البناء المعرفيّ وضرورة التّفكير وفق المنظور الإسلاميّ
أ.م.دعمار باسم صالح([1])
م.دميثم سعد مطر([2])
م.د.حيدرخلف سلمان([3])
الملخص
لقد شهد هذا الزمن صراعًا علميًّا وبحثيًّا مهمًّا في البحث عن المعرفة من حيث حقيقته ومسوغاته وضرورة الحداثة المتطورة لمظاهر التجديد وفق المنظور الإسلاميّ.
حاول البحث إبراز اهمية المعرفة في الوقت الذي لم يغفل عن بيان أن إدراك التّطور العلميّ يعدُّ من الأمور العسيرة، إذ إن من الأسس التي قامت عليها نظرية المعرفة في تطور مجالات العلوم كافة وعلى جميع الأصعدة.
أكد البحث أنّ قيام الحضارة الإسلاميّة وازدهارها، لم يكن إلا نتيجة حتميّة بين أوجه المعارف من خلال الضرورة المعرفيّة، وذهب كثيرٌ من الباحثين إلى ضرورة إدخال أنواع المعارف والعلوم جميعها – من كونيّة وطبيعيّة ودينيّة وغيرها – ضمن مصطلح الفكر الإسلاميّ بلحاظ أن جميع المعارف والعلوم في الإسلام متكاملة يكمل أحدها الآخر. وهذا يعني ضرورة التأسيس لبناء خزينًا معرفيًّا رصينًا يعتمد على قراءة جديدة وصولًا إلى فهم مشترك، وواقعيّ ينسجم مع متغيرات العصر الحديث وتحدياته الفكريّة الجسام .
لذا أصبح لزامًا من ضرورة تحذير العوام من الولوج في فهم القضايا العلميّة وبناء تصوراتهم وفق قراءاتهم الخاصة، وغير المنضبطة بأصول التّفكير العلميّ والأكاديميّ وقواعده. ويؤكد البحث أنّ المعرفة لا تعني القطيعة النّهائيّة مع الماضيّ وإنّما هي قضية تحول تدريجيّ للثّقافة، من ثقافة تقليديّة تعبّر عن بيئة قديمة وتفسير العالم تفسيرًا تقليديًّا إلى ثقافة متطورة قادرة على فهم التّقنيّة ومظاهر التّجديد الذي تحملها الحداثة معها.
Summary
This time witnessed an important scientific and research struggle in the search for knowledge in terms of its truth and justifications and the necessity of advanced modernity for the manifestations of renewal according to the Islamic perspective.
The research tried to highlight the importance of knowledge while not neglecting to show that the realization of scientific development is one of the difficult matters، as it is one of the foundations on which the theory of knowledge is based in the development of all fields of science and at all levels.
The research also confirmed that the rise and prosperity of Islamic civilization was only an inevitable result between the aspects of knowledge through the epistemological necessity، and many researchers went to the necessity of introducing all kinds of knowledge and sciences – cosmic، natural، religious and others – within the term of Islamic thought، noting that all knowledge and sciences in Islam Integral complements one another.
This means the need to establish a solid knowledge store based on a new reading in order to reach a common and realistic understanding that is consistent with the changes of the modern era and its major intellectual challenges.
Therefore، it has become imperative to warn the public against entering into understanding scientific issues and building their perceptions according to their own and undisciplined readings of the principles and rules of scientific and academic thinking.
The research confirms that knowledge does not mean the final break with the past، but rather it is an issue of a gradual transformation of culture، from a traditional culture that expresses an ancient environment and a traditional interpretation of the world to a developed culture capable of understanding technology and the manifestations of renewal that modernity brings with it.
المقدمة
ليس من الغريب أن تجد مصطلح البناء المعرفي يأخذ موقعًا أثيرًا في الكتابات الفكريَّة والثقافيَّة، إذ يَشيع استعمالهُ من دون أن تتحددُ دلالاتِه بصورة واضحة، ولذلك تجدَ المصطلحَ يُستخدم بدلالاتٍ مختلفة، وربَّما متناقضة، ولعلَّ هذا هو حال جميع العلوم .
ذلك أنَّ المصطلح يُستخدم في كثير من الأحيان ليعني أنَّ شخصًا ما موسوعيٌ في معرفته وثقافته؛ لأنَّه يُلمُّ بكثير من العلوم، ولو كان إلمامُه من باب الثقافة العامة وليس المعرفة التّخصصيّة، ففي هذا السّياق يجرى التنْوِيهُ عن بعض علماء المسلمين الذين اتصفوا بضرورة التّفكير المعرفيّ والذي أصبح حاجة ملحة.
لذلك أصبح من غير الميسور على العالِم الواحد أن يتخصَّص في أكثر من علم، بل إنَّ العلم الواحد قد تجزّأ إلى علوم فرعيّة لا يكاد العالِم يتقن واحدًا من هذه الأجزاء، وربَّما كانت ظاهرةُ التّخصص في علم واحد والتّفرغ له ظاهرةً حديثة في التّاريخ الإنسانيّ، بسبب التوسُّع الكبير الذي طرأ على المعرفة البشريّة، ومن هنا وجب التّأكيد من باب استفادة علوم المجال النّصيّ من علوم المجال الكونيّ والإنسانيّ فحسب، بل من باب إمداد تلك العلوم الأخرى بأدوات ومناهج وكليات المعرفة العلميّة في شتى المجالات .
حاول البحث إبراز أوجه المعرفة ومقوماتها في الوقت الذي لم يغفل عن بيان أنّ إدراك التّطور العلميّ يُعد من الأمور العسيرة، إذ إن من الأسس التي قامت عليها نظريّة التّكامل المعرفيّ في تطور مجالات العلوم كافة وعلى جميع الأصعدة.
لقد كان هذا البحث محاولة لفهم مصوغات التّكامل، والأسس الرّئيسة للمعرفة التي قامت عليها نهضتنا –نحن المسلمين- في السّابق ونهضة الغرب في العصر الحديث، لعله يكون في مكنتنا أن نبعث تلك الروح المَفكِّرة المبدعة الخلاقة التي لم تقف عند حد، ولم تر عوائق مَحرِّمة ومَجرِّمة للبحث العلميّ ورجالاته.
أكد البحث ضرورة التأسيس لبناء معرفي متكامل، رصين يعتمد على قراءة جديدة وصولًا إلى فهم مشترك وواقعيّ، ينسجم مع متغيرات العصر الحديث وتحدياته الفكريّة الجسام.
لقد اقتضت طبيعة البحث أنّ نقسمه: إلى مقدمة ومبحثين وخاتمةـ تناولنا في المقدمة أهمّية الموضوع وسبب اختياره، بينما تناولنا في المطلب الأول أهمّية المعرفة ،أمّا المطلب الثّاني تناولنا فيه المنظور الإسلاميّ وضرورة التفكير، ثم ختمنا بخاتمة أوجزنا فيها أكثر ما توصلنا إليه أهمَّيّة من نتائج، وأخيرًا نسأل اللهَ أنْ نكون قد وفِّقنا في رسم صورة واضحة المعالم لهذا البحث الذي قد يُنظر إليه من زوايا متعددة، وأملنا بالله كبير ألاَّ تكون من بينها نظرة سطحية تحكم عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المطلب الأول: أهمّية المعرفة
تكمن أهّمية المعرفة في كثيرًا من الأمور ولا بُدَّ من تبيان ذلك من خلال مفهومها إذ للمعرفة معانٍ عدة وما ذكر منها: العرفان العلم، والعريف والعارف بمعنى مثل عليم وعالم(ابن منظور،1994،2898)، وعرفه: علِمه وأدركه بتفكرٍ وتدبرٍ لأمره(أحمد رضا،1960،477).
فالمعرفة هي إدراك الشّيء على ما هو عليه، وهي مسبوقة بنسيان حاصل بعد العلم، بخلاف العلم ولذلك يسمى الحقّ تعالى بالعالم مندون العارف(الجرجاني،2007،236)، وقد ذكر الرّاغب الأصفهانيّ أنّ: المعرفة والعرفان إدراك الشّيء بتفكر وتدبر لأثره، وهو أخصّ من العلم ويضاد الإنكار، ويقال: فلان يعرف الله ولا يقال: يعلم الله، لمّا كان معرفة البّشر لله هي بتدبر آثاره دون إدراك ذاته، ويقال: اللهُ يعلم كذا ولا يقال يعرِف كذا؛ فالمعرفة تستعمل في العلم القاصر المتوصَّل به بتفكر، ويذكر الأصفهاني في دلالة كلمة علم قائلًا: العلم إدراك الشيء بحقيقته(الاصفهاني،1987،334) .
فالمعرفة اذًا؛ تقال فيما تدرك آثاره وإن لم تدرك ذاته، والعلم يندر أن يقال إلا فيما يدرك ذاته وحقيقته، فالعلم يتطلب الإحاطة بأحوال المعلوم على وجه التّمام لذا تتصل المعرفة في التّصورات بينما يستعمل العلم في التّصديقات، وفق هذا السّياق فإن مفهوم نظريّة المعرفة في إطار الدّراسات الفلسفيّة يراد به بصورة أساسيّة البحث المنظم في الوجود الذّهنيّ للمدركات والقوالب الذهنية(شورش،2002،21).
إنّ مفهوم المعرفة نجده في أكثر المصادر اللغوية يكاد يتمحور حول معنى السكون الطمأنينة، ويستند ذلك إلى أن ثبوت المعنى في النّفس يقتضي سكونها إليه، بخلاف ما لم يثبت في النّفس فإنّها تنكره، لذا يقول ابن فارس : (العين والرّاء والفاء أصلان صحيحان، يدل أحدهما على تتابع الشيء متصلًا بعضه ببعض، والآخر على السّكون والطمأنينة … تقول : عرف فلان فلاناً عرفاناً ومعرفة، وهذا أمر معروف، وهذا يدل على ما قلناه من سكونه إليه، لأن من أنكر شيئاً توحش منه ونبأ عنه)(ابن فارس،1979،281).
إذًا؛ تنطبق المعرفة على معنى العلم، من جهة أنّه ثبوت المعلوم وتحققه في النّفس، فمن علم بشيء فقد عرفه، ومن عرفه فقد علم به، ولهذا يفسر أهل اللغة المعرفة بالعلم كما جاء في اللسان (العرفان : العلم)(ابن منظور،1994،236). كما يفسرون العلم بالمعرفة كما جاء في اللسان أيضًا ( علمت الشيء أعلمه علمًا : عرفته )(ابن منظور،1994،417) . فرق بعض أهل اللغة بين المعرفة والعلم، لكن على وجه لا ينافي أتفاقهما في المفهوم الإجماليّ، ومن ذلك قولهم: “إن الفرق بين العلم والمعرفة ،أن المعرفة أخص من العلم ، لأنّها علم بعين الشيء مفصلًا عما سواه والعلم يكون مجملًا ومفصلًا… فكل معرفة علم، وليس كل علم معرفة، وذلك أنّ لفظ المعرف يفيد تمييز المعلوم من غيره، ولفظ العلم لا يفيد ذلك إلا بضرب آخر من التّخصيص في ذكر المعلوم، والشّاهد قول أهل اللغة إنّ العلم يتعدى إلى مفعولين ليس لك الاقتصار على أحدهما إلا أن يكون بمعنى المعرفة”(العسكري،1992،73) .
إنّ تفسير العلم بالمعرفة، والمعرفة بالعلم لا فرق بينهما، إذ بين أن يكون لكل منهما مع ذلك معنى يختص به، وإنما المقصود اشتراكهما في المفهوم الإجماليّ المستند إلى ثبوت معنى في النّفس هو حقيقة العلم والمعرف. وكما يقول الإمام ابن حزم فـ”العلم والمعرفة اسمان واقعان على معنى واحد، وهو اعتقاد الشيء على ما هو عليه وتيقنه وارتفاع الشكوك عنه”(ابن حزم ،1987،109) .
وهذا المعنى القائم في النّفس حقيقة ضروريّة يدركها الإنسان من نفسه، وهي أظهر من أن تعرَّف أو يستدل لاثباتها، لأن كل إدراك لأمر كليّ أو جزئيّ متوقف على ثبوت حقيقة المعرفة في النّفس ثبوتًا ضروريًّا لا يمكن الجهل به أو الشك فيه، والتعريف إنّما يكون بما هو أظهر وأوضح مما يراد تعريفه، والمعرفة هي أظهر المعارف إذ لا يمكن تعريفها بما هو أظهر فيها، ولهذا فإنّه لا يمكن الشّك في حقيقة المعرفة وقيامها بالنّفس، وإن أمكن الشّك في بعض المعارف الجزئيّة، وهذا هو الأساس الذي بني عليه ديكارت فلسفته في حقيقة في المعرفة اليقينيّة، إذ شك في كل شيء حتى شك في وجوده، لكنّه لم يمكنه أن يشك في أنّه يشك، أيّ في معرفته بأنّه يشك، لأن معرفته بذلك أظهر من أن يشك فيها، بل إن الشك فيها إثبات لها(فضل الله،1986،77) .
وحاصل ما انتهى إليه الفلاسفة المحدثون في تعريف لفظ المعرفة أربعة أقوال:
“الأول: هو الفعل العقليّ الذي يجري به حصول صورة الشّيء في الذّهن… والثّانيّ: هو الفعل العقلي الذي يصل به النفوذ إلى جوهر الموضوع لتفهم حقيقته… والثالث: هو مضمون المعرفة بالمعنى الأول، والرّابع: هو مضمون المعرفة بالمعنى الثاني”(صليبا،1978،91) .
فأمّا تفسير المعرفة بمضمونها فغير وارد، لأنّ المراد حقيقة المعرفة التي هي حالة للّنفس تقتضي إدراك بعض المعارف الجزئيّة، لا ما يتضمنه ذلك الإدراك من معارف جزئيّة، وأمّا القول: إنّ المعرفة هي فعل عقليّ فصحيح، لكن تقييده بأنّه الذي يجري به حصول صورة الشّيء في الذّهن هو مقتضى التّفسير الماديّ لطبيعة المعرفة ، المستند إلى أنه لا وجود إلا للواقع المحسوس ، وما يقتضيه ذلك من أن التصور العقليّ مجرد انعكاس للواقع الموضوعيّ . كما أن تقييد الفعل العقليّ بأنّه الذي يصل به النّفوذ إلى جوهر الشّيء هو مقتضى التّفسير المثاليّ لطبيعة المعرفة ، والذي يستند إلى أن طبيعة موضوع المعرفة روحيّة لا ماديّة، فلا يكون بين الذّات العارفة وموضوع المعرفة فرق، على ما سيأتي بيانه قريبًا.
والحقّ أنّه لا يمكن تعريف المعرفة: إلّا أنّها الحالة النّفسيّة التي يجدها الإنسان بالضّرورة حال الإدراك، وأنّه لا يمكن تحديدها، لأنّ ذلك يقتضي تعريفها بما هو أخفى منها. ولهذا ذهب الرّازيّ إلى أن تعريف العلم متعذر، وعلل ذلك بأنّ “كل ما يعرَّف به العلم فالعلم أعرف منه؛ لأنّه حالة نفسانيّة يجدها الإنسان من نفسه أبدًا … وما هذا شأنه يتعذر تعريفه” (الرازي،1943،435).
المطلب الثاني: المعرفة وضرورة التفكير وفق المنظور الإسلاميّ
لقد حدد الإسلام العقل وجدد المعرفة تبعًا لذلك، فلما كان العقل محدودًا كانت المعرفة كذلك، وفي هذا تكريم للعقل أولًا وأخيرًا؛ لأنّه محدود الطاقات والملكات فلا يستطيع أن يدرك كلّ الحقائق مهما أوتي من قدرة وطاقة على استيعاب والإدراك، لذا فإنّه سيضل بعيدًا من متناول كثير من الحقائق وإذ ما حاول الخوض فيها والتَبَست عليه الأمور، وتخبط في الظلمات وفي هذا مدعاة لوقوعه في كثير من الأخطاء وركوبه متن العديد من الأخطار .
فأمر الإسلام العقل بالاستسلام والامتثال للأمر الشّرعي الصريح حتى ولو لم يدرك الحكمة، والسّبب في ذلك، فقد كانت أول معصية لله ارتكبت بسبب عدم هذا الامتثال فحينما أمر الله سبحانه وتعالى إبليس بالسّجود لآدم عليه السّلام استكبر وعصى واستبد برأيه فقارن بين خلقه وخلق آدم عليه السلام ﴿ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾(الأعراف،112) فلم يمتثل للأمر طلبًا لسبب الذي يسجد لأجله الفاضل للمفضول حسب رأيه، فلما لم يدرك عقله السّبب رفض الامتثال فكانت المعصية وكانت العقوبة .
لذا منع الإسلام العقل من الخوض فيما لا يدركه، ولا يكون في متناول إدراكه كالذّات الإلهيّة والأرواح في ماهيتها ونحو ذلك فقال عليه الصلاة والسلام ” تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله “(البيهقي،1998،159) وقال ” لا يزال النّاس يتساءلون حتى يقال هذا خلق الله فمن خلق الله ؟ فمن وجد من ذلك شيئًا فليقل أمنت بالله ورسوله “(مسلم،1998،194) وعن الروح قال تعالى:﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾ (الإسراء،85) فصرف الجواب عن ماهيتها لأنّه ليس من شؤون العقل السؤال عنها ولا من مداركه ، وكذلك الجنة ونعيمها والنار وجحيمها وكيفيّة ذلك وغيرها من الغيبيات التي ليست في متناول العقل ومداركه .
وعلى هذا مضى المسلمون في العصر الأول من الإسلام، عرفوا ما للعقل فدرسوه وحفظوه وما ليس له فاجتنبوه بل اجتنبوا من عرف بالأهواء، والسّؤال عن المتشابه فهذا صبيغ بن عسل جعل يسأل عن متشابه القرآن في أجناد المسلمين حتى قدم مصر فقال أبو عثمان النّهدي فلو جاءنا ونحن مئة لتفرقنا عنه(ابن بدران،1984،385) .
ثمة اتجاهات متنوعة في ضرورة إدراج المعارف والعلوم جميعها ضمن ما يسمى بمصطلح الفكر الإسلاميّ، فذهب كثيرٌ من الباحثين إلى ضرورة إدخال جميع أنواع المعارف والعلوم – من كونية وطبيعيّة ودينية وغيرها – ضمن مصطلح الفكر الإسلاميّ بلحاظ أن جميع المعارف والعلوم في الإسلام متكاملة يكمل أحدها الآخر، بدءًا من عهد الرسول وإلى يومنا هذا ، شريطة أن لا تخرج عن إطار المبادئ الإسلاميّة عقيدةً وشريعةً وسلوكًا؛ فعلم الرّياضيات – مثلًا – وإن ابتكرهُ اليونان في أول الأمر، وألّفوا فيه الكتب؛ إلا أنّ المسلمين طوروه، ورتّبوه، وأضافوا عليه، ثم بعد ذلك نقل إلى حقل الحضارة الإسلاميّة.
فقد عمد الخوارزميّ إلى إنشاء علم”الجبر والمقابلة” وهو من فروع علم الرياضيات يقول الأستاذ سلمان قندز في مقالة له بعنوان مصدر جبر الخوارزميّ، إنّ كتاب الخوارزميّ هو اللّبنة الأولى في العلوم الحديثة ويستحق الخوارزميّ، أن يسمى والد علم الجبر إذ لم يكن عند العلماء الرياضيين الذين سبقوه فكرة واضحة عنه كعلم مستقل بل كانوا يحاولون معرفة علم الأعداد، وعلى هذا فإنّ استيعاب مصطلح الفكر الإسلاميّ لجميع المعارف والعلوم إنّما يدلّ على النّظرة المتكاملة لهذا المفهوم.
بينما يرى آخرون ضرورة تضييق دائرة المعارف والعلوم الّتي تدخل ضمن هذه المصطلحات؛ فأدخلوا بعض العلوم والمعارف الّتي انبثقت من مصادر الوحي حصرًا من دون بعض آخر، وقد عبّر محمد أسد عن ذلك بقوله: ” إنّنا نعني بحضارة الإسلام تلك النّظرة الخاصة إلى الفضائل الخُلقيّة، وذاك المنهاج الاجتماعيّ المتمايز، والأسلوب الّذي رسمه الإسلام لحياة البشر؛ فلا نقصد بحضارة الإسلام حدثًا بذاته أو نهضةً ممّا استحدثه المسلمون في أيّ قطر من أقطارهم أو حقبة من حقبات تاريخهم” (اسد،1992،22) .
إذاً؛ تُعد المعارف الإسلاميّة مركبًا أساسًا ومكونًا رئيسًا من مكونات الحضارة في المنظور الإسلاميّ، والتّكامل بينها سيصب في تصحيح الممارسة الحضاريّة(السعيد،2001،133). ولهذا فالحضارة الإسلاميّة حققت للإنسان كيانه الإنسانيّ؛ لأنّها وازنت بين الجانب الماديّ الحسيّ في الإنسان والجانب الرّوحيّ المعنويّ، فكان إنجازها ماديًّا محكومًا بالقيم العُليا التي يُقررها الإسلام(قطب،1991،173)، وهذا الوعيّ، هو ما سيدعونا الى بلورة رؤية جديدة يجري من خلالها صنع آلية جديدة للتكامل المعرفيّ، آلية لا تقوم بالغاء الدّين والاعتماد على المعارف الدّنيويّة كما ظن بعضهم ممن انبهروا بالمدنيّة الغربيّة فظنوا أن ذلك إنّما حصل لهم بسبب سلخ الدين ومعارفه من منظومة المعرفة فنادى الى ذلك في بيئتنا المسلمة(خليل،2006،18)، وإنما آلية تصب في التّوفيق بين معارف الدّين الإسلاميّ والعلم الحديث بهدي عقيدة السّلف والإفادة من أفكار العصر(الراشد،1992،11).
لا يرى أحمد القصص في هذا التّقييد تضييقا لدائرة الحضارة الإسلاميّة؛ فالكلام عن أنظمة الإسلام هو في الحقيقة كلام عن ثروة عظيمة تشمل هذا الكمَّ الهائل من التّفاسير وعلوم القرآن وعلم الفقه وأصوله وعلوم الحديث، ومن ثمّ يخلص إلى ذكر النتيجة بقوله:”… وعلى هذا الأساس من الخطأ أن نُدخِلَ في مدلول الحضارة الإسلاميّة ما أبدعه رجالات العالم الإسلاميّ في مجال العلوم الطبيعيّة كالطب والكيمياء والفيزياء والفلك والملاحة والحساب والرّياضيات والهندسة وفي مجال الفنون كالتّصوير والنّحت والموسيقى وفي مجال الإنجازات التّقنيّة والصناعيّة والعسكريّة والعمرانيّة فالأحرى بهذه المواضيع أن تُدرس تحت عناوين، مثل: تاريخ العلوم عند المسلمين وفنون الشّعوب الإسلاميّة ومدنيّة المسلمين”(القصص،33).
لم يبن هذا الرأي على أساس متين من الحجج العقليّة، والأدلة بل جاء نتيجة رد فعل لصنيع المستشرقين ممن حاولوا نفيّ وجود إبداع في الحضارة الإسلاميّة، وأنّها ليست إلا ثمرة للحضارات الموجودة في البلدان المفتوحة؛ فذهب هؤلاء إلى أنّ حضارة المسلمين أثّرت بغيرها من الحضارات ، ولم تتأثر هي بأيِّ حضارة كانت، وعلّلوا ذلك: بأنّ أصول هذهِ الحضارة نابعة من الوحيّ الإلهيّ، فلا ينبغي إدخال علوم منبعها الإلحاد والضّلال، وزجّها في بوتقة الحضارة الإسلاميّة، أو الفكر الإسلاميّ (أحمد،1991،55).
لا يخفى ضعف هذا القول وتهافت تعليله؛ فالمعروف أنّ المسلمين عندما نقلوا هذه العلوم إلى لغتهم؛ فإنّهم لم يجمدوا عليها بل طوّروها ووسّعوها ونظَّمُوها بإدخال الأسس والقواعد عليها وأحياناً استخرجوا منها العلوم؛ فعلم الجبر – مثلاً – إسلامي المنشأ، أبتكره الخوارزميّ– الذي يعد من كبار علماء المسلمين، ولهذا قال الأستاذ قدري حافظ طوقان: ” اشتغل العرب بالجبر، وأتوا فيه بالعجب العُجاب، حتى أنّ “كاجوري” في كتابه “تاريخ الرياضيات” قال: إنّ العقل ليدهش عندما يرى ما عمله العرب في الجبر، وهم أول من أطلق لفظ “جبر” على العِلم المعروف الآن بهذا الإسم، ومنهم أخذ الإفرنج هذهِ اللفظة ( Alqedva ) وكذلك هم أوّل من ألّف فيه بصورة منظّمة” (طوقان،1979،51) .
وهناك من توسط بين الرأيين السّابقين؛ إذ إنّهم قسّموا الحضارة على قسمين: أصليّة وتجريبيّة؛ فالأصليّة: هي الّتي نبعت مصادرها من الوحيّ الإلهيّ، وأمّا التّجريبيّة: فهي الّتي كانت قبل الإسلام ثم طُوّرَت بعد ذلك على أيدي المسلمين ، ويمثل هذا الاتجاه أحمد شلبيّ، إذ قال : “إنّ الحديث عن الحضارة الإسلاميّة يصحّح خطأً طال مداه؛ فقد كان هناك اتجاه سائد يرى أنّ الحضارة الإسلاميّة هي ما وصل إليه المسلمون من تقدُّم في مجال العمران، أو في مجال الطب والرياضة ونظائرها من العلوم التّجريبيّة ويتجاهل هذا الاتجاه، أو يجهل ما سوى ذلك، ولكنّ موضوعنا هنا يقوم لإيضاح الطريق الصّواب حول الحضارة الإسلاميّة بأن نجعل التّركيز على الحضارة المنبثقة من المصادر الإسلاميّة الرئيسة، وهذا النّذوع من الحضارة هو ما نسَمِّيه: “لحضارة الإسلاميّة الأصلية” أيّ: الّتي استمدت وجودها من الفكر الإسلاميّ، والّتي هي منحة الإسلام لهداية البشرية، أو بعبارة أخرى استحدثت وجودها من القرآن الكريم وأحاديث الرسول، وغيرها من مصادر التشريع الإسلاميّ(شلبي،1985،18) . إذًا؛ بالمعرفة تتبلور نهضة العالم الإسلاميّ؛ فهي إذاً ليست في الفصل بين القيم، وإنّما هي في أن يجمع بين العلم والضمير؛ بين الخلق والفن؛ بين الطبيعة وما وراء الطبيعة، حتى يتسنى له أن يشيد عالمه طبقًا لقانون أسبابه ووسائله، وطبقًا لمقتضيات غايته(العبدة،2006،190).
الخاتمة
فلا بدّ من وقفة تأمل واستذكار لما حققه البحث من مقاصد وما توصل إليه من نتائج بعد أن اكتملت صورته بالشّكل الذي رسمناه له، فأقول:
1-إنّ حقيقة المعرفة التي هي حالة للنفس تقتضي إدراك بعض المعارف الجزئية، لا ما يتضمنه ذلك الإدراك من معارف جزئية.
2- منع الإسلام العقل من الخوض فيما لا يدركه ولا يكون في متناول إدراكه كالذات الإلهيّة والأرواح في ماهيتها.
3- إنّ مفهوم نظرية المعرفة في إطار الدراسات الفلسفية يراد به بصورة أساسية البحث المنظم في الوجود الذهني للمدركات والقوالب الذهنية.
4- إنّ قيام الحضارة الإسلاميّة وازدهارها لم يكن الا نتيجة حتمية للتكامل بين المعارف من خلال ضرورة المعرفة .
5- ذهب كثيرٌ من الباحثين إلى ضرورة إدخال أنواع المعارف والعلوم جميعها – من كونيّة وطبيعيّة ودينيّة وغيرها – ضمن مصطلح الفكر الإسلاميّ بلحاظ أن جميع المعارف والعلوم في الإسلام متكاملة يكمل أحدها الآخر.
6- المعرفة لا تعني القطيعة النّهائية مع الماضي وإنّما هي قضية تحول تدريجي للثقافة، من ثقافة تقليديّة تعبر عن بيئة قديمة وتفسير العالم تفسيرًا تقليديًّا إلى ثقافة متطورة قادرة على فهم التّقنية ومظاهر التّجديد الذي تحملها الحداثة معها.
7- يؤكد النّظام المعرفي على دراسة المواد دراسة متصلة ببعضها البعض لإبراز علاقات واستغلالها لزيادة الوضوح والفهم
المصادر
القران الكريم
1-ابن بدران، عبد القادر بن أحمد الدومي (1984)، تهذيب تاريخ ابن عساكر : ،دار الكتاب العربي ،بيروت .
2-ابن حزم، علي بن أحمد الأندلسي (1987)، الفصل في الملل والأهواء والنحل، مكتبة الخانجي، القاهرة.
3-ابن فارس،أبو الحسين أحمد الرازي (1979) مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، بيروت.
4-ابن منظور ،أبي الفضل جمال الدين (1994) لسان العرب، دار صادر، بيروت .
5-أحمد، د. أحمد عبد الرزاق (1991) الحضارة الإسلاميّة في العصور الوسطى ( العلوم العقلية) : دار الفكر العربي ، القاهرة .
5-اسد، محمد(1992)الإسلام والتحدي الحضاري، ترجمة محمد محمود غالي ، دار الكتاب العربي ، بيروت .
7-الأصفهاني، الراغب(1987) المفردات، دار المعرفة،بيروت .
8-أمين د. عثمان(1983) ديكارت ، مؤسسة الرسالة ، بيروت .
9-البيهقي ،احمد بن الحسين بن علي(1998) الشعب : تحقيق محمد عبد القادر عطا ، مكتبة دار الباز ، مكة المكرمة .
10- الجرجاني ، محمد الشريف (2007) التعريفات، تحقيق وزيادة: عبد الرحمن المراعشلي، دار النفائس، بيروت.
11-خليل ،بكري محمد (2006) الفلسفة وإشكاليات النهضة العربية، دارالقلم ،دمشق.
12-الدفاع ،علي عبد الله (1983) العلوم البحتة في الحضارة العربية والإسلاميّة : مؤسسة الرسالة ، بيروت .
13-الرازي ،محمد فخر الدين (1943) المباحث المشرقية، دائرة المعارف ،حيدر اباد .
14-الراشد،،محمد أحمد(1992) معاً نتطور، دار المنطلق، دبي.
15-رضا: احمد(1960) معجم متن اللغة، منشورات دار ومكتبة الحياة، بيروت.
16-الزركلي، خير الدين بن فارس الدمشقي(2002)الاعلام ، دار العلم للملايين، بيروت .
17-السعيد ،أ. فؤاد و د. فوزي خليل(2001) الثقافة والحضارة (مقاربة بين الفكريين الغربي والإسلاميّ)، دار الكتب العلميّة ،بيروت.
18-شلبي،احمد(1985)دراسات في الحضارة الإسلاميّة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب .
19-شورش، عبد الكريم (2002)القبض والبسط في الشريعة، ترجمة دلال عباس، دار الجديد، بيروت.
- صليبا ،جميل (1978)المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللبناني، بيروت.
20-الطبراني ،أبو القاسم سليمان بن احمد (د.ت) معجم الطبراني الأوسط : تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي ، مكتبة العلوم والحكم ، الموصل.
21-طوقان ،قدري حافظ (1979)العلوم عند العرب : مكتبة مصر .
22-العبدة، محمد(2006) مالك بن نبي مفكر اجتماعي ورائد إصلاحي، دار القلم، دمشق.
23-العسكري، أبي هلال الحسن بن سعيد (1992) الفروق في اللغة، تحقيق: الشيخ بيت الله بيات، مؤسسة النشر الإسلاميّ ـ (قم)ـ.
24-علوان، عبد الله ناصح(2005) معالم الحضارة في الإسلام وأثرها في النهضة الأوربية، دار السلام، مصر .
25-فضل الله ،د. مهدي(1986) فلسفة ديكارت ومنهجه،دار المعارف ، القاهرة.
26-القصص ،احمد (د.ت) مقالة نشوء الحضارة الإسلاميّة: نقلا من كتاب( الغرب والشرق الاوسط) تعريب نبيل صبحي، المكتبة الشاملة.
27-قطب، محمد(1991) رؤية إسلامية لأحوال العالم المعاصر، دار الوطن للنشر،الرياض.
28-كرم، يوسف(1998)تاريخ الفلسفة الحديثة، دار المعارف، بغداد.
29-مسلم ،بن الحجاج ،(1998) صحيح مسلم : دار ابن حزم ، بيروت
[1] – أستاذ مساعد، كليّة العلوم الإسلاميّة، تخصص فكر إسلامي -جامعة بغداد. amar.saleh@cois.uobaghdad.edu.iq
[2] – مدرّس مساعد في كليّة العلوم الإسلاميّة، تخصص فكر إسلامي، جامعة بغداد
[3] – مدرّس مساعد في كليّة العلوم الإسلاميّة، تخصص فكر إسلامي، جامعة بغداد