التّشديد في القُرآن الكريم وأثره في المعنى
The Stress in the Holy Qur’an and its effect on meaning
ضرغام عبد الأمير حمزة[1] Durgham Abed AlAmir Hamzah
الملخص
يقوم هذا البحث على إبراز دور حرف الصّوت المشدّد وأثره في الدّلالة، من خلال تطبيقه في القُرآن الكريم، من حيث الأسماء والأفعال والحروف في ضبط القِراءة الصّحيحة؛ من أجل استقامة الفهم الصّحيح لِما يُنطق ويُقرأ ويُرتَّل، أو يُجوّد من آيات القُرآن الكريم. باعتبار أن التّشديد يعطي أقوى معنى، بما فيه من البلاغة في إبراز المعاني الإضافيّة التي حكى عنها القُرآن، وجاء اللُّغويّون والمفسّرون أبانوها وعلّقوا عليها.
وجاء هذا المبحث على سبعة محاور: المحور الأوّل: (معرفة الصّوت المشدّد)، والمحور الثاني: (مفهوم التشّديد)، والمحور الثالث: (مراحل التّشديد)، والمحور الرابع: (الحرف المشدّد في القرآن الكريم على مستوى الأسماء)، والمحور السادس: (الحرف المُشدّد في القُرآن الكريم على مستوى الأفعال)، والمحور السابع: (الحرف المشدّد في القُرآن الكريم على مستوى الحروف).
الكلمات المفاتيح: القرآن، التشديد، الدلالة.
Abstract
This research is based on highlighting the role of the tight sound letter and its effect on the significance، through its application in the Holy Qur’an, in terms of names, verbs and letters in controlling the correct reading; In order to straighten a correct understanding of what is pronounced، read and recited, or is glorified from the verses of the Holy Qur’an. Considering that the emphasis gives the strongest meaning, with its rhetoric in highlighting the additional meanings that the Qur’an narrated, and the linguists and interpreters came to it and commented on it.
This topic came on seven axes: the first axis: (knowledge of the strict voice), the second axis: (the concept of tightening), the third axis: (stages of stress), the fourth axis: (the tight letter in the Holy Qur’an at the level of names), and the sixth axis: (The letter stressed in the Holy Qur’an at the level of verbs), and the seventh axis: (the tight letter in the Holy Qur’an at the level of letters).
Keywords: Qur’an, stress, significance.
المُقدّمة
لكي نستأصل من استيعاب فهم المعاني الحقيقيَّة للكلام المقروء والمنطوق، فمن الواجب من إدراك الأداءات المصاحبة لها، ومن هذه الأداءات، هو أداء الحرف المُشدّد من الكلمة على المستوى الصّوتي من الأسماء والأفعال والحروف، ومراعاة النُّطق الصّحيح لهُ من قارئ لقارئ آخر، وما يحتوي من مُدّة زمنيّة أثناء قِراءته أو تلاوة تجويده؛ وفقًا لفسيولوجيَّة أعضاء جهازه الصَّوتي وآلة ذبذبات لسانه إلى غير ذلك من العوامل المؤثّرة في سياق النّصّ المُؤدّى للقُرآن الكريم. فضرورة عناية صوت الحرف المُشدّد الصَّوتي، وإبراز مدى أهمَّيَّته في قراءة تجويد القرآن الكريم يحمل في طيّاته معنىَ دلاليَّا من قبل المعنى المنشود له، ودلالته الكبرى، بما يحتوي من دقَّة في تأدية المعنى لسياقات تجويد آيات القرآن الكريم، ومحاولة كشفه عن طريق النِّظام في أداء الآيات القرآنيّة.
ولذا تُعدّ صورة ملامح الحرف المُشدّد الأدائيَّة من أهمّ الموضوعات والمقاييس التي لها علاقة وثيقة بالأداء الصَّوتيّ للقرآن الكريم ؛ لكونها تتعلَّق بحالة الصَّوت اللُّغويّ عند النُّطق للنَّصّ.
المحور الأوّل- معرفة الصّوت المُشدّد
إنّ التّشديد سِمَة للإدغام[2]، وله اسم آخر، وهو التّضعيف، وهذا التّشديد أو التّضعيف، هو ناتج من إدغام المتماثلين، مثل: الشّمس، والسّلام، وكذلك مثل: مدَّ، وشدَّ[3]، أو إدغام المتقاربين، مثل: وقلْ رَبّ، أو ما هو من أصل الصّيغة على وزن (فَعَّل). فالتّشديد من النّاحية اللُّغويّة، ما هو إلّا وسيلة إنتاجيّة نتوصّل من خلالها إلى معانٍ ودلالات جديدة.
وبهذا، فإنّ للتّشديد جانبين، هما: الأول: الجانب الصّوتيّ، وهو الي يُمثّل المظهر النُّطقيّ للصّوت المشدّد، الذي هو إطالة الزّمن الصّوت.
والثاني: الجانب الفنولوجي: هو أنّ الصّوت تنشأ عنه بِنية مقطعية مختلفة عن الصّوت المفرد؛ وذلك نظرًا للطبيعة الصّوتية المختلفة للصوت[4].
المحور الثاني– مفهوم التّشديد
إنّ التشديد هو إطالة زمن النطق بالحرف المشدّد، فالتشديد هو: ((مد للحروف الصامتة، نظير مد الحروف الصائتة))([5])،وهو إطالة الأصوات الممتدة وأطول في الوقفيات([6]) ؛ وهنالك خلاف في الزّمن الذي يستغرقه نُطق الحرف المشدّد، فكان هناك اتّجاهان[7]: الأول: ذهب إلى أنّ زمن نطق الحرف المشدد يعادل زمن نطق الحرفين، فهو يقوم مقامهما في زمن نطقهما ومن ثَمّ يبقى الزمن الكليّ للكلمة غير متأثّر بما يطرأ عليها من تشديد؛ وذهب أبو محمّد مكّيّ بن أبي طالب القيسي إلى أنّ: ((كل حرف مشدد مقام حرفين في الوزن واللفظ، والحرف الأول منهما ساكن والثاني متحرك))([8]) ، وأكّد ذلك في موضع آخر بقوله: ((إذا اجتمع في اللفظ حرفان مشددان فهما بوزن أربعة أحرف، فيجب على القارئ أن يبين ذلك في لفظه ، ويعطي كل حرف حقه من التشديد البالغ، والتشديد المتوسط ومتى فرط في ذلك فيهما اسقط حرفين في تلاوته، وان فرط في أحدهما أسقط حرفا من تلاوته))([9])، ومن الذين تبنّى هذا الرأي من علماء التجويد الآخرين عبد الوهاب القُرطبيّ في كتابه (الموضح في التجويد)([10]).
وقد ساندَ بعض المحدثين هذا الرأي، فقد أشار كانتينو إلى هذه الفكرة فذهب إلى أنّ: ((الحروف المضعفة وهي التي يمتد النطق بها فيضاهي مداها مدى حرفين بسيطين تقريبا))([11])، وكذلك الدكتور عبد الصبور شاهين فهو الآخر أدركَ أنّ الصّوت المُشدّد: ((صامت طويل، يشبه الحركة الطويلة، التي تساوي ضعف الحركة القصيرة))([12]). أمّا الاتّجاه الآخر فيرى أنّ زمن نُطق الصّوت المشدّد أطول من زمن نُطق الصّوت الواحد وأقصر من الصّوتين[13]؛ وممّن ذكر ذلك الداني حين قال: ((ويلزم اللسان موضعا واحدا، غير أن احتباسه في موضع الحرف لما زيد فيه من التضعيف أكثر من احتباسه بالحرف الواحد))([14])، وقد ذكر الدكتور غانم قدّوري الحمد هذا الرأي, في كتابه (الدراسات الصّوتيّة), فقال: ((إن الصوت المشدد صوت طويل يحتاج نطقه إلى زمان أطول من زمان الصوت الواحد ولكنه أقصر من زمان صوتين))([15]).
المحور الثالث- مراحل التّشديد
أوّلًا- حرف الصّوت المُشدّد المفرد
هو كُلّ حرف مشدّد مقام حرفين في الوزن واللّفظ، والحرف الأوّل منهما ساكن والثاني متحرّك[16]. فهو طول المدى الزّمني الذي يستغرقه نُطقه، فهو صوت طويل مقابل صوتين اثنين، مثل: (علَّم)، و(صلَّى)[17].
ثانيًا- حرف الصّوتيين المُشدّدين المجتمعين المتتابعين
لقد تحدّث عُلماء التجويد عن ذلك الموضع، ومنهم مكّيّ، أنّه: ((إذا اجتمع في اللفظ حرفان مشددان، فهما بوزن أربعة أحرف…))[18].
ومثال ذلك كـ كلمة (يَزَّكَّى)، ولو نظرنا إلى هذه المفردة، لوجدناها تحمل صوتين مشدّدين، وكلّ صوت مشدّد منها، هو عبارة عن حرفين متتابعين، ألأوّل منها ساكن والثاني متحرّك، وهنا = أربعة أصوات متتابعة مجتمعة مع بعضها.
ثالثًا- ائتلاف ثلاث حروف مشدّدة متتابعة
وهذا النوع قد ذكره مكّيّ، بقوله: ((اعلم أنّ هذا الباب قليل في الكلام والقرآن وإنما يأتي في الوصل من كلمتين أو أكثر))[19].
وقد مثّل لهذا، بقوله تعالى: {في بحرٍ لُّجِّيٍّ} {النور:40}، فاللّام والجيم والياء جاءت مشدّدة، وهي بمثابة ستّة حروف، الأوّل منها ساكن والثاني متحرّك, وهكذا.
وتبيّن لنا من خلال ممّا تقدّم أنّ التّشديد عند عُلماء التجويد وعُلماء الأصوات يمرّ بثلاث مراحل، ما هو بمشدّد مفرد، وما هو بمشدّدين، وما هو بثلاث مشدّدات، ولكلّ نوع منه، له معناه ودلالته الخاصّة به.
المحور الرابع- الحرف المشدّد في القرآن الكريم على مستوى الأسماء
إنّ الاسم في اللُّغة العربيّة، هو جزء من الجُمل الإسميّة الدالة على الثُبوت والاستمرار، وهذا ما وُجد منه الكثير في القُرآن الكريم، ومنها المُضعّف، فالمفردات القُرآنيّة المتكوّنة من الجُمل المُضعّفة، هو إنشاء تماسكت بُنياته الدّلاليّة؛ لزيادة تأكيد المعنى، إلى توليد معنى آخر مُضاعف لهُ.
وهنا ما سوف نوضّح بيان دلالة المفردة القُرآنيّة المشدّدة من الأسماء، وما يطرأ عليها من معنى ثابت ومُستمرّ.
- في قوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلكَذِبِ}{المائدة: 41}
جيء بالاسم من قوله تعالى: من كلمة، (سمَّاعون) مشدّدًا ومضعّفًا؛ دلالة على كثير السّمع، والاستماع، أي: أنّ المنافقين لا يستمعون ولا يصغون إلّا للكلام الذي فيه مبالغة من الكذب، وهم يعرفون أنّ هذا الكلام، هو كذب، ((وفي هذا كناية عن تفشي الكذب في جماعتهم بين سامع ومختلق))[20].
- في قوله تعالى: {كَأَنَّهَا كَوكَبٌ دُرِّيٌّ} {النور: 35}
جيء بكلمة (دُرِّيّ)، مشدّدة، مبالغة في وصف ذلك الكوكب السّاطع النّور، ودلالة على صفاء لونه وبياضه، وهو ((تشبيه في التعبير عن شدة صفاء الزجاجة))[21].
ج- في قوله تعالى: {في بَحرٍ لُّجِّيٍّ} [النور: 40]
إنّ دلالة التّشديد في هذه الكلمة (لُّجِّيٍّ)، ما هي إلّا لتُخبرنا على حجم البحر وضخامته، وكذلك على عمقه.
د- في قوله تعالى: {كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 19]
في هذه المفردة القرآنيّة (كَصَيِّبٍ)؛ شُدّدت؛ لتكون دلالة على نزول المطر بشدّة، ((فهو وصف للمطر بشدّة الظلمة الحاصلة من كثافة السحاب ومن ظلام الليل))[22].
هـ- في قوله تعالى: {وَالشَّمَسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمرِهِ} [الأعراف: 54]
اختار القّرآن الكريم لفظ (مُسَخَّرَاتٍ) مُشدّدًا، ليكون دلالة على تذليل وإخضاع تلك الكواكب العظيمة، كالشّمس والقمر والنّجوم، بأمر من الله سبحانه، وأنّ هذه الكواكب الكبيرة والشّامخة تُؤمر لإمرة الله سبحانه طوعًا له، وتحت تصرفه.
و- في قوله تعالى: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٍّ } [آل عمران: 117]
جيء بالتشديد في كلمة (صِرٍّ)؛ دلالة على البرد الشّديد والقاتل، الموجود في تلك الرّيح، يقول ابن عاشور: ((وفي قوله فيها صر إفادة شدة برد هذه الريح، حتى كأن جنس الصر مظروف فيها، وهي تحمله إلى الحرث))[23].
المحور الخامس-الحرف المُشدّد في القُرآن الكريم على مستوى الأفعال
من المعروف عند أهل اللُّغة والنّحو أنّ الجُملة الفعليّة تدلّ على الحُدوث والتّجدّد، في زمن لا يتعدى عن الفعل الماضي والمُضارع والأمر.
فالجُملة الفعليّة، لها أساليب وطُرق وتحويلات، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالصّوت والدّلالة. والجُمل الفعليّة في القُرآن الكريم ومنها المُشدّد، لها أثرها البلاغيّ والمعنويّ، وتعطي لنا معاني وقرائن ذات اتّساق تامّ وكامل.
في هذا المطلب سوف نُبيّن بعض الكلمات المُضعّفة (المُشدّد) من الأفعال وبيان دلالتها في المعنى والسّياق القُرآنيّ، وأنّها لم تأتِ هكذا جزافًا أو مجازًا إلّا لغاية أو قصد أو حدث مُعيّن مقصود.
أ-في قوله تعالى : {…وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا… }[آل عمران:37]، جاء التضعيف في حرف (الفاء) من كلمة (كفَّلها)، وهذا التضعيف، هو عبارة عن حرفين، الأوّل ساكن والثاني متحرِّك، ولم يُقل (كَفَلَها)؛ دلالة على أنّ الله جعل زكريَّا كافلًا لها، ولو لم يُشدّد حرف الفاء لكان زكريَّا هو الذي قام بكفالتها من تلقاء نفسه، إلّا أنّ التشديد جاء ليدّل على أنّ الذي وكّل زكريّا بكفالة مريم هو الله سبحانه، وهذا ما اتَّفق عليه القرّاء كـ حمزة ، وعاصم ، والكسائي.
ب-في قوله تعالى : {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا}[الواقعة:4]، ورد التضعيف في كلمة (رجّت)؛ دلالة على الاضطراب والتحرك الشَّديد، وهو ما يحدث في الجبال الشّامخات من زلازل وخسف، فجاء حرف (الجيم) مضعَّفًا عبارة عن حرفين، الأوّل ساكن، والثاني متحرِّك، ليشمل ذلك المعنى من التهويل والتعظيم .
ج-في قوله تعالى : {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا}[الواقعة:5]، ورد التضعيف في كلمة (بُسَّت) في الحرف (السِّين)؛ دلالة على شدَّة التفتُّت، وتفريق الجبال لمجموعات، والتأكيد في كلمة (بُسَّت) كالتأكيد في كلمة (رجًّا)؛ لإفادة التعظيم.
د-في قوله تعالى : {لاَ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُون}[الواقعة:19]، ورد التضعيف في كلمة (يصدَّعون) في الحرف (الدَّال)؛ ليؤكد ذلك على أنّ الخمر الذي يشربه أصحاب الجنَّة لا يصيبهم بصُداع ، كما هو حال الخمر في الدُّنيا، فلا يقع صُداع ناشئ عنها.
ه- في قوله تعالى : {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُون}[الأعراف:3]، أتى التضعيف المشدّد في كلمة (تذَّكرون) في حرف (الذّال) ، والتذكّر مصدر الذِّكر، وهو حضور الصُّورة في الذّهن، وشُدّدت (الذَّال)، على أنّ أصله تتذكّرون بتاءين، ثانيهما ذال؛ لتقارب مخرجيهما، وليتأتّى تخفيف الإدغام على رأي الجمهور، ودلالة ذلك عدم تذكّرهم ما اتَّبعوا من دون الله أولياء، وهذا نداء على إضاعتهم النَّظر والاستدلال في صفات الله سبحانه.
و- في قوله تعالى : {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيل}[الشعراء:22]، جاء التضعيف المشدّد في كلمة (عبَّدتَ) في حرف (الباء) ولم يقل (عَبَدْتَ)؛ بمعنى اتَّخذتهم عبيدًا لك، ولو لم يُشدّد حرف الباء، لكان المعنى هو الذي يعبدهم وليس هم يعبدونه، فوقع اللّوم عليه.
ز- في قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِين}[الأعراف:40]، جاء التضعيف المشدّد في كلمة (تفتَّح) في حرف (التاء)؛ مبالغة في الفتح ، فيفيد تحقيق نفي الفتح لهم، و أشير بتلك المبالغة الى ان المنفي فتح مخصوص، وهو الفتح الذي يفتح للمؤمنين، وهو فتح قوي فتكون تلك الإشارة زيادة في نكايتهم ([24]) .
ح-في قوله تعالى: {…فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِين} [الأعراف:44]، جاء التضعيف في كلمة (أذَّن) في حرف (الذال)؛ دلالة رفع الصَّوت رفعًا يسمع البعيد، وهو التأذين بالإخبار باللَّعن والإبعاد عن الخير، أي إعلام أهل النّار بذلك على أنّهم مبعدون عن رحمة الله سبحانه([25]).
ط-في قوله تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ…}[التوبة:29].
جاء التضعيف المشدّد في كلمة (يحرِّمون، وحرَّمَ) في حرف (الراء)، ولم يقل (يُحْرِمُون، أو حَرَمَ)؛ دلالة على فعلهم الشَّنيع في أنّهم لا يجعلون حرامًا ما حرَّمه الله سبحانه، فإنّ مادّة (فَعَّلَ) تُستعمل في جعل المفعول متَّصفَا بمصدر الفعل، فيفيد دلالة معناه، وهو أنّهم يجعلونه غير حرام، ويجعلونه مباحًا ([26]).
ك-في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ …} [التوبة:38]، ورد التضعيف المشدّد في كلمة (اثَّاقلتم) في الحرف (الثاء)، وأصله (تثاقلتم)، فقلبت (التاء) إلى (ثاء)، لتقارب مخرجيهما؛ طلبًا للإدغام، واجتلبت همزة الوصل لإمكان تسكين الحرف الأوّل من الكلمة عند إدغامه. فجاءت الكلمة مشدّدة عوضًا عن الحرف المحذوف؛ دلالة على أنّ بعض المؤمنين كارهين للغزو في سبيل الله بشدة، طالبين العذر عن الجهاد، فاستعملت الكلمة كمجاز مرسل للمعنى الذي ذُكر ([27]).
ل-في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُون} [التوبة:45]، ورد التضعيف المشدّد في كلمة (يتردَّدون) في الحرف (الدَّال)، وهنا تمثيل الحال؛ دلالة على شدَّة حريتهم بين الفعل وعدمه بحال الماشي والراجع، كالذي يُقدِّم رجلًا ويؤِّخر أخرى، لعدم عزمهم على الخروج للغزو مع الرَّسول ([28]).
م-في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى …} [التوبة:52]، في كلمة (تربَّصون) جاء التضعيف المشدّد في حرف (الباء) من الكلمة، بمعنى انتظار حصول الشيء المرغوب حصوله، فشدّد؛ لإفادة تقوية التربُّص، وكناية عن تقوية حصول المتربَّص؛ لأنّ تقوية التربُّص تفيد قوَّة الرَّجاء في حصول المتربُّص ([29]).
ن-في قوله تعالى: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلاَ يَضُرُّكُم} [الأنبياء:66]، جاء التضعيف المشدّد في كلمة (يضرُّكم) في حرف (الراء)، ولم يقل (يضُرُكُم) ؛ دلالة على تأكيد عدم نطقها؛ لأنّ النُّطق هو واسطة الإفهام، ولم يستطع الإفهام بواسطة النُّطق؛ لأنه يكون معدوم الإرادة والقدرة([30]).
المحور السادس- التّشديد في القُرآن الكريم على مستوى الحروف
هنالك في النّصوص القُرآنيّة سُبُل من الجمع والنّظم في تضمين أصوات الحُروف انفردت بها؛ إذ ليس: ((من شأنها أن تؤدى إلى التعقيد اللفظي، أو التنافر الصوتي))[31]، ونرى أنّ القُرآن الكريم ببراعة بلاغته وفصاحته، قد ابتعد واجتنب هذه العقبات بسلاسة، وأوعز للغة العربيّة الإمكانات الصّوتيّة، وما تحمل من دلالات ومعاني.
والقُرآن الكريم عندما يختار حرف الصّوت المُناسب، ويقوم بتضعيف تشديده، ما هي إلّا دلالة لها جرس خاصّ بالمعنى الذي يحتويه.
ومن القضايا التي اهتمّ بها عُلماء اللُّغة والتّجويد ودرسوها هو الحرف (المُشدّد) وطُرق التّلفّظ بهِ ومِقدار طوله من حيث دلالته.
أ-في قوله تعالى: {وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُون} [الواقعة:20]، وبالتّحديد الإدغام الذي حصلَ بهِ غُنَّة في كلمة (مِّمَّا)؛ إذ إنّ الإدغام الوارد في كلمة (مِّمَّا)، احتوى على مُدّة زمنيَّة؛ وذلك لكثرة أصناف الفاكهة الموجودة في الجنَّة، قال مُحي الدِّين في حاشيته عن ذلك الإدغام هو: ((لتبيين الجنس…أو لتبعيض من أي جنس يتخيرونه من أجناس الفاكهة، أو من أجناس ما يستلذونه من نعيم الجنة)) ([32]).
ب-في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمّد:10]، عِلمًا أنّ دلالة الإدغام المُشدّد في هذه الكلمة (دَمَّرَ)، هي المُبالغة في قُوَّة التّدمير، قال ابن عاشور: ((وإنما عدي بحرف الاستعلاء للمبالغة في قوة التدمير… ثم جعل التدمير واقعًا عليهم فأفاد معنى دمر كل ما يختص بهم… واقع عليهم فهم من مشموله)) ([33]). وهنا يُقصد بالاستعلاء، هو الحرف المشدّد.
ج-وفي قوله تعالى: {…إِنِّي آنَسْتُ نَارًا…} [طه:10]، الكلمة (إِنِّي)، أنّ دلالة هذا الإدغام المُشدّد في حرف صوت (النُّون) تأكيدًا على بُشارة نبيّ الله موسى “عليه السلام”، فغمره ذلك الفرح والسُّرور عندما كان في ظُلمة، ليخبر بها أهله وقومهُ، يقول ابن عاشور: ((وتأكيد الخبر بـ إنَّ لقصد الاهتمام به بشارة لأهله إذ كانوا في الظلمة)) ([34]).
د-في قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3] والدّلالة في هذين الحرفين (إمّا) المكرّر في الآية، هو إعطاء المُدّة الزمنيَّة للإنسان والتّفكير في اختياره، إمَّا طريق الحقّ، أو طريق الصَّواب. يقول ابن عاشور: ((إمّا: حرف تفصيل، وهو حرف بسيط عند الجمهور. وقال سيبويه: هو مركب من حرف (إن) الشرطية و(ما) النافية… فصار مجموع (إمّا) حرف تفصيل ولا عمل لها في الاسم بعدها))([35]). والظاهر من كلام ابن عاشور، هو كما ذكرناهُ أنّ كلمة (إِمَّا) المُكرّرة في الآية جاءت مُدّة الغُنَّة فيها، بأن يحتاج الإنسان للتفكير والاختيار قبل أن يقُرّر؛ لأنّها لا تأثير لها من النّاحية الإعرابيّة. ويضيف ابن عاشور على كلامه قوله: ((إنا هديناه السبيل في حال متردد أمره بين أحد هذين الوصفين وصف شاكر ووصف كفور… وهي مقارنة عرفية، أي عقب التبليغ والتأمل، فإن أخذ بالهدى كان شاكرًا وإن أعرض كان كفورًا))([36]).
هـ-وفي قوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ..} [الملك:4]، نجد دلالة المُدَّة الزَّمنيَّة للحرف المشدّد (ثُمَّ)، هي إعادة النّظر مرَّة أخرى في تفاوت الخلق وترتيبها، والمُتعارف أنّ الرُّجوع إلى الأشياء مرَّة ثانية يُريد وقتًا زمنيًّا لإعادة النّظر فيه؛ وذلك للتأكّد منهُ وضبطه إلّا أنّه يكون فيه مشقّة وتراخي، يقول ابن عاشور عن (ثُمَّ) أنّه: ((حرف عطف ثم دالّ على التراخي الرتبي… لأنّ إعادة النظر تزيد العلم بانتفاء التفاوت في الخلق رسوخا ويقينا))([37]).
و- وفي قوله تعالى: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه:12] ودلالة الإدغام المُشدّد في كِلا اللّفظين (إِنِّي، إِنَّكَ)، هو أنّ الأوّل جاء تأكيدًا على أنّ المُتكلِّم هو الله سُبحانه، وذلك لتسكين روعة المُخاطب وعدم غرابته، قال ابن عاشور: ((وتأكيد الخبر بحرف (إنّ) لتحقيقه لأجل غرابته دفعا لتطرق الشك عن موسى…)) ([38]). ودلالة الإدغام الثّاني، هو تأكيد لعَظَمة ذلك المكان الذي سيسمع فيه الكلام الإلهي فـ: ((حرف التوكيد مفاده التعليل)) ([39])،بمعنى تعليل سبب الأمر بخلع النَّعل.
ز- وفي قوله تعالى: {لاَ جَرَمَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ…} [النحل:23] ودلالة الغُنَّة لحرف صوت النُّون في كلمة (أَنَّ) هي تأكيد على أنّ الله سُبحانه يعلم، ولابدّ من عِلمه، والأمر الآخر هو تأكيد كِناية الوعد بالمؤاخذة لِمَا يخفونهُ وما يظهرونهُ من إنكار واستكبار، قال ابن عاشور: ((وجملة أنّ الله يعلم كناية عن الوعيد بالمؤاخذة بما يخفون وما يظهرون من الإنكار والاستكبار)) ([40]).
ح- وفي قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ } [يس:47]، إنّ دلالة الغُنَّة الزمنيَّة في كلمة (مِمَّا)، هو ما يدلّ على كثرة ووفرة الخير الكثير الذي كان الكُفّار يتمتّعون به، ولم يعطوا منهُ للمساكين عندما يسألونهم طلب الحاجة، وكذلك زجرًا لهُم بما كانوُا يصنعونهُ.
الخاتمة
تبيّن لنا في أثناء سير البحث أنّ للتّشديد أهمّيّة بالغة في إبراز المعاني، وأنّه كان شائعًا في الدّراسات عند العُلماء القُدامى والمفسّرين بصورة خاصّة، والعُلماء المحدثين بصورة عامّة، وأنّهم قد اعتنوا به عناية خاصّة وأكثروا فيه الحديث في كُتُبهم، وكيف يُؤثّر في الكلمات العربيّة ويُزوّدها معنى إضافيُّا مرّة ، ومعنى آخر غير المعنى الأوّل على وجه العموم، وفي القُرآن الكريم على وجه الخصوص.
كما واتّضح لنا أنّ حرف الصّوت المشدّد في القُرآن الكريم، سواء على مستوى الأسماء، أو الأفعال، أو الحروف، يحمل في طيّاته دلالات بلاغيّة.
وإنّ هذا التّشديد في القُرآن الكريم، قد جاء في الأسماء وفي الأفعال وفي الحروف إلّا أنّه في الأفعال الكثر حدوثًا، والظاهر من هذا؛ لِعلل بلاغيّة ترتبط بهِ.
المصادر والمراجع
- عاشور، محمّد الطاهر التونسي (1393 ه / 1973 م).- تفسير التحرير والتنوير، لا ت .- الدار التونسية للنشر 1984م.
- براجشتراسر .- التطور النحوي للغة العربية ، الطبعة الثانية.- القاهرة : مكتبة الخانجي.-
- الخليل، الفراهيدي (170 ه / 786 م).- العين ؛ تحقيق عبد الحميد هنداوي ، الطبعة الأولى.- بيروت – لبنان: دار الكتب العلمية.
- شاهين، عبد الصبور.- المنهج الصوتي للبنية العربية.- بيروت: مؤسسة الرسالة.
- عبد العزيز، أسامة.- جماليات التلوين الصوتي في القرآن الكريم، الطبعة الثانية.- دار ومكتبة الإسراء للطبع والنشر والتوزيع.
- علي أحمد، يحيى.- تأثير التشديد على طول الحركة في اللغة العربية.- المجلة العربية للعلوم الإنسانية.
- الصالحي, محمّد خلف.- التزمين وأثره في الدلالة دراسة صوتية في الأداء القرآني.- رسالة ماجستير: اللغة العربية وآدابها: الكوفة, جامعة الكوفة, كلية التربية للبنات.
- قدوري الحمد، غانم.- المدخل إلى علم أصوات العربية، الطبعة الأولى.-عمّان، دار عمّار للنشر والتوزيع.
- قدوري الحمد، غانم.- الدراسات الصوتية عند علماء التجويد ، الطبعة الثانية.- عمّان : دار عمار 2003م.
- كانتينو، جان.- دروس في علم أصوات العربية؛ ترجمة صالح القرمادي.- الجامعة التونسية : نشريات مركز الدراسات والبحوث الاقتصادية والاجتماعية 1966.
- مكي، ابو محمّد مكي بن أبي طالب القيسي (437 ه / 1045 م).- الرعاية لتجويد القراءة وتحقيق لفظ التلاوة؛ تحقيق مكتبة قرطبة، الطبعة الأولى.- مؤسسة قرطبة.
- محي الدين، محمّد بن مصلح الدين (951 ه / 1545).- حاشية محي الدين شيخ زاده على تفسير القاضي البيضاوي؛ تحقيق محمّد عبد القادر شاهين ، الطبعة الأولى.- بيروت – لبنان : دار الكتب العلمية.
- محمّد علي، عبّاس السرّ.- علم أصوات القرآن الكريم، الطبعة الأولى.- دار النابغة للنشر والتوزيع.
[1] طالب دكتوراه في معهد الآداب الشرقية، جامعة القديس يوسف، بيروت.
PhD student at the Institute of Oriental Arts, Saint Joseph University, Beirut. Email: dorghamhamza20@gmail.com
[2] الخليل، العين، 1/49.
[3] غانم الحمد، المدخل إلى علم أصوات العربية، 228.
[4] يحيى علي أحمد، تأثير التشديد على طول الحركة في اللغة العربية، 6.
([5]) براجشتراسر، التطور النحوي، 53.
([6]) المنهج الصوتي للبنية العربية:207.
[7] محمّد خلف, التزمين وأثره في الدلالة, 81.
([8]) الرعاية لتجويد القراءة وتحقيق لفظ التلاوة، 245.
([9]) الرعاية لتجويد القراءة وتحقيق لفظ التلاوة، 247.
([10]) غانم الحمد، الدراسات الصوتية عند علماء التجويد،46.
([11]) دروس في علم الأصوات العربية، 25.
([12]) المنهج الصوتي للبنية العربية،207.
[13] محمّد خلف, التزمين وأثره في الدلالة, 82.
([14]) التحديد في الإتقان والتجويد: 99.
([15]) الدراسات الصوتية عند علماء التجويد: 399.
[16] مكي، الرعاية، 245ص.
[17] عباس السر محمّد علي، علم أصوات القرآن الكريم، 299.
[18] مكي، الرعاية 247،ص.
[19] مكي، الرعاية ،251.
[20] ابن عاشور، التحرير والتنوير، 6/195.
[21] ابن عاشور، التحرير والتنوير، 19/234.
[22] ابن عاشور، التحرير والتنوير، 1/315.
[23] ابن عاشور، التحرير والتنوير، 4/61.
([24]) ابن عاشور ، التحرير والتنوير ، 9 / 126 .
([25]) ابن عاشور ، التحرير والتنوير ، 9 / 136 .
([26]) ابن عاشور ، التحرير والتنوير ، 11 / 163 .
([27]) ابن عاشور، التحرير والتنوير، 11 / 196.
([28]) ابن عاشور، التحرير والتنوير، 11 / 213.
([29]) ابن عاشور، التحرير والتنوير، 11 / 224.
([30]) ابن عاشور، التحرير والتنوير، 18 / 101.
[31] أسامة عبد العزيز، جماليات التلوين الصوتي في القرآن الكريم، 146.
([32]) محي الدين شيخ زاده، تفسير حاشية محي الدين، 8 / 82.
([33]) ابن عاشور، التحرير والتنوير، 27 / 88.
([34]) ابن عاشور، التحرير والتنوير، 17 / 193.
([35]) ابن عاشور، التحرير والتنوير، 30 / 376.
([36]) ابن عاشور، التحرير والتنوير، 30 / 376.
([37]) ابن عاشور، التحرير والتنوير، 17 / 30.
([38]) ابن عاشور، التحرير والتنوير، 17 / 196.