حتّى الحبّ
أ.د. خديجة عبدالله شهاب([1])
يبدو أنّ الشاعر إبراهيم ناجي كتب قصائده بنغمات عُزفت بأوتار القلب، وألحان لامست شغاف الروح فجاءت صادقة نابضة بالحبّ والألم والشّوق والحنين، إلى أن لقّبه”العقاد بشاعر الرّقة العاطفيّة”([2]) فنعرفهم بسيماهم في كلّ مكان، وكلّ زمان إنّه ذلك الشعور الذي يترك بصماته أينما حلّ وأرتع. وأعتقد أنّه استحقّ لقبه هذا بعد أن قدّم لنا تحفته الرّائعة “الأطلال” وقد جاء في مطلعها:
يا فؤادي رحم الله الهوى كان صرحًا من خيالٍ فهوى
إبراهيم ناجي كالمحبّين جميعهم، يعبّر بلسان حال من أصابه سهم الهجران والألم، وقد تلاقى الحبيبان، ومن ثَمَّ افترقا، فقد سقط صرح الحبّ وجاء السقوط حسب الشاعر مدوّيًا. فهوى وصار مع الأيّام بقايا جسد وروح، وعلى الرّغم من حالة الفراق التي أصابت الحبيبين، فقد طلب من حبيبته أن تسقيَه خمر الوقوف على أطلال حبّهما، حتّى تلك اللحظات كانت مميّزة بالنسبة إليه، إذ إنّه أراد أن يستمرّ هذا الحبّ حتّى بعد لحظات الفراق، وهو يتحدّث عنها بحرقة وألم، فحبيبه كان نبيلًا ساحرًا واثق الخطى “شهيّ الكبرياء” فحَمَلَنا معه إلى عالم قد يكون مثاليًّا بالنسبة إلينا، ولكنّه العالم الذي يطمح إليه العشاق والمحبّون.
لاقى الناجي “الأخطل الصغير، في قصائد عدّة منها: يا عاقد الحاجبين، يبكي ويضحك، قد أتاك يعتذر… وجبران في قصيدته سكن الليل، والهادي آدم في رائعته أغدًا ألقاك…” وغيرهم من شعراء الحداثة. صوّر إبراهيم ناجي في الكلمات ما يختلج مشاعر المحبّين في حالات الوجد والفراق، وقد حفر في وجداننا رقيّه في التعبير عن النبل والصدق والوفاء العاطفيّ، حتّى إنّ الكثير منّا شعروا أنّ هؤلاء الشعراء ينطقون بلسان حال المحبّين والعشاق والمغرمين.
إلى تلك الحِقبة كان المحبّ يقيم وزنًا للمشاعر والأحاسيس حتّى إنّ البعض منهم لم يطق صبًرا على الفراق، فترك الدّنيا لأجل من يحبّ، وقد وصلنا الكثير من أخبار المحبّين والعشاق، الذين كان الفراق عن الحبيب بالنسبة إليهم يعني أنّ الحياة انتهت، وفقدت طعمها فما من داعٍ لتستمرّ وتبقى.
إلى أن حلّ عصر التكنولوجيا، عصر سطوة العقل، والروبوتات فهو عصر اللهاث وراء الثروة والمال، ومعه انطفاءت جذوة الحبّ، وعمل القلب.
انقلبت الموازين مع هذا الزّمن لم يعد للمشاعر قيمة تُذكر، ولم يعدِ الإنسان إنسانًا ناطقًا بالحبّ نابضًا بالحياة، أصبح ربوتًا متروكًا وراء الآلة، فتغيّرت طريقة تفكيره، وتغيّر معه الكثير من مشاعر الهدوء، والأمان، والاطمئنان، حتّى مشاعر الحبّ ما عادت مقدّرة، وانتهت صلاحيّتها، وأصبح الحبّ مع شباب اليوم ساعة، والعشق عندهم أيّام، والوجد على بعد أشهر، والبديل جاهز.
قسمت هذه التكنولوجيا الحبّ والمحبّين إلى نصفين؛ نصف غير مبالٍ وآخر غير وفيّ، وفقد الحبّ نكهته التي عرفناها مع المحبّين منذ زمن الجاهليّة إلى زمن ما قبل الثورة التكتولوجيّة، حتّى الحبّ لم يسلم من أذاها. ترى هل يستعيد الحبّ يومًا رونقه وألقه، بعيدًا من تعقيدات الحضارة.
[1]– أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانيّة. قسم اللغة العربيّة، وجامعة المعارف، وأحد رئيسَيْ تحرير المجلّة، ومشرفة على رسائل ماجتير وأطاريح دكتوراه في الجامعة والجامعة الإسلاميّة – d.kshehab@hotmail.com.
2– سامي الكيّال، ديوان إبراهيم ناجي، دار العودة للطباعة والنشر- بيروت – لبنان – ص349-1988.