الإبهام في شعر الحداثة العربيّة المعاصرة
Thumb in the poetry of contemporary Arab modernity
رافد سالم سرحان المحمدي([1]) Rafld Salem Sarhan Al Muhammade
المستخلص
يعالج هذا البحث قضيّة الغموض في الشّعر العربيّ القديم والحديث لجهة بناء القصيدة التي تتعلّق بروابط العلاقة بين أصل التسمية، وحتميّة الظّروف الاجتماعيّة وعدّ الطّبيعة والطّابع القبلي يشكّلان الجزء الأكبر من مضامينها.
كما يناقش تطوّر الأوزان في الشّعر العربيّ ويردّ سبب ذلك للتّاريخ والجغرافية، وما لها من صلات لجهة النشأة والتّطور التي رسمت الوزن واللحن والبحر والقافية واللّغة الشّعريّة بصورة متكاملة. إضافة للتجديد والحداثة في الأدب بشقّيه الشّعري والنّثري، وانتقال الحداثة إليهما وقد كانت البداية من خلال انطلاقة المجلة اللّبنانيّة التي أسسها الشّاعر والنّاقد يوسف الخال، ومن تلاه.
الكلمات المفتاحيّة: الغموض، الأوزان الشّعريّة، التّجديد، الحداثة.
This research deals with the issue of ambiguity in ancient and modern Arabic poetry in terms of constructing the poem that relates to the links between the origin of the name and the inevitability of social conditions, and considering nature and the tribal character constitute the largest part of its contents.
It also discusses the development of metres in Arabic poetry and relates the reason for that to history and geography, and their connections in terms of origin and development that drew meter, melody, rhyme, rhyme and poetic language in an integrated manner. In addition to renewal and modernity in literature, in both its poetic and prose parts, and the transfer of modernity to them, as the beginning was through the launch of the Lebanese magazine, which was founded by the poet and critic Youssef Al-Khal, and those who followed him.
Keywords: ambiguity, poetic meters, renewal, modernity.
مقدّمة
لا شكّ أنّ الشّعر العربيّ الحديث، انتقل في ظلّ الحداثة الشّعريّة المعاصرة من مستوى الغموض، الذي لا نتردد في عدّه مظهرًا فنيًّا في كثير من حالاته، إلى مستوى الإبهام الذي تُجسّد في كثير من حالاته، إشكاليّة عند بعض الدّارسين والباحثين، ومن هنا فالنّتيجة الرّئيسة لهذه الدّراسة هي أنّ الإبهام في شعر الحداثة العربيّة المعاصرة شيء قار فيه، محايد له بسبب عوامل ثلاثة: العامل الثّقافيّ والمعرفيّ، عامل الثّقافة والمذاهب الأدبيّة الغربيّة، ثمّ هناك العامل الثّالث المتمثّل فيما أصاب الشّعر العربيّ من تحوّلات في بنيته ومفهومه.
أوّلًا: الغموض في الشّعر العربيّ القديم والحديث
تعدُّ ظاهرة الغموض في الشّعر من القضايا ذات الأبعاد المتعدّدة؛ وذلك، لتعدد المحاور المتّصلة بها. فظاهرة الغموض ظاهرة تاريخيّة عالميّة، تؤدي التّحولات السّياسية والفكريّة والثّقافيّة والاجتماعيّة -دورًا مهمًا- في ظهورها. فالعلاقات التّي تنشأ بين ثقافات الأمم غالبًا ما تؤدّي إلى تغيُّرٍ في الأساليب الإبداعيّة الرّاسخة الأقدام؛ فتنشأ -نتيجة لذلك- أساليب إبداعيّة تحمل بين طيّاتها الجدّة والغرابة.
وقد ظهرت قضية الغموض في الشّعر العربيّ- لأوّل مرة – عندما انفتح المجتمع العربيّ على ثقافات الأمم والشّعوب؛ وبخاصّة الثّقافة اليونانيّة ذات المنحى الفلسفيّ الذي أثّر في مجمل الفكر العربيّ، وكان الشّعراء -في تلك الحقبة– من أكثر الفئات التّي تأثّرت بالفلسفة والمنطق اليونانيين، فانعكس ذلك على تجربتهم الشّعريّة التّي أثارت جدلًا واسعًا حول مشروعيتها. وكان الغموض من القضايا المهمّة التّي أثارها النّقاد، فاعدُّوا الشّعر المحدث -وبخاصة شعر أبي تمام والمتنبي- مفسدة لكلام العرب، واتّهموه بالتّعقيد والغموض؛ فقالوا لأبي تمام (لماذا تقول ما لا يُفهم؟)، وتساءلوا عن غلوّ المتنبي وغموضه وتعويصه.
ولكن مع ذلك الهجوم كانت هنالك مجموعة ترى أنّ الغموض خاصيّة شعريّة ناجمة عن طبيعة الشّعر التّي تختلف عن الكلام الخطابي العام، وكان عبد القاهر الجرجاني من أبرز النّقاد القدماء الذين دافعوا عن الغموض الفنيّ في الشّعر، وعدّه ميزة جماليّة ناجمة عن طريقة النّظم التّي يتوخاها الشّاعر في نظمه، وكان إبراهيم الصّابئ يقول: أفخر الشّعر ما غمُض. ومع مرور الزّمن انتشر الشّعر المحدث في البلاد العربيّة؛ فتعّرف النّاس على أساليبه، وتحوّل النّقد من الهجوم عليه إلى محاولة فهمه وتفسيره، فاكتشفوا فيه تميّزًا عدُّوه من أخصب التّجارب الشّعريّة في تاريخ الشّعر العربيّ، وتحوّلت – نتيجة لذلك- مواقف النّقّاد والقرّاء من الهجوم على أبي تمّام والمتنبي إلى دفاع عن تجربتهما الشّعرية وتمثُّلها والاستشهاد بها في مواقف الحياة كافة. أمّا ظاهرة الغموض في الشّعر العربيّ الحديث فقد برزت مع انفتاح المجتمع العربيّ الحديث على الحضارة الغربيّة، وتأثُّرِ الشّعراء العرب –في العصر الحديث- بمفاهيم الحداثة الغربية وأسسها، وتبنيهم لمقولاتها، وصياغة أشعارهم استنادًا إلى تلك المقولات؛ الأمر الذي أدّى إلى تغيُّرٍ في الشّكل الشّعري وفي مضمونه، وهو تغيُّر طال بنية النّص الشّعري: الإيقاع، الصّورة، الرّموز والإيحاء. كما كان لتوظيف الشّعراء عناصر فنيّة ذات مراجع معرفيّة -لا يمكن فهم رؤية النّص الشّعريّ من دون معرفة أبعادها-؛ فالتّناص (تداخل النّصوص) يقتضي معرفة واسعة بالشّعر وتاريخه، والتّراث وتنوعه، والثّقافات وتداخلها …. الخ. والقناع (تعبير الشّاعر عن رؤيته من خلال صوت ضمير الغائب).
ثانيًا: بناء القصيدة العربيّة
يشكّل بناء القصيدة دعامة أساسيّة من دعائم العمل الشّعري بفنيّته ودقته، ولعلّه يعكس لنا رؤية الشّاعر وطريقة معالجته للقضيّة المطروحة أمامه، كما أنّه يدلّ في بعض جوانبه على الحياة العقليّة والاجتماعيّة للعصر، ومن المعروف أن نقّادنا القدامى تحدثوا عن نظام القصيدة العربيّة القديمة، وقد “عرفت القصيدة الجاهلية عندهم ببناء محدد التزم به الشّعراء الجاهليون ونظموا فيه جلّ أشعارهم، ويبدو أنّه أصبح سُنّة من الصّعب الخروج عليها، ومن غير المألوف مخالفتها”([2]).
تلتقي أغلب النّظريات النّقدية على تحديد مصطلح “البنا” أو “البنية” أو الهيكل في العمل الشّعري، على أنّه تطوّر وحدة العمل الفني ونموه في هذا العمل الشّعري أو ذلك، وقد يتخذ مصطلح البناء ودلالات مختلفة من أجل إثبات وجود “الوحدة الدّاخلية” في النّص الشّعري توكيدًا لتحديد سماته وخصائصه الفنيّة، ولعلّ أقرب الدّلالات الأدبيّة إلى تحديد مصطلح البناء هو “الجانب الشّكلي” في القصيدة ومن خلال هذا “الشّكل” الفني في القصيدة يتميز “البناء” عن “النّسيج” وإن كان كلاهما من مظاهر الشّكل العام للقصيدة أو النّص الشّعري ويتجلى الشّكل في ضوء ذلك، من خلال التّرابط المنطقي بين أجزاء النّص ومن داخله يكون للغة الانفعاليّة أو “الرّمزيّة” المتمثلة بالأسلوب الشّعري دورها الفاعل في فَهم البناء الفني داخل القصيدة من مقدّمتها حتى نهايتها أي من بدء التّعبير عن التّجربة الشّعورية إلى انتهائها وحدة مترابطة في نسق منطقي يحقق ما يمكن تسميته بالوحدة الموضوعيّة في القصيدة أو أيّ نصّ شعري متكامل البناء، فالوحدة الشّكلية في القصيدة الجاهلية لا تعني الوحدة العروضية بل هي البحث عن أجزائها ذات السّمات الفنيّة والأسلوبيّة والصّور الشّعرية، التّي تتوحد في كلّ “فني ذي وحدة ترابطيّة وانسيابيّة منطقية تحقق المتعة في نفس المتلقي هو ينتقل من جزء فني إلى آخر ضمن إطار وحدة “الكل” وهذا ما نلمسه في القصيدة العربيّة الجاهليّة”([3]).
إنّ دراسة موضوع “بنية القصيدة” يكشف عن التّباين القائم بين مدلول هذا المصطلح في النّقد القديم، ومدلوله في النّقد الحديث، فقد كان هذا المصطلح في النّقد القديم أقرب ما يكون إلى معنى البناء، وضم الأجزاء إلى الأجزاء بغية الوصول إلى القصيدة النّاجزة، ويشير هذا الفَهم إلى الجهد الصّناعي الذي يترتب على الشّاعر مزاولته قبل وأثناء بناء القصيدة، وقد بدا هذا واضحًا لدى ابن طباطبا وغيره من النّقاد القدامى الذين تحدّثوا عن بناء القصيدة وعما ينبغي أن تكون عليه، وبدا حديثهم وكأنّه حديث عن وجود مفترض وسابق لقصيدة نمطية قائمة في أذهان هؤلاء النّقاد، ولم ير ابن قتيبه مسوغًا لمتأخر الشّعراء في أن يخرجوا عن مذهب المتقدمين، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى آراء الحاتمي حول القصيدة والتّي يمكن عدّها إشارات مبكرة إلى وحدة القصيدة العضوية، هذه القصيدة التّي تشبه جسم الإنسان الذي يلحقه الضر وتتعفى معالمه إذا طرأ خلل على أحد مكوناته وأجهزته.
والواقع أن النّظر فيما ذكره النّقاد القدماء والبلاغيون حول وحدة القصيدة يقودنا إلى استنتاجات متناقضة، ففي الوقت الذي يسلمون فيه أن القصيدة تتألّف من موضوعات وفقرات وأبيات، يبحثون عما يغاير هذه الصّورة بالحديث عن التّدّرج والتّساوق والتّناسب والتّكامل العضوي واستيفاء القطعة من الشّعر، ولكنّ نقدهم التّطبيقي غفل عن هذا، ولم يدركوا عظم الفرق بين ما يقولونه هنا وما يكثرون من ذكره عند الكلام على شرف المعنى، أو حسن التّشبيه، أو جودة البيت، أو براعة الاستهلال، وحسن المطلع، أي أن النّظرة التّجزيئية إلى القصيدة ظلت قائمة مع وجود هذه الملاحظات([4]).
يرجح أنّ بعض المفاهيم الأدبية التّي درج البحث في ماهيتها لغةً واصطلاحًا قد جرى الفصل فيها وبشكل نهائي، إذ لم تعد تطرح على مستوى الدّرس النّقدي سؤالها المقلق نظرًا لاستيفاء تلك المفاهيم، والمطالب حظها من النّقاش والإجابة من لدن رواد النّقد الأدبي في القرنين. وأُلف فيها المتون والمصنفات إلى حدّ الاتهام وقد ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بقضايا الشّعر أساسًا واستمرت تلك “المساجلات بين النّقاد عبر الأقطار العربيّة تسترفد مقولاتها من محصلات شعراء العصور الأولى للشعرية العربيّة تحديدًا وفي أغراض شعرية معينة”([5]).
من أولوية القضايا التّي انبرى لها النّقد العربيّ محققًا في سؤال ماهيتها –حدّ القصيدة– بوصفها صورة لما كان عليه الإبداع الشّعري العربيّ قديمًا –أي في المراحل الأولى من “تشكّل معالم الشّعرية العربيّة التّقليدية حتى العصر العباسي-، وفي هذا المجال كان النّقد العربيّ في متابعاته لتلك الأعمال الشّعرية سخيًّا في ردوده وإجاباته إلى حدّ الإقناع أنّ الشّعر قول موزون مقفّى دال على معنى، فقد قطعت مقولة قدامة بن جعفر قول كلّ ناقد”([6]).
وبحسب النّقد في تلك المراحل المزهرة من تاريخه تجاوزه تلك المسائل التّي عدّت في عصرها من المسلمات التّي لا ينبغي الالتّفات إليها ما دام النّقد قد فصل فيها، وشفّعها بنصوص كرست قدسية النّظرة إلى القصيدة العمودية بوصفها النّمذجة المقترحة في الاستشهاد والاستدلال والبرهنة لكمال وتمام بنيتها الشّكلية والموضوعية، ليعاد إحياؤها ومن ثم طرحها من جديد في نقدنا الحديث والمعاصر في ضوء مناهج البحث النّقدية السّياقية والنّسقية، لتظهر في صورة “صراع متجدد أخذ أبعادًا حساسة مع دخول النّقد الاستشراقي طرفًا في هذا السّجال واندحار بعض المسلمات في نقدنا العربيّ، بداية مع طرح مفهوم القصيدة كما يتراءى في إفهام المستشرقين ومن جهة نظر تغلب النّظرة العلمية قبل كل شيء”([7]).
إنّ البحث عن إيجاد روابط تقيم العلاقة بين أصل التّسمية من جهة، وحتميّة الظّروف الاجتماعية التّي أوجدتها من جهة ثانية، فإنّ الصّلة بين الأمرين تتأسس على مبدأ الحاجة أم الاختراع، وإن كان هذا الإبداع موقوفًا على ما يمنحه الوسط الاجتماعي للمبدع من محفزات وما يحيطه به من عناية وتقدير يدفعه إلى إيلاء العمل الإبداعي اهتماما زائدا يدنيه مكانة من ممدوحه، ويرفعه منزلة، وذلك نزولاً عند الطلب وما يتحقق على المستوى المادي للشاعر بوصف “أن الطبيعة الصّحراوية، والطابع القبلي للعلاقات الاجتماعية، والتّناحر المستمر على الكلأ والماء، يشكّلون جميعًا مبدأ الضّرورة الذي حدد المحاور التّي تتأسس عليها مضامين القصيدة”([8]).
ثالثًا: تطوّر الأوزان في الشّعر العربيّ
يعدُّ الشّعر أكثر أنواع الشّعر الشّعبي العربيّ انتشارًا سواء على مستوى إنتاجه أو تلقيه، وذلك لأسباب كثيرة، بعضها يعود إلى التّاريخ والجغرافيا وبعضها الآخر يرتد إلى خصوصية بنيته الشّعرية ذاتها وما لها من صلات بالشّعر العربيّ الفصيح. وهي أمور كلها تطرح أمام متعاطيه، جملة من الأسئلة لا بدّ له كي يتفاعل معه أن يجد لها أجوبة، تُثلجُ يَقِينَهُ، وتفتح له ما انغلق عليه في هذا الشّعر، ولعل من أهمّ تلك الأسئلة ما يلي:
1- النّشأة والتّطور: تكاد المصادر التّاريخية لا تتفق على تاريخ نشأة محدد لهذا الشّعر غير أن تتبع بدايات نشأته يمكن أن يتحقق من خلال بدايات ظهور اللهجة العامية في البادية العربيّة، وحلولها محل الفصحى في التّداول اليومي وهذا على رأي الدّكتور غسان الحسن ما لم يبدأ قبل القرن الرّابع الهجري بل إنه لم يكتمل، إذ يحتمل أن يصاغ به شعر عامي، إلا في أواسط القرن الخامس الهجري ومن هذه الحقبة التّاريخية نقل ابن خلدون بعض النّصوص، فكان ما نقله في مقدمته هو أقدم النّصوص الشّعرية البدوية المعروفة، إضافة إلى أنها كانت أقرب النّصوص إلى البدايات الفعلية لظهور الشّعر.
2- قواعد الشّعر: لكلّ شعر قواعده التّي يعرف بها، ويكتب على أساسها، وأي إخلال بأية قاعدة من هذه القواعد تفقد هذا الشّعر طابعه ويصبح بها دخيلًا. وللشعر النّبطي قواعد تستنج من خلال القصائد النّبطية التّي قيلت منذ بداية ظهوره على عهد بني هلال ومن يليهم حتى عصرنا الحالي، ويلاحظ أن هذه القصائد النّبطية سارت على الطريقة نفسها، محافظة بذلك على أسلوب الكتابة نفسه من دون تغيير حتى أصبحت هذه القواعد أساسيات يكتب بها الشّعر النّبطي ولا يجوز الخروج عنها أبدًا، ويمكن أن نلخص أكثر هذه القواعد أهمّية فيما يلي:
ا- الوزن: يجب أن تكون القصيدة النّبطية موزونة على وزن واحد ويستمر هذا الوزن من بداية القصيدة حتى نهايتها على وزن البحر الذي تنتمي إليه القصيدة، ولا يجوز أبدًا إخلال الوزن في أحد الأبيات أو إدخال وزن جديد بالقصيدة غير الوزن، الذي بني عليه مطلعها “البيت الأول” ويستخلص الوزن من “هيجنة” “شل” القصيدة أي غنائها على بحرها، الذي يجب أن يستمر حتى النّهاية على أساس المطلع.
ب- القافية: يجب أن يتقيد الشّاعر النّبطي بقافية معينة يلتزم بها، وتستمر معه من بداية القصيدة حتى نهايتها، والمعروف أن الشّعر النّبطي أغلبه يكتب على قافيتين لكل شطر قافية وحرف روي متكرر في كلّ الأبيات.
ج – البحر: يجب أن تكون القصيدة النّبطية على بحر معين من بحور الشّعر النّبطي، وهو لحنٌ موسيقيٌ شعريٌ توزن عليه القصيدة وتعرف به.
د- اللغة الشّعرية: لكي يكون الشّعر نبطيًا فلا بدّ أن تكون لغته نبطية بمعنى أن تستخدم لهجة أهل البادية وهذا لا يعني أن الشّعر النّبطي يرفض التّجديد، ولكن لابدّ من المحافظة على الطابع المميز له وذلك باعتماد لغة وتعابير ومصطلحات أهل البادية، وذلك لكي يحتفظ هذا الشّعر بنكهته وطابعه المميز حتى يعرف من مجرد السّماع من دون الحاجة إلى السّؤال، أي نوع من الشّعر هذا؟ ومن الجدير بالملاحظة أن اللغة ليست وحدها الفيصل في تعريف هذا الشّعر وإنما شكله وخصائصه الفنية هما أساس ذلك.
ه- ألحان الشّعر: لقد ظل الشّعر مرتبطًا بالعروض الخليلي إذ يمكن استخراج أوزانه بطريقة التّقطيع التّي تستخدم في الشّعر الفصيح اعتمادًا على المقطع القصير (ب) والمقطع الطويل (-) ولا يلزم لإخضاع الشّعر النّبطي بهذا المقياس سوى التّخلص من التّقاء السّاكنين الذي غالبًا ما يكون طارئًا، ويتحرك في حالة وصل الكلا ، وقد ساعد على تنفيذ هذا إيقاع اللهجة البدوية لهجة الشّعر النّبطي شديدة الشّبه بالفصحى. وقد اعتمد الشّاعر النّبطي في أوزانه على ست تفعيلات جميعها من تفعيلات العروض الخليلي وهي: فاعِلاتُنْ، مُسْتَفْعِلُنْ، مَفاعِيلُنْ، مَفْعُولاتُ، فاعِلُنْ، فَعولُنْ.
وتعدُّ التّفعيلتان الأخيرتان (فاعلُن، فعولُنْ) من أقل التّفعيلات استخدامًا في الشّعر النّبطي لأسباب يضيق هذا المقام عن تفصيلها. ولقد بلغت الأوزان التّي بني عليها الشّعر النّبطي قرابة (47) وزنًا تتفرع من معظمها صورٌ أخرى حسب تفعيلة العروض والضرب ومن بين هذه الأوزان (12) وزنًا تطابق بحور الشّعر العربيّ الفصيح.
وكما أن لهذا الشّعر أوزانًا فإن له ألحانًا غنائية، تؤدى بالتّرديد الفردي أو الجماعي وبمصاحبة الرّبابة أو من دونها، وكل لحن من هذه الألحان يغنى عليه وزن أو أكثر.
رابعًا: التّجديد والحداثة في الأدب العربيّ في شعره ونثره:
يقتضي البحث في مفهوم الحداثة الحفر في المعنى اللغوي بدءًا، فهي من مصدر: حدث، التّي تعني الجديد ونقيض القديم، وهي أيضًا: أول الأمر وابتداؤه، وهي: الشّباب وأول العمر، ينبغي هنا التّفريق بين مصطلح الحداثة والمصطلحات التّي تلتبس به على غرار التّجديد والتّحديث والمعاصرة نظرًا للخلط الذي يظهر في استعمالها عند البعض.
فهذه المصطلحات مجتمعة على خلاف مصطلح الحداثة، يمكن أن نعرّفها أنّها التّجديد بوجه عام من دون الارتباط بنظرية لها علاقة بمفاهيم وفلسفات متداخلة ومتشابكة. بينما نجد أن الحداثة تعدُّ مصطلحا إيديولوجيا “نشأ تبعًا لظروف ولملابسات ولسياق حضاري عاشه الغرب الأوروبي، وهو في الوقت نفسه مذهب أدبي وفكري، والبعد الفكري فيه جلي لأنه لا يستهدف الجانب الأدبي الإبداعي فحسب بل ينسحب أيضًا على جوانب الواقع الإنساني كلّها، إنه دعوة للتمرد على هذا الواقع بكل أشكاله السّياسية والاجتماعية والاقتصادية والثّقافية”([9]).
إنّه كما يقول محمد هدارة نقلًا عن بعض الباحثين الغربيين: “زلزلة حضارية عنيفة، وانقلاب ثقافي شامل، وأنّها جعلت الإنسان الغربي يشك في حضارة بأكملها، ويرفض حتى أرسخ معتقداته الموروثة. والحق، أن الحداثة الغربية الفنية والأدبية بدأت منذ الرّبع الأخير من القرن التّاسع عشر واستمرت حتى الآن، وهي فترة قدمت للتّراث الأدبي والفني في الغرب اتجاهات مثل الرّمزية والتّعبيرية والدّادية والسّريالية والعبثية. وغيرها من المذاهب الفنية والمدارس الأدبية التّي انطلقت من موقف الرّفض الحداثي لمعطيات الحضارة الغربية والأزمة التّي أوصلت إليها إنسان العصر الحديث”([10]).
ولعلّ من أحسن من عبّر عن هذا الاتجاه لدى كتّاب أوروبا هو أحد الحداثيين من البيئة نفسها، ويتعلّق الأمر بـ ” كريستوفر بتلر” حين قال: “لا شكّ أن موقف هؤلاء الكتاب كان صدى لما طرأ على العالم من اهتزاز في القيم، وشك في الحقائق، نتيجة لاختلاف نظام العالم، وصراع المعتقدات، حتى أصبح ما هو وهم وما هو حقيقة على قدم المساواة، ومن هنا فقد هؤلاء الكتّاب ثقتهم في كلّ نظام أو فلسفة أو مبدأ أخلاقي أو عقيدة دينية أو ما هو وجودي، فإذا هم كتبوا – ولا بدّ أن يكتبوا- صارت كتاباتهم ضربا من اللعب أداته اللغة، لا يقيم وزنا لتقاليد سابقة أو لأعراف أدبية قارة، أو يلبي رغبات فطرية متواترة، أو يستهدف تحقيق لذة لجمهور المتلقين”([11]).
وقد دعت هذه الحداثة في ما دعت إليه إلى إحداث قطيعة تامّة بالماضي والتّراث، يقول هربيرت ريد (Herbert Edward Read) في كتابه الفن الآن متكلمًا عن فن الحداثة في فن الرّسم كمثال: “إننا نلمس الآن ابتعادًا من أنواع التّراث كلها، ولا يمكن أن ندعو هذا الابتعاد بالتّطور المنطقي لفن الرّسم في أوربا لأنه ليس هناك ما يوازيه تاريخيًا. لقد وجدنا أنفسنا فجأة نكفر بجهود خمسة قرون من الإبداع الفني”.
يرى الكثير أنّ أصول الحداثة الغربية تعود إلى الشّاعر الفرنسي شارل بودلير، ثم مالارميه، وفيرلين، أما في أميركا، فنجد أرنست هيمنجواي، وإدغار آلان بو، وفي انجلترا نجد ت إس إليوت.
خامسًا: انتقال الحداثة إلى الأدب العربيّ:
يؤرخ الغالبية لانتقال الحداثة إلى الأدب العربيّ بنكسة (1967م) التّي أحدثت رجّة عنيفة في نفوس أفراد المجتمع العربيّ، ولا سيّما النّخبة التّي استيقظت على كابوس الوهم الذي كان يصدره بعض قادة الأوطان العربيّة للشعوب، هذه الرّجة أحدثت عند بعض أفراد النّخبة العربيّة، ولا سيّما في المشرق شكًّا في معطيات الثّقافة العربيّة وتاريخها وتراثها كلها، أو قل إنّ النّكسة كانت مبررًا أو مشجبًا عند البعض للارتماء في أحضان الغرب الاستعماري من خلال ثقافته وأدبه ونقده وفلسفته، صاحب ذلك محاولة إحداث قطيعة مع كل ما يمت بصلة مع التّراث العربيّ الإسلامي فكرًا وتاريخًا وثقافة وأدبًا ونقدًا. حاول الحداثيون العرب إذن منذ أوائل السّبعينيات مباشرة، أي في السّنوات التّي تلت النّكسة وسقوط الحلم العربيّ، تقديم نسخة عربية لحداثة تتعامل مع واقع الحضارة الغربية الذي يدعو إلى القطيعة مع الماضي والواقع بكل مكوناته.
اتّضحت أولى معالم الحداثة الأدبية والشّعرية بصورة خاصة مع تجربة مجلة شعر لبنانية أسسها الشّاعر والنّاقد يوسف الخال التّي انفتحت خاصة على تجربة الشّعر الحر، ثم تطور منظور هذه الحداثة مع نزعة الكتابة الشّعرية لمجلة مواقف التّي أسسها أدونيس بعد انفصاله عن تجربة مجلة شعر، ثم تطورت أكثر مع مجلة الكرمل التّي أسسها الشّاعر الفلسطيني محمود درويش.
اتخذت هذه النّسخة العربيّة للحداثة عدة أشكال. فكان من مظاهرها المهمّة كما رأينا تغيير معالم القصيدة العربيّة من خلال تبني الشّعر الحر أو شعر التّفعيلة، ثمّ اتّخذ شكلاً أكثر تطرفًا يتمثل في قصيدة النّثر. كما كان من مظاهرها المهمّة البعد النّقدي للشعر خاصة من خلال تبني مناهج نقدية غربية لا تمت بصلة للنقد العربيّ، كان من أكثرها أهميّة المنهج البنيوي، وتبني مصطلحات نقدية غربية خالصّة.
من أكثر من من حمل لواء الحداثة العربيّة أهمّية: يوسف الخال وأدونيس وزوجته خالدة سعيد، وعبد الله عروي، وكمال أبو ديب، ومحمد عفيفي مطر ومحمود درويش وصلاح عبد الصّبور ونزار قباني وغيرهم.
الخاتمة
إنّ تغيّر مفهوم الشّعر في العصر الحديث تبعًا لتغير النّظرة إلى العالم. لم تعد القصيدة الحديثة تقدم للقارئ أفكارًا ومعاني شأن القصيدة القديمة، وإنما أصبحت تقدم حالة أو فضاء من الأخيلة والصّور ومن الانفعالات وتداعياتها، ولم يعد ينطلق (الشّاعر) من موقف عقلي أو فكري واضح وجاهز إنَّما أخذ ينطلق من مناخ انفعالي نسميه تجربة أو رؤيا، فالغموض من هنا قوام الشّعر الحديث ولكن بشرط ألا يتحول إلى تعميات وأحاج، ذلك أن الشّعر يعني أكثر ممَّا يقول على أن لم يعد يهتم بالغموض أو الوضوح في الشّعر بقدر ما أصبح يهتم بالإبداع، ذلك أن الغموض عنده قد يدل على عجز أحيانًا والوضوح كذلك، وهذا بعكس الذي نسب العجز إلى الإبهام دون الغموض، مَّا يدل على أن أدونيس هنا لا يميز بينهما. كما أنه هنا ينفي كون الغموض أو الوضوح مقياسًا فنيًا ويجعل من الخلق والإبداع ذلك المقياس. فالوضوح في ذاته ليس قيمة فنية وكذلك الغموض. فهناك غموض ووضوح رديئان، وهناك غموض ووضوح جيدان. ولذا فالمسألة هي الدّرجة الشّعرية لا درجة الوضوح والغموض في ذاتيهما ولذاتيهما.
المراجع
1. حسين عطوان، مقدمة القصيدة العربيّة في العصر الجاهلي، بيروت، دار الجيل، ط2، 1987م.
2. حمدان عبد الرّحمن أحمد، وحدة القصيدة العربيّة القديمة بين النّظرية والتّطبيق، أسيوط، مجلة كلية اللغة العربيّة، جامعة الأزهر، العدد9، 1989م.
3. خالدة سعيد، حركية الإبداع، دراسات في الأدب العربيّ الحديث، دار العودة، بيروت، طـ1، 1979م.
4. سعيد الأيوبي، عناصر الوحدة والرّبط في الشّعر الجاهلي، الرّباط، مكتبة المعارف، د. ط، 1986م.
5. عبد القادر القط، في الشّعر الإسلامي والأموي، بيروت، دار النّهضة العربيّة، د. ط، 1987م.
6. عبد الهادي محبوبة، قضايا الشّعر المعاصر/ مقدمة الطّبعة الأولى لكتاب نازك الملائكة، دار العلم للملايين بيروت، ط7، 1983م.
7. عز الدّين إسماعيل، التّفسير النّفسي للأدب، القاهرة، مكتبة غريب، ط4، د.ت، ص82. وينظر: أحمد، موسى الجاسم، عبيد بن الأبرص، دراسة فنية، بيروت، دار الكنوز الأدبية، ط1، 1997م.
8. عز الدّين إسماعيل، التّفسير النّفسي للأدب، ص95.
9. مجلة عالم الفكر، المجلد التّاسع عشر، العدد الثّالث، أكتوبر-نوفمبر-ديسمبر 1988م، الكويت.
10. محمد صادق حسن عبد الله، خصوبة القصيدة الجاهلية ومعانيها المتجددة، القاهرة، دار الفكر العربيّ، د.ط، د.ت.
11. محمد غنيمي هلال، النّقد الأدبي الحديث، بيروت، دار العودة، د.ط، 1987م.
[1] – طالب دراسات عليا (مرحلة الدّكتواراه)- جامعة الجنان – لبنان –كلية الآداب والعلوم الإنسانية – قسم اللغة العربية. Rafidsalem@mtu.edu.iq
Student (PhD) – Jinan University – Lebanon – Faculty of Arts and Humanities – department of Arabic language
[2]– حمدان عبد الرّحمن أحمد، وحدة القصيدة العربيّة القديمة بين النّظرية والتّطبيق، أسيوط، مجلة كلية اللغة العربيّة، جامعة الأزهر، العدد9، 1989م، ص52-53.
[3]– محمد غنيمي هلال، النّقد الأدبي الحديث، بيروت، دار العودة، د.ط، 1987م، ص 395-396.
[4]– عز الدّين إسماعيل، التّفسير النّفسي للأدب، القاهرة، مكتبة غريب، ط4، د.ت، ص82. وينظر: أحمد، موسى الجاسم، عبيد بن الأبرص، دراسة فنية، بيروت، دار الكنوز الأدبية، ط1، 1997م، ص208.
[5]– محمد صادق حسن عبد الله، خصوبة القصيدة الجاهلية ومعانيها المتجددة، القاهرة، دار الفكر العربيّ، د.ط، د.ت، ص515.
[6]– سعيد الأيوبي، عناصر الوحدة والرّبط في الشّعر الجاهلي، الرّباط، مكتبة المعارف، د. ط، 1986م، ص23.
[7]– عبد القادر القط، في الشّعر الإسلامي والأموي، بيروت، دار النّهضة العربيّة، د. ط، 1987م، ص274. وحسين عطوان، مقدمة القصيدة العربيّة في العصر الجاهلي، بيروت، دار الجيل، ط2، 1987م، ص234.
[8]– عز الدّين إسماعيل، التّفسير النّفسي للأدب، ص95.