محمد جلال الأزهري رؤية بلاغية وعلمية للأدب
د. صباح محسن كاظم([1])
ربما هناك هدايا ترسل بها السّماء إلى الأنقياء، فتجمع بين القلوب والعقول بدراجات من الصفاء والوئام، فوق مائدة الوعي النوعيِّ، إذ الجدل الأدبي، والتّحاور الثقافي – التاريخي ناشطانِ في سبيل معالجة الهموم المعرفيّة. لقد شعرتُ بغبطة متناهية حينما ألتقيته قبل أنْ يظهر كلانا أمام شاشة قناة النّيل الثقافيّة المصرية في شباط الماضي، وقد كنت أستعد للكلام عن مؤلفاتي، ومعرض القاهرة الدولي. حينئذ تبادلنا الإصدارات بودٍّ جارف، وتآلفٍ وإرتياح شديدينِ، ومن هناك صحبني كتابه إلى جنة الدنيا – العراق؛ فكانت سعادتي غامرة، وأنا أقرأ لصديق يدخل الحياة من آخرها.
سوف أُولِي الكتاب اهتمامًا، من خلال عرض المحتوى؛ كي ينتفع قراء الرؤية العصريّة لشاب متحفز نحو الارتقاء بسلّم اللغة والأدب، مكافحًا، ومدافعًا عن نظرته الأدبيّة التي يؤمن بها بلغة مُشيدة بمعمار يثبت أوطاد وأركان وأوتاد الكلمات؛ فإذا هي ماكثةٌ راسخةٌ، لا تنال منها العواصف. إنَّ هناك كتبًا فكريةً أدبيةً تاريخيةً تكتب عن مرحلة ما، ثم يتلاشى بريقها في أيام معدودة، ما عدا كتاب الأزهري، الذي أتوقّع ازدهاره في رياض المعارف؛ لأنّه استنطق، وحلل، ثم فكك رؤىً شعريةً، وواجه منظومةً تاريخيّةً أو معرفيّةً، كما نافح عن حقّ مصر في مياه النّيل، مدافعًا عن قضايا الإيمان في زمن الابتذال والسّطحيّة، بل في زمن العولمة والهرطقة؛ ومن ثَمَّ كانت هذِي القراءةُ النّقديّة مختلفةً أشدّ الاختلاف عمَّا قدمَّته خلال عقدينِ من حياتي العلميّة والأدبيّة، إذ ألقيت الضوء الكاشف حول رؤيته الأدبيّة في شتى الموضوعات، وهذا من خلال إجراءات أتاحت لنّصوصه المتجاوزة حيزًا أكبر في هذا العرض.
إنَّ مفاتيحَ كلماته دالةٌّ علَى سعةِ إطلاعه، وجمال ذوقه، وقدرته العقليّة، وهذا واضحٌ جليٌّ في تناوله موضوعات الأدب والحياة بأريحيّة تامة، من خلال صفحات كتابه (فقه اللغة والأدب)، فها هو ذا يفك من خلال قراءات تواصليّة أسرار ديوان الشّاعر محمد الكفراويِّ، قائلًا تحت عنوان: تَقْوِيْلُ النصِّ في مكانٍ مَشْبُوْهٍ: «في البَدَاءةِ قد مَادَ الشاعرُ محمد الكفراويُّ في ديوانه (مكان مشبوه) إلى مجموعة من العلائم اللسانيّة، منذ العنوان ومرورًا بجسد الديوان وحتى حدوث تلك الهزيمة الحتميّة، التي تمثلتْ في الموت الرابض علَى أكتاف الحياةِ؛ فإنَّ صدر القارئ – من خلال العنوان الذي عَلْوَنَ به الشّاعرُ ديوانَه – قد اِنْدَاحَ بتلك العمليّات القرائيّة كلها، سعيًا وراء البلاغة الموشَّاة بالدّلالات والتأويلات؛ ومن ثَمَّ، فإنَّ معياريةَ العنوانِ، وذلك النّسق النحْويَّ الماثل في المبتدأ والخبر يدفعانِ القارئ إلى اهتبال فرص كُثْر في الوقوف علَى أحَاجٍ بلاغيّةٍ واستنطاقاتٍ مجازية، بل والكشف عن طبيعة التّجربة الشّعريّة في الدّيوان، الأمر الذي يمكن أنْ يساهم في تدوير المعنى المأزوم الذي أراده الشّاعرُ. وإنَّ مكانًا مشبوهًا مثل مكان محمد الكفراويِّ يحوي فِخاخًا بلاغيّةً؛ ولذا فإنَّ العنوانَ – دون النظر إلى مِعْيَارِيِّتِهِ – لم يكن ليتجاوزه القارئ من دون تحديد العلاماتِ بين مُبْتَدَأيِّتِهِ وخبريته، اللذين بَنَيَا نسقًا لُغويًّا سوف ينشعب بعد ذلك بين طيَّات الدّيوان»([2]).
ههنا يحلل المبدعُ الأزهريُّ قصائدَ الكفراويِّ بفكّ الدّلالات والأنساق المضمرة في شعره، وحينئذ قدَّمَ رؤيةً جماليّةً لعوالم شعريّة عصريّة. ولنا أنْ ننظر أنَّ في التداوليّة يؤكد شالز موريس في دراسة العلاقات بين العلامات ومفسريها، قائلًا: «بما أنّ كل مفسري العلامات كائناتٌ حيةٌ، فمن الصواب القول إنّها تهتم بعمليّة إنتاج اللغة، وبمنتجيها، وليس فقط بالنتاج نفسه؛ أيّ: اللغة». من ثَمَّ يستمر الأزهريُّ في تحليل النّص بتفصيل شديد، قائلًا: «المبتدأ (مكان) يقوم بوظيفته التّداوليّة، فيربط الشّاعرَ بالقارئ في طبقة خطابية معينة؛ إذ لا يمكن أنْ يذهل المتلقي عن المضامين التأويلية التي يمكن أنْ يؤسس لها ذلك العنوان في قسمهِ الأولِ، كما أنَّ قسمَه الآخرَ (مشبوه) يساعد علَى أَنْسَنَةِ مثل هذا المكان، وتحويله إلى كائنٍ ذي خطابٍ تداوليٍّ، ترومه البلاغةُ وتَتَشَظَّى علَى عتباته المجازاتُ المأنوسةُ والاستعاراتُ البليغةُ، بل والتّشبيهات الأنيقة؛ وهما، أي: (مكان مشبوه) يمثلانِ معًا تلك الحال، وذلك التوتر الشّعري بين الحياةِ والموتِ، وثالثهما الرّوح؛ فيرتبط القارئ والنصُّ برباط المعرفة المشتركة التي أحدثتها الجملةُ الإسناديّةُ تلك. وعلَى الرّغم من أنَّ العربَ العرباءِ، يميلون إلى جعل المبتدأ مُعرَّفًا، غير أنَّ نكارةَ العنوانِ هنا قد أفادتِ النصَّ في تقويلهِ وتأويلهِ؛ إذ إنَّ حتميةَ الموتِ وما تحدثه في نَفْسِ القارئ من معارف تفسيريّة ومفهوماتٍ دلالية، هي القضيةُ التي يمكن أنْ يراهن عليها الشاعرُ؛ وتلك اللُّغةُ التّنكيريةُ تفتح براحًا وأفقًا وسيْعًا لتلك الملهاةِ الوجوديّة الماثلة في الموت والحياة، وسوى هذا من الحيوات المهزومة، وانتقاء الأرواح لجثامين السائرين علَى هذه الأرض اليَبَاب؛ رهنٌ بالتجربة الجُوَّانيَّة التي تتغاير من جسدٍ إلى آخرَ، ومن روح إلى أخرى. إنَّ المكانَ المشبوه هنا يُرادُ به الأرضُ، وهو مكانٌ مشحونٌ بالأوْحَالِ والأوْبَاءِ، بل إنَّ باطنها يحوي الأحبة القدامى الذين يخرجون وهم يمسكون بالسّواطير، وهي أرض المعركة التي تسيل عليها دماءُ الأحياءِ؛ فهو مكان غير آمنٍ بالمرَّةِ، ويحملُ تلك القنبلة الموقوتة المسماة بالحياة، والتي يمكن أنْ تنفجر في أيِّ لحظة. ولقد مارستِ الذاتُ الشّاعرةُ – بدءًا من المُقَطَّعَاتِ الأُوْلَى – سيطرتها الوصفيّة، وإحكامها قيادَ أدواتِ اللُّغةِ، فكانتِ العُنْوانَاتُ الدّاخليةُ حادةً ومباشرةً، تكشف – من دون التواءٍ – الحالَ الشعوريةَ التي ظهرت أول ما ظهرت في عنوانِ الديوان؛ ولمَّا أنْ جاءَ العنوانُ فاضحًا العنفَ المنثورَ بين تضاعيف القصائد، فقد كانتِ العناوينُ الداخليّةُ أيضًا، واضحةً في تأكيد الاستنفار الدّاخليِّ، وإلقاء الضوء علَى النّسق الدّلاليِّ للديوانِ جميعه؛ فجاءت: مولعٌ بالأذى/ دعوةٌ للتّخريب/ فُوبيَا/ ارقصوا علَى قبري.. إلخ. ولكلِّ قصيدةٍ من قصائدَ الدّيوانِ نَوْبةٌ في تداول المعنى الرئيس الذي يلوكه الخطابُ الشاعريُّ، وهو قلق الموت، وهي محاولة بعيدة عن التفسير الميتافيزيقيِّ، أو التفكير المؤسسيِّ للجماعات البشريّة، إذ لم يكن التوتر بين الحياة والموت داخل الديوان رهنٌ بذلك التّناول الجماهيريِّ للموت»([3]).
في ذلك التأويل السّابق أجد أنَّ البعدَ الفلسفيَّ في تفكيك الرؤية الشعرية نتاجُ وعي الأزهري بالجانب البلاغيِّ والجانب التحليليِّ التواصليِّ في آنٍ معًا، إذ هو عارفٌ بالرسالة المبتغاة بين الشاعر والمرسل له – المتلقي. وهذه المعرفة المجتمعيّة أشد ما يكون ظهورها حين يعالج بصورة شائقة موضوعًا ذا خطر بائنٍ، ألا وهو موضوع وجود الأمة المصرية المرتبط بوجود النيل وأزمة سد النهضة؛ ذاكر تلك الدّوافع الاستراتيجيّة نحو قتل الحياة المصرية، النّيل العظيم هبةً، أتاحت بناء حضارة من أعظم الحضارات؛ لذا شرع يحذر من ضياع أو هدر مياهه الخالدة؛ فالنيل – كما يراه الأزهريُّ – في المخيال والوجدان الشّعبيِّ بالأدب والتاريخ المصري؛ أي: وجود مصر في وجود النيل، الذي يُعدُّ هُويتها وتاريخها وذاكرتها، ومن ثَمَّ رأى في التّشكيل المسرحيِّ والسينمائيِّ للأدب انعكاسًا لتلك الهُوية في مخزون المخيال الشعبي المصري، حيث حدد ذلك قائلًا:
والنيـــلُ تحت الرِّياحِ مضطربٌ* كالسيفِ سلَّتْه كفُّ مرتعش
علَى الرغم من التّضافر التاريخيِّ علَى توكيدِ دلالاتِ النيل في المِخيَالِ الشعبيِّ، إلا أنَّ الوعي الثقافيَّ به مفقودٌ، كما أنَّ تمركزَه الكاملَ داخلَ مناهج النّقد الثقافيِّ وبين أروقة الروايّة المصريّة؛ غير موجودٍ أيضًا. هذه الحالُ التي تجعل النيلَ ضمن ما يمكن أنْ يُوصف بثقافة التّعليب والاختزال، إذ يتحوّل وجوده ومستوياته اللُّغوية إلى مفهومات غائمة، وهذا الوجود المغيوم لا يمنح الجماهير سوى قدرةٍ علَى الاستهلاك والاجترار؛ وعلَّةُ ذلك، هي أنَّ ثقافةَ التعبئةِ والإثارةَ العاطفيّة تدفعانِ المجتمعَ بعيدًا من الحقائق، فيتحول المستقرُّ والثابتُ في الأذهان إلى عقائدَ يصيبها الهزالُ عند الصدام الحضاريِّ؛ وكذلك النّيل، قد طالته الأغنيةُ والأمثولة الشّعبيّة، وطار بذكره الوطنيون وكُتَّابُ السينما، بل وباعةُ الجرائد. لكنَّ هذا التناول كان – وما يزال – منقوصًا، وفي حاجة إلى الجِدَّةِ في التّناول، والانكفاء علَى إعادة تدوير مفهومات النّيل وملحقاته الحضارية الآنِيَّةِ – بعيدًا من ضحالة التأويل القديم – من العاديِّ إلى الخاصِّ، ومن الظاهر إلى الباطنِ، ومن الهامش إلى المتنِ؛ كي يتناسبَ والعصرَ الحديثَ ومستجداته. وتلك لحظةٌ تاريخيةٌ تطالب الأجيالَ المعاصرةَ بنسقٍ ثقافيٍّ يدفعنا إلى إعادة اكتشاف مسلماتنا الاجتماعيّة والثقافيّة في آنٍ معًا؛ إذ لا يمكن – في هذه الحال – أنْ يكون التاريخُ المحكيُّ والمشوب برغباتِ (المؤدلجين) ذا قدرة علَى تجاوز الراهن من الأحداث. كما تقتضي المرحلة أيضًا، التحول عن الثقافة الاستهلاكية إلى الثقافة المنتجة، وهذا يكون عبر تقنيات اللُّغةِ، ومن خلال غَرْبَلَةِ البنية الاجتماعيّة المشحونة بقضايا السلعةِ والقيمةِ، وجدلِ الهُويِّاتِ، ومشاكل الجنوسة، والأزمات النَّسَوَيَّةِ في العوالمِ الناميةِ، وغيرِها»([4]).
يطيب لنا هنا أنْ نقول: إنَّ كل الأنثروبولوجيين والمؤرخين وعلماء الاجتماع جازمون بأنَّ منشأ الحضارات واقع إلى جوار الأنهار، كما في حضارة بلاد ما بين النهرين؛ فوجود دجلة والفرات قد ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالحضارة السّومرية، أقدم الحضارات البشريّة التي أعطت للإنسانيّة عطاءً حضاريًّا وكِتابيًّا وملحميًّا لا مثيل لها، وذلك من خلال البحث عن الخلود، وقد وظف الشّاعرُ والروائيُّ العراقيُّ منجزه في علاقة تبادليّة مع الأنهار الخالدة، كذلك الحضارة المصريّة التي كانت نتاج النيل.
في الإطار نفسه يقول: «لا يكفي أنْ تبرق الروايةُ المصريةُ مُذْ خمسينيات القرن العشرين عدة برقيات، لا تكفي لإرواء ظمأ المعجم الثقافيِّ إلى النيل وتاريخه التليد؛ فإنَّ المحاولةَ الدائمةَ إلى بَهْرَجَةِ النيل وإلحاقه ضمن مظاهر البذخ الطبقيِّ، أو ضمن علائم الرفاهيّة أمرٌ ينكشف بالعين المجردةِ؛ فالروائيون لم تسعفهم الذاكرة التاريخيّة في مساعدة النيل علَى الانضواء تحت لواء قاموس لُغويٍّ وثقافيٍّ يمكن من خلاله الإلماع والإشارة إلى قضايا السّاعة التي تتعلق بدول النّبع في الجنوب الأفريقيِّ، فالباحثُ في الدالِّ اللُّغويِّ، وبين علامات النّصِّ – في تلك الحُقبةِ وما تلاها – ينكشف له كيف كان النيلُ يُنظرُ إليه نظرة محليّة قاصرة علَى تأويل القريب والآنيِّ من القضايا، وهي تلك النّظرة التي ألمَّتْ بالمجتمع المصريِّ إبَّان فورةِ النجاح النّاصريِّ، ثم ما أعقبها من انتكاساتٍ كان من نتائجها إعادة تقييم المواقف، وانجلاء معادلات النصر والهزيمة وسطوعها. وفي وسط ذلك الرّكام كله، ثُمَّ الهَوْشَة والهياج حول ترميم العقائد داخل المجتمع، وإصلاح المرائي التي يُنظرُ من خلالها إلى دَفَّةِ الوعي؛ قد شاعتْ مجموعةُ القضايا العاكسة لذلك التبدل، ولكن لم يكن من بينها الامتداد التاريخيُّ للنيل، ومفهوماته الثقافية، وقدرة هذه المفهومات علَى الربط بين دول النبع ودول الصَّبِّ. بُرهانُ ذلك، نجده عند عزيز أباظه في روايته (قصر علَى النيل)، فإنَّ عتبةَ هذا النصِّ، والتي ترتكز نحْويًّا علَى مبتدأ، وخبر: شبه جملة، وهي قاعدة في اللُّغةِ لا تفيد فائدةً كاملةً؛ جُعِلَتْ مُدخلًا للروايةِ، ويبدو كما لو كان عنوانًا مخاتِلًا، إذ ترتكز سِيمْيَائِيَّةُ العنوانِ علَى المُسنِدِ، وهو: القصر، في حين أنَّ المُسنَدَ إليه، وهو: النيل، يكون عَرِيًّا عن القيمة المرتبطة بالنصِّ الداخليِّ. وعلَى الرغم من أنَّ النيلَ يزخرف العنوانَ، وهو ما يوحي بأنَّ له عَلاقة فنية، أو حتى جماليّة؛ غير أنَّه لا يوجد في المتن، وليس عنصرًا من عناصرَ المعالجةِ الفنية بشكل مباشر؛ ومن ثَمَّ، لم يرد لفظ (النيل) داخل الروايّة سوى مرَّةٍ. و(قصرٌ علَى النيل) رواية تعالج الطبقيّة المجتمعيّة التي ورثها المجتمعُ عن العهد الإقطاعيِّ البائد، وما ناقشته من برامجَ الزّكوات في الشّريعة الإسلاميّة، ومدى جدواها في توطيد وتمتين العَلاقة بين الأغنياء والفقراء؛ إنَّما هي في ذلك تستخدم أيقونة الأغنياء من خلال المَعْمَارِ الذي ينتمون إليه، وهو: القصر. وأمَّا النيلُ فلم يأتِ إلا كحلية وزينة، والذي يعكس رؤية المجتمع ويعكس كذلك (ديموجرافية) هي رهن بالأغنياء فحسب. هكذا كان النّيلُ في هذه الآونةِ؛ ناعمًا، وديعًا، لا يُرى منه سوى الجمالِ المؤقتِ، بعيدًا من كاهله المثقل بالتّاريخ»([5]).
إنَّ صاحبَ (فقة اللغة والأدب) جانحٌ بوضوح شديد نحو روايات نجيب محفوظ، بوصفها ذاكرةً شعبيةً، قد وثَّقَتِ التّفاعلات الاجتماعيّة، وسجلت تاريخًا، رصدت بحركته أزقة مصر وحاراتها وقضاياها، وكان ذلك من خلال استعراض تاريخيانيّة وجود النّيل حسبما ورد في مصادر تاريخيّة ورحلات أدبيّة، وفي ذلك يقول الأزهريُّ: «ثم جاء من بعد عزيز أباظه مبشرٌ بتيِّار الوعي، اسمه نجيب محفوظ، وتجربته التي حاول فيها استلهام محركات ثورة يوليو؛ لإخراج الوعي المصريَّ من وَهْدَةِ الجمود، على الرّغم من أعماله التي تُعَدُّ الأقرب والنّموذج الأمثل الذي زاول مهنة البحث في الحكايات وخَبِيْئِهَا، ثمَّ تحليلها، متتبعًا تفاصيلَ الشّخوصِ وأيامهم، حتى نكاد نجد شخصيات أعماله جميعها ذات قوس عاطفيٍّ، ولديها قدرة علَى تبديل المصاير التي بَزَّ فيها أقرانه من أبناء جيله؛ أقول: علَى الرغم من هذا، لم تمنحْ أعمالُه النيلَ ما يساعده علَى إنقاذ تاريخه الإقليميِّ، فإذا كان عزيز أباظه قد جعل من النّيل رمزًا للقضايا المحليّة، وهكذا محفوظ؛ إلَّا إنَّ الأخيرَ قد تبدلت لديه خرائط الكتابة التي انْبَجَسَتْ من عيون القضايا العالميّة المرتبطة بالعقل والأيدولوجيات، وما لازم هذا من قضايا القوميّة، وتجديد الموروث، وترميم التّراث، وغيرها من القضايا العربيّة. لكنّ هذا لم يشفع للنّيل، ولم يكن باعثًا علَى إعادة قراءة صفحتهِ الخالدة، واستجلاء قصته منذ بدء التّاريخِ وحتى اللحظة الراهنةِ، مع استكشاف المعالجات التي أبدعتها الأجيالُ المتعاقبةُ، وكيف تعامل الساسةُ المصريون مع شركائنا في النّيل النائل؛ ولذا، ظل إلى الآن حبيس الوعي في صورةٍ شاعريّةٍ فحسب. وينبغي لنَا أنْ ندرك أنَّ النيلَ قضيةٌ ذات بُعدٍ تاريخيٍّ، وأنَّ التفتيشَ في بيلوجرافيا التاريخ تفتيشٌ يوضح مدى التّعبئة الوجدانيّة لقضاياه، وكيف لَحَّتْ – وما زالت – علَى أرباب الشّعوب؛ ومن هنا، فإنَّ من أوائل الكتبِ التي كشفت عن نبوءة النّيل، هو (التّيجان في ملوك حِمْيَر)، لأبي محمد جمال الدين الحميريِّ، وهو نسَّابةٌ عربيٌّ يروي أخبار الكتاب المذكور عن وهب بن منبِّه (114هـ)، وفيه نجد التهديد الأول – تقريبًا – علَى مصر، من خلال النيل. وأهميةُ الكتابِ ترجعُ إلى منهج التوثيق الذي فعَّله جمال الدين، فهو كتاب يعود إلى عصر التدوين، ضمن نطاق الرّواية والحديث النّبويِّ، وإلى جانب ذلك، فإنَّ مصدرَ الأخبارِ فيه راجعٌ إلى إخباريٍّ وعالِمٍ بالأسفار القديمةِ مثل ابن منبه؛ الذي قد طالع – قبل أنْ يحسُن إسلامُه – الكتبَ القديمةَ، وتلك الخبرةُ البعيدةُ تمنح المشكلة المصرية بعدًا تاريخيًّا، ويبدو أنَّ تاريخًا خفيًّا مخبوءًا في كتب قديمةٍ سوف يتناقله الرواةُ والمؤرخون بعدُ علَى استحياء؛ فلم ينفرد ابنُ منبه بتلك الحادثة الكالحةِ؛ فقريب من هذا وأمثاله من الرّوايات، نجده عند ابن طاهر المقدسيِّ في كتابهِ (البَدء والتاريخ)، والذي يعقد فيه فصلًا بعنوان: ذكر ما جاء في خراب البلدان؛ جاء فيه ذكر مصر ضمن أحاديثَ وأخبارٍ، لا أقول إنَّها مكذوبة – وإنْ كانت لينة السندِ – لكنها تستدعي التوقف عندها. وفي القرن التاسع الهجريِّ يشتهر رجلٌ، يظهر أنَّه قد أبدى مزيد اهتمام بالنّيل، وطاف حول ما له عَلاقة به؛ فأبو المحاسن يوسف بن تغري بردي، قد فرض علَى نفسه في كتابه (النّجوم الزّاهرة في ملوك مصر والقاهرة) أنْ يعقد في آخر كل سنة من السنين ما يعرفه عن أحوال النيل، من فيضه وغيضه، مقياسه وأحواله، كما أرَّخ في كتابه الآخر (حوادث الدّهور في مدى الأيام والشّهور) لحادثة ذات دلالات عدة، ضمن حوادث العام أربع وخمسين وثمانمئة، وهي أنَّ الحَبَشَ قد تجهزوا بمئتي مارك لغزو مصر، ونيتهم قطع جريان النيل. ولم تكن هي الفزعة الأولى؛ ففي مطلع العام نفسه، كتب صاحب الكتاب الفائت أنَّ ملكَ الحبشةِ شرع في تجهيز عدة مراكب للأمر ذاته. ثم يأتي من بعد أبي المحاسنِ، ابنُ شاهين الظاهريُّ، ذاكرًا في تاريخه المسمى (نيل الأمل في ذيل الدول) حادثةً من حوادث سنة سبع وأربعين وثمانمئة، مؤكدًا الاضطرابَ في العَلاقات السياسية بين البلدينِ، وقد أرسل ملك الحبشة بهديّة إلى السّلطان ومعها مُكَاتَبَةٌ، وفيها الوصيّة بأهل مِلَّتهِ، وفيها تهديده بقطع جريان النّيل إلى مصر. وكما يظهر، فهي واقعة قد حدثت قبل واقعتيْ العام أربع وخمسين وثمانمئة، اللتينِ حكاهما ابنُ تغري بردي، ويظهر من خلالها منحنى الأحداث الذي كان شديد الودِّ، ثم ما لبث أنْ تحوَّل إلى عداءٍ صريحٍ. ويفصح وِل ديورَانت عن اسم صاحب خُطَّةِ قطع النيل عن مصرَ، وأثر هذه الخُطة في مستقبلها المائيِّ، وهو أفونسوده ألبوكرك، حاكم الهند البرتغالية، العام 1509م، وقد اقترح عامئذ علَى ملك الحبشة أنْ يتحالفَا علَى حفر قناة من النيل الأعلى إلى البحر الأحمر، وبهذا يحولانِ مجرى نهر النّيل؛ كي تصير مصر صحراء جرداء. ونظرًا إلى توسعات ألبوكرك الاستعماريّة، شرق ساحل العرب، ثمَّ جنوب شرق آسيا فإنَّ فكرةَ سدِّ النيل فكرةٌ خرجت من حِضن الكولونية الغربيةِ، وهو تأويلٌ يجب الانتباه إليه حال تقييم أمثال هذه القضايا، إضافة إلى البُعد التاريخيِّ الذي يوضح كيف أنَّ قضيةَ النيلِ قد لاكَتْهَا الألْسُنُ من خلال رؤية قاصرة وغير قادرة علَى استجلاء حقائق لم يضعها الآخرون في حساباتهم»([6]).
لقد أبدى الأزهريُّ محمد جلال وجهةَ نظرٍ علميّة وتاريخيّة ومعرفيّة، لمساندة الرأي العلميّ الواقعي في الوجود، من دون تهويمات لا تصمد أمام الحقائق؛ وقد ناقش بعلميّة وموضوعيّة، ومن خلال الرؤية العقليّة والأدبيّة والتاريخيّة النّابعة من حقيقة الإيمان بخالق الوجود، من دون سلوك سبيل التّجاوز العلمي الذي تشهده السّاحة العربيّة هذه الأيام، فيقول: «فللسائل أنْ يسأل: لمَ يتجنَّب التّطوريون الحديث عن الحشراتِ ضمن مجال حديثهم عن ارتقاء وتطور بقيّة الكائنات؟ هل لأنَّ أقدمَ الحشراتِ تشبه الحشرات الموجودة الآن، حتى إنَّه يمكنك أنْ تقول إنَّ علمَ المتحجرات (البالنتولوجيا) ليس بذي فائدةٍ هنا، ولا يدخلُ في نطاقهِ الحشراتُ بشكلٍ أو بآخرَ، ممَّا يكون حجرًا عثرةً في سبيل التعميم عند أهل النشوء والارتقاء؛ أضفْ إلى ذلكَ أنَّ الجدليةَ والصراعاتِ بينَ ذراتِ هذا الكون وذلك العالَمِ الذي وصفوه بالتناحر، حيث يبقى مَن يبقى مِن الأقوياءِ – البقاء للأقوى – كلُّ ذلِكَ لا ينفي الطبيعة التعاونية بين المخلوقات، ومبدأ التجانس»([7]). لعمري إنَّ ما أنجزه الأزهريُّ في كتابه (فقه اللغة والأدب) لهو سياحةٌ أدبيةٌ، ورياضةٌ ومعرفية ونقدية، ورحلة تاريخية بعيدة الغور، وذلك كله وهو سائر بخطى واثقة تستوجب الابتهال له بالدكتوراه – مستقبلًا.
[1] – ناقد ومؤرخ عراقي أكمل دراسة الدكتوراة بالتاريخ صدر له ٢٠ كتابًا، كتب ٦٦ مقدّمة وشارك في ٧٥ كتابًا بين النقد والتاريخ.
[2] – فقه اللغة والأدب (ص: 14 – 15).
[3] – (ص: 15 – 16)
[4]– (ص: 22).
[5]– (ص: 24).
[6] – (ص: 26).
[7] – (ص: 148).