المباشرة وشرطه الأساسي، أن يظهر الرسم الفنّيّ والتّعبير الكتابي على الجدران في المجال العام من المدينة بأشكال مختلفة، ويصبح هذا النّمط من التّعبير الشّعبيّ والشّبابيّ سلاحًا في وجه التّحول المدينيّ، وشكلًا من الرفض الصامت أو حتى من التّعبير الفنّيّ عن الذات سواءً اتخذ شكل التّخطيط (إمضاء أسماء، أحرف مختلفة من الأشد بساطة إلى الأكثر تعقيدًا)، أو شكل الرّسم (بأحجام متعدّدة من الأصغر مساحة إلى الأكبر من حيث المقاييس التي يشغلها الرسم). يشكل التّعبير على الجدران في المجال العام تحدّيًا ذا أبعادٍ كثيرة، لأنّه أولاً يستوقف المارة المجهولين، ويسترعي انتباههم بالحدّ الأدنى، ولأنّه تاليًا يتخذ مرجعيته من الإرادة الشّعبيّة في السّلطة التي تمارسها، ولو بشكلٍ بسيط، ولأنّه أخيرًا يسوق لفعل الفنان – الفاعل، ولموهبته في مجالٍ عام ظاهر للعين.
تأخذ بعض الخربشات على الجدران شكل التّعبير الذي يُنظر إليه على أنّه غير ذي قيمة عادة، وأحيانًا يرتفع التّعبير في هذا إلى مستوى الإنتاج الفنّيّ المحترف، وهو ما نشهده في الآونة الأخيرة في مدينة طرابلس، في العقدين الزّمنيين الأخيرين تحديدًا، لذلك تبدو هذه العمليات معقدة ومتنوعة، وتظهر الحاجة إلى قراءة دلالاتها عندما نقارب الثقافة المجتمعيّة، ونحاول فهم فعل الاجتماع المدينيّ([3])، ففي الوقت نفسه تظهر الجداريّات بتعدّد أشكالها على أنها جديدة، ومبدعة، ولكنها شائعة، ومعروفة سابقًا أيضًا في مدينة طرابلس، ولو بأنماطٍ متعدّدة، وهي تعطي شيئًا فشيئًا، وتفسح المجال أمام العديد من التّعريفات، والشّروحات، والتّعليلات، سواءً من جهة الباحثين الاجتماعيين، أو الأنتروبولوجيين، أو الفنانين. رورو
الجداريّات، مصطلح عام، يُستخدم للتّمييز بين التّعبيرات الكتابيّة والرّسومات الجداريّة التي تنتجها الطبقة الشّعبيّة عامةً، وبين الأعمال الفنّيّة الكلاسيكيّة التي ينتجها الفنانون على وسائط أخرى. ومن المهم التأكيد على أنّ الجدران تبقى هي الوسيط الأساسيّ، بيد أنّ من الممكن أن تُستخدم وسائط أخرى أيضًا للتّعبير الشّعبي هذا. أما في المعاني التي يرمز إليها الجدار، كوسيط لهذا التّعبير موضوع البحث، فيظهر توجهان بحسب الجهة التي نحاول شرح رمزيتها، في الجهة الدّاخلية للجدار تظهر معاني الحماية والانغلاق، وفي الجهة الخارجيّة له معاني الملكية والعمومية([4])، ترسم الجدران حدود مدينة طرابلس التّاريخيّة القديمة التي بُنيت بهدف تأمين الحماية والوقاية للسّكان، وبهدف فصل عالم الدّاخل عن عالم الخارج. أمّا بعد توسع مدينة طرابلس من كل جهاتها وتشظي حيزها العمرانيّ شمالًا وجنوبًا، شرقًا وغربًا، ازداد حكمًا عدد الجدران في جميع نطاقات المدينة ، وهو ما منح بعض الفاعلين المجتمعيين وسائط جديدة للكتابة والتّعبير عليها.
الجداريّات في التّاريخ
الجداريّات أقدم أشكال التّعبير التي عرفتها البشريّة، فقبل الكتابة رسم الإنسان، وقبل اختراع الورق، استخدم جدران الكهوف ليعبر عن حياته اليوميّة مستفيدًا من طبيعة سطوح الجدران لينقل الواقع الذي يعيش فيه، قبل الأشكال من التّعبير التي نعرفها في عصرنا الحاليّ، وجدت أنواع من الجداريّات منذ عهد الإنسان العاقل البدائيّ، يظهر الرّسم على الجدارن كفعل يخاطب الحواس، لاسيما حاسّة البصر، وكأقدم أشكال الإبداع التي من الممكن رؤية آثارها منذ الزّمن القديم، فقد بينت الأبحاث الأركيولوجية وجود العديد من الرّسومات الجداريّة التي تعود إلى أقدم العصور، وقد عُرف هذا النّمط من التّعبير باسم فن الكهوف([5])، وقد ترك الفنان- الفاعل، وهو فنانٌ مجهول الهويّة، في أقدم إنتاجٍ فنيّ له رسوماتٍ من وحيّ حياته اليوميّة، تعود الرّسومات التي عثر عليها في إسبانيا مثلًا إلى ما قبل التّاريخ المكتوب، وهي رسومات رائعة الجمال لثيران على جدران كهف ” ألتاميرا ” وغيره من الكهوف، في فرنسا ورومانيا والأرجنتين. تتجدد الجداريّات عبر العصور، تختلف مواضيعها من زمنٍ إلى آخر، توثق الحياة اليوميّة للسكان، تحمل همومهم المعيشيّة وتعبر عن مخيالهم الجماعيّ، فحينًا تُعبّر عن صراعهم للبقاء وأحيانًا عن معتقداتهم حول الحياة والعيش اليوميّ أو أفكارهم الدّينيّة بشكلٍ عام، ولا تغفل عن إظهار عاداتهم الاجتماعيّة، وتوصل أيضًا رسالة جماليّة وثقافيّة الأبعاد من دون قيود أو حواجز أيضًا. تحمل جدران المدينة آثارًا تركها بعض المارة، من رسوم وعبارات وجمل وخربشات، لذلك تصبح هذه الجدران بمعنى ما حاملة الذّكريات وكتاب أسرار المدينة، ترتبط الجداريّات بالكتابة في المدينة لذلك تصبح حوارًا من خلال المدينة وحول المدينة، وتصبح معقل الثّقافة المدينيّة. بالنسبة إلى التّفسير الأنتروبولوجي، تشهد الجدران على المخيال الجماعيّ وعلى ذوق الجماعة، لأنّها تحمل رسالة اجتماعيّة وميلًا نحو التّغيير([6]). وتوسع معنى الجداريّات في أيامنا هذه، لا سيما بعد موجة الغرافيتي والرّسم على الجدران التي عرفتها مدينة طرابلس في السنوات الأخيرة، ليشمل كتاباتٍ غير رسمية، ورسومات شعبيّة على بعض الوسائط المجاليّة منها الجدران والأدراج والمباني وعواميد الإنارة.
فن الجداريّات
أخذت الجداريّات في السبعينيات في الولايات المتحدة الأميركية، وفي الثمانينيات في أوروبا، منحىً مختلفًا، وبدأت تفرض نفسها كواقع حسيّ-بصريّ في الإطار المدينيّ الغربيّ، وبدأت تظهر على الجدران وعلى وسائل النّقل العامة أيضًا، وأدخل الفنانون الجداريون تقنيات فنّية حديثة كتقنية رشّ الألوان التي سمحت لهم بالعمل على مساحاتٍ واسعة، وأتاحت لهم إنتاج لوحات ضخمة، وهو ما أعطى الحياة لأعمال جداريّة حقيقيّة لافتة للنّظر ولفن الجداريّات بكل ما للكلمة من معنى([7]).
إنتقل الفنّ الجداريّ من فعلٍ هامشيٍ ويدوي إلى نوع آخر من التّعبير الحقيقيّ، على الرّغم من ذلك لم تيسّر صفة اللاشرعيّة في هذا الفن استخدامه أو تقبّله في الأوساط الفنّيّة التّقليديّة، كونه قد نشأ أساسًا في الأوساط الشّعبيّة، وكانت مرجعيته الأولى مجموعات من الشّباب الذين ينحدرون إجمالًا من الأوساط الفقيرة المهمشّة. لذا بقي فن الجداريّات لعقودٍ طويلة غير مفهوم وبعيد المنال من الملاحظة التي تأخذه على محمل الجدّ([8])، وهو السّبب الأساس الذي يجب لمقاربة موضوع الجداريّات أنّ تلتزم منهجًا “مابين مناهجيّ” أو منهج ” تكامل المعرفة “([9])، ذلك أنّه يتموقع على حدود أكثر من حقل علميّ، إذ تعود الجداريّات في بعد عناصرها إلى فن الحروفيّة ففيها يظهر عدد كبير من الكلمات والأحرف أو بعض أشكال الخط كالخطوط المستقيمة والمتموّجة والمنحنيّة بانسجام، مرسومة عادة بحركات سريعة ودقيقة في الوقت نفسه، كما تعود بعض الجداريّات إلى التّعبير اللغوي لأنها من خلال بعض العبارات والكلمات تُترجم حاجة الفرد إلى الكتابة للتّعبير عن نفسه وأفكاره، لذلك فهي أيضًا عمل لغويّ، وتتميّز الجداريّات في أنّها دومًا ما تحتوي خطوطًا وكلمات ورسومات، وتعني بعض هذه التّعابير والكلمات اللعب مع اللغة ورمزيتها والميل إلى تحريفها. يخترع الفنانون الجداريّون لغة خاصة يتخطون بها قواعد اللغة العربية والنّحو، تستقي هذه اللغة أصولها من تعابير شائعة وكلمات أغنيات وقصائد شعبيّة وحكم بالّلغة المحكيّة، وترتبط بعض الجداريّات بشكلٍ أكيد بالتّعبير الفنّيّ فهي لوحات مشغولة ومرسومة على مساحاتٍ قد تمتد لأكثر من متر مربع باستخدام تقنيات فنيّة مختلفة، وبالتّعبير الشّعبيّ يُقال عن الجداريّات أنّها رسومات عندما يشير إليها السّكان وإلى فعل إنتاجها، غير أنّه يوجد اختلاف واضح ما بين الفنان- الفاعل للجداريات وهو رسام مجهول عادة وبين الفنان التّقليدي المعروف الاسم. تُعرِّف الجداريّات عن نفسها على أنّها “أثر مدينيّ” فهي في الوقت نفسه خربشات لاشرعية، وشكل من التّعبير الفنّيّ بحسب الآراء المختلفة التي يتبناها السّكان وبحسب الفاعل الذي ينفذ هذه الجداريّات، وهي نمط من التّوثيق من خلال الرّسومات عن المعتقدات والطقوس والنشاطات بالإضافة إلى أنّ لها وظيفة النّقد السياسيّ والاجتماعيّ، أمام الصّعوبات بتعريف الجداريّات التي تملأ المدينة. وبالتالي فما هو الجديد المعرفي الذي من الممكن لمقاربة أنتروبولوجيّة تقديمه من خلال تحليلها؟ وما يمكن لهذا الحقل العلميّ أن يظهره تجاه الجداريّات؟
إطارات التّحليل الأنتروبولوجي للجداريّات
تأسست الأنتروبولوجيا حول بعض المواضيع الخاصة، التي تستعيد عادة معاني الجماعيّة (الحيز المجاليّ المدينيّ، السياسة، الفن) إلى درجة أنّه يكفي أحيانًا جمع الموضوع والحقل العلميّ لنحصل على بناء علميّ، وهكذا نحصل على بحث بين علم اجتماع المدينة وعلم اجتماع السياسة وعلم اجتماع الفنّ، بيد أنّ من الصعوبة مقاربة موضوع الجداريّات من خلال تقليد علميّ سوسيولوجيّ محدد، ولكن ذلك لا يعني أنّ موضوع الجداريّات موضوع فريد وجديد وغير مفهوم أو أنّه صعب على التّحليل، ولكنه يعني أن نجرب إنتاج درجات من التّحليل الذي يتلاءم مع موضوع بحثي، وهو ما يستدعي مني أن أجرب إنتاج مقاربات تنسجم مع كل موضوع بحث جديد، وإلى مسار علمي يقودني إلى شروحات علمية مناسبة، كما أنه من الضروري، عند التفكير في نجاح هؤلاء الفنانين الجدارين في إنتاج فن جديد وهجين، على أساس أنّهم فاعلون مجتمعيون، وأن ننحو نحوهم وأن نحاول إنتاج معرفة خاصة في تحليلنا.
عند ملاحظة الجداريّات التي تنتشر هنا وهناك في مشهد المدينة، يلفتنا المعنى المشترك بين الفنانيين-الفاعلين الذين ينتجون الجداريّات والقاسم الجمعيّ بين من يحترفون فنّ الجداريّات، هذا المعنى المشترك والجمعيّ بينهم هو بحد ذاته حامل للقيم ومعبر عن الثقافة المجتمعيّة التي توجه الأفراد في أفعالهم وأنشطتهم. اتجهت معظم الدّراسات التي استهدفت الجداريّات اتجاهين رئيسين اثنين: استعار الاتجاه الأول من علم اجتماع المدينة، ودرس الجداريّات من ضمن إشكاليات المدينة، وتبدو هذه المقاربة مهمة ولافتة للانتباه لأنّها تضع الجداريّات في وسط الحيز المجاليّ الطبيعيّ الّذي توجد ضمنه، وعندما تقترح مجالات للمعاني التي ترتبط بإشكاليات المدينة التي يتم دراستها، تنظر الدّراسات إلى الجداريّات على أنّها آثار حاملة للمعنى في المدينة، ويتم تحليل هذه الجداريّات على أساس علاقتها بنظام المعاني التي توجد ضمن ظروفها وشروطها([10]).
أما الاتجاه الثاني فانطلق من مقاربة أخرى وهي مقاربة تاريخ الفنّ، وقد تمّ النّظر في هذه المقاربة إلى الجداريّات كمنتج جماليّ فنيّ، وتمت دراستها من النّاحية التّقنيّة واللونيّة والإبداعيّة، ولهذه المقاربة العلميّة الثانية كل الفضل في مَلء الفراغ البحثي لأنها تأخذ بالحسبان المعايير الجمالية ولأنّها تقحمها في تقليد فنيّ علمي خاص([11]). أما في ما خص المقاربة التي يتبناها بحثي وهي المقاربة الأنتروبولوجية، فتُحلل الأنتروبولوجيا الجداريّات على أساس الفنّ الذي تندرج ضمنه وتعبر عنه وعلى أساس الشّروط الاجتماعيّة والمجاليّة التي أدت إلى ظهور الجداريّات في الوسط المدينيّ، ويؤكد المسار العلميّ على البناء الاجتماعيّ للفن ّوالفنان على السّواء في علاقتهما بالمجال وبالقيم الخاصة([12])، وبكل الأحوال يبقى هذا المسار العلمي الأعمق والأكثر حاجةً لجهود الباحثين في مواضيع تُستقى من الواقع المعاش، كالتّعارض بين الجداريّات والفن التّقليديّ، والفرق بين الشّرعي واللاشرعي، إذ تُحجّم الجداريّات عادة وتُعطى موقع اللاشرعية كونها تستخدم الحيز المجاليّ العام المتاح لاستخدامها في المدينة، وهو ما يقارب في بعض الآراء بينها وبين العشوائيات التي تنتشر هنا وهناك كلما سنحت لها الفرصة.
لهذا فضلت أن أسلك مسارًا بحثيًا أنتروبولوجيًا يستهدف في الدراسة نظام القِيم المترابطة التي عبر عنها الفنانون-الفاعلون، وحاولت أن أدرس تعبيرًا وحوارًا الفنانيين-الفاعلين هؤلاء أنفسهم، مع الأخذ بالحسبان القيم التي يعبرون عنها في رسوماتهم وكتاباتهم واللغة والمصطلحات التي يستخدمونها، تشبه هذه المقاربة المقاربة الاتنوميتودولوجية التي يصبح فيها المعنى الجماعي العام موضوع دراسة. تصبح الجداريّات موضوع جدل بين فاعلين مجتمعيين متعارضين في الأساس والجوهر، وهو ما يجبرني على أن أتبنى في الوقت نفسه مقاربة تفسيرية لأتمكن من إنتاج مجال القيم، ولا يعني ذلك أن أبني معرفة حول الفاعلين ولكنني أميل إلى وصف فعل مدينيّ شديد التعقيد ذي منحى فنيّ بصريّ.
إشكالية البحث
يطرح هذا البحث الإشكالية الآتية: ما هي المعانيّ التي من الممكن لقراءة الجداريّات أنّ تظهره في المجال المدينيّ لمدينة طرابلس؟
يحيلني هذا السؤال إلى أن ألفت الانتباه إلى ثلاث عناصر:
- ما هي خصوصيّة الجداريّات في المدينة، وما هي رمزيتها؟
- ماهي المعوقات والتّحديات التي يواجهها الفنان-الفاعل لإنتاج الجداريّات؟
- إلى أيّ مدى تصبح الجداريّات حاجة أساسية مهمة في المدينة؟
تقنيات البحث
يستند البحث حول الجداريّات إلى تقنية التّقميش لبعض الدرّاسات والمقالات القليلة التي تناولت موضوع البحث، وتقنية الملاحظة المباشرة في الميدان، وهي التّقنية التي سمحت بجمع المعلومات الضروريّة في التّحليل المقترح، سواءً الملاحظة المباشرة للجداريات التي شاهدتها حين تنفيذها، أو تلك التي خضعت للملاحظة بعد زمن من تنفيذها، وقد سمحت التقنيات أن تصبح الإشكالية وأسئلة الدّراسة محددة أكثر فأكثر، فالحركة بين النّظري والميدانيّ، وبين فرضيات البحث وبين الميدان هي التي سمحت بأن أطور إشكاليّة البحث الأساسيّة التي لم تتوقف صياغتها أو تبلورها على ضوء عناصر جديدة في أثناء البحث الميدانيّ، ولم يتوضح التّحليل المقترح إلا في إطاره الخاص الذي أعطاه الحياة، أيّ في إطار البحث الميدانيّ الذي يعطي للنتائج كل معانيها ويظهر كل حدودها وأبعادها
عمل العين في ملاحظة الميدان
إذا ما سلمنا جدلًا أن للمقابلات والاستمارات التي يلجأ إليها الباحث أحيانًا لفهم منطق إنتاج الجداريّات دورها، فلا يجب علينا أن ننسى أو أن نغفل عن أهمية تقنية الملاحظة المباشرة التي تفترض أن نرى الجداريّات في الميدان، كما أنّه لا يجب علينا أن نهمل عمل الملاحظة المباشرة والبصريّة للجداريات في اللحظة نفسها التي يتم فيها إنتاجها، وفي الحين نفسه الذي يأخذ فيه الجدار شكله الجديد أو حتى ملاحظة جداريات تامة يعود تاريخ تنفيذها إلى بعض الوقت، من جهة تسمح لنا الملاحظة أن نتعرف إلى أشخاص أو جماعات من الأفراد الذين تركوا بصمتهم على جدران المدينة وتركوا إمضاءَ أسمائهم هنا وهناك، كما تسمح لنا أن نؤكد بأن خيارات مواقع ومواضيع الجداريّات ليس عشوائيًا، فمواقعها تستجيب لاستراتيجيات بصرية عامة على علاقة وثيقة بالصعوبات التي ترافق إنتاج كل عمل جداري، فتعترض بعض الفنانين-الفاعلين الكثير من المشكلات التي تؤكد فعلهم بشكلٍ عملي في الميدان، فتحول بعض المشكلات دون استخدام جدران حازت اهتمامهم، ويتعقد الميدان المدينيّ وتكثر الشروط التي تحكمه وكما تتعدد المعوقات اللوجستيّة التي تعترض إنتاج الجداريّات: كاختيار الموقع، وتوفر المواد الأولية للرسم، وجدلية إظهار الفنان-الفاعل لنفسه أو عدم إظهاره، كيفيّة ختم العمل الفنّيّ، وتوفر إمكانية استخدام الجدار المختار، واعتراض السّلطة الإدارية في المدينة. يستجيب مجمل الأعمال الفنّيّة الجدارية لمنطق حواريّ داخلي وخارجي بين الفنان-الفاعل والآخر، فتعرف الإرادة الجماعيّة العامة منطق التقاسم والتوزيع لأنها تتسابق على حجز الجدران المميزة التي لم يسبق استخدامها في أعمال جدارية من قبل.
عمليّة فكّ الرّموز
عند الانتهاء من جمع الملاحظات البصريّة، خضعت المعطيات والمعلومات والمشاهدات التي حصّلتها لعملية عميقة من التّحليل بهدف فك رمزيتها، وضعتُ جدولًا للتّحليل يهدف إلى ترتيب مجموع العناصر والمعطيات والمعلومات التي تم جمعها، بطريقة منظمة ومقروءة، إذ لا تتحدث المعطيات عن نفسها بشكلها البدائي الأول، فيجب أن تتم مساءلتها من خلال جدول فك رموزها يسهل فعل قراءتها وفعل استخلاص نتائجها على الباحث.
يصبح هذا العمل نوعًا من ترتيب نموذجي للحقيقة، وتصبح هذه الحقيقة مادة أولية لملاحظة مزدوجة:
- يسمح المسار أن نعطي بعض المجال للذاتيّة بالإضافة إلى الموضوعية، فعندما نضع تقييمًا ذاتيًا لبعض العناصر نهمل بعض التّفاصيل ونمنح بعضها أهمية أكبر بناءً على ما حصلناه في الميدان.
- ننتقل من حوار بصريّ مع الميدان إلى فعل تفسيريّ كتابيّ، ومن التّرتيب النّموذجيّ إلى النّظريات، تبدو خطوات العمل النّظريّ كما الميدانيّ مهمة بالنسبة إلى البحث الميدانيّ الأنتروبولوجي الذي لا يهدف إلى معرفة كل الحقيقة عن الموضوع ولكن أن ينجح في تقديم مقاربة لها، هذه الرؤيا الشّاملة شكلت الخطوة الأولى نحو استكشاف الميدان.
لفتت العديد من المصادر اهتمامنا نذكر منها:
- المصادر الأساسيّة للفن الأكاديمي المعروف بمدارسه وقواعده التي يحترمها الفنانون.
- المصادر التي تناولت الجداريّات كأنماط فنيّة وتضمنت توثيقًا نموذجيًا للأعمال الفنّيّة المنفذة الخاصة بالجداريّات.
- المقالات الصّحفيّة التي وثقت بعض الجداريّات في مدينة طرابلس.
- أعمال جداريّة لبعض الفنانيين- الفاعلين في مدينة طرابلس.
استنتاجات البحث
سمحت الملاحظة الميدانيّة- التي طبقتها في شوارع مدينة طرابلس للجداريات المنتشرة هنا وهناك على الجدران والوسائط الأخرى المتاحة في الميدان- باستنتاجات على أكثر من صعيد، وحاولت قدر الإمكان ترتيب الاستنتاجات في ما يربط بينها ويساعد على قراءة واضحة للجداريات ودلالاتها في المحيط المدينيّ المشمول بالدّراسة؛ وقد جاءت على الشكل الآتي:
- الإعلام والإعلان
- تُشكل الحاجة إلى الإعلام والإعلان عن الذّات والموهبة والأفكار بعض الحوافز والدّوافع التي تدفع الفنان- الفاعل إلى ميدان الجداريّات، وإلى اختيار أماكن بارزة في المجال المدينيّ.
- يتنافس بعض أصحاب الموهبة على إبرازها والتّعبير عنها بشتى الوسائل الظاهرة، لذلك فالجداريّات هي بمعنى ما أفعالٌ جماعيّة يحركها الميل إلى التّماثل والتّعلم.
- تبرز الحاجة الأكيدة عند الفنان- الفاعل إلى الإنتاج الفنّيّ الظاهر، والحاجة إلى التّعبير عن الذّات والأفكار والمعتقدات الشّخصيّة على مستوى يمكن للآخرين مشاهدته.
- تتوضح الحاجة إلى أن يصبح الفنان- الفاعل معلومًا في المحيط الاجتماعيّ المدينيّ الذي يعيش فيه وأمام المجتمع الذي يحتضنه.
- خطوات تنفيذ الفنان – الفاعل للجداريّة
- تظهر خيارات الفنان-الفاعل للمجال المناسب والزمن المناسب للجداريّة التي ينتجها حقيقة كونه فاعلًا مجتمعيًّا، فمن خلال الخيارات التي يتخذها في الحيز المجاليّ المدينيّ يغير هذا الفاعل المجتمعيّ وجه المدينة من خلال فعله فيه.
- تتوضح فرادة الجداريّة وإبداعها في الأسلوب الذي يختاره الفنان-الفاعل في عمله، وهو ما يوضح في الوقت نفسه فردانيّة الفنان-الفاعل في اختياره نمطًا مميزًا وأسلوبًا خاصًا للعمل.
- يمتلك الفنان-الفاعل المهارة الفنّيّة الضروريّة للفعل، كما يمتلك الموهبة اللازمة وهو ما تكشف عنه معظم الجداريّات المنفذة في مدينة طرابلس، تلفت مهارة وموهبة الفنان- الفاعل الانتباه وتشدّ النّظر من بعيد لبقع الألوان وللأشكال الفنّيّة التي أنتجها على الجدران.
- لا يعمل الفنان-الفاعل بطريقة عشوائيّة، بل يعمد إلى وضع خطط واستراتيجيّات لتنفيذ العمل الفنّيّ الجداري، يختار أن ينفذه بمفرده حينًا أو بمساعدة جماعيّة من أفرادٍ آخرين أحيانًا.
ج- الأسلوب: النّمط والتّقنيات
- يتخذ الفنان- الفاعل مجموعة من القرارات أثناء ترجمة أفكاره ووضعها موضع التنفيذ العمليّ، فهو من يختار نمط العمل الجداريّ: سواءً في الرسم أو التّخطيط أو الجمع بينهما، الأسلوب الحديث أو الكلاسيكي أو الهجين، وغيرها من القرارات.
- يميل الفنان- الفاعل بشكلٍ أكيد صوب التّمايز والإبداع من خلال الشّروط الفنّيّة والتّقنيّة التي يلتزم بها ومن خلال الموضوع الذي يختاره للجداريّة، وهو ليس في الحقيقة بالأمر السّهل، وهو مما لا ينتبه إليه دائمًا عامة النّاس.
- يقيم الفنان- الفاعل الإيجابيّات والسلبيّات لمختلف أنواع الوسائط التي يحتاج إليها العمل، ويحصل خبرة عمليّة في الجداريّات من خلال الأعمال التي ينفذها: فهو يقيّم الجدار الذي يشتغل عليه والقماش الذي يحتاجه، والأوراق التي يستخدمها، يجب أن يختار الجدار مثلًا بعناية لكيلا تضيع القيمة الفنّيّة للعمل المنفذ عليه، إذ لا بد من أن يسمح موقعه بالضرورة بأن يراه الآخرون، ولا بدّ من أن يتحمل القماش مثلًا عوامل الطبيعة بالضرورة.
- يواجه الفنان- الفاعل مستويات مختلفة من الصّعوبات التي يواجهها، ينتصر عليها بدليل أنّ عمله وتوقيعه واسمه كلها تتوثق في الحيز المجاليّ العام من المدينة.
د- تسجيل الحجج والبراهين الأخلاقيّة والجماليّة
- يعبر الفنان-الفاعل عن طبيعة العلاقة التي يعقدها بالعمل (علاقة جدّيّة أو نشاط للتّرفيه في وقت الفراغ)
- يعبر الفنان- الفاعل عن الحجج الثّقافيّة والأخلاقيّة أيضًا (ضرورة وجود مساحات خاصة بالسّكان للتّعبير الحرّ في المدينة، التّعبير الفعليّ عن الحقّ في المدينة)([13])
- يترجم الفنان-الفاعل من خلال الجداريّات حججًا ذات أبعاد فنيّة وجماليّة (ضرورة الإبداع الجمالي الذي تمنحه الجداريّات للمدينة)
ه- المصادر المختلفة للتّمويل
- التّمويل الذّاتيّ من خلال المصروف الشّخصيّ المحدود الّذي من الممكن للفنان-الفاعل تأمينه.
- التّمويل الخارجيّ سواءً منه العام أو الخاص الذي يحصل عليه الفنان- الفاعل من خلال سعيه أو علاقاته الاجتماعيّة أو من خلال الدّعم الّذي يحصل عليه بسبب موهبته أو إيمان الآخرين بعمله الفنّيّ.
- التّمويل التّعاونيّ الّذي يحصل عليه الفنان- الفاعل بدعم من بعض المؤسسات، وهنا يصبح العديد من الأطراف شريكًا في الجداريّات التي تضفي لمسات الجمال والإبداع على الحيز المجاليّ العام للمدينة.
و- فعل الفّنان
- يجتهد الفنان-الفاعل من خلال جدارياته لأن يثقل لنفسه اسمًا يمكن أن يقرأه المارة، وغالبًا ما يترك إمضاءه في مكانٍ بارز على الجدران ليصبح شخصيّة عامة.
- يأخذ الفنان-الفاعل المبادرة المحفوفة بالخطر أحيانًا في الكثير من الخيارات، فاختيار الجدار يكون موفقًا حينًا أو غير موفق حينًا آخر، وهو ما ينعكس إيجابًا وسلبًا على العمل الذي ينفذه.
- يختار الفنان-الفاعل المستوى التّقنيّ الّذي سينفذ من خلاله عمله، من المؤكد أنّ هناك الكثير من الصعوبات التي يواجهها البناء الفنّيّ للعمل كونه يختار وسائط مميزة لا يختارها الفنانون عادةً.
- لا شك في أنّ الأسلوب المستخدم في الجداريّات يتضمن مكامن للتّميّز مهما بدت بسيطةً، فكل جداريّة من جداريّات المدينة تشدّ العين إليها، من خلال الألوان أو الأسلوب أو الموضوع أو العبارات والكلمات أو كلّ العناصر المذكورة.
- يبني الفنان- الفاعل تدريجيًا شبكة من العلاقات العامّة مع أفرادٍ آخرين في المحيط المدينيّ الذي يوجد فيه، يصبح شيئًا فشيئًا شخصية معروفة في المدينة بقدر ما يترك من آثار على جدران المدينة.
ز- العلاقة المتبادلة بين الفنان والجمهور والجداريّات
- يعبر السّكان بطرقٍ مختلفة عن إقرارهم بأهميّة الجداريّات في المدينة، وبأهمية موهبة وإبداع الفنان من النّاحيتين الفنّيّة والتّقنية، أمّا الغرباء فيبدون ردات فعلٍ مختلفة أمامها بعكس السّكان الذين ألفوا الجداريّات، تستوقف هذه الجداريّات المارة الغرباء، تلفت أنظارهم، يتوقفون ليلتقطوا الصور لها وأمامها، يثنون على الفنان- الفاعل ويحاولون قراءة اسمه أثناء مرورهم في المدينة.
- يقر الجمهور المشاهد من خلال ردّات الفعل الكلاميّة وغير الكلاميّة بالتّميّز والتّجديد الذي أتى به العمل الجداريّ، تظهر الجداريّات مكامن جماليّة في الحيز المجاليّ العام في المدينة، وتسعى إلى تجميل القبيح من المشاهد فيها، يحاول الفنان- الفاعل في بعض الأحيان إخفاء آثار الحرب اللبنانيّة وآثار المعارك التي لا تزال تحملها بعض الأحياء وبعض المباني من خلال الجداريّات التي يرسمها وينتجها.
- يستخدم الفنان- الفاعل الجدار بشكلٍ أساسي في عمله غير أنه يبدع على وسائط أخرى أيضًا، وهو في استخدامه هذا يعيد تعريف الجدار من جديد ويعطيه معانيًا ورموزًا لم تكن له سابقًا في حالته الأساسية قبل أن يتدخل الفنان-الفاعل ويحوله إلى منصّة للتّعبير ولإيصال رسائل ذات أبعاد سياسيّة وثقافيّة واجتماعيّة.
- يعيد الفنان تعريف الجدار من خلال أفعاله عليه بالنسبة إلى الجمهور وللسلطة أيضًا، يحمّله رسالة موجهة للجمهور أولًا في أن يعبّروا عن أفكارهم بصوتٍ عالٍ وبالطرق المتاحة لهم كما فعل الفنان- الفاعل نفسه، وفي أن يكونوا فاعلين مجتمعيين في المجال المدينيّ الذي يعيشون فيه، ورسالة ثانية للسلطة في أن صوت الشعب لا بد من أن يرتفع في المطالبة بضروريات العيش وبالحقوق المشروعة التي أقرها القانون.
- نادرًا ما يحتك الفنان- الفاعل بجمهوره إحتكاكًا مباشرًا، فالجداريّات بعد أن تصبح في حيز التنفيذ والانتهاء تترك كشاهدٍ على مرور الفنان وعلى فعله في المجال المدينيّ، وتخسر حضور الفنان الذي نفذها وهو ما يحرم الجمهور أن يدخل في علاقة مباشرة معه، ويعرف الجمهور اسم الفنان حيانًا؛ ويجهل شخصه وشكله وخلفيته الاجتماعيّة.
ح- سؤال الهوية الذي تطرحه الجداريّات
- يشارك الفنان-الفاعل من خلال الجداريّات في رسم هويّة ثقافيّة خاصة بالمدينة، تستقي أصولها من الموروث الثّقافيّ الخاص بالمجتمع وتتيح المجال لكلّ جديد ثقافيّ يأتي به السّكان.
- الجداريّات عمل ميدانيّ في الحيّ والمدينة، لذلك لا يمكن قراءة الجداريّات بشكلٍ منفصل عن المحيط الذي توجد فيه، وعن الحيّ الذي يحتضنها بظروفه وأحواله وتاريخه وواقعه الحالي، وعن المدينة بتاريخها وحاضرها وحركة سكانها وهمومها المعيشيّة.
- لا شك في أنّ قراءة الجداريّات تؤكد أنّها عمل ينفذه الفنان-الفاعل، ولكنه عمل يعكس هوية جماعيّة أيضًا، يتبنى الفنان-الفاعل أفكارًا يتشارك فيها مع شرائح واسعة من النّاس وجماعات اجتماعية حاضرة في المدينة، فالجداريّات بكل ما تتضمنه من عناصر انعكاس لحال المجتمع وأحواله.
ط- الصّراعات التي تظهر على الجداريّات
- عندما نتتبع الجداريّات التي تعود إلى أزمنة مختلفة في مدينة واحدة، بعضها بهت مع الزّمن وبعضها الآخر حديث العهد بالمدينة، يمكن أن نؤكد الصراع بين الأجيال المتعاقبة وبين أهداف كل جيل وآماله وتطلعاته وهمومه، نقرأ جداريات الحرب اللبنانيّة التي تحكي الانقسام ونقرأ جداريات الشّباب اليائس الذي يحلم بالسّفر، ونقرأ جداريات معاصرة تحلم بالثورة على النّظام السياسيّ والوضع الاقتصاديّ.
- تتشرذم الأفكار والتّطلعات التي يتبناها السّكان ويعبر عنها بعضهم من الفنانيين-الفاعلين، تؤكد الجداريّات عدم التّوافق على الأهداف الواحدة، فلكل زعيم جماعته وشعاراته المرفوعة، ولكل تيارٍ فكريّ وسياسيّ مناصروه وعباراته التي تتكرر هنا وهناك ليتمّ حفظها، وهكذا دواليك حتى تنتهي الجدران التي تشهد على الانقسام والتمايز بين الجماعات.
- تبعًا للواقع الذي نعاينه نؤكد أن الهوية الاجتماعيّة في المدينة ليست واحدة، بل إنّها متنوعة وغنية بتنوعها وتعدديتها، وهو ما ينعكس على جدران المدينة التي يحلو قراءتها والنّظر إليها وهو ما تعكسه الجداريّات التي تتموقع على الجدران في المدينة كلّ منها يحكي قصة مختلفة عن الأخرى، في الواقع إنّها هويات اجتماعيّة حاضرة ومتعايشة في الحيز المجاليّ للمدينة.
استنتاجات عامة
عندما نحاول وصف الجداريّات في مدينة طرابلس في تطورها منذ عقودٍ ثلاثٍ أو أربع نؤسس برأينا لرؤية مدينيّة شاملة، نستطيع أن نتتبع تاريخ المدينة، كما يمكننا على مستوى أبسط أن نكتب تاريخ فن الجداريّات في علاقته بالمدينة، يجب أن نأخذ في عملنا بالحسبان تميّز هذا الفنّ الذي يستخدم وسائط جديدة ومميزة للإبداع كالجدران والمباني ووسائل النقل حتى نفهم المعنى في سياقه الصحيح، فالجداريّات تبدو للعين في المجال العام من المدينة وهو مجال العامة، ـمجال كل النّاس بالضرورة.
الجداريّات والمدينة تاريخ مشترك
المجال المدينيّ الحاضن للجداريات هو مجالٌ يميزه الوجود الحقيقي الفيزيائي-المادي الذي يشد مباشرة البصر، ولكن له أيضًا وجودًا معنويًا ورمزيًا يمكن إدراك أبعاده أيضًا بغير البصر، تساعد هذه الملاحظة على فهم وربط الحلقات المنطقيّة لإنتاجات الفنانيين-الفاعلين هؤلاء من وجهة نظر أكثر قربًا منها وأكثر فهمًا لها، فمجموع العناصر تؤسس نوعًا ما “الحكاية المدينيّة” أو “لأسطورة المدينيّة” كما يصفها A. Vulbeau([14])، وهي ليست تاريخًا بالمعنى العلميّ الأكاديميّ، لأنها تتأسس من الأفعال الحقيقية لا المثاليّة، الأفعال البسيطة التي تظهر في العيش اليوميّ للسكان، وهو ما يوصلنا إلى العمق الحقيقي لها كونها حوارًا حول المدينة، وهي ذاكرة بعض المجالات والأحياء المدينيّة وبعض سكانها، أيّ ذاكرة المدينة. في الحقيقة، عندما نفكر بالمجال والقيمة الخاصة للجداريات لا يمكن أن نبتعد من التفكير بالمدينة، المجال الذي تستخدمه الجداريّات وتأخذ منه بعض معانيها، يجب أن نعمد إلى فهم المنطق العملي الفعلي الذي يسمح للجداريات بأن تقتحم من خلاله هذا المجال، واختيارها لهذه الوسائط في الحيز المجاليّ العام في الشّارع من دون غيرها، وما هي المفاهيم التي يتضمنها هذا الفعل؟
المدينة مجالٌ للتفاعل المجتمعي المجاليّ والزّمنيّ
في ما عدا ظهور الجداريّات كثمرة للعبثية والفوضى، وهي النّظرة الشّائعة لها قديمًا، لا بد من أن هذه الظاهرة مرتبطة بشدة بالحراك المعاصر والبالغ الأهميّة في المدينة، في الحقيقة يبدو أن التّعبير الجداريّ يتأقلم سريعًا مع الفصل المجاليّ في المدينة، تنتظم مدينة طرابلس وتنقسم إلى نطاقات خمس: الأول نطاق تاريخيّ قديم هو أساس المدينة، وثانٍ متطور وهو مجال للغنى، وثالث للاقتصاد والتبادل ورابع للمرور وأخير مهمش ويحتاج إلى الكثير من خطط التنمية.
ينتج عن هذا النّظام حركتين: التفاعل والتغير
أولًا: تغطي هذه الشّبكة من السّكان والممتلكات والخدمات والمعلومات نظامًا واسعًا من التبادلات وعمليات التثاقف المجتمعيّ، في الواقع، بسبب المواصلات وتوسّع نطاق تبادل المعلومات بين الأفراد بفضل وسائل التّواصل الاجتماعيّ، تتكثف التّبادلات بين الأفراد وهو ما يدعم بشكلٍ أكيد تنظيم المدينة ودورها كمنتج للفعل الاجتماعيّ، وتكثر الرّموز والإشارات من مختلف الأشكال والأصناف (وسائل تواصل، إعلانات، أخبار، إشارات مرور، نظام اللباس)، وهو ما يدعم التواصل الدّائم والحسّيّ – البصريّ بين السّكان، لا في المدينة الواحدة فقط ولكن بين سكان العام أجمع([15])، يدفع العصر الحديث الأفراد إلى التّفاعل الدّائم الحسّيّ – البصريّ في ما بينهم، كما يدفع العصر الحديث الأفراد، شيئًا فشيئًا، إلى البحث عن الفصل المجاليّ والتّمايز داخل نظام الحياة وأنماط العيش الذي تحكمه الرّموز.
ثانيًا: يمنح نمط الشّبكة للمدينة وسكانها صفة التّغير والتّحول إذا ما تطور المحيط المدينيّ بشكلٍ دائم، تتطور بشكلٍ متزامن علاقات السّكان والمدينة من جهة، وعلاقات السّكان بين بعضهم البعض من جهة ثانية، وهو ما يدعم التبّادل والتثاقف المجتمعيّ، في ظل تنظيم اجتماعيّ إستهلاكي بالخالص وخدماتي في مدينة طرابلس، تصبح العلاقة مع الحيز المجاليّ المدينيّ أساسية لفهم الجماعات الاجتماعيّة المدينيّة وتنظيم نشاطاتها وأعمالها، ولكن يشهد فنّ الجداريّات بصدق على الأشكال الجديدة للتنظيم المّدنيّ المتشظيّ، في ظل التّبادل المجتمعيّ المعمم للرّموز المتغيرة باستمرار.
فنان الجداريّات كفاعل مجتمعيّ مدينيّ
تظهر الجداريّات كنوع من الهروب من الحدود المدينيّة، في إطار مدينة طرابلس كإطار للبحث، في ما خص المجال تظهر الكتابات والخطوط في كل مكان تقريبًا، وفي جميع النطاقات المدينيّة، في الوسط التّاريخي القديم للمدينة كما في المجال الحديث منها ولكن بشكلٍ منضبط وأقل في النّطاق الثاني، تقل الخطوط والخربشات والكتابات، وتكاد تختفي في مساحة النطاقات الحديثة لحداثة عمر المنطقة ولحداثة عمر الجدران فيها مقارنة مع العمر الزمني للمجالات الأخرى، ولوجود الحراسة الدّائمة لها، التّحدي الوحيد الذي يواجهه الفنان في جميع النطاقات المدينيّة القديمة كما الحديثة هو نفسه دومًا، تحدي إيجاد جدار متاح لاستخدامه الخاص، لكي يترجم أفكاره على مساحة مرئية وحقيقية على أرض الواقع. بالإضافة إلى ذلك، لا يملك الفنان- الفاعل الذي رصدنا فعله على جداريات المدينة الوقت نفسه المتاح للفنان التّقليدي، فترف الوقت لا يعرفه فنان الجداريّات، توجد بعض الكتابات عادة في طرقات وشوارع فرعية قليلًا ما تستخدم، وتدل الكثير من الجداريّات على السرعة التي رافقت تنفيذها، بكل الأحوال تظهر براعة الفنان-الفاعل وكفاءته في الاعتبارات الكثيرة التي يجب عليه أن يتعامل معها أثناء إنجاز عمله على جدار، ممكن بسهولة رؤية أو استنتاج السّرعة التي ينجز فيها العمل.
يصبح خيار الوسيط أساسيًا ويؤدي دورًا مهمًا في العمل الفنّيّ المنجز، فالفنان- الفاعل يختار وسائط قليلًا ما تُستخدم كمباني مهجورة مثلًا يعيد إليها بعض مظاهر الحياة، ويظهر بكثير من الطرق مفهوم التّغير وعدم الثّبات والتّحول المدينيّ، سواءً لجهة الزّمن أو المجال، يسمح كتابة اسم أو تعبير أو رأي خاص على وسيلة نقل بأن يجول هذا الاسم أو التّعبير المكتوب أو الرأي المنقوش في جميع أنحاء المدينة، على مرأى ونظر النّاس، كل النّاس، تصبح الكتابات تعبيرًا يمكن رؤيتها وتصبح دليلًا على مرور الزمن في مكانٍ ما. لا تهم طبيعة الوسيط أو رمزيته بالنسبة إلى الفنان-الفاعل، من المهم والضروري بالنسبة إليه أن يكون عمله ظاهرًا للعين لتصل أفكاره إلى أكبر قدرٍ ممكن من الأفراد، تظهر الرّسومات الجدارية بشكلٍ أساسي على الجدران والأبواب والسيارات وعلى أعمدة الكهرباء من دون تمييز بين المجال العام والخاص، الفخم أو المهمل، تستهدف أعمال الفنان- الفاعل الجداريّة المحيط المدينيّ بشكلٍ عام، من دون التركيز على بعضها تحديدًا، هذه الجداريّات هي بالضبط عمل مجاني بامتياز بمعنى أننا لا يمكن أن نجد له مباشرة هدفًا ومحركًا تجاريًا.
الشّارع: مجال الفن وفن المجال
في خضم مقارباتنا لإشكالية المدينة، يجب علينا أن ندرس الإطار المجاليّ العام في المدينة، وهو المجال الخاص بالفن الجداري، وأن نلفت الانتباه إلى الشّارع تحديدًا ضمن هذا المجال العام، فالرسم والكتابة فيه تستدعي تقبلًا عامًا لواقع استخدام الفنان- الفاعل للشّارع ماديًا ومعنويًا، كما تستلزم الاقرار بفعل الفنان- الفاعل الذي يؤدي إلى تغيّير واقع هذا الشّارع، وهو ما يجر إلى نتائج مهمة. يمكن رؤية الشّارع تحت ثلاث زوايا على الأقل، من جهة أولى الشّارع هو مجال اللقاء والارتباط بالآخر، وهو المعنى الذي جاءت به مدرسة شيكاغو([16])، ومن جهة ثانية إنّه مجال عام يتمّ خصخصته نوعًا ما من خلال فعل إنتاج الجداريّات فيه، وأخيرًا إنّه مجال الإعلام والإعلان بين الفنان- الفاعل وبين الجمهور المفترض.
أولًا- الشّارع مجال اللقاء والارتباط والعلاقة بالآخر
الشّارع في البداية هو مجال عام يتعارض والمجال الخاص كمجال للملكيّة والحميميّة، الشّارع مكان للمرور والتنقل وليس مكانًا للتعلّق به، مكان نجتازه ولا نتجذّر به، لا يشعر المارة فيه أنهم في مكانهم الخاص أو في بيوتهم، يفرض المحيط المميز للشّارع شروطه على المجال، بالتالي يفرض ميولًا وأشكالًا من الاجتماع المدينيّ بامتياز. يستلزم هذا الأمر شرح المفاهيم الأساسية وهو ما عمد ديفيد ثورنس إلى شرحه، فالمدينة برأيه تحكمها الأفكار المميزة ” المدينة بداية هي حالة فكرية، مجال للعيش، حيز اجتماعي لمرور وتنقل الغريب، الصفة المرورية لوجودها هي بالضبط ما يجعل من جذورها جذورًا جغرافية أكثر منها تاريخية، بمعنى أن الانتماء إلى المجال لا يمكن أن تكون حدوده مدّة زمنية ولكن حدوده مجالية”([17]) يميز التنقل والتسكع الأشكال المدينيّة المعاصرة للشّارع، وهي تأخذ معناها من المفهوم الشائع للنزوح من مكان إلى آخر وتأخذ مكانها في قلب العيش اليوميّ للسّكان في المدينة. لا يتفاعل الفنان- الفاعل مع الشّارع كما يتفاعل معه الآخرون، بالنسبة إلى الفنان- الفاعل، يظهر الشّارع كمجال عائلي حميم ولكنه ليس مغلقًا بتاتًا: إنّه يشكل مجالًا دائمًا للاستكشاف اليومي لهذا الفنان، تشكل الرّسومات الجداريّة أسلوبًا للتّعبير عن المعرفة العميقة بالمجال والخبرة في التعامل معه، تدل الجداريّات على الألفة بين الفنان والشّارع وعلى تسكعه الليلي فيه وهو ما تستدعيه بعض الجداريّات ذات البعد السياسي وتحديدًا تلك التي تدعو إلى الثورة على الواقع، تصبح الجداريّات طريقة للتجذر الجغرافي في المدينة، وبالتالي يصبح الشّارع في الوقت نفسه مجالًا للارتباط والعلاقات مع الآخرين ومجالًا للاستحواذ والاستيلاء أيضًا، وهو ملتقى طرق للتفاعلات والاختلاف والصّراعات. الشّارع في الحقيقة، مكان يمكن أن يحدث فيه كل شيء من دون توقف، لا سيما عندما تتم فيه بعض التّصرفات اللاشرعية واللاقانونية كالرّسوم الجدارية المرفوضة أو الكتابة العشوائيّة على الجدران، إنّه مجال اللاحماية الفردية، في إطار خارج الإطار الأُسريّ أو العاطفي الخاص، وهو مجال للمحظورات وللإمكانيات، للواجبات التي يقبلها الفرد ويرفضها أحيانًا، يبدو البحث في المعاني التي يثيرها الشّارع أساسيًا لفهم ميول ودوافع الفنان- الفاعل ولفهم فعله في المجال المدينيّ.
ثانيًا- الشّارع كمجال عام ومجال للتفنن
الشّارع هو مجال مشترك للمصلحة العامة، يتعارض مع المجال الخاص الذي تحكمه المصلحة الخاصة، وهو لذلك في المثاليات مجال مؤكد للجماعيّة، مجال حيث تعبر الاختلافات عن نفسها، يحمي الحقّ هذا المجال من خلال القانون وأحكامه. تصبح بعض الجداريّات التي يتركها الفنان-الفاعل انتهاكًا مزدوجًا لهذه المبادئ ولهذه الأبعاد من المجال العام. من جهة تشكل الجداريّات شكلًا من الاعتداء على المجال العام الذي يعطيها فسحة للتّعبير، لذلك تتلازم الجداريّات مع شكل من أشكال التّدهور الذي يعرفه المجال العام، وعموميّة المجال المدينيّ هي نفسها تمنح الحماس للإرادة الشّعبيّة وللمبادرات السكانية التي تنظم دومًا نشاطات تنظيف الشاطئ اللبناني، تشارك بشكلٍ فاعل في الأعمال التطوعية للدفاع عن المجال المدينيّ وعن المشاعات العامة التي يجب أن تبقى متاحة لاستخدام كل النّاس. تشكل الجداريّات شكلًا من خصخصة المجال العام، ومن خصخصة الشّارع، من خلال التّعبير وكتابة الكلمات ومن خلال الرسم، ويعني المجال العام للسكان ويستدعي منا أن ندخل أكثر من عنصر في تحليلنا فمن جهة هو يستلزم معرفة مختلفة عن المعرفة التقليدية للمارة، لأن الجداريّات تعني أن ننتقل من التفاعل البسيط إلى الخلق والإبداع، يتجسد هذا الإبداع بأسلوب واضح من خلال الرّسومات لذلك يجب أن نضع بالحسبان البعد الجماليّ الذي يلفت الأنظار في المجال العام، عبر بعض الخطوط الجميلة أو بعض الانحناءات المبدعة.
الخلاصة هي أنه يجب أن نبقي في الحسبان أسلوب العمل والميل الذي يُظهره الفنان-الفاعل إلى تجميل المدينة وهو ما يوسع من إطار التّفكير بالمدينة إلى التفكير بالفن في المدينة، يفترض ذلك وجود جمهور، وهو الذي يمنح الجداريّات قيمتها ورمزيتها، هذه الخطوة تبدو حقيقية وبديهية أيضًا على أساس أنّ الجداريّات تتخطى حدود مفهوم الفن التقليدي المؤسسيّ، فن المتاحف والمعارض، يعيد الفنان- الفاعل من خلال الجداريّات تعريف الفنّ من جديد فيحيلنا إلى الفنّ الخام المعروض في المجال المدينيّ العام، خارج الحدود الماديّة والرمزية للفن التقليدي. لا يكتفي الفنانون- الفاعلون أن يتركوا فنهم ورسوماتهم للجمهور في الشّارع، إنهم يعرضونها ويتركونها للمنفعة الجماعيّة وللاستخدام العام والمتعة المشتركة، بحسب النظرة التي ننظرها إلى هذا العمل، يخضع تنفيذ العمل للتقييم المباشر للسّكان، لذلك فهو فنّ مباشر ومجاني ومفاجئ ينتظم خارج الإطار التّقليدي للفن وسط مجالات العيش اليومية في المدينة. الشّارع هو المجال العام الوسيط بين العمل الفنّيّ المنفذ والمتروك أمام النّظر وبين المارة غير المعروفين والذين يجهلون أنّه صلة مميزة بشدة تنعقد بين الفنان الغائب وبين جمهوره. يتألف هذا الجمهور المفترض من سكان المدينة ومن المارة فيها بشكل يومي. تبرز صعوبتان في عملية تقييم الجداريّات على أنّها فنّ بحدّ ذاتها: الأولى أنه من الصّعب معرفة رأي وحكم النّاس عليها، فالجداريّات متروكة بشكل ما للنسيان، إنّها متروكة لمرور الزّمن وللظروف الآنية ولعوامل الطّبيعة ولردة فعل السّلطة الرسمية ولتدخل مخربين أيضًا عليها، في معظم الأحيان تبدو بعد حين مهملة ومتروكة ولا يبقى لصاحبها إلا صورة يلتقطها لها في حين تنفيذها، لا يتم أخذ رأي الجمهور إلا في اللحظة نفسها التي تصاحب تنفيذ الجدارية، يلقي المارة تعليقاتهم سريعًا وينطلقون إلى وجهتهم، ويقف آخرون متفرجون عليها ويبدون رأيهم وسرعان ما ينصرف إلى وجهته. والصّعوبة الثّانية هي في أن الجداريّات هذه تفقد القيمة الفنّيّة لها لأنها أمام نظر الجميع وهي ليست حصرية أو نادرة، متاحة أمام نظر جميع المارة وسكان المدينة وقاصديها من الخارج، يصبح الوصول الفوري والمباشر للجداريّة على أحد جدران الشّارع العام أحد العناصر والشروط التي تساوي بين جميع المارة، فهم متساوون في إبداء رأيهم بها بكل حريّة فلا فرق بين غني أو فقير، تولد هذه المساواة في سهولة الوصول إلى الجدارية صعوبة في تحديد قيمة لها. في المحصلة، ينتج الشّارع علاقة مميزة جدًا بين الفنان وجمهوره، وهي علاقة يمكن وصفها بالمباشرة والفورية طالما أنّ العمل الفنّيّ متروك من دون حسيب أو رقيب، وهي خاصية ترمي بثقلها على الفنانين من جهة كما أنّها تعطيهم دافعًا ذاتيًا للعمل والإبداع من جهة ثانية، يملي الشّارع وظروفه شروطًا على التلقي وعلى فهم الجدارية وعلى منحها القيمة الفنّيّة والرمزية التي تستحقها.
اقترحنا في بحثنا الأنتروبولوجي هذه الإشكالية، وهذه المقاربة التفسيرية التي يجب أن تكملها مقاربة تحليليّة تهدف إلى أن تستنطق الفاعلين أنفسهم، وأن تحاول إعادة بناء مجال القيم الخاص بهم كفنانين-فاعلين، مقاربتنا هذه تتأرجح بين المدينة والفن، بين الاجتماعي والثقافي في بحث فيه شروط البحث الأنتروبولوجي.
Referances
- Caradec, Marie Anne: L histoire de l art tout simplement, Paris, Eyrolles, 2010.
- Clottes, Jean: Lart des cavernes prehistoriques, Paris, Phaidon, 2010.
- Contini, Annamaria: Lart du point de vue sociologique, Paris, Fayard, 2001.
- Duvignaud, Jean: Sociologie de l art, Paris, Puf, 1984.
- Quemin, Alain: Art et societe, Marseille, OpenEdition Press, 2016.
- Mazene, Loic: Le Street-Art ou l institutionnalisation problematique d une pratique contre culturelle, Universite de Toulouse, Mémoire M1, 2015.
- Samier, Max : Aux cœur de l art, La pratique du Graffiti, Lyon, Universite de Lyon, 2000.
- Vulbeau, Alain: Les Tags, Spectre de la jeunesee, Histoire d une nouvelle pratique urbaine, Les annales de la recherche urbaine, Paris, 1992, n55, pp 61-67.
مراجع باللغة العربية
- أبو بكر، إبراهيم: التكامل المعرفي وتطبيقاته في المناهج الجامعية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، عمان، 2007.
- ثورنس، ديفيد: كيف تتحول المدن، النظرية المدينيّة وحياة المدينة، ترجمة أحمد رمو، الهيئة العامة السورية للكتب، منشورات وزارة الثقافة السورية، 2010.
- طربيه، مأمون: علم الاجتماع في الحياة اليومية، قراءة سوسيولوجية معاصرة لوقائع معاشة، دار المعرفة، بيروت، 2011.
- عوض، السيد حنفي: سكان المدينة بين الزمان والمكان، المكتب العلمي للكمبيوتر والنشر والتوزيع، القاهرة، 1997.
- المالكي، عبد الرحمن: مدرسة شيكاغو ونشأة سوسيولوجيا التحضر والهجرة، دار إفريقيا الشرق، مصر، 2016.
- هارفي، دايفيد: مدن متمردة، من الحق في المدينة إلى ثورة الحضر، ترجمة لبنى صبري، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2012.
طالبة في العهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية – قسم العلوم الاجتماعية.-1
[2] – Loic Mazene, “Le Street Art”, Universite de Toulouse, Toulouse, 2015, p25.
[3] – Jean Duvignaud: Sociologie de l art, Paris, Puf, 1984, p.44.
[4] – Max Samier : Aux cœur de la ville et aux frontiere de l Art : La pratique Graffiti, Lyon, Universite de Lyon, 2000, p. 31.
[5] – Jean Clottes: Lart des cavernes prehistoriques, Paris, Phaidon, 2010, p.38-39.
[6] – Alain Quemin, Alain: Art et societe, Marseille, OpenEdition Press, 2016, p.43.
[7] – Mazene, Street Art, p23-26.
[8] – Marie Anne Caradec: L histoire de l art tout simplement, Paris, Eyrolles, 2010, p.156-158.
[9] – إبراهيم أبو بكر: التكامل المعرفي وتطبيقاته في المناهج الجامعية، عمان، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2007.
[10] – طربيه، مأمون: علم الاجتماع في الحياة اليومية، قراءة سوسيولوجية معاصرة لوقائع معاشة، دار المعرفة، بيروت، 2011.
[11] – Anne Marie Cardec : L histoire de l art, p.142-145.
[12] – Annamaria Contini: Lart du point de vue sociologique, Paris, Fayard, 2001, p.62.
[13] – دايفيد هارفي: مدن متمردة، من الحق في المدينة إلى ثورة الحضر، ترجمة لبنى صبري، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2012، ص58.
[14] – Alain Vulbeau: Les tags, Spactre de la jeunesse, Histoire d une nouvelle pratique urbaine, Les annales de la recherche urbaine, Paris, 1992, n 55, p.61-67.
[15] – السيد حنفي عوض: سكان المدينة بين الزمان والمكان، المكتب العلمي للكمبيوتر والنشر والتوزيع، القاهرة، 1997، ص 38.
[16]– عبد الرحمن المالكي: مدرسة شيكاغو ونشأة سوسيولوجيا التحضر والهجرة، دار إفريقيا الشرق، مصر، 2016، ص 125.
[17]– ديفيد ثورنس: كيف تتحول المدن، النظرية المدينيّة وحياة المدينة، ترجمة أحمد رمو، الهيئة العامة السورية للكتب، منشورات وزارة الثقافة السورية، 2010، ص 30-31.