لو كانت الغربة رجلا… !!
إلى الحاضر وإن غاب، الدكتور العربي كشاط([1]) ـ
د.ياسين بن عبيد)[2](
لا أبيع بما أكتب عِرْضًا ولا أشتري به سمعة، فليست تلك قبلةَ القلم الذي في يديّ، ولا هي قيم النفس التي بين جنبيّ. أنا الآن كالماشي بين الأزمان، حيث الذمةُ الحرّةُ رجلٌ يمشي على قدميه، وحيث الوفاءُ لها طريقُ خلاص. أما أن تكون السجيةُ مطواعًا، والهمَّةُ لَحُوحًا على مساءلةِ ظروفٍ تطول بها الأعمار إذا قيست بنوائبها، وتقصُرُ إذا قيست بمَسرَّاتِها، فذلك شرفٌ لا أَدَّعيه.
على أني أَدَّعي – وحسبي أنَّكَ شاهدٌ – أن الخبرة بك عصيَّةٌ، فلا عثور عليك إلاّ فيما خفي منك. كما أزعم – والعهدةُ عليّ – أنّ التوغُّلَ في تفاصيلك المُلَثَّمَة يُحيل على الشخص الكُلّي الذي لم يعرفه أحد. فمَن أنت إن لم تكن أنت، ومن منكما وُلِدَ قبل الآخر، أنت أم أنت؟ وأيُّ الأرض طلبوك فيها إن لم تكن الأرضَ التي منها مَطارك إلى الخلود؟!
يعنيني منكَ ما يعنيك من تاريخك، أنت الذي يختزل فكرُكَ تاريخَك، وتطول الرحلةُ إلى نهاياتك وما تكادُ بداياتُك تلوح. أنا بين هذه وتلك غريب كما ترى، لا مستقرَّ لي إلا في مُثُلٍ لا يؤمن بها إلا مجازفٌ بالإخلاص، أو مسافرٌ إلى الصدق بلا عودة. فبين “العربي” الذي لم تكن سواه، وبين “كشاط” الذي لم يكن غيرَك، الشيخُ الذي أتاحه الأزلُ ضيفًا على الأبدية، يشرب النجومَ من منابعها ويغرسها في طريقِ من يريدها ومن يقدر عليها. هكذا هي الإمامة التي على جدارها محرابُك، وعلى أرضها قُبَّةُ آبائك، وبينهما أقدارُكَ الباقية؛ الضوء فيها عصا للتوكؤ ولمآرب أخرى، والطريق إليها التوحُّدُ للمشقة، وعلى مقاسها ثوبٌ يَخيطه التواضعُ والسّخاء بالنّفس، ومِن العُقْبَى ما لا تنويع فيه على الأمان ولواحقه! أمّا الأصلُ الذي أنت فرعُهُ، والكِتَابُ الذي أنت ورقةٌ منه، والباطن الذي أنت ظاهره، والظّاهر الذي أنت باطنه، فهو الهدْي الذي جاء بك من المحال إلى المحال، وشَقَّ لك من اسمه معنى هو كالجديد وما هو بالجديد على الناس ولكنه مختلف؛ قل لي فَلِمَ الغربةُ إذن؟ أقُلْ لك هكذا الكبارُ بين أقوامهم يحضرون إذا غابوا، ويغيبون إذا حضروا، ولا يَلْتَمُّ حول حِماهم إلا مَنْ خُلِقَ ليشهد لهم لا عليهم، و لدعبل أن يكنس سواهم بقوله:
إِنِّي لأَفْتَحُ عَيْنِي حِينَ أَفْتَحُهَا عَلَى كَثِيرٍ وَلَكِنْ لاَ أَرَى أَحَدَا !
إنّ من ينظر في بنيتك وما يأتيها من جهة الحمل على المكاره، ينتهي إلى التّصديق – وكان قد صعب عليه – أن فردًا يستطيع اختزالَ جماعة، وأنّه وحده بحجم أمّة، كما اجتمع الأمر عندك، وإن من يستخلصك من الطوائف المحيطة بك، على اختلاف تعيُّناتها ومَعارضها، يدرك أنك بشر سويّ، ولكنّك فارقتهم في ما طلبوا وتركتَ، وباينتهم في ما تركوا وطلبتَ. لم تنزل إليك الشّمس ولكن لم يعسر عليك الصّعود إليها، ولم يحاصرك ليلُ الناس لأنه ليلٌ ولكن لأنّك القمر المعلَّق في سمائه، لذلك لم يُشكِلْ معناك ( إلا على أحد لا يعرف القمرا) كما قال أبو الفيض الكتاني. ما رأيتُ باطنًا أقرب إلى ظاهر ولا ظاهرًا أقرب إلى باطن منك لمَّا يسجد قلبُك للحق وتأخذك العزةُ به. أفمن كان هذا حاله يُوكَلُ إلى بِطانةٍ لا تشبهه، إلا أن يكون بلاء يثاب عليه؟؟!
كانت الدنيا على وشك الصَحْو من سباتها لمَّا جئتَها ذات 15 أبريل 1945. يومها أزاحت زمورة([3]) عن وجهها غشاوةَ المجهول، وانخرطت تبزُّ الحواضرَ في السباق إلى الإيجابية والتميّز، وبدأت المحطّاتُ تتوالى، من الكُتَّاب واستتمام المصحف على يد الوالد رحمة الله عليه، إلى المدرسة العموميّة، إلى حلقات الشيخ عمر بوحفص عليه رحمة الله سنة 1959، إلى قسنطينة سنة 1961 التي هَيَّأَها جيلُك إلى ريادة من صنف مختلف، اجْتَزْتَ فيها أطوار التعليم كلها من الإكمالي إلى غاية الحصول على البكالوريا سنة 1967 بثانوية ابن باديس، إلى الجامعة التي التحقت بها وتقلدت بعد التّخرج سنة 1971 مسؤوليات تكليفًا وتشريفًا، صحبتك في مراحلك تلك مرافقةٌ نوعية من أمثال الأستاذ المولود مهري، مالك بن نبي وعالم تونس والغُصَّةُ في حلوق علمانيّيها الشيخ النيفر، واللائحة تطول.
لم تختلف الدنيا عن سابق عهدها وإن اختلف المطروقُ من الأرض، فكنتَ الطائر النادر الذي قَضَّ مضاجع الوثنية الجديدة في ديارها، ورَدَّ كيدَ كائديها في نحورهم. رسوتَ على أُفُقٍ فتوزَّعَتْكَ آفاقٌ، واستبدلتَ بنفسك أنفُسًا فَرَّجَتْ على الغرباء والموتورين، وهم من دينهم وأوطانهم بوادٍ غير ذي زرع، محتسِبًا من جهدك ووقتك ومالِك هبةً ترجو بها ما هو عند الله خير وأبقى.
كان هذا طريقَك إلى إرساء المنارات الهادية بفرنسا التي أذَّنَ ربُّكَ أن يفتحها بأمثالك ، فمن (بلفيل) حيث افتتحتَ أول مصلى فعليّ سنة 1971، إلى (شارع طنجة) حيث أسَّستَ المركز الثقافي الاجتماعي الإسلاميّ سنة 1992، تاريخٌ مَسَحَتْ خيوطُ النور فيه شواظَ النار التي وَقودها الناس والحجارة، وجغرافيا اتسعتْ للشّرق بأجمل ما فيه لتستعيد بريقه البعيد، فَانْكَفَأَ الصّليبُ وأختُه من الرّضاعة ليؤذّن الهلال مستأنِفًا ما توقّف في (بواتييه) ذات يوم، وصار للجمعة والعيدين بفرنسا ــــــ واتساعًا إلى أوروبا ـــــــ منابرُ لن تشيخ، ومآذنُ لن تسكت بعد اليوم.
ولمّا كان للمثابرة والإخلاص ثمنٌ دفعتَه من استثمارك في كل ما هو أنت، كان لهما نَاتِجٌ حتميٌّ هو الإجماع حول شخصك والنظرُ إليه بعين الرضا غير الكليلة. جَمَعَتْ همّتَك أرضُ الشتات على الاستقلال في الخيار، والنأيِ بالنّفس عن خطر الابتلاع، والاحترازِ من أسباب الاحتواء الذي يحترفه التُّجَّارُ بالدّين، واستغلالِ مكمن الضّعف للدّس والإيغار، فانحازت عن هذا الإجماع الدوائرُ الغربيَّةُ المتربِّصَة أولاً، ولصوصُ الإيجابية وأعداءُ النّجاح من بني جلدتك لاحقًا.
سيبقى مركز (شارع طنجة) شاهدًا على التقاء نُخَب يعزُّ الجمعُ بينها في فضاءٍ آخر، منها محمد حميد الله، جاك بيرك، برينو إيتيان، الشيخ البوطي، دوني غريل، محمد أركون، أوليفييه روا، خليل القاسمي، العباس بن الشيخ الحسين، عبد الوهاب مدب، راغب بن شيخ، في قوافل من العلماء والباحثين قد لا يأتي عليهم الحصر التفّوا حول جهودك في سبيل صناعة خطاب ينسجم مع التّحولات العالميّة، ويهدف في أساسه البعيد إلى حجز الهوية الإسلامية عن الانصهار، والتمكين لحضور إسلامي يُحسِن أن يحاور ـــــــ أداءً وسماعًا ـــــــ من غير رضوخ لمساومات البيئة الجديدة، ولا اضمحلال أمام مزايدات التطرف بصُنَّاعه ومُرَوِّجيه.
ولأنك لست ممن (يرى حَسَنًا ما ليس بالحسنِ) كما يقول المتنبي، بادرتَ- في أوائل مَن فعل ذلك، وبحسك التربوي الذي نهض شخصُك عليه وغَذَّتْه الأطروحةُ عن ابن خلدون في مدرجات السوربون بمطالبة المسلمين بما يُسَمَّى عملًا داخليًا، لحمته و سداه العودة إلى الأساس الأخلاقي ليحسن وضعهم ويكثر نفعهم، وبما هو مناطٌ للحكم لهم أو عليهم في أرض هي أرض حسابٍ على كلّ شيء، وفي مجتمع تحوَّلَتْ عقارب الساعة فيه عن كل ما هو دين، وكل ما هو أجنبي.
هذه نجواي وتلك حقيقتك، وبينهما تجاذبات شَقَّتْ طريقَها من بيانك إلى الكهوف الذاهبة في شخصي، وأخذتْ مَجازها إليَّ ممتدَّةً من فطرتك، فتلقَّفْتُ هذا وذاك – أنا الذي قلَّمَا استجبتُ لأحد – هزيمًا لم أقدر على مقاومة سحرك، ودعيًّا أزعم أني وإن فنَّدني الواقعُ أستنسخك، تائها عمَّا يقوله مَثَلُنا القديم: « ليسَ هذا بِعُشِّكِ فَادْرُجِي.»
ما أشبه الليلة بالبارحة . !. ما زلتَ كما كنتَ تُمْسِكُ بمجامع طفولتي، توقظ فيَّ تمرُّدي وتغفر أن أكون نشازًا في سياقي. وإِنْ يَكُ من الأشياء ومن الناس ما تغير من حولي، فإن الأثر باقٍ والمركبَ لم يَعْلُهُ الموجُ… !ما زلتَ، نعم ما زلتَ صوتًا يحمل سمتك الأخرويَّ، يدلُّ عليك بما لا يقدر عليه غيرك في الجمع بين ما تقول، وكيف تقول، ومتى تقول، ولمن تقول، ويضمُّ إليكَ محبّين سارَ مَنْ سَارَ منهم إلى قَدَرِه، وبقي من بقي منهم يُشَرِّقُ إذا شَرَّقْتَ، ويُغَرِّبُ إذا غَرَّبْتَ، ولا خير فيمن كان بينهما صريع وسطية مغشوشة، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء…… ! !
ياسين بن عبيد / جامعة سطيف 2
29/ 11/ 2019
[1]– عالم اجتماع جزائري ومشارك في الحركة الثقافية عربياً، يقف وراء مشروع تعريف الغرب بالقيم الشرقية الإسلامية، ويدفع بقوة نحو حوار حضاري مع الغرب يعرض المبادئ الإسلامية عرضا سيماه الأصالة.
أديب ومترجم وأستاذ محاضر بالجامعات الجزائرية -[2]
[3]– من القرى المعروفة بتخريج حفظة القرآن الكريم في لجزائر