نشأة اللّغة العربيّة، وأثرها في العلوم
د.علي منتش([1])
1ـ تعريف اللّغة العربيّة ونشأتها
بالرجوع إلى أفضل وأقدم، بل أقرب تعريف للّغة، الذي هو: «أصوات يُعبِّر بها كلّ قومٍ عن أغراضهم»([2]). نلاحظ في هذا التعريف أنَّه لم يقصر اللّغة على الكتابة فقط، كما فعل غيره، بل عمَّمها لما هو أعمّ من الكتابة. وفي الحدّ هذا نكتةٌ مهمة من الجدير أن يُشار إليها، وهي أنّ اللّغة ليست ظاهرةً فرديّة، بل اجتماعيّة إنسانيّة، لا توجد إلَّا في مجتمعٍ، سواءٌ أكان مدنّيًا أم قبليًّا أم غير ذلك. وعليه يمكن القول: إنّ المَدّنيَّة مَدينَةٌ للّغة في أصل وجودها ورُقيّها، فهي من صُنْع خالق الإنسان وموجده، أو من صُنْع هذا المخلوق العجيب، الذي انطوى فيه العالم الأكبر؟ فالحاجة أمُّ الاختراع، حيث دَعَتْه حاجته إلى التعبير عمّا يدور في خلده، ومكنونات نفسه إلى إيجاد وسيلةٍ يتواصل بها، ومن خلالها مع بني جنسه، وهذا ما سيتّضح عند عرض المناقشات، والآراء، والأقوال حول بداية اللّغة ونشأتها. وإذا تتبَّعنا الآراء والأقوال حول موضوع نشأة اللّغة وبدايتها فإنّنا سنجد تعدّدًا فيها حتى عند أهل الفنِّ الواحد، سواءٌ عند النّحاة، أو أهل البلاغة، أو الاجتماع، أو الفلسفة، أو أهل الأصول وغيرهم. وبالرّجوع إلى كلمات الباحثين في هذا الحقل والمضمار، سواءٌ أكانوا متخصّصين كعلماء اللّغة والنّحو، أم لم تكن اللّغة موضوعًا لعلمهم، بل كانت طريقًا له، كعلماء الاجتماع، وأصول الفقه وغيرهم؛ لم نجِدْ فيها لنشأة اللّغة وبدايتها بدايةً معلومة، واضحة يُرْكَن إليها، بل تشعَّبت آراؤهم، وأقوالهم في هذه المسألة، وأغلبُ الظنّ هو لعدم توافر دليلٍ علميّ واضح وجليّ يُثبت هذه القضيّة أو هذا الموضوع. وهذا لا يختص بلغة الضاد فقط، وإنّما يشمل سائر لغات العالم المعروفة، التي قد يعود بعضها إلى بعضٍ. ومسألة اللّغة من المسائل المهمة جدًّا على الصعيد الاجتماعيّ والثقافيّ والإنسانيّ وغيرها، فهي تساوي وتساوق وجود الإنسان على هذه المعمورة.
ومع هذه الأهميّة للّغة التي بها يمكن للإنسان أن يحيا في جماعاتٍ وأقوام، وقد يتوقَّف نَظْم الحياة عليها، مع ذلك كلّه لم يعرف للّغة بداية ومنشأ، هل أنها ولدَتْ مع ولادة الإنسان، ووُجدت بوجوده، فكانت رديفًا له في بداية النشأة والخلقة، ومن دونها لا يمكن أن يوجد، أو يبقى لتكتب له الحياة؟ «فالثابت أنّنا لا نعرف على وجه اليقين تاريخ هذه اللّغة في مراحلها الأولى»، و« متى بدأت أوّل كلمة على لسان البشر…؟ وكيفيّة تكامل اللّغات…؛ لعدم وصول العلماء في الفلسفة واللّغة والأصول حتّى الآن إلى أدلّةٍ قاطعة وقناعاتٍ كافية في هذا المجال، وما زال الرّأي تخمينًا وتقريبًا فقط»([3]).
2ـ نظريّات أهل اللّغة في «حقيقة الوضع»
أمَّا أهل اللّغة، فانقسمت آراؤهم إلى نظريات، وأهمّها ما يلي:
الرأي الأوّل: التوقيف
ويُراد بهذا المصطلح أنَّ صنع اللّغة كان من قِبَل الله تعالى. ودليلهم: آياتٌ من القرآن([4])، ونصوصٌ من الإنجيل «العهد الجديد»([5]).
الرأي الثاني: الاصطلاح أو المواضعة
ويُراد به أنّ بداية اللّغة كانت من صنع الإنسان واختراعه؛ لحاجته للتّواصل مع بني جنسه، أو ليعبِّر من خلالها عمّا يدور في خلده، وحاجته إلى الآخر.
الرأي الثالث: التوقيف والاصطلاح
وتعني أنّ بداية اللّغة هي من قِبَل الله تعالى، ثمَّ بدأ الإنسان يزيد عليها، ويطوِّرها، حَسْب ما تقضيه حاجته إلى ألفاظٍ، يطلقها على معانٍ يُريدها، ويحتاج إليها في مسيرة حياته.
الرأي الرابع: التوقُّف
أي عدم الجَزْم بواحدٍ من الآراء والأقوال، وإنْ كان الكلّ محتملاً، مع احتمال صوابيّة كلّ واحدٍ منها. وهذه أهمّ الآراء التي ذكرها أهل اللّغة.
الأدلّة على هذه الآراء
ولا بُدَّ بعد استعراض الآراء والنظريّات في مسألة بداية اللّغة من ذكر أهمّ أدلّتهم عليها:
أدلّة الرأي الأوّل (إلهيّة اللغة)
إلهيّة اللّغة، «فأوّل مَنْ قال به من أهل اللّغة هو ابن فارس، في كتابه الصاحبيّ؛ وزعم بعضُهم أنّ التّوقيف هو رأي المشهور من أهل اللّغة، والنّحو، والأصول من المتقدِّمين»([6]). وقال به «هيراكليت»، والأب «لامي»، والفيلسوف «دوبونالد». ودليلُ ابن فارس هو من الآيات والروايات، من القرآن والسنَّة، كما في قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا﴾([7]). والمراد بالأسماء: أسماء الأشياء كلّها، الأفعال منها والحروف، وهو أعمّ من التّقسيم النّحويّ للكلمة، الذي جاء متأخِّرًا. ودليلُ غير المسلمين جاء في العهد الجديد، إذ استدلّ بما ورد في الإنجيل، من أن الله جَبَل من الأرض كلّ حيوانات البريّة، وكلّ طيور السّماء، فأحضرها إلى آدم ليرى ماذا يدعوها، وكلّ ما دعا به آدم ذات نفسٍ حيّة فهو اسمها، فدعا آدم بأسماء جميع البهائم، وطيور السماء، وجميع حيوانات البريّة([8]).
ومن القائلين بالتوقيف أبو الحسن الأخفش، وأبو عليّ الفارسي.
أدلّة نظريّة «الاصطلاح» أو «المواضعة»، ونقدها
يقول ابنُ جنّي: «وذلك أنّهم ذهبوا إلى أنّ أصل اللّغة لا بُدَّ فيه من المواضعة؛ قالوا: وذلك كأنْ يجتمع حكيمان، أو ثلاثة فصاعدًا، فيحتاجون إلى الإبانة عن الأشياء والمعلومات، فيضعون لكلّ واحدٍ منها سمةً ولفظًا، إذا ذُكر عُرف به مسمّاه؛ ليمتاز من غيره، وليغني عن إحضاره إلى مرآة العين، فيكون ذلك أقرب وأخفّ، وأسهل من تكلُّف إحضاره؛ لبلوغ الغرض في إبانة حاله، بل قد يحتاج في كثيرٍ من الأحوال إلى ذكر ما لا يمكن إحضاره ولا إدناؤه، كالنائي، وحال اجتماع الضّدين على المحلّ الواحد، كيف يكون ذلك لو جاز؟»([9]). وما ذكره ابن جنّي في نقله الاستدلال على المواضعة والاصطلاح بأنه يمكن لحكيمين أو ثلاثة أن يجتمعوا ليواضعوا على اللّغة… بيِّنُ الضعف إذ يَرِدُ إلى الذِّهن بَدْوًا أنه كيف تَخَاطب هؤلاء المتواضعون؟ وبأيّ لغةٍ؟ وكيف اصطلحوا على النطق بالأحرف؟ وهذا هو محلّ الكلام، أو ما يُعبَّر عنه بأنه توقُّف الشيء على نفسه. ومع ذلك نرى أن القول الثّاني له حظٌّ من القبول، سواء على القول بالاستقلال أو بإضافته إلى نظريّة «التوقيف»، إذ نمازج بينهما، على ما هو الرأي الأقرب، كما سيأتي. على أنّ النظريّة الأولى يمكن نقضها لدعم الرأي الثّاني بأن المراد من قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ…﴾([10]) أنّ الله أقدر آدم على وضع الألفاظ للمعاني (المواضعة). وهذا محتملٌ، ليسقط الاستدلال بالآية على القول بالتوقيف. ويمكن الردّ على ما ورد في العهد الجديد «الإنجيل» أنّه شاهدٌ على الاصطلاح والمواضعة، بأن أقدر اللهُ آدمَ على مناداة الأشياء بأسمائها. وإذا كان ثمّة احتمالُ إقدار الله تعالى لآدم على مناداة الأشياء بأسمائها بعد إحضارها أمامه فهو إنْ لم يصل إلى درجة أنّ الله أقدره على التّلفّظ بأسماء لمُسمَّيات الأشياء فلا أقلّ من كونه محتملاً، وعليه يسقط الاستدلال بهذا النصّ وأمثاله على نفي الرأي الأوّل القائل بالتوقيف.
أدلّة الرأي الثالث (التوقيف والاصطلاح)
وذهب جمهور النُّحاة إلى أنّ اللّغة لم تُوضَع كلُّها في وقتٍ واحد، بل وقعت متلاحقةً ومتتابعة. قاله ابن جنّي، ناقلًا رأيًا لأستاذه أبي الحسن الأخفش: «اختلاف لغات العرب إنَّما جاء من قِبَل أنَّ أوّل مَنْ وضع منها وضع على خلافٍ، وإنْ كان كلّه مسوقًا على صحّةٍ وقياس، ثمَّ أحدثوا من بعد أشياء كثيرة للحاجة إليها، غير أنها على قياس ما كان وضع في الأصل مختلفًا (…)، ويجوز أن يكون الموضوع الأوّل ضَرْبًا واحدًا»([11]). هذا الرّأي لأبي الحسن الأخفش في أنَّ اللّغة وضعت ملاحقةُ، لا بالتوقيف ولا بالاصطلاح دفعةً، يناسب الرأي الذي ذهب إليه السيد الخوئي (ر) في «نظريّة التعهُّد». وقد سبقه إلى هذه النظريّة جماعةٌ. «وممَّنْ قال بالنظريّة الثّانية من الغربيين: الفيلسوف اليوناني يموكريت وآدم سميث وريد ودجلد ستيوارت»([12]). وقد يَرِدُ أنّ نظريّة «الاصطلاح» ليس لها دليلٌ نقليّ، ولا سندٌ تاريخي. وهذا صحيحٌ.
لكنْ يمكن القول: إنّ النُّظُم الاجتماعيّة ـ واللّغة من أهمّها، بل من أُسُس تكوين الإنسان والقِيَم الإنسانيّة، بل الفكر الإنسانيّ متوقّفٌ عليهاـ لا تكون دفعيّةً، وإنّما تحصل تدريجيّةً، وهذا يناسب القول بأنّ نشوء اللّغة إنما هو على نحو الحاجة إلى الألفاظ؛ لإيصال المعاني المطلوبة إلى ذهن المخاطب.
نظريّة «محاكاة أصوات الطبيعة»
وهناك نظرياتٌ أُخرى للنُّحاة، كما نقل ذلك ابن جنّي في كتاب الخصائص، وقد عقد بابًا سمَّاه: باب «إمساس الألفاظ أشباه المعاني»، أو ما يُعبّر عنه بنظريّة «محاكاة أصوات الطبيعة»، إذ قال: «ذهب بعضهم إلى أنَّ أصل اللّغات كلّها إنّما هو من الأصوات المسموعات، كدويّ البحر، وحنين الرعد، وخرير الماء وشحيج الحمار، ونعيق الغراب، ونحو ذلك، ثمَّ وُلدَت اللغات عن ذلك في ما بعد (…). وهذا عندي وجهٌ صالح، ومذهبٌ مُتقبَّل»([13]). وقد يقال: إنَّ هذه النظريّة أقرب النظريات إلى الصّحّة في نشوء اللّغة وبدايتها، وأقربها إلى المعقول، وأكثر تناسبًا مع ظواهر الطبيعة ومراحل تطوُّر الإنسان، بل ورُبَما تناسب خصائص بعض اللّغات في كثير من مفرداتها، خصوصًا عند الأمم البدائيّة، ولكنّها مدخولةٌ بأنّها تفسِّر جملة من الألفاظ، وعلاقتها بمعانيها، إلَّا أنه كيف يمكن لها مثلًا أن تفسِّر التناسب بين لفظَيْ «كتاب» و«دفتر» وبين معنيَيْهما؟ وهل العلاقة إلَّا عقليّةً بحتة، وليست بمحاكاةٍ.
نظريّة «محاكاة الأصوات معانيها»
وهي قريبةٌ إلى الّتي سبقتها، وتؤكِّد أن جرس الكلمة وموسيقاها يتناسب مع معناها. وقد عقد لها ابن جنّي في «الخصائص» بابًا سمّاه: «باب تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني»، وقال: «اعلَمْ أنَّ هذا موضعٌ شريف لطيف، وقد نبَّه عليه الخليل» و«سيبويه». وتلقَّتْه الجماعةُ بالقبول له، والاعتراف بصحّته. فقال الخليل: «كأنَّهم توهَّموا في صوت الجندب استطالةً ومدًّا، فقالوا: صرّ، وتوهَّموا في صوت البازيّ تقيطعاً فقالوا: صرصر»([14]).
وقال سيبويه في المصادر التي جاءت على الفعلان: «إنَّها تأتي للاضطراب والحركة، نحو: النقزان والغليان والغثيان، فقابلوا بتوالي حركات المثال توالي حركات الأفعال»([15]). ثمّ قال ابن جنّي: «ووجدتُ أنا من هذا الحديث أشياء كثيرة على سمت ما حدَّاه، ومنهاج ما مثَّلاه…»([16]). وهذه النظريّة مدخولةٌ أيضاً بأنّها لا تفسِّر إلَّا الكمّ القليل من الكلمات، مضافًا إلى أنّه يمكن لكلّ إنسانٍ أن يهتدي لكلّ لغةٍ، ولا يصحّ معه أيضًا وضع لفظٍ واحد لضدّين، ككلمة «حميم» للبارد والحارّ، وكلمة «جون» للأبيض والأسود، وكلمة «قرء» للحَيْض والطهر.
أضف إلى عدم ترابط وتناسب بعض الألفاظ مع معانيها، ككلمة «جبل» في العربيّة و(ماونتن) في الإنكليزيّة؛ فإنّك لا تجد ترابطًا بين هذه الألفاظ ومعناها. فتبيَّن أنَّ كلّ النّظريات اللّغويّة التي حاولت تفسير نشأة اللّغة وبدايتها لم تستطِعْ أنْ تقدِّم ما يثلج الفؤاد؛ كونها فسَّرت جانبًا صغيرًا أو جزءًا من نشوء اللّغة، ولم تُعْطِ صورةً شاملة وكاملة، فلا تصلح أن تكون جوابًا علميًّا شافيًا، ترتاح إليه النّفس، ويسكن له الفؤاد.
ومن نافلة القول: إن علم اللّغة الحديث يرفض كلَّ هذه النظريات غير المبنيَّة على قواعد علميّة، تفسِّر التاريخ، أو الحوادث بالأمور المادّيّة المحسوسة. وتجدر الإشارة إلى أنّ جملةً من الأصوليّين المتقدِّمين، والمتأخِّرين عدّوا هذا البحث عقيمًا، وغير ذي جدوى، وخاليًا من الفائدة.
إنّه من المؤكَّد أنّنا لا نعرف بالدّقّة وعلى وجه اليقين تاريخ اللّغة العربيّة، في مراحلها الأولى وفي بَدء نشوئها، ولكنّنا نتساءل: هل من المعقول أن تكون قد بدأَتْ بما وصلنا من شعرٍ ونثر قبل الرِّسالة الإسلاميّة، بما لا يزيد، أو يفوق المئة سنةٍ تقريبًا؟! إنّه من المستبعد جدًّا بَدْءَ هذه اللّغة العريقة بهذه المعلَّقات وأمثالها، إذ إنْها تمثِّل طرازًا رفيعًا في الأدب والمعرفة والنضج، وهذا يستدعي مرورها بمراحل عديدة، وقطعها أشواطًا كثيرة، حتّى وصلت إلى ما وصلت إليه.
وممَّنْ قال بأنَّ اللّغة لم تولَدْ في ظرفٍ معين واحد، وإنّما كانت توجد متتابعةً بحَسَب الأحوال والأمكنة والحاجة ابنُ جنّي، تَبَعًا لأستاذه أبي الحسن الأخفش، فهو القائل: «إنّ الصوابَ هو الذي عليه رأي أبي الحسن الأخفش، أن اللّغة لم توضَعْ كلَّها في وقتٍ واحد، بل وقعَتْ متلاحقةً متتابعة»([17]).
ورأيُ ابن جنّي هذا صريحٌ في القول بالمواضعة في كلِّ عصرٍ. وهذا ما اختاره بعض الأصوليّين، وأهل اللّغة من المتأخِّرين، إذ قالوا: إنه كلّما اقتضت الحاجةُ كان وما زال في كلّ عصرٍ مَنْ يضع الألفاظ بإزاء المعاني التي تستجدّ.
3ـ الفلسفة من وضع الألفاظ للمعاني
يمكن القول: إنَّ الإنسان لا يمكن له أن يعيش منفردًا، فيقيم معاشه بنفسه، ويحصل على حاجاته من دون معونةٍ واسترفادٍ من أحدٍ؛ ليقوم بدَوْره المطلوب منه في هذه الحياة. لذلك كان لا بُدَّ له من أن يسترفد المعونة من غيره؛ ليحصل على مقاصده وأغراضه، التي بها بقاؤه. ولهذا الشيء اتَّخذ المُدُن مقرًّا وسكنًا له؛ ليجتمع ويتعاون مع غيره، وهذا سرُّ القول: إن الإنسان بطبعه مَدَنيّ، وهذا بعكس السِّباع فإنها بطبعها متوحِّشة. إنّ حاجة الإنسان إلى الآخر، وعدم قيامه بنفسه في تحصيل معاشه وسائر أغراضه، سببٌ لتوزيع الصنائع، واختلاف الحِرَف، فكلُّ واحدٍ يقصر وقته على حِرْفَةٍ يشتغل بها، ويكفيه الآخرون تحصيل ما يحتاج من أغراض ومقاصد من الحِرَف والصنائع الأخرى.
فحاجة الإنسان؛ إمَّا أن تكون حاضرةً؛ وإمّا أن تكون غائبةً. فإنْ كانت حاضرةً فيمكن الإشارة إليها؛ وأمّا إذا كانت غائبةً فلا بُدَّ من وسيلةٍ يُعبِّر بها عن حاجته وغرضه، وخصوصًا العلوم، والمعدومات، والأمور غير المحسوسة. فلذلك وضعوا الكلام دلالةً، فكان اللّسان أسرع الأعضاء حركةً، وقبولًا للتّرداد.
وعُلِّلَتْ حكمة الوضع عند بعضهم بقوله:«إنَّ السبب في وضع الألفاظ أن الإنسان الواحد لا يستقلّ وحده بجميع حاجاته، فلا بُدَّ له من التعاون. ولا تعاون إلَّا بالتعارف، ولا تعارف إلَّا بأسباب، كحركاتٍ أو إشاراتٍ أو نقوشٍ أو ألفاظٍ توضع بإزاء المقاصد، وأيسرها وأفيدها وأعمُّها الألفاظ. أمّا أنّها أفيد فلأنها موجودةٌ عند الحاجة، معدومة عند عدمها. وأمّا أنّها أعمّها فليس يمكن أن يكون لكلّ شيءٍ نقشٌ، كذات الله تعالى والعلوم، أو إليه إشارةٌ، كالغائبات. ويمكن أن يكون لكلّ شيءٍ لفظٌ. فلمّا كانت الألفاظ أيسر وأفيد وأعمّ صارت موضوعةً بإزاء المعاني»([18]). وبعد الحديث عن حكمة الوضع، والحاجة إلى اللّغة، هنا سؤالٌ يفرض نفسه، وهو: هل أن الألفاظ وضعَتْ بإزاء الصّور الذهنيّة، أو الخارجيّة، أو كلَيْهما، أوْ لا ذا ولا ذاك، بل وضعَتْ للمعنى بما هو هو (الهوهويّة)، أي بدون قيدٍ وضميمةٍ زائدة؟
ذهب جماعةٌ من النّحاة وأهل اللّغة وغيرهم، كالجويني والرازي، إلى أنَّ الألفاظ موضوعةٌ للصّور الذِّهْنيّة، سواءٌ أكانت موجودةً في الذِّهْن والخارج، أو في الذِّهْن فقط([19]). وقال أبو إسحاق الشيرازي: إنَّها موضوعةٌ للماهيّات الخارجيّة. وقال الإصفهاني: إنّها موضوعةٌ للأعمّ. وفصَّل بعضُهم بين الأعلام الشخصيّة فهي للخارجيّ (ولا ينافيه استحضار الصورة الذهنيّة، فإنها مجرّد آلةٍ لملاحظة الوجود الخارجيّ)، وبين غيرها فهي موضوعةٌ لكلّ فردٍ مُنتشرٍ من بني جنسه.
4ـ الجدوى من البحث في وضع اللّغة وبداية نشأتها
وهنا يطالعنا سؤالٌ عن الجدوى في البحث عن وضع اللّغة وأصل نشأتها؛ فيذهب بعض العلماء، على اختلاف علومهم، إلى أنَّ البحث عن أصل اللّغة ونشأتها ضربٌ من الوَهْم والخيال، وتضييع الوقت في ما لا يجدي نفعًا، ولا يجني ثمرةً. ومنهم: جَمْعٌ من الأصوليّين، سواءٌ من المتقدِّمين، أو المتأخِّرين، ما دام لا دليل قطعيًّا، ولا برهان علميًّا، ولا نقلَ يُطمأنّ إليه في كيفيّة نشوئها. ومن هنا الكلام على أنّ الجمعيّة الفرنسيّة منعَتْ إلقاء المحاضرات في الجامعات تحت عنوان: «نشأة اللّغة». وممَّنْ يرى هذا الرأي من المتقدِّمين ابن قُدامة، إذ ذكر بعد استعراضه للأقوال في نشأة اللّغة، وأنها توقيفيّةٌ أو اصطلاحيّة، وأنَّ الجمهور على الرأي الثّاني، قال: «أمّا الواقع فلا مطمع في معرفته يقينًا؛ إذ لم يَرِدْ نصٌّ. ولا مجال للعقل والبرهان في معرفته». ثمّ أردف قائلاً، حول الفائدة العمليّة من البحث: «ثمَّ هذا أمرٌ لا يرتبط به تعبُّدٌ عمليّ، ولا ترهق إلى اعتقاده حاجةٌ، فالخوض فيه فضولٌ، فلا حاجةَ إلى التطويل»([20]).
5ـ علاقة اللّفظ بالمعنى والفهم اللّغويّ
الدّال والمدّلول
لقد شكَّلت ثنائيّة الدّال والمدلول منطلقًا ومحورًا أساسّيًا لدى كلٍّ من المناطقة، والأصوليّين، واللّغويّين، وقد عرَّفها كلُّ متخصِّص حَسْبَ ما تقتضيه مقاصده، ودرسها كلٌّ منهم بما لديه من أدواتٍ وأدلّة. فتناولها علماء اللّغة تحت مسمّيات عدّة، مثل: اللّسانيّة، أو علم السيمياء (سيميولوجيا). وكان تعريفُهم لها بأنّها: «علمٌ يُعْنَى بدراسة العلامات والإشارات الدّالّة، من طقوسٍ ورموزٍ وكتابةٍ ولفظٍ»([21]). وفي تعريفٍ آخر قال علماء اللّغة: «هي دراسةُ جوهر الكلمات في حالاتها الإراديّة المعجميّة، وفي حالاتها التركيبيّة»([22]). أمّا المناطقة فقالوا في تعريفها: «هي كون الشيء بحالةٍ يلزم من العلم به العلم بشيءٍ آخر»([23]). والأصوليّون؛ بما تعنيه الدّلالة لهم، عدّوا أنها درسُ وسائل نقل المعاني من ذهن الملقي إلى ذهن المتلقّي. ومن هذه التعريفات قسَّم علماء المنطق والأصول الدّلالة إلى ثلاثة أقسام:
1ـ الدّلالة الوضعيّة.
2ـ الدّلالة العقليّة.
3ـ الدّلالة الطبيعيّة (الطبعيّة).
واشتركوا مع علماء اللّغة بدراسة الدّلالة اللّفظيّة. وانقسموا ما بين غالبيّةٍ أَدْرجَتْها كقسمٍ للدّلالة الوضعيّة، وأقلّية خَرَقَت الإجماع، بجعلها توقيفيّةً، يتمّ بحثها ضمن الدّلالة الطبيعيّة.
مع الاتّفاق على مشتركٍ واحد للدّال والمدلول؛ فالدّال هو الرمز المكتوب، أو المنطوق، أمّا المدلول فهو التّصوُّر الذّهني لذلك الرمز. ومن التّعريف نرى أنّ أساسَ حجِّيّة الأدّلة اللّفظيّة التي تفيد الاطمئنان كونُ الدّليل اللّفظيّ، بحَسَب نظام التعبير، لا يفيد إلّا تلك المدلولات الواردة في النّصوص القرآنيّة، أو الواردة عن المعصوم؛ لما تحويه الأدلّة اللّفظيّة من قرائن تنفي احتمال مدلولاتٍ أخرى، وتثبت العلاقة بين الدّال والمدلول.
اعتباطيّة العلاقة وتطوُّرها
إن تصوُّر اللّفظ هو سببٌ لتصوّر المعنى. واللّفظ والمعنى شيئان مختلفان، فكيف تكوَّنت العلاقة بينهما؟ للإجابة عن هذا السّؤال افترق الباحثون إلى اتّجاهين، وهما:
الاتّجاه الأوّل: يرى أن العلاقة بين اللّفظ والمعنى طبيعيّةٌ أو توقيفيّةٌ، والدّلالة بينهما لم تتكوَّن بسببٍ خارجيّ مكتَسَب، بل هي تلازميّةٌ.
الاتّجاه الثّاني: يقول إنّ العلاقة بين اللّفظ والمعنى وضعها في كلّ لغةٍ الشخصُ الأوّل الذي وضع للمعاني التي أمامه ألفاظًا تناسبَتْ مع لسانه وطبيعته، بشكلٍ اعتباطيّ، لا يرتكز على مبانٍ قاعديّة أو سوابق معجميّة. وينقسم أصحاب الاتّجاه الأوّل إلى قسمين، وهما:
1ـ الرأي التوقيفي. إذ يعتقد بأن الله تعالى هو الذي وقف لكلّ معنىً اسمًا يوافق طَبْعه وأوصافه، مستدلِّين بقوله تعالى: ﴿وعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا﴾([24]). ومن الواضح أن الاستناد إلى هذه الآية الكريمة لا اعتبار فيه؛ لأنّ معنى الآية أنّ الله عزَّ وجلَّ علَّم آدم الأشياء وخواصّها، والحقائق ومعانيها، فلو كانت الأسماء تعني الألفاظ للزم من ذلك أن تكون لغة آدم العربيّة، وبالتالي لغة كلّ الأنبياء من بعده. ولكنّ الله تعالى يقول في كتابه العزيز: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَّشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَّشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾([25]). ويشير المولى عزَّ وجلَّ في آياتٍ من القرآن الكريم إلى حُرِّية الإنسان في اختيار ألفاظه: ﴿ألَمْ نَجْعَلْ لَّهُ عَيْنَيْنِ* وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ* وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾([26]). ولقد جهد أصحاب الرأي بإيجاد مشتركاتٍ لفظيّة وردَتْ في القرآن الكريم، واستعملها بعض أصحاب اللغات في ما يشبه المعنى القرآنيّ أو ما شُبِّه لهم.
ونورد أمثلةً لقولهم
1ـ يقول الله سبحانه وتعالى في أصحاب الكهف: ﴿… فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ…﴾([27]). والوَرِق: هي العملةُ السائدة عند قوم أصحاب الكهف حينئذٍ، ولا شكَّ أنّ هذه العملةـ حَسْب ذكر الله لهاـ من الذَّهَب، ونجد في لسان الذين أُرسل إليهم: aura (latin); oro (italien-espagnol); or (francais).
2ـ ذكر اللهُ الرواسي في القرآن 9 مرّاتٍ، كلّها تدلّ على سلسلة جبالٍ. ونجد في لسان الذين أرسل إليهم: oros في لسان الإغريق بمعنى الجبل. ونجد aures باللسان الأمازيغي، وهي سلسلة الجبال الشرقيّة المعروفة في الجزائر بـ: aures.
3ـ يقول الله تعالى: ﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا المُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ﴾([28])، وقوله تعالى: ﴿تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ﴾([29])، وهو ماءٌ يغلي. ونجد المعنى نفس الجرس اللّفظيّ نفسه في لسان الذين أُرسل إليهم، وهو بالفرنسيّة igne من النار، أو له صلةٌ بالنار؛ وفي اللاتينيّة igni له خصائص النار؛ وبالإنكليزيّة igneous. لقد قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ… اخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ﴾([30])، وتشير إلى أن لكلّ قومٍ لسانًا ينطقون وفق قواعده، وهو الحجّة عليهم، والميزان في حسابهم.
2ـ الرأي الطبيعي: ويدّعي أن علاقةً خفيّة قديمة تربط بين اللّفظ والمعنى منشؤها الطبيعة؛ فيذهب أفلاطون بهذا الاتّجاه، ويرى «أنّ اللّغة عبارةٌ عن محاكاةٍ صوتيّة للموضوعات التي تشير إليها. فالإنسان يخلق لغته من محاكاة وتقليد أصوات الطبيعة»([31])؛ ويأتي أرسطو ليخالف أستاذه، عادًّا أنّ المعنى يتطابق مع التّصوُّر الموجود في العقل، والصلة بين اللّفظ والدّلالة علاقةٌ اصطلاحيّة ناتجةٌ عن اتّفاقٍ وتراضٍ بين البشر.
أمّا الجامع والمشترك بين الاتّجاه التّوفيقيّ والاتّجاه الطبيعيّ فهو الاعتقاد بالعلاقة التّلازميّة بين اللّفظ والمعنى. فاللّغة هي نتاجُ حاجة البشر للتّعبير عمّا يرَوْن، والإفصاح عمّا يريدون. وهي وسيلةٌ لينقل الإنسان ما في ذهنه إلى الآخرين. فالوسائل التي أودعها الله تعالى في الإنسان لا تخرج عن ثلاث: اللّفظ؛ والإشارة؛ والمثال. ولما في الإشارة والمثال من تكلُّفٍ، وقصورٍ في الإحاطة بالأشياء والمفاهيم كافّة ، لجأ الإنسان إلى اللّفظ؛ لأنه الأيسر في التّعبير، وينتج من حركة اللّسان الطبيعّيّة، من دون تكلفةٍ أو عناء.
وكان للبيئة، كما الحاجة، دَوْرٌ في جزالة اللّفظ وبيان النّطق. فالجبال والسهول، والحرارة والبرودة، وكلّ شؤون الطبيعة، كان لها الأثر في أن تضع كلّ مجموعةٍ من البشر ألفاظًا تدلّ على أشياء وجَدَتْها، وأفعال قامَتْ بها. وقد تسالمَتْ على هذه الألفاظ؛ لتصبح لغة تخاطبٍ، ووسيلة تعبيرٍ. والعرب – كغيرهم – وضعوا مجموعةً من الألفاظ، تطوَّرت وتبلورت مع تطوُّر حركتهم وازدياد حاجاتهم؛ لتصبح لغةً سامية في التعبير والإيجاز، فاختارها الله تعالى على ما سواها من لغاتٍ، وجعلها لغة القرآن الكريم.
ولكنّ رأيًا آخر يرى أنّ الإنسان لم يختَرْ اللّفظ، بل نطق به؛ لوجود علاقةٍ طبيعيّة إلهيّة بين اللّفظ والمعنى. فعندما نلفظ كلمة ماء مثلاً ـ فإنّ الذِّهْن سيتصوَّر الماء؛ لوجود خاصِّية في اللّفظ ترتبط بالماء.
لكنّ منشأ الرأي شعور الإنسان الفطريّ بسلامة الأشياء، وأنه عندما يخرج ألفاظه تتجلّى الصورة الواقعيّة والطبيعيّة للمراد من لفظه. ولتقريب الصورة فإنّ كلمة (ماء) يراها الناطق بالعربيّة مطابقةً وملازمةً لصورة الماء في ذهنه، حتّى أنّه يحاول أن يطبِّق عليها الصّفات الصّوتيّة للحروف، من رقّةٍ وانفتاح واستعلاء وغيرها. ولكنْ كيف للمتكلِّم بالفرنسيّة مثلاً أن تدلّه لفظة (ماء) باللّغة العربيّة إلى الماء، وهو الذي اعتاد على كلمةٍ أخرى، لا شبه بينها وبين اللّغة العربيّة، لا في الحروف، ولا في الصّفات؟! نعم، قد يحدث التّشابه في بعض الألفاظ ودلالتها، ولكنّ المرجع حينها هو أصل الوضع؛ لأن الواضع تأثَّر بمحيطه، وبصفة الشّيء الذي وَضَعَ له اللّفظ. وكثيراً ما تأثّر الواضع بالمناسبة التي رأى فيها ذلك الشّيء، فخرج لفظه من وحي تلك المناسبة. فلو عزلنا الدّال عن المدلول، أو الشّكل عن المضمون، ثمّ ننظر إلى تأثير الدّال في النَّفْس بعد ذلك، فلا بُدَّ عندها من الرجوع إلى البداية، والحاجة إلى وضع ألفاظٍ جديدة لما بين أيدينا من مسمَّيات. ولعلّ التذكير بقصّة حيّ بن يقظان ولقائه الأوّل بأبسال، الزائر القادم إلى جزيرته النائية، مفيدٌ في هذا المقام. فعلى الرغم من خبرة حيّ بن يقظان الواسعة بأصوات الحيوانات، التي ترعرع في صحبتها في تلك الجزيرة، وعلى الرّغم من أن أبسال قد تعلَّم أكثر الألسن ومهر فيها، فإن التّواصل بينهما كان مستحيلاً، ما أدّى إلى هَيْمنة الفَرَق الشّديد على أبسال، والتعجُّب والحَيْرة على حيّ بن يقظان، إلى أن شرع أبسال في تعليمه الكلام أوّلاً بأوّلٍ، فكان يشير له إلى أعيان الموجودات، وينطق بأسمائها، ويكرِّر ذلك عليه، ويحمله على النطق، فينطق بها، مقترنًا بالإشارة، حتّى علّمه الأسماء كلّها، ودرَّجه قليلًا قليلًا، حتّى تكلّم في أقرب مدّةٍ. فالقول باعتباطيّة العلاقة بين الدّال والمدلول لا ينفي وجود علاقةٍ حقيقيّة، مرتكزةٍ على مبانٍ علميّةٍ ثابتة؛ لأنّ الاعتباطيّة هي المنشأ، لكنّ تطوّر الإنسان رافق اللّغة، وطوَّرها، وبنى عليها أنظمةً وقوانين. فاللّغة تتَّخذ دَوْرًا مركزيًّا في تشكيل تصوّرٍ مختلف للعالم؛ لأنّها التمثيل الرّمزيّ للواقع المحسوس. وبالتّالي فإنّها تتضمَّن تصوّرًا خاصًّا للعالم، ينظّم ويكيّف الفكر. وهو أمرٌ ينعكس على طبيعة التضمين المرتبطة بقاعدةٍ معجميّة، خاصّة بكلّ لغةٍ، تتحكَّم فيها الحروف والضمائر لتعيين المراد. فالعربيّة استطاعَتْ أن تكون لغةَ تعبيرٍ مكتملة بثمانية وعشرين حرفًا فحَسْب، وهذا ما أسماه مارتينيه الاقتصاد اللّغويّ. نعرض لهذا من أجل التدليل بأنّ العلاقة بين الدّال والمدلول مرتهنةٌ بثقافة أصحاب اللّغة، وقدرتهم على التّعبير والتطوّر. فلو كانت العلاقة بين الدّال والمدلول طبيعيّةً أو توقيفيّةً للزم ذلك ارتهان التطوّر للطبيعة أو للتوقيف الإلهيّ . وهذا ما يرفضه كلّ أصحاب الرأي.
يقول الغزّاليّ: «معاني الاسم ثابتةٌ في الأزل، ولم تكن الأسماء؛ لأن الأسماءـ عربيّة أو أعجميّةـ كلّها حادثةٌ، والأسماء التي سيلهمها الله لعباده، ويخلقها في أذهانهم، وفي ألسنتهم، أيضا معلومةٌ عنده»([32]). يشير الغزّاليّ إلى أن الإلهام الإلهيّ هو الذي دفع الإنسانـ العربيّ والأعجميّ إلى اختيار الاسم الحادث للمعنى الثابت.
يقول العالم السويسري دو سوسير: «إنّ الرابط الذي يجمع بين الدّال والمدلول رابطٌ اعتباطيّ، أو بعبارةٍ أخرى: بما أنّنا نعني بكلمة دليل المجموع الناتج عن الجمع بين الدّال والمدلول يمكننا أن نقول بصورةٍ أبسط: إنّ الدّليل اللّغوي اعتباطيّ»([33]). وهذا يعني أنّ العلاقة التي تربط بين الدّال والمدلول هي علاقةٌ اعتباطيّة، والرابط الأساسيّ الذي يربط بينهما هو اللسان، بوصفه نظامًا من العلامات، وهو يضبط هذه الاعتباطيّة، والعلاقة لا تربط بين الشيء والاسم، بل بين المفهوم والصّورة السّمعيّة. وتفصيل الموضوع هو أنّ الأشياء لا أسماء لها، وأنّ أيّ مجموعةٍ من الناس تستطيع أن تضع أيًّا من المسمّيات والإشارات اللّفظيّة لما تشاء من المعاني والأشياء. وبهذا يتَّضح بأن المسمّيات إنّما هي علاماتٌ لفظيّة لمعانٍ أدركها الإنسان، وأراد تمييزها، والإشارة إليها.
وآخر ما نستدلّ به على اعتباطيّة العلاقة بين اللّفظ والمعنى هو المولود الجديد، الذي لا يفقه معاني الألفاظ، وينتظر أهله ومحيطه لتلقينه الألفاظ ومطابقتها للمعاني. فلو كانت العلاقة بين الدّال والمدلول علاقةً طبيعيّة، ناشئةً من علاقةٍ طبيعيّة بين الألفاظ ومعانيها، للزم أن يدركها المولود الجديد بفطرته، ويربط بين أيّ معنى يراه ويحسّ به وبين اللّفظ المناسب له، ولكنْ بحَسْب التجارب والأدّلة فإنّ الوليد الجديد لن يطابق بين أيّ لفظٍ ومعناه إلّا بإشارة أهله ومعلِّميه، ولو تُرك من دون تعلُّمٍ فإنّه لن يلفظ، بل لن ينطق أبدًا. وهذا ما يحدث مع الوليد الأصمّ، الذي لا يمتلك قدرةً على النّطق؛ فإنّه لن يلفظ ولن يطابق بين أيِّ لفظٍ وأيِّ معنىً، إلّا بنظامٍ تدريبيّ خاصّ، يعلِّمه اللّفظ، ويطابقه على المعنى.
ويوافق الشّهيد السّيد محمد باقر الصّدر هذا الرأي، فيقول: «فلماذا يعجز غير العربيّ عن الانتقال إلى تصوُّر معنى كلمة «الماء» عند تصوّره للكلمة؟ ولماذا يحتاج إلى تعلّم اللّغة العربيّة لكي ينتقل ذهنه إلى المعنى عند سماع الكلمة العربيّة، وتصوّرها؟»([34]). إنّ تصوّر اللّفظ سببٌ لتصوّر المعنى، وإنّ علاقة السّببيّة تحدِّد اللّفظ للمعنى في المجال الذّهنيّ. ولكنّ السّؤال كيف تكوَّنت علاقة السّببيّة بين اللّفظ والمعنى؟ والجواب: «إنّ كلّ شيئين إذا اقترن تصوّر أحدهما مع تصوّر الآخر في ذهن الإنسان، مرارًا عديدةً، ولو على سبيل الصُّدْفة، قامَتْ بينهما علاقةٌ، وأصبح أحد التصوّرين سببًا لانتقال الذِّهْن إلى تصوُّر الآخر… فأنت حين تريد أنّ تسمّي ابنك عليًّا تقرن اسم عليٍّ بالوليد الجديد؛ لكي تنشأ بينهما علاقةٌ لُغَويّة، ويصبح اسم عليّ دّالًّا على وليدك، ويُسمّى عملك هذا وضعًا… وعلى هذا الأساس إنّ من نتائج الوضع انسياق المعنى الموضوع له وتبادره إلى الذهن بمجرّد سماع اللّفظ؛ بسبب تلك العلاقة التي يحقِّقها الوضع. ومن هنا يمكن الاستدلال على الوضع بالتبادر»([35]).
6ـ اللّغة العربيّة وعمليّة التأثير والتأثُّر
إنّ اللّغة هي مادّة اجتماعٍ بين الأمم والثّقافات والحضارات، فلا بُدَّ أن تخضع لعمليّة التأثُّر والتأثير. فيقع البحث هنا تحت عنوانين، وهما:
الأوّل: أثر العلوم الإسلامية في اللغة العربيّة
أـ أثر القرآن في اللّغة
اللغات دائمةُ التطوّر والتّغيّر، وعرضةٌ للتّفاعل مع غيرها من اللّغات المجاورة لها، والوافدة إليها، تأخذ منها وتعطي لها. وتتطوّر اللّغة بتطوُّر المجتمعات، فترقى برقيّ أهلها، وتتراجع بانحطاطهم. وهي لا تقف على وضعٍ خاصّ. كما أنّ التطوُّر لا يحدث بين ليلةٍ وضحاها. وبشكلٍ عامّ تتطوّر اللّغة على ألسنة المتكلِّمين بها، والمستخدمين لها. وقد تُكتب الغلبة للشّكل الجديد للّغة. وهذه سنّةٌ ثابتة في كلِّ اللّغات، إلّا في اللّغة العربيّة؛ فقد وجدناها تطوي المراحل الزمنيّة الطويلة، على الرّغم من امتزاجها بغيرها من الأمم؛ نتيجة الفتوحات، محفوظةً من التغيّر. والسّرّ في صمود اللّغة العربيّة وبقائها لا يعود لمنعة أهلها، ولا يرجع إلى كونها لغةً فيها كلّ ما تفتقر إليه الأُمَم من ألفاظٍ ومعانٍ، بل يرجع ثباتها واستمرارها إلى القرآن الكريم؛ فالقرآن أوّل مصادر اللّغة العربيّة، وفيه مفردات واستعمالات كانت ولا تزال أكثر المصادر صحّةً لعلماء اللّغة، وقد قال الراغب الأصفهاني: «ألفاظ القرآن هي لبُّ الكلام العربيّ، وزبدته وواسطته وكرائمه، وعليه اعتماد الفقهاء والحكماء في أحكامهم وحِكَمهم، وإليها مفزع حذّاق الشعراء، والبلغاء في نَظْمهم ونَثْرهم، وما عدا الألفاظ المتفرِّعات عنها، والمشتقّات منها، هو بالإضافة إليها كالقشور والنوى بالإضافة إلى أطايب الثمرة، وكالحثالة والتبن بالنسبة إلى لبوب الحنطة»([36]). فكان له الأثر الواضح في:
ـ بقاء اللّغة واستمرارها.
ـ توحيد لهجاتها، بعد أن تكثَّرت بتكثُّر الأقطار.
ـ جعلها لغةً رسميّة، بعد الفتوحات، في الممالك التي دخل إليها المسلمون.
ـ تحويلها إلى لغةٍ تعليميّة لتلاوة القرآن وفهمه.
ـ انتشارها، واتّساع دائرة النّاطقين بها، والمستخدمين لها.
ب ـ أثر القراءات القرآنيّة في اللّغة
تأثَّر الدرس النّحويّ العربيّ بالقراءات القرآنيّة؛ لما له من وثيق صلةٍ بالقرآن الكريم، إذ كان المصدر الأساس الذي أخذ منه النّحويّون شواهدهم، واعتمدوا عليها في وضع القواعد الصَّرْفيّة، والأحكام النّحويّة. كما استفاد علماء اللّغة من القراءات القرآنيّة؛ لأن تلك القراءات عملَتْ على إثراء قضايا اللّغة والنّحو، ولا سيَّما أنّ لأوائل القرّاء الأسبقيّة في وضع علم النّحو، الشيء الذي ترك أثراً واضحاً، وجليًّا في القواعد الأساسيّة لهذه اللّغة.
ج ـ أثر علمَيْ الفقه وأصوله على اللّغة
كان لعلمَيْ الفقه وأصوله أثرٌ واضح في وجود مصطلحاتٍ عديدة ومتنوّعة، أضْفَتْ على اللّغة العربيّة نموًّا من خلال المصطلحات الجديدة، مثل: «القياس»، و«العلّة»، و«الظاهر»، و«الشرط» و«اللَّغْو»، و«الإجماع»، و«الاستنباط»، وغيرها من المصطلحات؛ وكذلك من خلال معانٍ جديدة لكلماتٍ كثيرة، كان للإسلام دَوْرٌ لظهورها في اللّغة العربيّة، كألفاظ: «مسلم»، و«صلاة»، و«زكاة»، و«ركوع»، و«سجود»، و«خشوع». فمدلول هذه الكلمات في الجاهليّة غيره في الإسلام؛ فالصلاة التي كان مدلولها الدّعاء أصبح مدلولها الحركات الخاصّة من ركوعٍ وسجود؛ وكذلك «الزكاة» كان مدلولها النّماء فأصبح يعني إخراج المال بنسبةٍ محدَّدة. كما تأثَّر علماء اللّغة العربيّة بمنهج الفقهاء، فبنَوْا قواعدهم على «السّماع»، و«القياس»، و«الإجماع». «والقياس الفقهي لقيَ رواجًا واسعًا، وقبولًا عظيمًا في اتّخاذ قاعدةٍ لغويّة أو نحويّة، كالخليل بن أحمد الفراهيدي، الذي كان في القياس كأبي حنيفة قيّاسًا، يجيد القياس، يمدُّ أطنانه»([37]).
بل نجد أنّ أغلب مصطلحات النّحو وأصوله مأخوذةٌ عن مصطلحات الفقه وأصوله، كـ«النسخ»، الذي يظهر معناه عند النّحويّين في عمل «كان وأخواتها»، و«ظنّ وأخواتها». فهذه الأفعال نواسخ، والعمليّة «نسخ».
وكـ«التعليق»، وهو الإلغاء اللّفظيّ لظنّ وأخواتها عن العمل، تشبيهًا للفعل بالمرأة المعلّقة، التي هي لا متزوّجة، ولا مطلّقة. وكذلك مصطلح الفعل المتعدّي، المأخوذ من التّعدّي في مصطلحات علماء الأصول عند إثبات حكمٍ وتعديته من الأصل إلى الفرع. ومصطلح الخروج عن الاطّراد، والتعليل، إلى غير ذلك من المصطلحات الفقهيّة والأصوليّة.
د ـ أثر علم الحديث في اللّغة
تأثّرَتْ اللّغة العربيّة بعلم الحديث، فدخلَتْ عليها مصطلحاتٌ جديدة منه، مثل: «الجرح»، و«التعديل»، و«التصحيف»، و«التحريف»، و«الغريب»، و«المستدرك»، و«المستخرج»، و«الشذوذ»، و«السُّماع»، و«الإجازة»، و«الإملاء»، إلى غير ذلك من المفردات التي أغنت معجم اللّغة العربيّة.
هـ ـ أثر الفلسفة وعلم الكلام على اللّغة
نجد أنّ اللّغة العربيّة على الرّغم من كثرة مفرداتها، وتعدُّد أساليب التّعبير والتجوُّز فيها لم تكُنْ تضمّ بين طيّاتها مفرداتٍ قانونيّة دقيقة؛ وذلك يعود إلى عدم معاصرتها لكِياناتٍ حضاريّة مهمّة في الجاهليّة. لذلك عندما دخلَتْ الفلسفة إلى المجتمع العربيّ احتاج علماء اللّغة عند ترجمتهم للأفكار الفلسفيّة إلى اختيار وانتقاء ألفاظٍ عربيّة للتعبير عنها. فمثلاً: لفظ «العلم» في اللّغة العربيّة كان يعني «البصيرة»، و«الوضوح»، لكنْ في مقام ترجمة الفلسفة تحوَّل مدلوله إلى«الاعتقاد الجازم». وكذلك لفظ «الظّن»؛ فهو في اللّغة العربيّة بمعنى «الاعتقاد» الذي لا يستند إلى دليلٍ، بينما تحوَّل عند ترجمة الفلسفة إلى معنى «الاعتقاد الراجح». وهكذا لفظ «الشكّ»، الذي يقابل اليقين، وأصبح يعني «تساوي الاحتمالين». فالنّتيجة أنّ بعض المفردات اللّغويّة اكتسبَتْ معانٍ ودلالاتٍ جديدة بعد دخول الفلسفة ورواجها.
يعدُّ علم الكلام أصلاً لكلِّ العلوم الدينيّة، ويحتلّ مركز الصدارة بينها؛ لأنه المدخل إلى العقيدة الإسلاميّة. والذي زاد من رواجه وانتشاره تصدّيه للأفكار الفلسفية، التي دخلَتْ إلى العالم الإسلامي، مهدِّدةً عقيدة المسلمين؛ نظرًا إلى الشّكوك التي أثارتها، والشبهات الحسّاسة والدقيقة التي أوجدَتْها في أذهان المسلمين، ما دفع علماء المسلمين للردَّ عليها، وجبهها بالحجج العقائديّة (الكلاميّة). فكان لعلم الكلام عند المسلمين دَوْرُه في إيجاد مصطلحاتٍ جديدة في اللّغة العربيّة، مثل: «الدَّوْر»، و«المنزلة بين المنزلتين» و«التناقض»، و«التعارض»، و«الاستدلال»، و«العكس»، و«الدفع»، و«المنع»، وغيرها من المفردات التي أصبحت شائعةً ومنتشرة.
الثّاني: أثر اللّغة العربيّة في العلوم الإسلاميّة
إنّ اللّغة العربيّة هي المادّة الأساس للقرآن الكريم والسُّنّة الشَّريفة. وقد أوصل الشّارع المقدَّس أحكامَه من خلال هذه اللّغة، التي وُصفَتْ بوفرة مفرداتها. إلّا أنّه يُلاحَظ عليها ما يلي:
ـ فقر اللّغة العربيّة في المفردات والمصطلحات الدقيقة، التي تحدِّد المعنى المراد بوضوحٍ دون لَبْسٍ.
ـ وقوع الاشتراك اللّفظيّ فيها، إذ نجد للّفظ الواحد معاني كثيرةً ومتعدِّدة، كلفظ «عين».
ـ وقوع الاشتراك أيضًا على الضدّين والنقيضين، كلفظ «قاسط» للعادل والظالم معًا؛ ولفظ «قرء» للطهر والحَيْض معًا.
ـ كثرة أساليب التعبير فيها، من مجازٍ، وكنايةٍ، وحذفٍ، وتقديمٍ وتأخيرٍ، واستعارةٍ، وإلى غير ذلك من النّقاط التي توصل إلى التنوّع والتعدّد في فهم المعنى. فاللّغة العربيّة بمفرداتها واستعمالاتها حمّالةُ أوجه.
ج ـ ويُضاف إلى ذلك أنّ كتابةَ اللّغة العربيّة في مراحلها الأولى من دون تنقيطٍ انعكس على القراءة والفهم.
أ ـ أثر اللّغة العربيّة في التفسير
قال تعالى: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ…﴾([38]). إننا نجد الاختلاف الواسع في تفسير كتاب الله، حتّى أنّ الآية الواحدة قد تتعدَّد أوجه تفسيرها؛ لتصل إلى ستّة عشر وجهًا. ومَرَدُّ ذلك إلى ما ذكرناه من وقوع الاشتراك اللّفظيّ في اللّغة، واستعمال المجاز، والحذف، والتقديم والتأخير، وغير ذلك. ونذكر أمثلةً لذلك، منها:
ـ قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ﴾([39]). فلفظ «الأب» هنا هل المقصود منه الوالد النَّسَبي؛ ليكون الاستعمال حقيقيًّا، أو أنّ المقصود منه العمّ، فيكون الاستعمال حينئذٍ مجازيًّا؟
ـ قال تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا﴾([40]). فما المراد باليد هنا؟ اختلف علماء التفسير في المراد منها؛ فإنّ اليد تُطلق على الأصابع، كما لو قلتُ: «تناولتُه بيدي»، وتقصد باليد (الأنامل)؛ كما تُطلق هذه الكلمة على الكفّ، فيُقال: «صفعتُه بيدي»، أي بكفّي؛ كما تطلق على تمام العضو المعروف.
ـ قال تعالى: ﴿أنَّ مَا غَنِمْتُم مِّنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ…﴾([41]). إنّ لفظ «الغنيمة» في الآية الشّريفة يحتمل معنيين: أحدهما: خاصّ، وهو المأخوذ عنوةً بالحرب؛ والآخر: عامّ، وهو كلّ فائدةٍ يحصل عليها الإنسان. وهذه الآية هي عمدة استدلال بعضهم على وجوب الخمس في كلّ ما يحصل الإنسان عليه من أرباح.
ب ـ أثر اللّغة في علم الكلام
إنّ التعدّد والتنوُّع في تفسير آيات الكتاب العزيز، الذي كان مردُّه إلى اللتعدّد في القراءات، وتحديد المعنى كما مرّ، أثَّر في تنوُّع المدارس والفِرَق الكلاميّة عند المسلمين وتعدّدها. ولتوضيح ذلك نعرض لنماذج من الاختلاف في تفسير آيات القرآن، التي أدَّتْ إلى نشوء فِرَق كلاميّة، ومنها:
ـ «القول بالتجسيم» مستنده بعض من الآيات الواردة، كقوله تعالى: ﴿يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ…﴾([42])؛ فإن مَنْ حمل اليد هنا على معناها الحقيقيّ كان قائلاً بالتجسيم؛ وأمّا مَنْ أوّل الآية، وحمل «اليد» هنا على القدرة والقوّة، فقد نفى التجسيم.
ـ القول بالجَبْر. ومنشؤه تفسير بعض الآيات، كقوله تعالى: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى﴾([43])، وكما في قوله: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَّشَاءَ اللهُ﴾([44])؛ فالقائلون بالجَبْر حملوا الآيات على المعنى الظاهريّ لها، من دون النظر إلى الآيات الأخرى، التي تبيِّن أنّ الإنسان مخيّرٌ بأفعاله، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾([45]).
ـ جواز الخطأ على الأنبياء. ومستند القائلين به تفسير بعض الآيات، بدءًا من قوله عزَّ وجلَّ: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾([46])، ومرورًا بقوله تعالى: ﴿سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾([47])، وصولًا إلى قول الله تعالى: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنبِكَ﴾([48])، إلى غير ذلك من الآيات التي حُمِلَتْ بظاهرها على جواز نسبة الخطأ إلى الأنبياء.
ـ القول بالإمامة أو الخلافة. افترق المسلمون بعد وفاة الرسول(ص) إلى: قائلٍ بإمامة عليٍّ(ع) بالتنصيص من النبيّ؛ وقائل بالخلافة بالشورى. وكلا المذهبين استند إلى آياتٍ من القرآن الكريم، لا يَسَعُنا استعراضها؛ لخروجها عن محلِّ البحث. إلى غير ذلك من الأدلّة التي استند إليها أئمّة الفِرَق والمذاهب الكلاميّة.
ج ـ أثر اللّغة في الفقه والأحكام الشرعيّة
إنّ عمليّة استنباط الأحكام الشرعيّة هي عمليّةٌ مشتركة، يتداخل فيها تطبيق القواعد الأصوليّة (المباني والنظريات) مع تحديد المعنى المراد المستعملة فيه الكلمة، ككلمة «صعيد» في قوله تعالى: ﴿فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً﴾([49]). فالأمر هنا ظاهرٌ في الوجوب، وهذه قاعدةٌ أصوليّة، وعنصرٌ مشترك في عمليّة الاستنباط؛ أمّا تحديد المراد من لفظ «الصعيد» فيعود إلى اللّغويّ أو الفقيه العالم بالوضع اللّغويّ، وهو عنصرٌ خاصّ في عمليّة الاستنباط.
المصادر والمراجع
* القرآن الكريم.
* الكتاب المقدَّس، سفر التكوين، الإصحاح الثاني.
1ـ ابن جنّي (أبو الفتح)، الخصائص، بيروت، دار الكتب العلميّة، ط2، (2003م ـ 1424هـ).
2ـ ابن قُدامة (عبد الرحمن)، الشرح الكبير على متن المقنع.
3ـ الإصفهاني (الراغب)، مفردات وألفاظ القرآن، تحقيق: صفوان عدنان داوودي، بيروت، الدار الشاميّة، ط2، (1997م).
4ـ أمين (أحمد)، ضحى الإسلام، مصر، مكتبة النهضة المصرية، ط6، (1961م).
5ـ الداية (فايز)، علم الدلالة العربي.
6ـ سوسير (فرديناندي)، دروس في الألسنيّة، ترجمة: صالح القرمادي ومحمد الشاوش ومحمد عجينة، بيروت، الدار العربية للكتاب، ط1، (1985م).
7ـ السيستاني (علي)، الرافد في علم الأصول، بيروت، دار المؤرِّخ العربي، ط1، (1414هـ ـ 1994م).
8ـ السيوطي (جلال الدين)، المزهر في علوم اللّغة وأنواعها، بيروت، المكتبة العصرية، ط1، (1425هـ ـ 2004م).
9ـ الصدر (محمد باقر)، دروس في علم الأصول، بيروت، دار المنتظر، ط1، (1405هـ ـ 1985م).
10ـ عمر (أحمد مختار)، دراسة الصوت اللغوي.
11ـ الغزالي (محمد أبو حامد)، المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى.
12ـ فودة (سعيد)، من وحي شرح إيساغوجي في المنطق.
13ـ وافي (عبد الواحد)، علم اللّغة.
14ـ الوعر (مازن)، مقدّمة علم الإشارة ـ السيميولوجيا ـ لـ(بييرجيور).
[1] – أستاذ مساعد في الجامعة اللبنانية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الفرع الخامس.
([2]) ابن جنّي (أبو الفتح)، الخصائص، بيروت، دار الكتب العلميّة، ط2، (2003م ـ 1424هـ)، ص: 1/87.
([3]) السيستاني (علي)، الرافد في علم الأصول، بيروت، دار المؤرِّخ العربي، ط1، (1414هـ ـ 1994م)، ص: 162.
([5]) سفر التكوين، الإصحاح الثاني، الآيتان: 19 ـ 20.
([8]) سفر التكوين، الإصحاح الثاني، الآيتان: 19 ـ 20.
([9]) ابن جنّي، الخصائص، ص: 1/96.
([10]) سورة البقرة، الآية: 31.
([11]) ابن جنّي، الخصائص، ص: 2/29.
([12]) وافي (عبد الواحد)، علم اللّغة، ص: 98.
([13]) ابن جنّي، الخصائص، ص: 1/98 ـ 99.
([14]) ابن جنّي، الخصائص، ص: 1/505 .
([17]) ابن جنّي، الخصائص، ص: 1 .
([18]) السيوطي (جلال الدين)، المزهر في علوم اللّغة وأنواعها، بيروت، المكتبة العصرية، ط1، (1425هـ ـ 2004م)، ص: 1/38 .
([19]) السيوطي، المزهر في علوم اللغة وأنواعها، ص: 1/45 .
([20]) ابن قُدامة (عبد الرحمن)، روضة الناظر وجنة المناظر 2/ 3.
([21]) الوعر (مازن)، مقدّمة علم الإشارة ـ السيميولوجيا ـ لـ (بييرجيور)، ص: 9.
([22]) الداية (فايز)، علم الدلالة العربي، ص: 204 ـ 205.
([23]) فودة (سعيد)، من وحي شرح إيساغوجي في المنطق.
([24]) سورة البقرة، الآية: 31.
([25]) سورة إبراهيم، الآية: 4.
([26]) سورة البلد، الآيات: 8 ـ 10.
([28]) سورة الرحمن، الآية: 44.
([29]) سورة الغاشية، الآية: 5.
([30]) سورة الروم، الآية: 22 .
([31]) عمر (أحمد مختار)، دراسة الصوت اللغوي، ص: 19.
([32]) الغزّاليّ (محمد أبو حامد)، المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، ص: 173.
([33]) سوسير (فرديناندي)، دروس في الألسنيّة، ترجمة: صالح القرمادي ومحمد الشاوش ومحمد عجينة، بيروت، الدار العربية للكتاب، ط1، (1985م)، ص: 111 ـ 112 .
([34]) الصدر (محمد باقر)، دروس في علم الأصول، ص: 1/272.
([36]) الإصفهاني (الراغب)، مفردات وألفاظ القرآن، تحقيق: صفوان عدنان داوودي، بيروت، الدار الشاميّة، ط2، (1997م)، ص: 55.
([37]) أمين (أحمد)، ضحى الإسلام، مصر، مكتبة النهضة المصرية، ط6، (1961م)، ص: 2/278.
([38]) سورة آل عمران، الآية: 7.
([39]) سورة التوبة، الآية: 114.
([40]) سورة المائدة، الآية: 38.
([41]) سورة الأنفال، الآية: 41.
([43]) سورة الأنفال، الآية: 17.
([44]) سورة الإنسان، الآية: 30.
([45]) سورة الإنسان، الآية: 3.