مؤتمر المحقق الكركي
محور: الفقه والأصول: بحث حول صلاة الجمعة والآراء حولها في زمن الغيبة
ثنائيّة العلم والتّعليم في رسالة “الجمعة” للمحقّق الكركيّ”
The duality of knowledge and education in
“Al Jumaa“ letter by Al-Muhaqqiq Al-Karaki
Feryal Al Haj Diab. Dr د. فريال الحاج دياب([1])
عالجنا في هذا البحث قضية من قضايا الفقه في الإسلام، وهي صلاة الجمعة والآراء حولها في زمن الغيبة. وكان بحثنا في “ثنائية العلم والتّعليم في رسالة الجمعة للمحقّق الكركي”، من خلال اتباع منهج تحليل الخطاب.
تناول الكركي قضية شرعيّة صلاة الجمعة في زمن الغيبة، وذلك انطلاقًا من همّ النّاس، وتفاقم الخلاف بينهم. فحاول إيضاح الصّواب، وإزالة اللّبس. لأنّه ذلك العالم الفذٌ الذي يشعرُ بالمسؤوليّة تجاه المُكلّفين من أبناء دينه. ويحاول تقديم المعرفة لهم مترافقة مع التّعليل المنطقي المواكب للعقل العلميّ المستند إلى الأدلّة والبراهين في القرآن الكريم.
الكلمات المفاتيح: العلم والتّعليم – رسالة الجمعة – زمن الغَيبة – البلوغ والعقل – الإيمان – العدالة – طهارة المولد – الذّكورة
Research Summary
In this research, we addressed an issue of jurisprudence in Islam, which is Friday prayer and the opinions about it during the absence of the savior. Our research went deep to study “The duality of knowledge and education in “Al Jumaa” letter by the investigator Al-Karaki,” using the discourse analysis approach.
Al-Karki addressed the issue of the legality of Friday prayers during the time of absence, based on people’s concerns and the aggravation of the dispute between them trying to clarify what is correct and remove the confusion. Because he is a distinguished scholar who feels responsible towards those following the same religion. He tries to provide them with knowledge accompanied by logical reasoning that matches the scientific mind based on evidences in the Holy Qur’an.
Keywords: Science and education – Friday message – the absence period- Puberty and the mind -faith -justice- Purity of birth – Masculinity
المقدّمة
سنحاول في هذا البحث أن نجيب عن الأسئلة الآتية:
– ما هي القضايا المعرفيّة الأساسيّة التي أثارها المحقّق الكركيّ في رسالة ” الجمعة” ؟
– ما الوسائل التي اتّبعها المحقّق في تعليم هذه القضايا؟
– ما مدى نجاح المحقّق الكركيّ في إيصال المعرفة إلى المكلّف؟
– بداية نقدّم نُبذة عن المحقّق الكركي، ثمّ نتعرّف إلى مفهومي العلم والتّعليم
هو علي بن الحسين بن محمد بن عبد العال، المعروف بالمحقّق الكركي أو المحقّق الثّاني، ولد في قرية كرك نوح، قرب بعلبك العام 868 هجريّة. وتوفى في العام 940 هجريّة في النّجف الأشرف.
“المحقّق الكركي، من كبار علماء الشّيعة وفقهائهم الّذين عاشوا في العصر الصّفويّ. هاجرَ من لبنان إلى العراق، ثمّ إلى إيران بعد أن دعاه الشّاه اسماعيل الصّفويّ بغية نشر الثّقافة الشّيعيّة في إيران.
ساهم المحقّق في تعزيز روح الانفتاح على المذاهب كلّها والأخذ منها، فقد نبذ التّعصّب المذهبيّ. وعمل في سبيل الوحدة الإسلاميّة، وتكريسها في الواقع، بمواقفه، وأقواله، ومسيرته. وقد تميّز بالتّحقيق والتّدقيق. وكان كثير العلم، نقي الكلام، سميّ ب ” نادرة الزّمان”. له مؤلفات كثيرة، أهمّها، جامع المقاصد في شرح القواعد، وقد اشتهر هذا الشّرح اشتهارًا كبيرًا، واعتمد عليه الفقهاء في أبحاثهم ومؤلفاتهم “([2]).
مفهوما العلم والتّعليم: يُعرّف العلمُ لغةً: “أنّه إدراك المرء للأمور على حقيقتها، وهو مصدر الفعلِ (عَلِمَ _ يعلَمُ)، وجمعه عُلوم”([3]). وفي اللّغة العلم من العلامة، والعلامة تعني الدّلالة والإشارة، والعلم أيضًا هو ما يناقض الجهل، وقد قال الفيروز آبادي فيه: “العلم هو حقّ المعرفة” ([4]).
تعريف العلم اصطلاحًا، فقد قيل: إنّه المعرفة، ويعدّ العلم نظامًا معرفيًّا يهتم بالعلم الماديّ والظّواهر الخاصّة، إذ إنّه ينطوي على تتبّع المعرفة التي تزودنا بالحقائق… “ويُبنى العلم على الملاحظة والمراقبة، ومختلف التّجارب المنهجيّة التي لا تنحاز لفكرة أو قانون معيّن”([5]).
أمّا التّعليم، فهو مصدر من الفعل علّمَ – علّمَ الشّيء تعليمًا، فتعلّمَ. وجمعُه تعاليم وتعليمات. ومنه قوله تعالى:﴿وعلّمَ آدم الأسماء كلّها ثمّ عرضَهم على الملائكة فقالَ أنبِئوني بأسماءِ هؤلاءِ إن كُنتُمْ صادِقين﴾ ([6]).
والتّعليم اصطلاحًا: هو عملية تيسير التّعلّم. أيّ اكتساب المعرفة والمهارات والمبادئ والمعتقدات والعادات…، بهدف تزويد الشّخص المتعلّم بأسس المعرفة كافة، وبشكلٍ منظّم، ومقصود، ومحدّد الأهداف، إذ يصير قادرًا على توظيف ما تلقّاه في حياته العمليّة.
وعرّف العالم الاقتصاديّ ” ألبرت هيرشمان” التّعليم: أنّه إعمالُ العقل، أي انتصارُ أو غلبةُ العقل على العواطف، أي القدرة على التّفكير المنطقيّ بعيدًا عن الحدس والغرائز العاطفيّة([7]).
نلاحظ في هذا البحث أنّ المحقّق الكركي يطرحُ قضيةَ شرعيّة صلاةِ الجمعة في هذه الأزمان التي مُنيَ أهلُها بغيبة الإمام المعصوم عليه السّلام.
وانطلاقًا من همّ النّاس، وتفاقم الخلاف بينهم، فهم كالمتحيّرين، لا يدرون ما يصنعون، ولا يعلمون أيّ طريق يسلكون. فكان لزامًا عليه أن يقدّم العلم والمعرفة خالصة لوجه الله. من أجل إيضاح الصّواب، وإزالة اللّبس. ومن ذلك:
حكم صلاة الجمعة في حال الغيبة: يقول تعالى في كتابه العزيز: ﴿ يا أيّها الّذين آمنوا إذا نُودي للصّلاة من يوم الجُمُعَة فاسْعَوْا إلى ذكرِ اللهِ وذَرُوا البيعَ ذلكمْ خيرٌ لكم إنْ كُنتمْ تعلَمُونَ ﴾([8]).
ولا ريب أنّ الأمر بالسّعي إنّما هو اجتماع الشّرائط، من العدد والخطبتين. أمّا في العدد عن الإمام الصّادق عليه السّلام في صحيحة منصور، قال: ” يجمع القوم يوم الجمعة إذا كانوا خمسةً فما زاد، فإن كانوا أقلّ من خمسة فلا جمعة لهم، والجمعة واجبة على كلّ أحدٍ لا يعذر النّاس فيها إلّا خمسة” ([9]).
وقال الفقيه محمد بن مسلم الثقفيّ، فيما روي عن أهل البيت (ع)،: ” لا تجب الجمعة على أقلّ من سبعة: الإمام وقاضيه، ومدّع حقًا، ومدّعى عليه، وشاهدان، ومن يضربُ الحدودَ بين يدي الإمام…” ([10]). وفي هذا دلالة على اشتراط الإمام.
ومن القضايا الأساسيّة التي عالجها الكركيّ في شروط صلاة الجمعة، وجود السّلطان العادل، وهو الإمام المعصوم، أو نائبهُ عمومًا، ولأنّ النّبي (ص) كان يعيّن لإمامة الجمعة، وكذا الخلفاء بعده، كما يعيّن للقضاء. يقول في التّذكرة:” يُشترط في وجوب الجمعة السّلطان، أو نائبه عند علمائنا أجمع” ([11]). وقال في الذّكرى في سياق الشّروط: الأوّل: السّلطان العادل، وهو الإمام أو نائبه إجماعًا منّا “([12])
ويُشترط في النّائب البلوغ، والعقل، والإيمان، والعدالة، وطهارة المولد، والذّكورة. وقد قدّم الكركيّ رأيه الفقهيّ بطريقة علميّة مقنعة إذ قال:”أمّا البلوغ : فلأنّ الصّبيَ غيرُ مكلّفٍ والعدالة فرع التّكليف، وهي شرط، ولأنّه وإن كان مميّزًا لم يُؤمَن ترك واجبٍ أو فعل محرّم منه، وإلّا فلا اعتداد بفعله.
وأمّا العقل: فلأنّ أفعال المجنون لا اعتداد بها، ولو كان جنونُه أدوارًا، فالظّاهر جواز نيابته حال الإفاقة، لتحقّق الأهليّة حينئذ، وإن كره.
وأمّا الإيمان: وهو التّصديق بالقلب والإقرار باللّسان بالأصول الخمسة على وجه يعدّ إماميًّا، فلأنّ غير المؤمن فاسقٌ ضالّ لمخالفته طريق الحقّ – الّذي هو طريق أهل البيت عليهم السّلام_ فإنّها لا تكون إلّا عن تقصير في النّظر.
وأمّا العدالة: وهي لغةً: الاستقامة، وشرعًا: كيفية راسخة في النّفس، تبعثُ على ملازمة التّقوى والمروءة، وتتحقّق التّقوى: بمجانبة الكبائر، وعدم الإصرار على الصّغائر…
وأمّا طهارة المولد، والمراد بها: أن يُعلم كونه ولد زنا، وفي الإجماع على أنّ إمامة ولد الزنا لا تجوز.
وأخيرًا الذّكورة فظاهر، لأنّ المرأة والخُنثى لا تؤمان الرّجال ولا الخناثى، ولعدم وقوع الجمعة منهما كما يأتي”([13]). وممّا أشار إليه المحقّق الكركي، حضور الفقيه العدل الإمامي الجامع لشرائط الفتوى، المعبّر عنه بالمجتهد في الأحكام الشّرعيّة، نائب من أئمة الهدى عليهم السّلام في حال الغيبة في جميع ما للنيابة.
وهكذا استدلّوا على سعة أفق الولاية للفقيه، بظاهر إطلاقات الآيات الشّاملة في كلّ زمان، إذ يقول تعالى في كتابه العزيز آمرًا بطاعة العلماء والأمراء، بما يوافق طاعة الله ورسوله في سورة النساء:﴿يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرّسولَ وأولي الأمرِ منكم﴾([14]). ويقول أيضًا في سورة النّحل: ﴿ فاسألوا أهلَ الذّكرِ إنْ كنتمْ لا تعلمونَ ﴾([15]) وفي هذه الآية دعوة لسؤال أهلِ العلم، وتزكية لهم، لأنّهم أهلُ الذّكر على الحقيقة من خلال القرآن الكريم، ويجب علينا الرّجوع إليهم في جميع الحوادث.
وروي عن الإمام الصّادق (ع) أنّه قال: ” انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فارضوا به حكمًا، فإنّي قد جعلته عليكم حاكمًا… ([16]).
وقد استخرج الأصحاب الأوصاف المعتبرة في الفقيه المجتهد من هذا الحديثِ ونحوه، والمقصود من ذلك حسب رأي المحقّق: أنّ الفقيه الموصوف بالأوصاف المعيّنة، منصّب من أئمتنا، نائبٌ عنهم في جميع ما للنيابة فيه مدخل. بدليل القول: ” فإنّي قد جعلته عليكم حاكمًا”، وهذه حسب رأي الكركيّ هي استنابة على وجه كليّ. في زمن الصّادق عليه السّلام، وغيره. فقد قدّم المحقّق الدّليل المنطقيّ مشيرًا إلى أنّ حكمَ النبي(ص) والإمام (ع) واحدٌ لأهل ذلك العصر وغيره. والحكم على الواحد حكم على الجماعة بغير تفاوت. وقد ورد ذلك في قول النّبيّ(ع) في موسوعة أطراف الحديث: “حكمي على الواحد حكمي على الجماعة”.
وكذلك قول النّبيّ (ص): ” إنّما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة” ([17]).
لقد حرص الكركيّ كلّ الحرص على إيصال المعرفة إلى المكلّف، متّبعًا وسائل عديدة، كالتّدقيق والتّفصيل في الأحكام مستندًا إلى رويات أهل البيت عليهم السّلام، وكذلك الأحاديث النّبويّة الشّريفة، ومن القضايا المعرفيّة التي كانت موضع خلاف، وعالجها المحقّق الكركيّ نظرًا لأهمّيّتها وعلميّتها،
قضية جواز صلاة الجمعة في حال الغيبة _ والتّمكّن من الاجتماع بالشّرائط_ وفي ذلك قولان:
أحدهما: المنع من صلاة الجمعة حال الغيبة ونفي شرعيتها، وهو المنقول ضمن رسائل الشّريف المرتضى([18])، والمراسم العلوية، لسلّار([19])، وفي كتاب السّرائر لابن ادريس([20])، واختاره العلّامة المصنّف في منتهى المطلب([21])…، لأنّ من شروط انعقاد الجمعة الإمام، أو من نصبه الإمام للصلاة، وهو منتفٍ، فتنتفي الصّلاة، ولأنّ الظهرَ أربعُ ركعاتٍ ثابتة في الذّمة بيقين فلا يبرأ المكلّف إلّا بفعلها…
وقد ناقش الكركيّ هذا الأمر وعمل على توضيحه فقال:” إنّ شرط الإمام، هل هو شرط الصّحة أم شرط الوجوب؟ فإنّ أصل الاشتراط لا خلاف فيه، فإن كان شرط الصّحة، امتنع فعل الجماعة حال الغيبة، كما يقول ابن ادريس في السّرائر، والجماعة…” ([22]). وإن كان شرط الوجوب لم يمتنع، إذ اللّازم انتفاؤه حينئذ هو الوجوب خاصّة.
وقد درس الكركي آراء الفقهاء، كرأي الشّيخ الشّهيد في ( الذكرى)، وتلميذه المقداد في (شرح المنافع)،”وعلم أنّه ليس المراد بجواز الجمعة حال الغيبة أو استحبابها إيقاعها كذلك، لامتناعه من وجوه، فإنّ الإباحة لا تنتظم مع العبادة، وإرادتها مع ذلك إرادة الاستحباب باطل، لعدم وجود دليل يدلّ على واحد منهما، والجمع بين الجمعة والظّهر استقلال غير مشروع اتفاقًا، فلم يبقَ إلا إرادة الجواز بمعنى السائغ، وهو جنس للوجوب كما عرفت، أو الاستحباب العينيّ فإنّه يجامع الوجوب التخييريّ كما سبق” ([23]).
وما يجدر ذكره في هذا المقام. أنّ الكركيّ في كلّ ما قدّمه، كان علمًا ومعلّمًا في الوقت نفسه، وكان حريصًا في تعليمه أن يلجأ إلى النّقاش المنطقيّ الّذي يُقدّم الحقيقة. حقيقة ملموسة، إذ نلاحظ أنّ رسالة المحقّق الكركيّ الموسومة بعنوان “الجمعة” تبدأ بقوله: “فقد طال تكرار سؤال المترددين إليّ عن حال شرعيّة صلاة الجمعة في هذه الأيّام “([24]). وهذا الكلام لا يكشف عن همّ يتعلّق بالمسلمين المكلّفين يخصّ شرعيّة صلاة الجمعة في زمان غياب الإمام المعصوم، بقدر ما يكشفُ عن همّ يخصّ علي بن الحسين الكركيّ، ولا يقدّم هذا الهمّ صاحبه كرجل علمٍ فقط، ولكنّه يقدّمه مسكونًا بالمسؤوليّة المتوجّبة عليه تجاه المكلّفين أيضًا.
إنّه الهمّ الّذي يسعى إلى نشر العلم عبر التّعليم. والمحقّق الكركيّ، بناءً على ذلك، عالم ومعلّم في الوقت نفسه، وهمّه مؤسس على همّ النّاس المكلّفين من خلال قوله:”فلمّا رأيتُ أنّ الأمر قد تفاقم والخلف والخلاف قد تراكم، سألتُ الله الخيرة في إملاء جملة من القول لتحقيق الحقّ في هذه المسألة، على وجهٍ أرجو من التّوفيقات الإلهيّة أن ينكشف بها القناع، ويزول بها اللّبس…” ([25]).
إنّه موقع المسؤوليّة التي توجب على العالم أن يقومَ بدورهِ، خصوصًا أنّه عالمٌ قويّ الإيمان لا يقوم بمهمّة محدّدة إلّا بعد أن “يسأل الله الخيرة”. وصاحب رسالة ” الجمعة” لا يجانب المنطق في أيّ خطوةٍ يخطوها.
وقوله: ” فلأنّ الأمر الدّال على الوجوب متحقّق، لأنّه المفروض، والوجوب ماهيّة مركّبة من الإذن في الفعل والمنع من التّرك…”([26])، مستندًا، في ذلك، إلى منطقٍ مؤيّدٍ بالوقائع. ولام التّعليل في قوله: “لأنّه المفروض” تقدّم (الفرض) أمرًا محتومًا. وروحيّة علميّة مستندة إلى المنطق كالتي تجدها عند المحقّق، روحيّة منتمية إلى مسؤوليّة أرادها صاحب رسالة ” الجمعة” من أجل القيام بخدمة المكلّفين وخدمة الدّين، ولا ترتكز علميّة المحقّق الكركيّ ووظيفته التّعليميّة على المنطق وحده، بل نراه يلجأ إلى النّقاش في مواقع عديدة من رسالته هذه، فإذا قيل: “بعد رفع المركّب لا يُعلم بقاء الجواز، لأنّه رفع المركّب قد يكون برفع الجزأين معًا، والمقتضي منسوخ، فلا يقطع ببقاء مقتضاه”([27]).
وهذا (القيل) قيل صاحب الرأي المخالف. والمحقّق لا يخشى أن يقدّم رأي الآخر المختلف تقديمًا منطقيًّا يرينا إيّاه رأيًا يستحقُ المناقشة. إنّه يخوضُ في الأمور الجسام لا المسائل العاديّة البسيطة، وبناءً على هذا العرض للرّأي المختلف، يلجأ الكركيّ إلى الفعل الماضي المجهول (رُدّ) في تعبيرٍ عن ثقته بصلاحية الرّدّ، ولقد جاء الرّدّ في قولهِ: “إنّ بقاء الجواز متحقّق”([28]) من دون أن يكتفي بهذا الرّدّ. وإنّنا نراه يسوقُ تعليلًا يبيّن صحة هذا الرّدّ ودقته ” لتحقّق مقتضيه أولًا والأصل استمراره فلا يُرفع بالاحتمال…”([29]).
ولا يكتفي المحقّق بمناقشة الرّأي المخالف مناقشةً منطقيّة فحسب، ولكنّه يلجأ إلى البرهان القاطع أيضًا،
يقول: ” والجواز الّذي معناه استواء الطّرفين لم يدلّ عليه دليلٌ أصلًا، إذ لا يلزم من ثبوت الوجوب ثبوته، كما لا يلزم من رفعِه رفعُه، فينتفي بحكم الأصل، وحينئذٍ فيقطع بانتفاء الجواز”([30])، وانتفاء الجواز الّذي يساوي بين الوجوب ووجوب صلاة الجمعة، وعدم إقامتها، تأكيدًا للوجوب الّذي أخذ به المحقّق وساق جملةً من البراهين على تأكيد ضرورته.
وإذا تتبعنا السّياق التّعليميّ الّذي توجّه به صاحب رسالة “الجمعة” إلى المكلّفين، وجدناه مستعملًا “قيل عليه”، أي في الرّدّ عليه و”جوابه” بما يشير إلى حرصه على مناقشةٍ دقيقةٍ. وما يجدر ذكره، أنّ المحقّق مصرّ على متابعة الحقيقة الّتي لا تقبل الشّك، ففي قوله: إذ إنّ “الدّليل الدّال على الوجوب دلّ على شيئين: الوجوب والجواز…”([31]). ثمّ جاء بالفعل ليؤكّد حدوث الأمر(دلّ)، وهو في منطقهِ هذا يتابعُ الحقيقةَ من خلال الثّنائياتِ الضديّة التي تكثر في كلامه. من مثل:(الوجوب- والجواز) (الجواز موجود- والمانع منتفٍ)، وهذا ما أوصله ليقول: “وجب القول بتحقّقه”([32]).
ونراه يتابع تحقّق الوجوب بشكلٍ منطقيّ من خلال الضّديات: فالوجوب “ماهيّة مركّبة من الإذن في الفعل/ والمنع من التّرك، فيكون مقتضيًّا لهما…”([33]). ما يجعل(الإذن) متعاليًا على (المنع) ونافيًا إيّاه، و(الفعل) متعاليًا على (التّرك) ومبعدًا إيّاه أيضًا.
والمتابع لحجاج المحقّق في رسالة “الجمعة” تلفت انتباهه ثنائيّة حجاجيّة بامتياز (فإن قيل/ قلنا) التي تكررت ست مرّات تقريبًا ([34]).
وهو في ذلك لا يتجاهل الرّأي المختلف، ولكنّه يثبّته من خلال (فإن قيل)، يعطيه حقّه في المواجهة، ويردّ عليه ويدحضه من خلال استعماله (قلنا). وهذا حجاجٌ نموذجيّ لا يترك شاردةً ولا واردةً من دون أن يناقشها.
وإنّ حضورَ علماءٌ كبار ينتمون إلى رأي مختلفٍ في رسالته يُنطقهم بلسانهم ليردّ عليهم رأيًا رأيًا يقدّمه عالمًا علميًّا يستحق الثّناء. وقد لاحظنا أنّ المحقّق لا يترك أمرًا مهما كان ثانويًّا من دون أن يعرضَه، ويناقشَه ويحدّدَ موقفًا منه. تجد ذلك في حديثه عن عدد المصلّيين لتكون لهم جمعة كما أسلفنا سابقًا، وذلك من خلال عرضِ أحاديث مرويّة ومناقشتها.
نذكر منها ما ورد في صحيحة زرارة، قال: “حدّثنا أبو عبد الله عليه السّلام على صلاة الجمعة حتّى ظنّنتُ أنّه يريد أن نأتيهِ، فقلتُ: “نغدوا عليك؟”، فقال: ” لا، إنّما عنيتُ عندكم” وكذلك ما ورد في صحيحةِ عمر بن يزيد، عن الصّادق عليه السّلام قال: ” إذا كانوا سبعةً يوم الجمعة، فليصلّوا في جماعة”([35]).
من هنا، نجد أنّ المحقّق الكركيّ لا يسوق أيّ رأي قبولًا له أو رفضًا له من دون تعليل، فالعقل العلميّ حاضرٌ أبدًا مع كلّ خطوة يخطوها، فهو عدا عن تعداده ثلاثَ عشرة صفة للفقيه النّائب في زمن غيبة الإمام المعصوم، وهو عدد مقوّ وداعم لموقف الكركيّ، فإنّه لجأ إلى التّعليل من خلال (لام) التّعليل. فإذا كان من صفات النّائب في زمن الغيبة ( الإيمان) علّل وجوب هذه الصّفة بقولهِ: ” الإيمان، لأنّ العدالة شرط، وغير المؤمن لا يكون عدلًا…”([36]) .
ففي التّعليل تثبيت للرأي. وإذا وجد أن من صفات ذلك النّائب (العدالة)، أردفَ قائلًا: ” لوجوب التثبّت عند خبر الفاسق، وإليه الإشارة بقوله عليه السّلام: ” أعدلهما” ([37]). ويبدو التّعليل من خلال متابعة الصّفات الّتي ذكرناها عمقًا منطقيًّا علميًّا يقوّي ما يصدره المحقّق من آراء بما يقنع المكلّف فيأخذ بها. ومهما يكن من أمرٍ، فإنّ صاحب “رسالة الجمعة” لم يكن عالمًا من خلال ما عرضه من آراءٍ فحسب، ولكنّه عالمٌ فذّ يشعرُ بالمسؤوليّة الّتي يحمّله إيّاها علمُه تجاه المكلّفين من أبناء دينه المسلمين.
المصادر والمراجع
– القرآن الكريم
1- ابن ادريس الحلي، كتاب السرائر، مؤسسة النشر الإسلامي، ط2، 1410 ه.
2- ابن العثيمين، محمد بن صالح، كتاب العلم، تحقيق: صلاح الدّين محمود، مكتبة نور الهدى، السعودية.
3- أبو عبد الله العاملي، الشهيد الأول، ذكرى الشّيعة في أحكام الشّريعة، تحقيق مؤسسة آل البيت لإحياء التراث.
4- الترمذي، سنن الترمذي- كتاب السيّر، تحقيق: أحمد شاكر، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، ط2، 1975م.
5- الحلي، الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر، مجمع البحوث الإسلامية، مشهد، ط1، 1980م.
6- الديلمي، الشيخ حمزة بن عبد العزيز، الملقب بسلّار، المراسم العلوية في الأحكام النبوية،
7- الطّوسي، الشّيخ أبو جعفر محمد بن الحسن، كتاب تهذيب الأحكام، دار التّعارف للمطبوعات، بيروت، ط4، 1406 هجرية.
8- العطية، مروان، معجم المعاني الجامع، مكتبة دار غيداء للنشر والتوزيع، 2018م.
9- فضل الله، محمد حسين، محلّة بيّنات، الموقع الرسمي، 2014م.
10- الفيروز آبادي، القاموس المحيط، تحقيق: محمد نعيم العرقسوسي، مؤسسة الرّسالة، ط8، 2005م.
11- القرطبي، التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة، دار المنهاج للنشر، الرياض، ط1، 1425ه.
12- الكركي، علي بن الحسين، المحقق الثاني، جامع المقاصد في شرح القواعد، مؤسسة آل البيت(ع) لإحياء التراث، بيروت، ط1، 1990م.
13- الكركي، علي بن الحسين بن عبد العال، حياة المحقق وآثاره، الرسائل، جمع وتحقيق: الشيخ محمد الحسون، المجلد الرابع.
[1]– أستاذة في اللغة العربيّة وآدابها – حائزة على ماجستير في اللغة العربية- الجامعة اللّبنانيّة وعلى شهادة الدكتوراه في اللغة العربية – الجامعة الإسلاميّة.
University professor of Arabic language and literature- Holds a Master’s degree in Arabic Language – The Lebanese University- Holds a doctorate in Arabic language – The Islamic University E-mail:Feryalhajdiab@gmail.com
– مروان العطية، معجم المعاني الجامع، مكتبة دار غيداء للنشر والتوزيع، 2018م، تعريف ومعنى (عَلِمَ). [3]
– محمد بن صالح بن العثيمين ، كتاب العلم ، تحقيق صلاح الدين محمود، مكتبة نور الهدى، السعودية، ص 2 .[5]
– التهذيب 3: 239 حديث 636، الاستبصار 1: 419 حديث 1610، وسائل الشيعة7: 304- 305، الباب 2 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها. [9]
– الشهيد الأول، الشيخ أبو عبد الله العاملي، ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، تحقيق مؤسسة أل البيت لإحياء التراث، 230.[12]
– المحقق الثاني الشيخ علي بن الحسين الكركي، جامع المقاصد في شرح القواعد، مؤسسة آل البيت(ع) لإحياء التراث بيروت،ط1،1990،371.[13]
– الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، كتاب تهذيب الأحكام، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، ط4، 1406 هجري.[16]
– الشيخ حمزة بن عبد العزيز الديلمي الملقب بسلّار، المراسم العلوية في الأحكام النبوية، منشورات الحرمين، ط1، 1980م، ص261. [19]
– العلامة الحلي، الحسن بن يوسف بن المطهر، منتهى المطلب في تحقيق المذهب، مجمع البحوث الإسلامية، مشهد،ط1، 1414هجري. [21]