عيوبُنا شوائبُ ثقافتنا
د. غلوريا خاطر([1])
كثيرًا ما نتغنّى نحن اللبنانيّين بالثقافة، ونتشاوفُ بها علامة فارقةً لنا في محيطنا العربيّ وفي العالم، ونحن في ذلك محقّون حقَّ شعوب الأرض قاطبةً في التباهي برُقيِّها. غيرَ أنَّ ضبابيّة مفهوم الثقافة عندنا خلطَ الحابلَ بالنابل وأطاح بالمعايير النقديّة التي تصلحُ لتقويم الثقافة وأهلها فبتنا، في حال انعدام الوزن هذه، نعاني أزمة ضياعٍ على المستوى الفكريّ والسلوكيّ ، وحقَّ لنا أن نتساءَل: أين نحن من الثقافة في لبنان؟ وأيُّ تهديدٍ لسمعتنا الثقافيّة الأصيلة يؤدّيه مدّعو الثقافة وفرسانها المزعومون؟
لن أتوقّفَ بالتفصيل عند مفهوم الثقافة وتشعّباته، ولا عند مواصفات الفرد المثقّف أو الجماعة المثقّفة – وفي هذا الموضوع أبحاثٌ لا تحصى ولا تُعَدّ – لكنّي سأقصر مقالتي على نماذجَ معبّرة من حياتنا اليوميّة غنيّةٍ بالدّلالات على مدّعي الثقافة، لعلَّها بسلبيّاتها تكشفُ ما ليس من الثقافة في شيء لا بل هو عدوُّ الثقافة ونقيضُها. وبحسب المفكّر ميشال سيرس فإنّ “ثقافة الفرد تُعَرَّفُ بما ينقصه”(1) وفي سياق الكلام على كلِّ عيّنة نموذجيّة يأتي تبيان ما يجب أن تكون عليه الثقافة وأربابُها على قاعدة “والضدُّ يكشف حُسنَه الضدُّ”.
تحت عنوان الديمقراطية في لبنان وحريّة الرأي فيه، يُلاحظُ المراقب الموضوعيّ تفلُّتَ الخطاب الشّعبيّ أحيانًا (عند فئة عريضة من الناس) والخطابِ الرّسميّ (لدى معظم القيادات السّياسية) من عقال الاعتدال، وجنوحَه إلى التعصّب والأنانيّة المفرطة والميلِ إلى التّسلُط الذي يخفي نيّة قمع الآخر إنْ لم نقلْ إلغاءَه . ومن باب الصراحة القولُ إنَّ التعصُّبَ في هذه الآونة صارَ موجةً ألغتِ الجزْرَ من حركتها ولم تُبْقِ إلّا على المَدّ. التعصُّبُ على أنواعه، بما هو انغلاقٌ ورفضٌ للآخر ومناصبتُه العداء، ليس حالة أو موقفًا بل فعلُ نفيٍ للثقافة وطمرٍ لها في دهاليز الجهل. ليس من المعقوليّة في شيء أن يوصَف بالمثقّف كلُّ من يُذكي نار التّعصُّب الطائفيّ أو العرقيّ أو الجندريّ بالكلام أو بالفعل أو بالنيّة سواء أكان سياسيّا أم عالِمًا فقيهًا أم رجلَ دين أم علمانيّا أم متعلّمًا أم غير متعلّم. لا شأنَ للدرجات العلميّة في تصنيف أصحابها بين مثقّفٍ وغير مثقّف، فكم في مجتمعنا من حملة شهادات عالية وأصحاب اختصاصات مرموقة يتصرّف بعضُهم بما لا يليق بل بما يُخجِل؟!!! ويتفوّه بما يُندي الجبين؟!!! ويُناقض بأفعاله وأقواله الصورة المثاليّة التي للمثقّف، محقّقًا بذلك مقولة بول فاليري إنّ “الشهادة هي العدوّ القاتل للثقافة”(2) التعصّبُ طعنة في قلب الثقافة، وما أكثرَ الطعناتِ التي تتلقّاها يوميًّا في لبنان، باسم الديمقراطيّة وحريّة إبداء الرأيّ على أيدي بعض مُدّعيها من ذوي الشّهادات العالية والمراكز المرموقة والقياديّة… ولا عتب بعد ذلك إن قلّدَهم “في ثقافتهم” البغيضة بعضُ من يجري على مذهبهم في الجهل والغرور. الثقافة انفتاحٌ وقبولٌ للآخر المختلف “ليس لون بشرته ولا أصله ولا عِرْقُه ما يصنع قيمة الفرد. إنّه قبل كلّ شيء ذكاؤه وثقافته”(3)… لكي تكون مثقّفًا ليس مطلوبًا أن تذوبَ في الآخر أو أن تذوب شخصيّة الآخر فيك. المطلوب أن تحترم إنسانيّته إذ هو لا يختلف عنك في الخَلْق.وهذا ما تتمحور عليه مقولة مكسيم غوركي “تبدأ الثقافة حيثُ يُعامَلُ العاملُ والعملُ باحترام”(4).
وما يصحُّ في قبول الآخر يصحّ في الاعتراف بما للآخر والآخرين من خصائص ومعارف وعلوم وفنون. أنت حرٌّ في الأخذ بها أو ببعضها أو بعدم الأخذ بها، وهو بالمقابل له حريّة التعامل معك كما يشاء، ولكنّ الثقافة وهي “روح الدّيمقراطيّة”(5) على ما يقول ليونيل جوسبان، تفرض عليكما طوعًا أن يعترف أحدكما للآخر بما لديه ويحترمُه. حتّى في حال الاختلاف على مسألة أو قضيّة، فإنَّ الثقافة تظهرُ في الاحتكام إلى العقل وفي الاعتراف بما للآخر من حقّ مهما كان زهيدًا، وبالإبقاء على شعرة معاوية أيّ على رابط القيم الإنسانيّة الجامع بين البشر وعدم الانزلاق إلى العنف الغريزيّ الأعمى. المثاقفة ما كانت يومًا ولن تكون عملاً قسريّا، وإنّما هي مساحة حريّة بلا حدود متاحة للبشر أفرادًا وجماعات.
المثقّف ليس ذاك الذي يجمعُ في ذهنه خير المعارف والعلوم، وإنّما هو من يختبر بصمت ما اختمر في عقله ووجدانه من مكتسبات وقيم، ثمَّ يجسّدُها بالقول والفعل حيثُ يجب أن تظهر إلى العلن. العلوم والفنون ،على تنوّعها واتّساعها، إن لم تغيِّرْ شخصيّةَ مكتسِبِها ومَنْ حوله تغييرًا إنسانيّا يتوافق وجوهرَ الخير المُطلق الذي تبشّر به الأديان السماويّة والأخلاق تبقَ محفوظاتٍ ينطق بها اللسان ولا تقدّم للبشريّة نسمة تُسعِدُها.”ليس للثقافة أيُّ معنًى على الإطلاق إذا لم تكن التزامًا مطلقًا بتغيير حياة الناس”(6). من هذا المنظار، قد يكون المثقّفُ فردًا على درجة متواضعة من العلم، لكنّه أفادَ من مدرسة الحياة فصقلت شخصيّته وهذّبته وثقّفته فإذا به في ميزان الإنسانيّة خيرٌ من علماءَ كبارٍ في اختصاصاتهم متواضعين بثقافتهم. وما رأيُك بحائز شهادةً جامعية مرموقة يرمي زجاجاتِ المياه الفارغةَ أو عُلَبَ السجائر أو أكياسَ نفاياته المنزليّة من شبّاك سيّارته على قارعة الطريق بصفاقة ومن دون حياء؟!! لا شكَّ في أنّ بصرَك وقع على مثل هذا المشهد تكرارًا في أكثرَ من محلّةٍ ومدينة وقرية في لبنان. هل تصنَّفُ هذا العابثَ بأبسطِ قواعد النظافة واللياقة والحسّ الاجتماعيّ مثقّفًا؟!!! الثقافة ليست في كتاب. قد تنطلقُ من كتاب لتذوبَ في إنسان جديد. والجِدّة شرط من شروط وجودها تلبَس من يكتنزُها وتصير علامة دالّة عليه كاسمه وتوقيعه ولون عينيه. والتجديد اقتحامٌ وجرأةٌ ويقينٌ بأنَّ الحياة كالنهر الجاري لا كالمستنقع الآسن، وفي هذا قيل:”إنّ ثقافةً لا تعرف التخلُّصَ من ماضيها حتى لَتذهب إلى قتله أحيانًا هي ثقافة ضعيفة في طريق الزوال أو مهدّدة بالامّحاء”(7).
آخرُ من مُدّعي الثقافة كثيرُ الشيوع على شاشات التلفزة وعلى مواقع التواصل الاجتماعيّ في لبنان بخاصّة وفي العالم العربيّ عمومًا، نرى نقيضه تمامًا في معظم وسائل الإعلام الأوروبيّة. ثمّة برامجُ تلفزيونيّة وإذاعيّة عديدة ذاتُ طابع حواريّ يستضيف فيها معِدّ البرنامج ضيفين أو أكثرَ للتناقش في مسألة ما سياسيّة، اقتصاديّة، اجتماعيّة، دينيّة أو حقوقيّة… من الطبيعيّ في مثل هذه البرامج الإعلاميّة أن يستقويَ كلُّ ضيفٍ بحججه وأدلّته وبراهينه وأن لا يدعَ وسيلة منطقيّة إلا يوظّفها لإقناع خصمه وجمهور المشاهدين والسامعين. ومن الطبيعيّ أيضًا أن يستعينَ بمخزون ثقافته لعرض وجهة نظره وللردّ على الحجة بحجّةٍ أقوى. حتّى الآنَ ليس في الأمر ما يدعو إلى العجب، فالجدالُ مشروعٌ وحقٌّ لأولي الألباب، بَيْدَ أنَّ ما يُخرِجُ أيَّ نقاشٍ من حلبة الثقافة ويقضي عليه بالضربة القاضية روحُ المكابرة وعدمُ الانصياع للحقيقة ولو ساطعةً سطوع الشّمس. الرجولة الشّرقيّة تستيقظُ في كيان كلّ من المتحاوَريْن، تشتدُّ وتُبرزُ مخالبَها وتزمجرُ، فلا يتزحزحُ أحدهما عن رأيٍ وليس عن مبدأ ولو وُوْجِهَ بالقرائنِ الدّامغة والحقائقِ العلميّة التي لا يختلف عليها عاقلان. ومردُّ هذا العنادِ أو الغباءِ أنَّ الاعتراف بالحقيقة هو بحسَبِ الأعرافِ البالية اعترافٌ بالانكسار والتقهقر أمام الخصم المُجادل، وهذا في عُرْف مُدّعي الثقافة عندنا مُحال. مثلُ هذه البرامجِ شائعٌ في العالم، ففي أوروبا يتحاورُ الأخصامُ والمتنافسون أمام الجماهير وتشتدُّ المناظراتُ وتحتدم، لكنّك ترى الواحدَ منهم لا يجدُ غضاضة في الاعتراف لغريمه بأنّه أصاب في هذه النقطة أو تلك الفكرة، وقد يبادله محاورُه مثلَ هذا الإقرارِ بصوابيّةِ رأيٍ جزئيّ أو ربّما كلّيّ، ولا يرافق هذا الاعترافَ من الجانبين أيُّ شعور بالنّقص أو الدونيّة. فالغلبة هنا للحقيقة نفسِها وليس لقائلها في شخصِه، وأعلى درجات الثقافة هي في التسليم بالحقيقة بمعزلٍ عن النّاطق بها لأنّها تخصُّ عمومَ البشر وليست مُلكًا له وحده. هذه النوعيّة من بضاعتنا الثقافيّة التي ننشرها على السطوح معيبة قبليّة الجذور وضاربة في تأليه الذات المريضة. فمتى نتعلّمُ الكِبَرَ في الرضوخ للحقيقة ؟ كلّ رضوخٍ تصحبُه المذلّةُ إلاّ الرضوخ للمشيئة الإلهيّة (عند المؤمنين بالله) ولطاعة الوالدين (عند المحافظين) وللحقيقة العلميّة، ففي الانحناء لها شموخُ نفسٍ لا يعرفه إلّا المثقّفون الراسخون في الثقافة لا الدّخلاءُ عليها. الثقافة إذًا بريئة من العنَتِ والمكابرة والعناد السّخيف وهي مَرِنة واسعة الآفاق، حدودُها المنطقُ لا نوازعُ الأنا.غير أنّ “العقول الضيّقة شكّلت متحفًا تَفتَحُ أبوابَه في ساعات محدّدة للغباء البشريّ”(8).
حينما تَشيعُ على ألسنتنا عبارات “صدقتَ أو غلبتَني أو أنت على حقّ” وما شاكلَها، ونعترفُ لمن يحاورُنا جهارًا ومن دون خجل أو مواربة بأنّنا أخطأنا نكون في قلب الثقافة نتربّعُ على عرشها بتواضع العارف الحكيم. حين نطبّقُ ما يتردّدُ على كلّ شفةٍ ولسان أنّ الاعترافَ بالخطأ فضيلةٌ – ولكن هيهات للهامات الحامية عندنا أن تفعل – نكون بحقّ ذوي ثقافة غير مزيّفة. وحينما نحترِفُ الإصغاء ونطلقُ الكلام حيث يحسن الكلام نكون نجومًا في فضاء الثقافة، لأنَّ أغلظ الانتهاكات ضدّ مبدأ الحوار في نفسه وضد آداب المحادثة أن ينشغلَ السامعُ عن كلام المتحدّث بجمع أفكاره وحججه تمهيدًا لمتابعة سياق سابق لم تغيّر فيه ملاحظات المتكلّم وحججُه قدْرَ أنملة، لأنّه لم يُستمَعْ إليها.
نموذجٌ ثالثٌ من نماذجِ اللاثقافة أو الثقافةِ المشوّهة، المزيَّفة، الهجينة الاصطناعيّة تقومُ على الثرثرة وعلى الخوضِ الكلاميّ في أيّ موضوع ومجال. ثمّةَ من يعتقد أنَّ المثقّف هو الذي لا ينبغي أن يسكت عند التطرُّق إلى أيّة مسألة، بل إنّ من واجبه لا أن يدليَ بدلوه وحسب، وإنّما أن يفرضَ وجوده على مَن في المجلس بكثرة الكلام وعدم ترك شاردة أو واردة من دون التطرّق إليها بالزعم، والتخمين، والتصوّر، والمَحاجّة العقيمة مع الإصرار على الحؤول دون إشراك أحدٍ في حوار يريدُه من طرف واحد. وإذا تجرّأ أحدٌ على الدّخول في نقاش معه قاده إلى استطراداتٍ نافلة أو استخدم الظرْف المبطّنَ بالسخرية أو عمدَ إلى عموميّات لا طائلَ منها. الأمثلة على هذا الطراز من المثقّفين المُدّعين كثيرة ،غالبًا ما نقعُ عليها في مجتمعنا اللبنانيّ لكنَّ أغربَها وأفدحَها خطورةً وأظلمَها بحقّ الثقافة نجدُها أحيانًا – ولا تعميم- على متن بعض الصفحات الثقافيّة في المنشورات الدوريّة أو في بعض المنتديات والمحافل الثقافيّة. والذي يدعوني إلى هذا المنحى النقديّ التصحيحيّ أمرٌ لا ريب عندي في أنّه استوقف الكثيرين من القرّاء أمثالي وهو استخفاف بعض “النقّاد” بعقول الناس على متن الصفحات الثقافيّة في بعض الجرائد والمجلّات. يصدر مؤلَّفٌ حديث الولادة في الرواية أو القصّة القصيرة أو الشعر أو النقد…فتنبري الأقلام للتعريف به وللكتابة عنه. وهنا يظهر الغثُّ من السمين. من مُدّعي الثقافة مَن يدبّج بضعة أسطر أو بضعَ فقرٍ في الكتاب من دون أن يكلّف نفسَه عناءَ قراءته، فينسخ من محتواه جملة من هنا وعبارة من هناك. وفي هذه الضحالة يصحّ التشبيه التالي ” الثقافة مثلُ المربّى كلّما كان لدينا القليلُ منه أمعَنّا في مَرْغِهِ”(9). وإذا كان التعريف يكتفي بالنزرِ القليل من المعلومات فإنّ إلقاء الضوء على المضمون وما فيه من أبعاد يتطلّب احترافًا في الكتابة تنمُّ عن ثقافة عميقة لا عن ارتجال وسطحيّة. فالكتابة مسؤوليّة لا ينهضُ بها إلا المثقفون الأكفياء ،أمّا الدخلاء على الثقافة فيسيئون إلى الكتاب وإلى الكتابة معًا.
مثالٌ آخر كنت شاهدة عليه في أكثرَ من مناسبة احتفاليّة في أكثرَ من منتدًى ثقافيّ. تُدعى إلى حفل توقيع كتاب وإلى ندوة حول المولود الجديد يشارك فيها عددٌ من المحاضرين تكريمًا للمحتفى به. وهنا أيضًا يخضعُ حضورك للحظّ. فإمّا أن يكون المحاضرون مثقّفين بحقّ قرأوا الدّيوان أو الكتاب وأعملوا فيه ثقافتهم، فيبادرون جمهرة الحاضرين بكلمات موزونة تعكسُ حقيقة ما تذوّقوه وخبروه ووضعوا نقاطهم على حروفه، ولا بأس في شيء من الأطراء الدمث لصاحب القلم المبدع. وإمّا أن يبتليَك الحظّ بالنّكد فتقعُ على مدّاحين لم يتصفّحوا الكتاب ولم ينظروا حتّى إلى عناوينه، وتروح تتمزّق من سماع خُطَبٍ وعمومياتٍ تصلحُ في كلّ كتاب، وتزكم أنفَك روائحُ البخور حتّى لتحسب نفسك في معبد قدّيس أو مزار وليّ.
المثقّفُ لا يتشدّقُ كيما يقال إنّه تكلّم وحكى. إنّه يتكلّم كما يتنفّس، وهو إذا تنفّس أو حكى فإنّما يفعل برقيّ لأنّ الثقافة أعلى مراتب الرقيّ الفكريّ المعبّرة عن إنسانيّة الكائن البشريّ. وهي التي “تبقى للإنسان عندما ينسى كلّ شيء”(10).
وقد اقترب موعد الانتخابات النيابيّة في لبنان، وفي نموذج أخير عن “ثقافتنا”، نوردُ التحالفاتِ السياسيّة مثالاً حيًّا لهزال وعينا الوطني. فاللوائح الانتخابيّة ستضمّ أفرقاء سياسيّين أمعنوا في تهشيم بعضهم بعضًا بالتصاريح والمواقف والاتّهامات العلنيّة، وربّما كانت بينهم نزاعاتٌ وصراعاتٌ وأحقاد ودماء… لكنَّ المصلحة الظرفيّة الانتهازيّة تجمعُهم، لا بل توحّدهم لخوضِ ميدان التكاذب والنفاق. هذه الشذرة المستلّة من واقع حياتنا الوطنيّة شديدة الدلالة على تشظّي ثقافتنا في متاهات التخلّف السياسيّ والاجتماعيّ والحضاريّ عمومًا. فاللبنانيّون من كلّ مذهب ومِلّة ومنطقة هم في سوادهم الأعظم ضاربون في الفكر الماضويّ، يحملون إلى السلطة طبقة من الحكّام يستتبعون ناخبيهم، ويعرفون أن انتقاداتِهم ولو قاسيةً ستذوب ذوبان الملح في الماء يوم الاقتراع. الوعيُ مفقودٌ لدى شرائحَ واسعةٍ من شعبنا، وهذا يعني أنّ الثقافة مفقودة. القطيعُ يعرف الطريق إلى المرعى وهذا يعني أنَّ الثقافة في خبر كان، وأنَّ المستقبل صورة عن الماضي غيرُ ملوّنة. المجتمع بناخبيه ومرشّحيه على السّواء يدورون في حلقة مفرغة عنوانها من جهة (الناس على دين ملوكهم)، ومن ناحية أخرى (كما تكونون يوَلّى عليكم). وإذا كانت عصبيّة العشيرة الدّاعيةُ إلى الالتفاف على روابطِ الدّم ما تزال موجودة في بعض مناطق لبنان ومبرّرةً لدى بعض مُريديها ودُعاتها، فإنّها مرفوضة تمامًا في الخيار السياسيّ. فمتى نُحسن اختيار ممثّلي الشعب على أساس الثقافة الليبيراليّة المترفّعة عن الطائفيّة والمناطقيّة والفئويّة والمآربِ الضيّقة؟!. ومتى نتعلّم أن نحاسبَ المرشّح على برنامجٍ سياسيّ متكامل واضح ينال على أساسه ثقتهم وأصواتهم؟! ومتى يعرف المرشّح إلى النيابة أنّ دوره هو التشريعُ ومراقبة عمل الحكومة وليس تعقيبَ معاملات الناخبين؟! ومتى يعرف المواطن أن كرامته أغلى من كنوز الدنيا فلا صوتُه للبيع ولا وطنُه للبيع.ومتى ومتى ومتى؟؟…
لن نمضيَ في جلد الذات وإن كانت عِللُنا فادحة ومستحكِمة، ولن ندّعيَ العصمة فنمتهنَ الكرازة والتبشير من بُعْد شأن، مَن يسكنُ الأبراج العاجيّة ويُلقي على الناس من عليائه المواعظَ والتوجيهاتِ. وهنا نستعين بقول الماريشال فوش ” ليس هناك أناس مثقّفون. ليس هناك إلّا أناسٌ في طور التثقّف”(11) فلا بأس في أن نحدّدَ بعض مهابط ثقافتنا، ففي ذلك وعيٌ لها وسبيلٌ إلى استدراكها وتجاوزها لأنّ “الثقافة ليست ترفًا، بل ضرورةٌ قصوى في مسعى المجتمعات إلى التقدم”(12). لا شكّ في أنّ السلبيّات معلّمٌ ماهرٌ، بيدَ أنَّ في سجلّنا الحضاريّ صفحاتٍ ثقافيّة مشرقةً نعتزّ بها، و%D
التعليقات مغلقة.