السّلام والعبقريّة للنّاصر صلاح الدين الأيوبيّ

السّلام والعبقريّة للنّاصر صلاح الدين الأيوبيّ

م. د. أفراح فايق حسن^([1])

الملخص

قد أنجب الإسلام عظماء في العديد من العلوم والمعارف، وعلى مرّ العصور ويستمر هذا الدّين، حتى يوم القيامة، يلد علماء مرموقين، يوضحون شريعة الله تعالى. وأبطال شجعان يدافعون عن مقدساته، وكان صلاح الدين واحدًا من الأبطال العظماء الذين خلدوا في التّاريخ وإلى الأبد. البطولة لها درجات وأنواع. في التّاريخ توجد بطولة إقليميّة محلّيّة على مستوى القرية أو المدينة أو المنطقة، وهناك بطولة عالمية على مستوى الوطن العظيم للإنسان، والبطل في النوع الأخير لا يخلد اسمه في تاريخ وطنه فحسب، لا بل في تاريخ البشرية أيضًا.

Summary

Islam has given birth to great people in various sciences and knowledge and throughout the ages and ages, and this religion continues, until the Day of Resurrection, gives birth to distinguished scholars, who clarify the law of God Almighty, and the brave heroes who defend His sanctities, and Saladin was one of them. The great heroes who have been immortalized in history and forever. The championship has degrees and types. In history there is a local regional championship at the level of the village, city or region, and there is a world championship at the level of the great homeland for a person, and the hero in the last type does not immortalize his name in the history of his small homeland, but in the history of mankind too.

الكلمات المفتاحيّة: العبقرية للناصر صلاح الدين الأيوبيّ.

مقدمة

لقد أنجب الإسلام عظماء في العلوم والمعارف شتى، وعلى مرّ العصور والدهور، ولا يزال هذا الدّين وإلى يوم القيامة ينجب العلماء الأفاضل، الذين يبينون شرع الله لخلقه، والأبطال الأشاوس الذين يدافعون عن حرماته ومقدساته، وكان صلاح الدين واحدًا من هؤلاء الأبطال العظماء الذين خلّدهم التّاريخ وإلى الأبد، فالبطولة درجات وأنواع، فهناك في التّاريخ بطولة محلية إقليمية على مستوى القرية أو المدينة أو الإقليم، وهناك بطولة عالمية على مستوى الوطن الكبير للإنسان، والبطل في النوع الأخير لا يخلد اسمه في تاريخ وطنهلا بل في تاريخ البشريّة أيضًا، فينال إعجاب الأعداء والأصدقاء معًا، فبطولة صلاح الدّين كانت من هذا النوع من البطولات العالمية، فيُعدُّ من أكثر الشخصيّات احترامًا وتقديرًا عبر التّاريخ في جميع أنحاء العالم، وقد كتب المؤرّخون الأوروبيون كثيرًا عن بسالة الملك الناصر وشجاعته، ووقفوا طويلًا أمام موقفه في حصار قلعة الكرك التي حظي بعدها صلاح الدّين باحترامٍ وتقديرٍ قلّ نظيره حتى من ألدّ خصومه كملك إنجلترا  ريتشارد الأول (قلب الأسد).

المبحث الأوّل: مكوّنات الشّخصيّة القياديّة عند صلاح الدّين الأيوبيّ

المطلب الأوّل: نسب صلاح الدين الأيوبي ومولده

نسب صلاح الدّين: اتفق أهل التّاريخ على أنّ شاذي من “دوين” وهي بلدة في آخر أعمال “أذربيجان” وأنهم أكراد روادية، بطن من الهذيانية، وكان شاذي من أبناء أعيانها، وكان له صاحب يقال له (بهروز) وكان بينهما اتحاد كما بين الأخوين. فجرت لبهروز قضية من “دوين” فخرج منها حيًّا وقصد أحد ملوك السلاجقة، فوجّه الملك المجاهد بهروز واليًا على (بغداد) فاستصحب معه “شاذي” فأقام بها إلى أن توفِيَ^([2]).

كان ابتداء أمر بني أيوب أن نجم الدين أيوب والد صلاح الدين، وأخوه أسد الدين أبناء شاذي من بلدة “دوين” وأصلهما من الأكراد الرّوازية وهم من أشراف الأكراد، فقدما إلى العراق وخدما مجاهد الدين بهروز والي “بغداد” ورأى من نجم الدين عقلًا وحُسن سيرة، وكان أكبر من أسد الدّين سنًا فجعله مستخلفًا على قلعة تكريت فسار إليها ومعه أخوه أسد الدين^([3]).

مولد صلاح الدين: اتفق أن أحد نساء القلعة خرجت لقضاء بعض حاجتها فعرضت على نجم الدين أيوب وأسد الدين وهي تبكي فسألاها عن السبب فقالت: “وهي داخلة إلى القلعة تعرض لها، فأخذ “أسد الدين” حربته وقتله فاعتقله أخوه نجم الدين”^([4]).

كان نجم الدين عظيمًا في الناس بالدين، والخير، وحُسن السياسة، وكان أخوه أسد الدين معه في القلعة، وأمتاز عليه بالبسالة والشجاعة كان ينزل من القلعة ويصعد إليها، وكان بينه وبين كاتب صاحب القلعة قوارض وهو رجل نصرانيّ وفي ذلك اليوم صادف النّصرانيّ أسد الدين شيركوه وهو صاعد إلى القلعة فأسمعه كلمةً أوجعته فجرد أسد الدين سيفه وقتله.

كتب نجم الدين إلى بهروز وعرفه الحال، وليفعل ما يراه، فوصل إليه جوابه (… لأبيكما على حقٌ، بيني وبينه مودة متأكدة وما يمكنني أن أكافئكما بحالة سيئة تصدر منى في حقكما، ولكن اشتهي منكما أن تتركا خدمتي، وتخرجا من بلدي، وتطلبا الرزق حيث شئتما) لما وصلهما الجواب ما أمكنهم المقام بتكريت فخرجا منها إلى الموصل، وفي ليلة خروجهما من تكريت وُلد لنجم الدين لملك الناصر صلاح الدين قال: فتشاءمت به لفقد بلدي ووطن ، وقال له بعض الناس: نرى ما أنت عليه من التّشاؤم بهذا المولود فما يؤمنك أن يكون لهذا المولود مكانة عظيمة؟ فكان كما يقول فاتصل بخدمة الملك عماد الدين زنكي، ثم كانا عند نور الدين متقدمان^([5]).

المطلب الثّاني: نشأة صلاح الدّين الأيوبيّ وتعليمه

هاجر الأخوان نجم الدين أيوب وأسد الدين شيركوه من بغداد إلى الموصل، حيث نزلا عند عماد الدين زنكي حيث رحب بالأخوين ترحيبًا شديدًا، وأجرى عليهما المنح والعطايا، وأقطعهما إقطاعًا حسنًا، بسبب ما فعلاه معه يوم انهزامه من قراجة السّاقي في سنة ستة وعشرين وخمسمائة حيث وصل منهزمًا إلى تكريت، فخدمه نجم الدين أيوب وأقام له السفن فعبر إلى نهر دجلة^([6]). لقد نشأ صلاح الدين في بلاط (نور الدين زنكي) في الموصل وقضى طفولته في ظل والده نجم الدين أيوب في بعلبك، وأخذ عن والده براعته في السياسة والشّجاعة، والروح الحربيّة، وتعلم علوم عصره، وتثقف بثقافة أهل زمانه فحفظ القرآن الكريم، ودرس الفقه والحديث، وبعد مقتل عماد الدين زنكي رحل مع والده إلى، دمشق ودخل في خدمة نور الدين سلطان حلب أخ عماد الدين الزنكي. فاستعان نور الدين بأسد الدين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين لتحقيق أغراضه في مصر ، وتمكن بمعرفتهما من ضم مصر إلى أملاكه^([7]). ولم يزل صلاح الدين تحت رعاية أبيه حتى ترعرع، لازم نجم الدين أيوب محمود الزنكي وكان في خدمته وكذلك صلاح الدين، وكانت بوادر السعادة عليه واضحة والنجابة تقدمه من حال إلى حال، ونور الدين يرى له ذلك ويؤثره، ومنه إلى “نور الدين” طرائق الخير وفعل المعروف والاجتهاد في أمور الجهاد^([8]). المطلب الثالث: صفات صلاح الدّين الأيوبيّ

تقواه وعبادته: لا شك أن تقوى الله وعبادته، والخشية منه، وحسن الظن به، والاعتماد عليه… هى أول ما يجب أن يمتاز بها المسلم، وأفضل ما ينبغي أن يتصف به. لأنّ الاعتصام بالسّند الأكبر، والاتصال بالله والاستعانة به في كل ما ينوب ويروع، تجعل من المسلم أسدًا كاسرًا لا يعرف الهزيمة، وبطلًا مقدامًا لا يهاب المنية، وشجاعًا كرارًا لا يخشى جبارًا ولا يهاب عدوًّا ، وهذه السّمة قد تحققت في البطل والقائد صلاح الدين. وكان رحمه الله حسن العقيدة، كثير الذكر لله تعالى، وقد أخذ عقيدته على الدليل بواسطة البحث مع مشايخ أهل العلم وأكابر الفقهاء^([9]).

أمّا الصّلاة فإنّه كان رحمه الله شديد المواظبة عليها حتى أنه ذكر يومًا أنه من سنين ما صلى إلا في جماعة… وكان يواظب على السنن والرواتب، وكان له صلوات يصليها إذا استيقظ من الليل، وإلا أتى بها قبل الفجر… وكان قدس الله روحه يصلي في مرضه الذي مات فيه قائمًا، وما ترك الصلاة إلا في الأيام الثلاثة التي تغيب فيها ذهنه، وكان إذا أدركته الصلاة وهو سائر نزل وصلى.

وأما الزكاة فإنه مات ولم يحفظ ما تجب عليه به الزكاة، وأما صدقة النفل فإنها استغرقت جميع ما ملكه من الأموال، فإنه ملك ما ملك ولم يخلف في خزانته من الذّهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهمًّا ناصريًّا، وجرامًا واحدًا ذهبًا، ولم يخلف ملكًا ولا دارًا ولا عقارًا ولا بستانًا ولا قرية ولا مزرعة ، ولا شيئًا من أنواع الأملاك^([10]).

أمّا صوم رمضان فإنه كان عليه منه فوائت بسبب أمراض تواترت عليه .. وشرع رحمه الله في قضاء تلك الفوائت بالقدس الشّريف في السنة التي توفى فيها، وأمّا الحج فإنه كان لم يزل عازماً وناوياً له ، ولكن لم يتيسر له بسبب ضيق الوقت، وخلو اليد فأخره إلى العام المقبل فقضى الله ما قضى^([11]).

المبحث الثاني: السّلام في حياة صلاح الدين الأيوبيّ

المطلب الأول: السّلام في حياه صلاح الدين الأيوبي

على الرّغم من تصاعد وتيرة الجهاد الإسلاميّ ضد الصليبيين في عهد صلاح الدّين الأيوبي فإنّ المصادر التّاريخية الإسلاميّة تفيض بذكر حالات المروءة والإنسانيّة من قبل صلاح الدين الأيوبي في تعامله مع الصليبيين، ولكن قبل أن نتحدث عن تعامل السّلطان العظيم مع الأعداء التزامًا بتعاليم الإسلام الحنيف، سنلقى نظرة عامة عن وحشية الصّليبيين في تعاملهم مع المسلمين. تليها نبذه عن معاملة المسلمين للصليبيين ليعقد أصحاب البصيرة مقارنة بين الغزاة وأصحاب الأرض.

لقد وصف ستيفن رنسيمان في كتابه “تاريخ الحروب الصليبية” ما حدث في القدس يوم دخلهـا الصليبيون فقال: “وفي الصباح الباكر من اليوم التالي اقتحم باب المسجد ثلة من الصّليبيين، فأجهزت على جميع اللاجئين إليه، وحينما توجه قائد القوة ريموند أجيل في الضحى لزيارة ساحة المعبد أخذ يتلمس طريقه بين الجثث والدماء التي بلغت ركبتيه، وتركت مذبحة بيت المقدس أثرًا عميقًا في جميع العالم، وليس معروفا بالضبط عدد ضحاياها، غير أنّها أدت إلى خلو المدينة من سكانها المسلمين واليهود؛ بل إن كثيرًا من المسيحيين اشتد جزعهم لما حدث”^([12]).

وقد وصف كثير من المؤرخين أحداث المذبحـة التي حدثت في القدس يوم دخول الصليبيين إليهـا، وكيف أنهم كانوا يزهون بأنفسهم؛ لأنّ ركب خيولهم كانت تخوض في دمـاء المسلمين التي سالت في الشّوارع، و قد كان من وسائل التّرفيه لدى الصّليبيين أن يشووا أطفال المسلمين كما تشوى النّعاج، لذلك كان من أهداف صلاح الدين الأيوبي المهمّة الاستيلاء على هذه القلعة وتأديب سيدها الجاحد الغادر، فطالما بقيت هذه القلعة في يد رينالد دي شاتيون «أرناط». وأتم صلاح الدين استعداده للهجوم على هذا الحصن وعسكر أمام أسواره فعلًا في نوفمبر سنة 1183م وتصادف في هذا الشّهر أن الصّليبيين كانوا يقيمون حفل زواج مهيب في القلعة الشهيرة، توافد عليه الضيوف من الصّليبيين من دون أن يدروا أنّ صلاح الدين في الطريق لحصار القلعة المنيعة، وما كاد الصّليبيون يبدؤون مراسم الاحتفال، حتى أفزعتهم الأنباء عن الوصول المفاجئ لقوات صلاح الدين وتطويقه القلعة، وأنّ مجانيقه أخذت ترمي الأبراج الأماميّة للقلعة، وسيطر الفزع على الصّليبيين وبخاصة حين هرب سيد القلعة نفسه أرناط.^([13])

وهنا أقدمت والدة العريس على خطوة تعرف وقعها على صلاح الدين الأيوبي بما اشتهر عنه من روح إنسانيّة نبيلة، وإيثاره التّسامح في جميع أعماله حتى في العمليات الحربية نفسها، إذ أعدت صحونا من طعام العرس، وبعثت بها إلى صلاح الدين، وأرسل صلاح الدين مقابل ذلك يسأل بأيّ الأبراج ينزل العروسان؟ ثم أصدر الأوامر بألّا يتعرض هذا البرج للقصف، وعلى الرّغم من سيطرته الكاملة على الموقف، إلا أنّ إنسانيّة صلاح الدين وحرصه على تطبيق كل قيم ومبادئ التّسامح، فرضت عليه أن يستجيب لطلب الصّليبيين عقد هدنة تتيح لضيوف العرس الحرية في العودة إلى ديارهم. تتجلى أيضًا إنسانيّة صلاح الدين الأيوبي في التّعامل مع أسرى الصّليبيين والاستجابة لمطالبهم المشروعة وعدم إهدار حق واحد من حقوقهم؛ خاصة حين سار بعد انتصاره في حطين إلى بيت المقدس لاستردادها، إذ أكرم كل من استسلم له من كبار الصّليبيين الذين كانوا يمتلكون مدن السّاحل الفلسطينيّ ومن بين هؤلاء كونتيسة طرابلس، التي عاملها صلاح الدين بما يليق بها من الحفاوة والتشريف، وأذن لها ولحاشيتها بالتّوجه إلى طرابلس^([14]). وتحرك صلاح الدين بعد ذلك إلى عسقلان، فحاصرها، وكان ملك بيت المقدس أسيرًا عند السلطان منذ موقعة حطين، فأرسل إلى السّلطان في أن يطلقه مقابل نصحه للصّليبيين الموجودين في عسقلان بترك المقاومة وتسليم المدينة، فوافق صلاح الدين على ذلك. وقد استجاب الصّليبيون للنصح بعدما تأكدوا من حرج موقفهم وطلبوا الأمان وتسليم المدينة، فأجابهم صلاح الدّين وخرجوا بنسائهم وأولادهم وأموالهم إلى بيت المقدس آمنين، وتسلم صلاح الدين المدينة بعد احتلال صليبي لها مدته خمسة وثلاثون عامًا^([15]).

تسجل صفحات التّاريخ أن صلاح الدين أوفى بوعده مع ملك بيت المقدس، إذ أطلق سراحه في أثناء حصاره لحصن الأكراد، وشرط عليه ألا يشهر في وجه السلطان سلاحًا أبدًا، فوافق على ذلك، لكنّه ما إن بلغ مأمنه في صور حتى نسي العهد وانضم هناك إلى الصليبيين في قتال صلاح الدين. وسمح صلاح الدين لأهل عسقلان بعد استسلامهم أن يغادروها وأن يحملوا معهم أمتعتهم، وتولى عساكره حراستهم إلى مصر، حيث جرى توفير أسباب الراحة لهم في أثناء مقامهم بالإسكندرية حتى رحيلهم إلى بلادهم في أوروبا^([16]).

تتعدد مواقف صلاح الدين في التّسامح؛ إذ يذكر التّاريخ أن سيدة من نساء الصّليبيين فقدت رضيعها في الفوضى والاضطراب الذي حلّ بالصّليبيين بعد هزيمتهم في معركة حطين، فتعالى صراخها حتى وصل خبرها إلى ملوكهم، فقالوا لها: إنّ صلاح الدين رجل رحيم القلب، وقد أذن لك في الخروج إليه، فاخرجي واطلبيه منه، فإنه يرده عليك^([17]).

المطلب الثانيّ: إصلاحات صلاح الدّين الأيوبيّ

إصلاحاته الاقتصاديّة

1- اهتمامه بالزّراعة والتّجارة: لأجل أن يجنّب صلاح الدين البلاد ويلات المجاعات التي تسببها الحروب اعتنى بالزراعة ووسائل الري اعتناء بالغًا، لتنبت الأرض أطيب الثّمرات، وتنتج من كل زوج بهيج، وقد تعاونت مصر والشّام في تبادل المحاصيل الزّراعيّة، وتعزيز المصالح الاقتصاديّة، وتموين الجيوش بالثّروات اللازمة، ووقف الإقليمان جنبًا إلى جنب أمام اعتداءات الفرنج الغادرة، وتزويد الجيش الإسلامي بكل ما يلزم من مواد غذائية وعتاد، كما عنى صلاح الدّين بالتّجارة عناية كبيرة، فكانت مصر في عهده حلقة الاتصال بين الشرق والغرب، وقد انتعشت مدن أوروبية كثيرة بسبب هذه التجارة مثل مدينة “البندقية وبيزا” الإيطاليتين، وقد سمح البنادقة في ما بعد بتأسيس سوق تجاريّة في الاسكندريّة كان يطلق عليه “سوق الأيك” وأولى صلاح الدين الأسواق التجارية كل اعتنائه واهتمامه حتى يزدهر الاقتصاد ويزداد إنتاج دولته^([18]).

2- اهتمامه بالصناعات: اهتم صلاح الدين بصناعة السّلاح والمنسوجات والأقمشة والملابس الحريرية المزركشة وسروج الخيل المطهمة، وصناعة الزجاج، كما انتشرت في عهده صناعة الخزف والسّفن والأساطيل إلى غير ذلك مما يزهر الاقتصاد، ويضاعف الإنتاج ويمكن للدولة أسباب القوة، ولقد كان أصحاب الحرف والصناع في عهد الدولة الأيوبية من أكثر الناس وفاء لتقاليدهم الموروثة فقد بقيت طوائف العمال والحرف تسير على النظم والطرق الصناعية نفسها التي كان مستعملة في العهود التي سبقتها، وكان الصنّاع ينتظمون في نقابات تحمي حقوقهم وتشرف على تأدية واجباتهم على الوجه الأكمل، إذ كان لها نظمها وتقاليدها التي يحترمها الجميع وتؤيدها الدولة بنفوذها .

3- الإصلاح الاجتماعيّ: كانت الحياة الاجتماعيّة في عهد صلاح الدّين تتسم بطابع الجدية ومناهضة الفرنج، ومكافحة العدو، وكانت بعيدة كل البعد من مظاهر الأبهة الفارغة الكاذبة، والعظمة الكاذبة، والبذخ المفرط، وكان رحمه الله يعطي لجنوده ورعيته القدوة الحسنة في اللباس العادي، والطعام الخشن، والمجالسة المتواضعة، يقول العماد الأصفهاني في وصف ملبسه ومخالطته: كان لا يلبس إلا ما يحـلّ لبسـه كالكّتاب والقطن والصوف وكان من جالسه لا يعلم أنه جالس سلطانًا لتواضعه وكان صلاح الدين رياضيًّا يحب الفروسية ولعب الكرة ويشجع عليها.

4- الإصلاح العمراني: من هذه الإصلاحات أنّه اهتم بسور القاهرة، فلما كان قد تهدم أكثره وصار طريقًا لا يرد داخلًا ولا خارجًا، فقد سّورها، وانتدب للإشراف على عمارة السور “الطواشي بهاء الدين قراقوش”. وقياس هذا السّور من أوله إلى آخره يمتد حول المدن التي كونت مدينة القاهرة، في عهده وهي “مدينة الفسطاط” التي أنشأها عمرو بن العاص، ومدينة العسكر التي أنشأها صالح بن علي العباسيّ، ومدينة القاهرة التي أنشأها جوهر الصقلي والهدف من إقامة هذا السور حماية البلاد من كيد المعتدين بالإضافة إلى بناء السور بنى قلعة الجبل ليرد عن القاهرة غائلة الأعداء الغادرين غير أنه لم يستطع أن يكمل البناء جميعاً لانشغاله بالحروب في شتى الميادين^([19]).

المطلب الثالث: عبقريّة صلاح الدّين الأيوبيّ العسكريّة

إنجازاته العسكريّة

– لقد قاد صلاح الدين مرحلة مهمّة جدًا لاستعادة القدس، يسميها بعضهم مرحلة الاسترداد، وقد استند في هذا المشروع الضخم إلى إقامة دولة إسلاميّة موحدة تمتد من ليبيا إلى اليمن إلى الشّام. وتحقق له الحلم وفتح بيت المقدس بعد معركة تاريخية لا يزال صدى تكبيرات الانتصارات فيها يتردد إلى اليوم. هي معركة حطين^([20]).

– فعاش صلاح الدين في أحد أخطر المراحل التّاريخيّة التي مرت على العالم الإسلاميّ تتربصه جيوش الأعداء ومؤامرات الخونة واللئام فتجاوز كل العقبات وقلب موازين القوى وحقق النهاية السعيدة، لكن الصّحيح أنها كانت نهاية تفاني سلسلة طويلة من أبطال المقاومة والجهاد لا يقلون بريقًا وإخلاصًا – كما نحسبهم – لدينهم وأمتهم، أمثال القائد نور الدين زنكي، والذين كانوا يكبرون مع الأيام وتعاكسهم الظروف إلى أن جاء صلاح الدين يتمتع بالصفات التي كانت تحتاجها تلك المرحلة العصيبة، وقدم نموذج المجاهد الذي بمثله يحقق ما حقق. ولقد اعتمد صلاح الدين على مفهومين أساسيين لبناء قبة النّصر، الأول هو إيمانه المطلق في أنّ الجهاد هو الحل، والثاني، إدراكه التام أنّ الأمر لن يتم من دون توحيد الجبهة الإسلاميّة التي كانت مفككة متفرقة آنذاك، وهما ذات المفهومان اللذان انطلق منهما نور الدين زنكي ولكن الموت قطع عليه طريق العطاء^([21]).

– أمّا عن توحديه للجبهة الإسلاميّة فبدأت عملية توحيد الجبهة الإسلاميّة بأول خطوات عمل عليها عماد الدين زنكي بعد أن تولى الموصل – ذات الأهّمية الاستراتيجيّة التي فاقت بغداد في ذلك الزمان- وتولى معها عملية الجهاد وجمع إمارتي الموصل وحلب، فتمكن من توحيد الجبهة الإسلاميّة في الشّام، ومشى بعدها الخطوة الأولى في المشروع الضخم لاقتلاع الاحتلال الصليبي، بتدمير أول إمارة لهم هي إمارة الرها^([22]).

يرجع المؤرخون مرحلة عماد الدين كبداية مرحلة التّوازن مع القوى الصليبية والتي لم يكن ليحققها لولا أنّه استند إلى المشاعر الدّينيّة التي أوقد شعلتها العلماء والوعاظ في الناس، وتزاحمت الجماهير على أعتاب المساجد كما جرى في بغداد سنة 505 ه، حين كسر الصاخبون الباكون المنبر واستجاروا بنخوة الخليفة والسلطان السلجوقي، وبالطريقة نفسها استجاب المسلمون في بلاد الشّام وخرج أهل حلب نساءً ورجالًا وصبيانًا سنة 532 ه ودخلوا المساجد ومنعوا الناس من الصلاة، مطالبين بالجهاد حتى كسروا المنابر!.^([23]).

مواقفه التّاريخيّة

لقد دخل صلاح الدين الجو السياسيّ من بابه الأوسع، والجوّ في غاية الاعتراك والتعقيد والترقب، وميزان القوى بين الجبهة الإسلاميّة الناشئة وبين الصّلبيين قابل لكل احتمال، لا سيما وأن الجبهة المصرية الفاطميّة كانت تعاني من الفوضى والضّعف الشديد، والمراقبون من الصليبيين والمسلمين مع نور الدين، ينظرون بعين القلق إلى تطوراتها، الأوائل يطمعون في الاستيلاء عليها لضمان استقرارهم ونور الدين يخشى على الجناح الإسلامي الثاني أن ينهار ويحتله الصليبيون. وتطورت الأحداث على محور الزمن وتسارعت معها المتغيرات، وعمد شاور للتحالف مع الصّليبيين وإدخالهم إلى مصر فأرسل له نور الدين، أسد الدين شريكه فقلته، وحينها أسند الخليفة العاضد الفاطميّ الذي كان مجرد خليفة شكلي لا صلاحيات له تمامًا كما كان حال الخليفة العباسيّ، أسند الوزارة إلى أسد الدين وبعد وفاته انتقلت ليد صلاح الدين على عمر يناهز 32 سنة، ومنذ ذلك التّاريخ بدأ صلاح الدين في إحداث تغييرات كبرى في مصر^([24]).

الخاتمة

أنجـب الإسـلام عظمـاء فـي شـتى العلـوم والمعـارف، وعلـى مـر العصـور والـدّهور، ولا یـزال هـذا الـدّین والـى یـوم القیامـة ینجـب العلمـاء الأفاضـل، الـذین یبینـون شـرع االله لخلــق االله تعــالى، والأبطــال الأشــاوس الــذین یــدافعون عــن حرماتــه ومقدســاته، وكــان صلاح الدین من هؤلاء الأبطال العظام الذین خلدهم التّاریخ والى الأبد. واعلـم ” أنّ للبطولـة درجـات وأنـواع، فهنـاك فـي التـّاریخ بطولـة محلیـة إقلیمیّـة علـى مسـتوى القریـة أو المدینـة أو الإقلـیم، وهنـاك بطولـة عالمیّـة علـى مسـتوى الـوطن الكبیـر للإنسان، والبطل في النّوع الأخیر لا یخلد اسمه في تاریخ وطنه الصغیر أو فـي تـاریخ البشـریّة، فینـال إعجـاب الأعـداء والأصـدقاء جمیعـًا، ویـردد اسـمه أنـاس لا تربطهم به صلة من الصلات إلا صلة الانتماء إلى الوطن البشري الكبیر”، فكان بطولة صلاح الدین من هذا النوع من البطولات العالمیة.

صــلاح الــدین الــذي أحیــا روح الجهــاد بعــد مــا خمــدت، ونــزع الخــوف مــن قلــوب المسـلمین، ووحـد صـفوفهم، فاسـترد بیـت المقـدس بهـم بعـد مـا فقـد، فكـان هـو المهنـدس لهذا الفتح العظیم،صـلاح الـدین وقبـل فتحـه القـلاع والحصـون فـتح القلـوب والصـدور بعدلـه، وكرمـه، وإحسانه، ولطفه، وحلمـه، وسـماحته، وحبـه لرعیتـه، ووفائـه، ثـم بعـدها سـار إلـى فـتح البلـدان بعـد زرعـه الأمـان بأخلاقـه النابعـة مـن روح الـدین الإسـلاميّ.

المصادر والمراجع

1. ابن الأثير الجذري – الكامل في التّاريخ – مرجع سابق – ج11 ص 341 .
2. ابن خلكان، وفَيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان – مرجع سابق – ج6 ص 144-145.
3. أبو بكر أحمد بن الحسين بن على البيهقي وبهامشة الجوهر النقي للعلامة علاء الدين.
4. أخرجه الدارمي في سننه، المقدمة، 23 باب في كراهية أخذ الرأي، ص 60، حديث رقم 208، تحقيق بدر الدين جي تين آر، ط2، تونس دار سحنون 1413هـ/ 1992م.
5. أورده ابن أبي الدنيا في كتاب قضاء الحوائج – تحقيق محمد خير رمضان يوسف – طبعة بيروت دار بن حزم 1422هـ/ 2002م – ص 47 – حديث رقم 44.
6. أورده الشهمي في تاريخ جرجان – طبعة بيروت عالم الكتب – ص 70.
7. تاريخ جرجان حمزة بن يوسف بن إبراهيم الشهمي – ت 427 هـ، طبعة بيروت عالم الكتب 1401هـ/ 1980م.
8. صحيح مسلم، كتاب الإيمان – باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام – ج1 ص45 حديث رقم 16.
9. صحيح مسلم الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي – موسوعة السنة – ط2، ودار سحنون 1413هـ/ 1992م.
10. عبد الرحمن بن إسماعيل أبي شامة المقديسي – الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية – القاهرة 1962م تحقيق محمد حلمي ج1 ق2 مراجعة محمد مصطفى زيادة – د.ط – ص535.
11. عماد الدين إسماعيل أبو الفداء – البداية والنهاية – ط1 1966م – ج11 و ج12 – ص271.
12. علي بن محمد بن الأثير الجذري – الكامل في التّاريخ – د.ط – دار صادر بيروت (1386هـ – 1966م) ج11 – ص 341 .
13. عليّ إبراهيم حسن – مصر في العصور الوسطى من الفتح العربيّ حتّى الفتح العثمانيّ – ت.ط 1964 م ط5 – مطبعة السعادة – النهضة المصرية – ص 169.
14. عليّ بن عثمان الماردينيّ ابن التركمانيّ – مطبعة مجلس دار المعارف العثمانيّة في الهند 1354ه.

[1] – مدرّس مساعد في وزارة التّربيّة ديالى، قسم التّاريخ  wtgyujy@gmil.om .

 

^[2]– ابن خلكان، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ج6، ص 232.

^[3]– عماد الدين إسماعيل أبو الفداء، البداية والنهاية، 1966م، ط1 ج11 وج12، ص271.

^[4]– عبد الرحمن بن إسماعيل أبي شامة المقديسي، الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، القاهرة 1962م تحقيق محمد حلمي، ص341.

^[5]– ابن خلكان، مصدر سابق، ص234.

^[6]– المصدر السابق نفسه، ص234.

^[7]– شهاب الدين أبو شامة، مصدر سابق، ص535.

^[8]– عماد الدين أبو الفداء ابن كثير، البداية والنهارية، القاهرة، 1932م، ص272.

^[9]– الجذري، مصدر سابق، ص341.

^[10]– علي إبراهيم حسن، مصر في العصور الوسطى من الفتح العربي حتى الفتح العثماني ، النهضة المصرية ، 1964 م، ط5، ص169.

^[11]– ابن خلكان، مصدر سابق، ص144.

^[12]– بهاد الدين ابن شداد، النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، تحقيق جمال الدين الشيال، القاهرة، 1964، ص10.

^[13]– أبو القاسم الشهمي، في تاريخ جرجان، طبعة بيروت عالم الكتب، 1980م ، ص70.

^[14]– ابن شداد، مصدر سابق، ص9.

¹⁵– أبو بكر أحمد بن الحسين بن على البيهقي وبهامشة الجوهر النقي للعلامة علاء الدين على بن عثمان المارديني ابن التركماني، مطبعة مجلس دار المعارف العثمانية بالهند 1354ه، ص40.

^[16]– الجذري، مصدر سابق، ص341.

^[17]– ابن خلكان، مصدر سابق، ص145.

^[18]– الشهمي، مرجع سابق، ص70.

^[19]– البيهيقي، مرجع سابق، ص96.

^[20]– أبو الفداء، مصدر سابق، ص280.

^[21]– الجذري، مصدر سابق، ص348.

^[22]– حسن، مرجع سابق، ص169.

^[23]– ابن خلكان، مصدر سابق، ص140.

^[24]– الجذري، مصدر سابق، ص304.