تجليّات القيم الإنسانيّة في الأدب العربيّ المعاصر أدب سماح إدريس أنموذجًا
Manifestations of human values in contemporary Arabic literature, the literature of Samah Idris as a model
Dr. Doria Kamal Farahat دكتورة درّيّة كمال فرحات[i]
ملخص
الأدب صورة الحياة، يُعنى بكل موضوع إنساني، وهو وسيلة للتّعبير عن مختلف موضوعات الحياة ومشاكلها، ومن خلاله يمكننا الاطلاع على مختلف المشاعر والهموم أو القيم الإنسانيّة في أيّ زمان ومكان. وسعى الأدباء إلى التّفاعل مع محيطهم، فقدّموا مفهومهم للقيم الإنسانيّة. ويهدف هذا البحث إلى دراسة تجليّات القيم التي يستطيع الأدب أن يعمّقها ويبرزها. ويستند هذا البحث إلى دراسة نتاج الأديب سماح إدريس، وخصوصًا الأدب الموجّه إلى الفتيان، للكشف عن القيم الإنسانيّة المتعددّة التي يمكن غرسها في نفوس النّاشئة، لأنّها مرحلة مهمة تسهم في ترسيخ دعائم مجتمع سليم مبنيّ على قيم تساعد على الحفاظ على كينونة المجتمع مع انفتاحه على العوالم المحيطة.
الكلمات المفاتيح: أدب -القيم – إنسانيّة – الناشئة – مجتمع- إدريس
Abstract
Literature is the image of life as it is concerned with all human subjects. It is a mean of expressing the different themes and problems of life. Thus, writers sought to interact with their surroundings to present their concepts for human values . Actually, this research aims to examine the manifestations of values that literature can deepen and highlight. Hence, it is based on Samah Idris’ literay works, particularly that were directed to young people. In this way, this research reveals the various human values that young people should be equipped with as this stage is very crucial in the foundation of a healthy society based on values that preserve national identity and is opened to the global world.
Key words: Literature -Values- Humanity- Young people- Society- Idris
مقدمة
الأدب تعبير عن تجربة، وإذا كان مدلول التّجربة يذهب أوّل ما يذهب إلى التّجربة الذاتيّة المباشرة أي إلى ما عاناه الأديب نفسه، وما وقع له من خير أو شرّ، فيما وجد أو فقد، فإنّ مدلول التّجربة الحقيقيّ – في عالم الأدب- أوسع من ذلك بكثير، يدخل فيه تجارب الآخرين من أقارب وجيران ومجتمع مباشر. فالتّجارب عديدة ومتنوّعة، والأديب يُثري نفسه بأوسع ما يمكن منها، ثمّ يتبّناها ويُحسن صوغها وتقديمها جميلة مؤثّرة هزّازة لا تكاد ترى فيها السّبب المباشر.
والأدب من غاياته التوصيل، والطّرف الأوّل في التّوصيل هو الأديب الذي يصوغ التّجربة، والطّرف الثاني الذي يتلقّى االتّجربة هو السّامع أو القارئ أو المشاهد، والسّلك الموصّل بين الطّرفين هو اللّغة التي تحمل التّجربة. فالأدب فنّ وسيلته اللغة وبها يتميّز عن الأنواع الأخرى.
والأدب من أشدّ أنواع الفنّ تأثيرًا في النّاس، لذلك يؤدّي دورًا عظيمًا في تربية أفكارهم ومشاعرهم وتكوين شخصياتهم، ومتى كان الأديب قادرًا على تعميق ثقافة القرّاء، ويساعدهم على فهم الأدب المعبّر عن الحقيقة الإنسانيّة، يرقّي أذواقنا، لأنّه يصوّر الوقائع بتعبير فنيّ جميل ينمّ عن تجربة ذاتيّة بطرق متنوّعة، يحاكي في صياغته أحاسيس الإنسان بإيحاءات وتأثيرات، بعيدة من الإخبار.
هذا الأدب قادر على تصوير القيم الإنسانيّة المتعدّدة، وهو مؤشّر لزرع قيم نتوخّاها، ونسعى لتحقيقها. فدوره دور تهذيبي تكوينيّ تحريضيّ، وعليه فإنّ رسالة الكاتب هي الكشفُ للناس عن الحقيقة، وهذا ما عبر عنه الفيلسوف الألماني نيتشه (1938: ز):
“لا يكفي لطالب الحقيقة أن يكون مخلصًا في قصده بل عليه أن يترصّد إخلاصه ويقف موقف المشكك فيه لأنّ عاشق الحقيقة إنما يحبها لنفسه لا مجاراة لأهوائه بل يهيم بها لذاتها ولو كان في ذلك مخالفًا لعقيدته فإذا هو اعترضته فكرة ناقضت مبدأه وجب عليه أن يقف عندها فلا يتردد أن يأخذ بها. إيّاك أن تقف حائلًا بين فكرتك وما ينافيها، فلا يبلغ أول درجة من الحكمة من لا يعمل بهذه الوصية بين المفكرين” .
فمن لم يكن يحيا لكشف الحقيقة كاملة فليستمعْ ما طاب له من نعيم الدنيا لن يكون ذلك كاتبا، إنما هو أفّاك مزِّور لا قدْرَ له ولا مقام له.
ومع قدوم القرن الحادي والعشرين، والتّطورات والإنجازات الحضاريّة والتّقنيّة التي أبدعها العالم ويستهلكها، لم تستطع كل هذه الإنجازات في الوقت نفسه البقاءعلى تلك القيم التي ساعدت الإنسان سابقًا على معايشة واقعه في سلام إلى حد كبير، والتّكيف مع اشكالياته بشكل إيجابي في المجالات كافة: السياسيّة، والاجتماعيّة، والمعرفيّة.
وعليه فإن هذه القيم بدأت تختلّ، وبدأ البعض يبحث عن قيم غريبة عن الثّقافات التي ينتمي إليها، وقد نتساءلهل نحن نعيش حقًا مرحلة من مراحل التّغير القيمي التي ستؤثر في مسيرة الإنسان المستقبلية؟ أو كما يذكر “جيروم بندى” هل نحن فعلاﹰ في زمن ضياع القيم وانتشار مصطلح العدمية، وضياع المعنى، وزوال القيم أو على صدام الحضارات؟ (بيندي وآخرون، 2004: 15).
وإذا كان الأدب يمثّل هذه القيم فإنّ الأديب هو القادر على إيصالها، وقد حفل الأدب العربيّ بأدباء تركوا أثرًا في محيطهم ومجتمعهم، ويهدف هذا البحث إلى دراسة نماذج من الأعمال الأدبيّة االسرديّة التي توجّهت إلى عمر الشّباب والفتيان، وسيتم التّركيز على أعمال الكاتب الدكتور سماح إدريس ومنها رواية الأبواب المغلقة وأعماله التي توجّه فيها إلى الفتيان، لاستخلاص القيم الإنسانيّة وربط ذلك بالتطور التكنولوجي وكيفية مواجهة العلوم الإنسانيّة للحاضر.
وسأعتمد في هذا البحث المنهج البنيوي الذي استند إلى الوقائع والقضايا المتعلّقة بموضوع البحث، والنّظر إليها من زوايا مختلفة في ضوء النّظريات والمقاييس المرتبطة بها، كما يعتمد على المنهج التحليلي لكشف معطيات هذا الواقع وتحليلها.
- أدب الناشئة والفتيان
يعدّ الأدب الموجه إلى الطّفولة بمراحلها العديدة، وهو وسيلة تساعد فى النهوض بالمجتمع كله من خلال النهوض بأطفاله . ويمكن تقسيم الطّفولة إلى مراحل عمريّة لكلّ منها خصائصها وسماتها، ومن هذه المراحل هي الطّفولة المتأخرة، أي المرحلة التمهيديّة والتأهيليّة، لانتقال الطّفل من مرحلة الطّفولة، إلى المراهقة والبلوغ، ويُطلق على الطّفل في هذه المرحلة العمريّة تسمية اليافع أو النّاشئ. والتّربيّة الحديثة ترفع شعار افهموا الطّفولة على حقيقتها، وهذا الفهم “يقتضي أن نعرف أنّ كلّ مرحلة من مراحلها تمثّل عالمًا خاصًّا تنبغي معرفته، بغية تربية الطّفل تربية صحيحة” (لنشون، لا ت، ص 61) ، هذه التّربيّة تتضمّن تنشئة الطّفل على القيم الاجتماعيّة للمجتمع الذي ينشأ فيه هذا الأدب.
ومن هنا فإنّ بناء الطفل في المراحل العمريّة المختلفة تسهم في تكوين الشّخصيّة التي يجري فيها اندماج خبرات الفرد مع صفاته التّكوينيّة “لتشكّل معًا وحدة وطيفيّة متكاملة…، وتستمر هذه العمليّة طوال حياة الفرد”، ويترتب على المجتمع معرفة هذا الطفل الرّاشد، ومعرفة اتّجاهاته وميوله، ومن خلال ذلك يمكنه أن يكتسب القيم الإنسانيّة الهادفة، لذلك يرى جان جاك روسو أن أكثرنا حكمة ” يتعلّمون ما يهمّ البالغ معرفته ولا ينظرون في ما ينبغي أن يتعلّمه الأطفال، فهم يبحثون دومًا لدى الطّفل عن الرّاشد من دون أن يفكروا بما هو عليه قبل أن يصبح راشدًا” (روسو، لا ت، ص 50).
وهذه الطفولة، أو النّاشئة التي تُشكّل نواة المستقبل، تحتاج إلى من ينمّي قدراتها ويوجّهها، ولن يكون الأدب بعيدا من ذلك، فمن هنا جاءت أهمية أدب الأطفال والنّاشئة، ولا يخفى ما له من دور في تغذية الطّفل بالقيم والمعارف، فهو ينمّي قدرات النّاشئة، ويكوّن وجدانهم وعقولهم وفكرهم.
سماح إدريس[ii] من الذين كتبوا لهذه المرحلة العمريّة، اي مرحلة النّاشئة، محاولًا توجيهها إلى ما يراه من قيم إنسانيّة. فكيف تجلّت هذه القيم في أدب سماح إدريس الموجه للناشئة؟
- رواية خلف الأبواب المقفلة
- ملخص الرّواية
تتحدّث رواية خلف الأبواب المقفلة (إدريس، 2014) عن عالم الطّلاّب في الصّف النّهائي من المدرسة، أي صفّ الشّهادة الثّانويّة، وتنقل متاعبهم الدّراسية، وخصوصًا الأزمة التي يواجهونها في تقرير اختصاصاتهم الجامعيّة، وفي خضم هذه المعاناة تركّز على علاقاتهم الحميمة بالجنس الآخر، وتجارب الحبّ الأولى، والتّعبير عن مشاعرهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ولا سيما الـ”فايسبوك”. ومنذ العنوان “يمهّد إدريس للحبكة التي يريدها لعمله الروائي، فهو يدخل خلف الأبواب المقفلة ليراقب حياة المراهقين، فتيات وفتيانًا، وينقل لنا مشاعرهم وأحاسيسهم وأخبارهم وطريقة تعاملهم بعضهم مع بعض. يُدخلنا إدريس إلى حياة عدد كبير من المراهقين، يمنحنا كلّ منهم قطعة من ذاته وأفكاره، ناقلاً لنا أحاسيسه وحيرته وتوقه إلى الحبيب. فيعلق القارئ في دوّامة أفكار واحتياطات يتّخذها البطل المراهق ليحجب مشاعره عن الحبيب المرغوب فيه من ناحية، وليحاول نيل إعجابه من دون الاضطرار إلى فضح عواطفه من ناحية أخرى” (الطويل، 8 أغسطس 2014)، وتسعى الرّواية إلى الدّخول إلى الغرف التي يجلس فيها الفتيان والفتيات خلف حواسيبهم وهواتفهم الذكية، يعبّر فيها الفتيان عن مشاعرهم، بأسلوبهم عبر استخدام أغانٍ شائعة، وأقوال سائدة بينهم، وأقوال متداولة ومعروفة بين جيل الشّباب.
وتبدأ أحداث الرّواية مع البطل “ريّان الحلبي” الذي يقرّر أن يخبر “ربى” بحبّه عبر رسالة خاصة على الفيسبوك، يكتبها باللغة المستخدمة عبر وسائل التّواصل، مستعينا بالرّسومات والتّقنيات المتوفرّة، ثم يتردّد ليرسل كلمة واحدة “بحبك” (إدريس، 2014، ص. 8)، لتتوالى الأحداث ونتعرّف إلى سائر شخصيات القصة، فكلّ منها لها حكايتها، المرتبطة بطبيعة الدّرس أو علاقات حبّ، متعاكسة، فريّان الحلبي مغرم بربى سعيد، وربى تتجاهله وقلبها متعلّق “بسعيد عون”، “لينة الأمين” مغرمة بابن عمّها “كريم الأمين” المخطوب لها منذ سنوات، وهو يحاول التهرّب من هذا الالتزام العائلي، لتعلّقه الشديد بربى سعيد. “ربى” الفتاة نفسها التي يحبّها صديقه ريّان والتي تحبّ سعيد عون صديق شقيقها الذي يدرس الطب. ورائد الطّويل مغرم بمنى تقيّ الدين المغرمة به هي الأخرى لكنّها تحاول إخفاء مشاعرها عبر سخرية لاذعة، وليلى عسّاف الفتاة القويّة الشخصيّة والحضور مغرمة بريّان منذ سنتين ولا تتوانى عن إظهار شيء من عاطفتها نحوه علّه يخجل من نفسه ويمنحها بعض الإعجاب بدلاً من ملاحقته العبثيّة لربى. ومن خلال هذه العلاقات الشّائكة ترسم الرّواية خطوطها الاجتماعيّة، وقيمها المنشودة.
- القيم الاجتماعيّة والسّياسيّة في رواية خلف الأبواب المقفلة
الظواهر السّياسيّة التي يدرسها علم الاجتماع السّياسيّ ليست حديثة العهد كعلم الاجتماع السّياسيّ، لكنّها أقدم من ظهور علم الاجتماع نفسه حيث أنّها قديمة قدم وجود الإنسانيّة ذاتها، حيث اهتمّ علماء العلوم الإنسانيّة الأخرى بدراستها، لكن بشكل محدود، فاتّسم علم الاجتماع السّياسيّ وكذلك العلوم السياسيّة بدراستها بشكل منهجيّ ومنظم (الانترنيت، ويكيبيديا الموسوعة الحرّة، https://ar.wikipedia.org.). والسياسة جزء من الحياة الاجتماعيّة، هذه الحياة التي يستطيع الأدب تصويرها، فمن هنا نجد التّفاعل بين الأدب والمجتمع، ولم يكن سماح إدريس بعيدًا من ذلك في روايته “خلف الأبواب المقفلة”، محاولًا فتح ما غلق منها، انطلاقًا من الاهتمام بدور الشّباب في المشاركة السياسية، لما لهذا الدّور من أثر فعال في المشاركة في المجتمع، مما ينعكس بدوره على تطور المجتمع وتقدم الوطن على مختلف الأصعدة.
يحرص إدريس على تطعيم روايته بأقوال لكتّاب ومفكرين، يقدمون من خلال هذه الأقوال توجههم الوطني السّياسي، فيذكر لجورج برنارد شو ما يفيد بأنّ “الوطنيّة الضّيقة هي اقتناع الإنسان بأنّ بلده أهمّ من كل البلدان الأخرى لمجرّد أنّه ولد فيه” (إدريس، 2014، ص. 27) ، أمّا القول الثّاني فهو لغسان كنفاني: “إذا كنّا مدافعين فاشلين عن القضية، فالأجدر بنا أن نغير المدافعين، لا أن نغير القضية” (إدريس، 2014، ص. 27)، وجاء هذين القولين على صفحة (الفيس بوك) لأحد شخصيات الرّواية ريان، ومن خلالهما يتبين لنا اهتمام العنصر الشّبابيّ بأفكار نضاليّة، والانتماء إلى الوطن.
ويؤكد هذا الانتماء “كريم” الذي يرى في تركه للجنوب انسلاخًا عن هذه الأرض التي انتمى إليها، خصوصًا بعد حرب تموز، فتنازعته مشاعر شتّى” فها هو سيُفصل بعد شهور عن بيته الذي نشأ فيه، وعن الجنوب الذي أحبّه واعتزّ بالانتماء إليه، وخصوصًا بعد فشل الإسرائليين في كسر شوكته عام 2006″ (ص 22)، وهذا الشّعور بالانسلاخ هو عبارة عن شعور المواطن بعدم الانتماء أو فقدان الشّعور بالانتماء إلى موطنه، خصوصًا حين يطغى التّغيير ومواجهة معوّقات اجتماعيّة وسياسيّة تحول دون ترسيخ المواطنة والانتماء. وما يشعر به كريم هو إحساسه بأنّ بيروت أصبحت الهدف المنشود، فعمل والده أصبح ببيروت، وهو عليه أن يجتهد في دراسته الثّانويّة ليستطيع الدّخول إلى كلية الطّب أو الهندسة، فانقطع عن الذّهاب إلى الجنوب لستة أسابيع.
وتشير رواية “خلف الأبواب المقفلة” إلى الأبعاد الطّائفية في المجتمع اللبنانيّ، من خلال موقف اجتماعيّ يرتبط بالزّواج، فمن خلاله يتبين لنا قيام التفكير الاجتماعي على الالتزام الطّائفيّ، فوالدا ربى يبديان رضًى على علاقتها بسمير، “ولماذا يعترضان؟ أليس صديق فؤاد الأعزّ، وسيكون طبيبًا مثله؟ ثمّ إنّه مهذّب، ومن عائلة “أكابر”، ومن الطّائفة نفسها والمذهب نفسه. وهذا يعني أنّ المسألة لن تدعو إلى القلق إن تطوّر هذا الشّغف إلى زواج” (ص 29)، فهذا الشّاب تتوفّر فيه الصّفات الملائمة وما يجعلها مشروعة كونه من الطّائفة ذاتها، والأهمّ أنّه من المذهب عينه، ما يؤكّد نجاح هذه العلاقة مستقبلًا، فلا خوف من إثارة مشاكل قد تؤدّي إلى فشل هذا الزّواج. وإذا كان هذا رأي الأهل، فإنّ فكر العنصر الشّاب في الرّواية يتّجه إلى زاوية أخرى ففؤاد يتمنّى اندفاعًا أقل من قبل أخته، لأنّه يرى فتورًا من قبل صديقه سمير، وهو يقدّر هذا الفتور لأنّ الهدف الآن هو الانتهاء من كلية الطبّ، “بيد أنّه تفهّم فتوره الظاهر: فلربما شعر سمير بالحرج منه، أو كان متردّدًا في الالتزام بأية علاقة جديّة قبل تخرّجه طبيبًا” (إدريس، 2014، ص. 30). طريقة تفكير جديدة يبحث عنها اصحاب العمر الفتي، وليس ضروريًّا السير وفق تفكير الأهل.
والزّواج أو علاقات الارتباط بين الأفراد ومن القضايا الاجتماعيّة التي لامستها الرّواية، وقد برز ذلك أيضًا في علاقة كريم بابنة عمّه “لينة”، “ففي حكم الطّبيعيّ ،الذي لا جدال فيه، أنّ لينة لكريم، وأنّ كريمًا للينة. نقطة على السّطر! هكذا تصرّف أهلهما منذ سنتين؛ وهكذا تصرّف كلّ معارفهما في صور” (ص 21) ، فهذا ضمن المفاهيم السّائدة التي كان يتّبعها الأهل، وكريم قد رضي بذلك في بداية الأمر، واستسلم له، ” كان وجودهما معًا من الأزل إلى الأبد، من قبل تحصيل الحاصل، لا علاقة له بأي شعور مهما كان، وكانت خطبتهما خلال أعوام شبه محسوم لدى الجميع، مع أنّ أحدًا لم يتطرّق إليه علنًا، وعلى الرّغم من أنّ فارق السّن ضئيل بينهما (ستة شهور) لم يكن مستحبًّا لدى أهل كريم بشكل خاص” (ص 40). لكن هذا الاستسلام لم يستمر خصوصًا مع تغير المعطيات لديه عندما سكن بيروت، فأصبح لديه اهتمامات عديدة، لم تعد حياته تقتصر على لينة التي كانت من اختيار الأهل، وإن كان عمرها من عمره وفي هذا مخالفة لمبدأ من مبادئ التقاليد في الزّواج في مجتمعه. إنّ الحياة في بيروت دفعته إلى تغيير مفاهيمه، ويحاول أن يوضّح لابنة عمّه ذلك: ” المشكلة أنّ حياتي تغيّرت تمامًا في بيروت. المدينة سريعة ومجنونة ومتعبة” (ص 40)، ويكمل شكواه من هذه الحياة التي فيها درس كثير، وتحضير، وسهر واستيقاظ مبكر، لكن لم يستطع أن يخبرها السبب الحقيقي، وهو إعجابه بزميلته ربىع المعجبة بشخص آخر.
إنّ هذا التّبدّل عند كريم يعتمد على “التّحولات المقرونة بالانتقال من الرّيـف إلى المدينة” (الموسوي، لا ت، ص 25)، فالرّيف والمدينة كلمتان متقابلتان، بينهما تضاد، وهوّة واسعة، لا يسهل العبور فوقها، وانتقال كريم هنا من الجنوب إلى بيروت العاصمة هو تفاعل مع مجتمع جديد، يولّد لديه قيمًا جديدة وأفكارًا مختلفة، هذه المتغيّرات “ترتكز على ميراث طويل من العزلة، والاستعداد، والاستعلاء” (عبد الله، 1989، ص 179)، ومن الطّبيعي أنّها تتفاعل مع مكوّنات شخصية كريم، فيحدث تكوين شخصية جديدة تعبّر عن آراء جديدة، وتقوم بتصرّفات مختلفة.
ومن القضايا المهمّة التي استطاعت رواية “خلف الأبواب المقفلة” طرحها قضية اجتماعيّة تتعلّق بالاختصاصات الجامعيّة، ومن الطّبيعي ارتباطها بنظرة المجتمع إلى أنّ صاحب الاختصاص العلميّ هو الأفضل، فالأهل دائمًا ينشدون لأبنائهم دراسة التّخصّصات العلميّة كالطّب والهندسة، ويرفضون الدّراسات الإنسانيّة والأدبيّة، بحجة أنّها غير مجديّة، وليست لها القيمة الاجتماعيّة، ولا تقدّم الوضع المادي المريح. فتبرز مشكلة خضوع بعض أبطال الرّواية إلى اختيار الأهل وتلبية رغباتهم، أو لأن بعض التّخصصات ذات حظ أوفر في فرص التوظيف من أخرى، ولذا فالأهل يدفعون الطلبة نحو السعي إلى الحصول على معدلات تؤهلهم لدراسة التّخصّصات العلميّة، فكان امتحان الرّياضيات في الثانوية هو المحك.
وقد أفرد الكاتب سماح إدريس في الرّواية فصلًا أسماه “عذاب الرّياضيات” (إدريس، 2014، ص. 63)، عرض فيه لنماذج عديدة من معاناة الطّلّاب مع هذه المادة وتعرض البعض إلى عقاب قاسٍ من أهله لأنّه لم ينل علامة عالية تؤهّله للتخصّص العلمي، فهذا مروان يحرم من هاتفه الخلوي أسبوعًا كاملًا، فبحسب رؤية الوالد أنّ “الفيسبوك” وما معها من وسائل تواصل اجتماعي، “أنا قلت الفيسبوك وكلّ ها القصص. المسألة ما وقفت على الفيسبوك! نسيت السّكايب، والتّشات، والواتس ب، والتّانغو والـ..؟ دخلك، بعدهم ما اخترعوا سفن آب، ومانغو وديسكو وروك مثلًا؟ طوّلوا والله! وتارع يقول إنّه ما من مرّة إلّا وكانت عيناه منغرستين في آيفونه. في السّرير. تحت الشّرشف. تحت المخدّة. في المطبخ. أتدخله معك تحت الدوش مروان؟” (ص 70)، أعلن الأب غضبه على هذه الوسائل لأنّها ملهاة للشّباب، فمع ادّعاء الابن ببقائه في غرفته ليس دليلًا على الالتزام بالدّرس مع وجود هذه الوسائل، لهذا كان العقاب بحرمانه من أداة اللهو. وما كان قاسيًا على الأب أنّ علامة ابنه قد ذكّرته بتاريخ مؤلم، فباتت المصيبة أكبر: “إنّ عدم خروجه من الغرفة لا يعني أنّه كان يدرس كلّ الوقت؛ ولو فعل اما نال 67 فقط. وياليتها كانت علامة عادية؛ إنّها تذكّره بنكسة العرب عام 1967” (ص 69).
وتقف الرّواية عند أهمية الآداب والعلوم الإنسانيّة وقدرتها على تلبية تطلّعات الإنسان الجديدة، وأهمية التّوفيق بين المعارف، وذلك عبر تغيير مسار تعليم بعض الطّلاب، فتوجّهوا إلى الدّراسات الإنسانيّة، فمن خلال نقاش عبر “سكايب” بين ريّان وليلى، تنجح ليلى في إقناعه بضرورة انتقاله إلى دراسة اللّغة العربيّة، وتجنّب التّعثّر المتكرّر في امتحانات الرّياضيات التي يدرسها مكرهًا، ووتبدي له إعجابها بما يكتبه على “الفيس بوك”، وتقنعه بأنّه لا ضرورة لأن يدرس ما يكرهه لأجل المال، بل إنّه يستطيع الحصول على المال من دراسته لما يحبّ: “من الممكن أن تُنهي البكالوريس في الأدب، أو الصّحافة، أو المسرح، أو أي شيء آخر تحبّه، ثمّ تحصل على محنة دكتوراه في الخارج وتصبح أستاذًا في الجامعة هنا، بمعاش كذا ألف دولار في الشّهر” (ص 96). إنّها تؤكّد أنّ دراسة هذه التّخصّصات التي تنتمي إلى العلوم الإنسانيّة لم تعد من الكماليّات.
ولم يكن قبول ريّان سهلًا للفكرة، فالوضع المادي الصّعب الذي يعاني منه لبنان، يحثّ الطّالب على اختيار التّخصّص القادر على تأمين الماديات المطلوبة، ” وانطلق يحدّثها عن مشاكل البلد الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وعن تظاهرات أساتذة التّعليم الخاص والعام، وعن غلاء الشّقق والمدارس، و عن فوايتر الهاتف الخلوي والكهرباء، وعن ألفِ قضية أخرى”، ويستمر محاولًا تقديم حججه ودلائله على صحة رأيه، وفي هذا تلامس الرّواية بشفافية الواقع الاقتصادي اللبناني، وتنقل صورة تستدعي دراسة جدوى تنوّع التّخصّصات، وخصوصًا التي تنتمي إلى حقول العلوم الإنسانيّة، لأنّها مشروع لإنتاج أمّة وصناعتها لتكون أكثر إزدهارًا ورخاءً وأمنًا وأكثر محافظة على هويتها في ظل هذه العولمة الجارفة التي لا تكاد تبقي وتذر. فالتّوجه إلى الإنسانيات هو توجّه نحو الحلّ ونحو الخلاص، فلا بدّ لنا من هذه العلوم حتى نحافظ من خلالها على جوهر الإنسانيّة (الشامي، مدونة الجزيرة، https://blogs.aljazeera.net/blogs). وبذلك نكون أكثر قدرة على التّكيّف وعلى الإبداع، لأنّها مصدر قوة الفرد والمجتمع وبذلك فهي مصدر قوّة الدّولة.
وتنتهي أحداث الرّواية، بطلب ريّان من المديرة أن تنقله إلى قسم الإنسانيّات، فيقول لها “لقد قرّرت ألّا أبقى في قسم علوم الحياة. مسّ هيفا، أنا أكره الرّياضيات. أكره الفيزياء. أكره الكيمياء. أنا أحبّ الأدبيا مسّ. أحبّ الكتب التي على رفوفك. أريد أن أكون روائيًّا، مسرحيًّا، كانت سيناريوهات، ناقدًا، كاتب أطفال، شاعرًا، أستاذًا جامعيًّا ربّما، لا أعرف بالضبط. لكنّني لا أستمتعُ إلّا بالقراءة، والكلمات، والحورات، والمشاهد.أريد أن أنتقل إلى قسم الإنسانيّات، يا مسّ الأرقام لا تعني لي شيئًا، ولا المعادلات، ولا الشكال الهندسيّة، ولا الجداول، ولا الإحصاءات، ولا الأنابيب، ولا الشّرايين، ولا …” (إدريس، 2014، ص. 117). إنّه تغير في الموقف ليس فقط من باب الكره للمواد العلميّة، أو عدم القدرة على فهمها، إنّما محبّة في اللغة العربية والرّغبة بالإبداع الأدبي، وهذا دليل على المصالحة مع الذّات ومعرفة ما تريد، واتّباع ما تهواه النّفس. ولم يقتصر الأمر على ريّان، فليلى أيضًا تعلن أنّها تريد الانتقال إلى قسم الإنسانيّات لأنّها “منذ مدّة تفكّر في أن تتخصّص في التّاريخ أو السّياسة أو علم نفس. المضحك يا مسّ هيفا أنّ ريّان هو الذي ساعدني على اتّخاذ هذا القرار من دون أن يدري” (ص 116) ، نعم فقد كانت تحاول أن تقنعه باتّباع أهوائه فاكتشفت ماذا تهوى.
هي رسالة يحاول أن يقدّمها سماح إدريس من دون أن يتّخذ دور الواعظ أو الموجه أو المرشد، إنّما قدّم لنا مشاهد متعدّدة لفتيان وفتيات، بشكل صور متلاحقة تنقل لنا طبيعة العلاقة بينهم، معبّرًا عن واقعهم مستخدمًا أسلوبهم المعاصر من استخدام الأغاني، إضافة إلى ولعهم بوسائل التّواصل الاجتماعي، مستخدمًا تقنياتها، والقارئ للرّواية يشعر بوقع الصّدمة في بادئ الأمر، لما يراه في الرّواية من ميل إلى مصطلحات تختصّ بجيل الألف الثالث، لكنّ أحداث الرّواية تقودنا إلى واقع آخر يقدّم من خلاله إدريس غايته من النّصّ، فهو يخاطب هذه الجيل بطريقة سلسلة محبّبة، تشبه حبة “الشّكولا” الهشة الخفيفة، لكن ما إن ينتهي منها حتى يشعر بطعمها اللذيذ، فيطلب المزيد، فهي وإن كانت موجهّة إلى الفتيان والفتيات، لكنّها لم تخرج عن قضايا المجتمع ومشاكله، معالجًا إياها بأسلوب سلس جميل.
- قصة الملجأ
2.1. ملخص القصة
يقدّم إدريس في “الملجأ” (إدريس، 2009) قصة عن الحرب اللبنانية، ويوجّهها للفتيات والفتيان. فهو يسرد قصة مثيرة بسيطة عن فتى وفتاة، إبّان الحرب اللبنانيّة، وعن مغامراتهما أثناء نوبات القصف المجنون التي كانت تنتاب المتقاتلين. تبدأ القصة بحادث سيارة يقع بين اثنين أوّلهما مازن، ولم يكن السّائق الآخر إلّا الأستاذ حسن، جارهم القديم في البناية، لتكون الانطلاقة لتذكر ما سبق، والعودة إلى أيام الملجأ الذي كان في أسفل البناية، وكان سكان البناية يحتمون فيه من قصف المقاتلين، ويسرد لنا مازن كيفية تقسيم الأدوار بين أهل البناية، وما هو واجب كلّ عائلة في إحضار ما يلزم عند النّزول إلى الملجأ، وتتأزم حبكة القصة عندما يكتشف مازن أنّه نسي تأمين “الكاتول” أي قاتل البرغش، فأمران كان يصعب احتمالهما هو صوت القصف والقنابل، والبرغش الذي يسبب الأذية من أزيز صوته ولسعاته، فينال اللوم من الجميع.
وليتخلّص من هذه “البهدلة” يقوم بمغامرة تأمين “الكاتول”، فبعد نيام الجميع يقصد منزله في الطابق الرّابع ليحضر “الكاتول” ولينقذ كلبه سلطان الذي نسيه في قفصه ولم يُنزله معه إلى الملجأ، ولكن يحدث ما لا يُحمد عقباه، فقد تجدّد القصف، وسمع ذلك الصّفير ووقع الانفجار، فيقع أرضًا، ليسرع لاحقًا إلى الملجأ وسط رعب الجميع، ومعه سلطان، ولكن كان “الكاتول” قد وقع منه، ما يزيد من إحساسه بالألم.
وتستمر مغامرة مازن مع ابنة الجيران ثريا التي تكبره بسنتين، لكن كان يرى فيها القوة والصّلابة والجرأة، فكانت هي المحرّض على اكتشاف سرّ غرفة الأستاذ منقور في الملجأ، وهي غرفة سبق أن أجرّها لسمير العواد وبقيت مغلقة يكتنفها الكثير من الأسرار والأقاويل، فيخطّطان لاقتحامها، ويتحقّق لهما ذلك، ليكتشفا أنّ السّرّ ما هو إلّا أكياس من الملبس والحلوى، فتستمرّ مغامرتهما في السّطو على هذا الكنز، إلى أن يقعا بيد سمير العوّاد، ويقدّم لهما ورقة فيها حساب ما أخذاه من الحلوى. ولتبقى هذه الحلوى هي الرّابط الذي يقود مازن للعودة إلى دكان العواد ليشتري منه، أمّا “الملجأ فلم نعد إليه طوال سنوات… مع أنّه كثيرًا ما يعود إلينا” (إدريس، 2009: 53).
2.1.2. القيم الاجتماعيّة والسّياسيّة في قصة الملجأ
استطاع الكاتب في هذه القصة أن ينقل لنا تفاصيل بيروت في زمن القصف، وفي حقبة الحرب الأهليّة في لبنان، التي تحدّث عنها الكثير، لكن أن نحدّث بها الفتيان والفتيات في قصص موجّهة لهم، لهو أمر غير معتاد، وهذا ما قام به الكاتب سماح إدريس، فإنّ الكتابة عن الحرب اللّبنانيّة جرأة وتوجيهها إلى المراهقين جرأة أكبر، ويشير إلى ذلك مازن بعد عودته من شريط الذّكريات: “كانت تلك ليلة، يا أصحابي، ليلة بسيطة من ليالي الحرب اللّبنانيّة التي امتدّت بين عاميْ 1975و1990. أعرف أنّ كثيرًا منّا، اليوم، لا يريد أن يذكر تلك الحرب، ولا أن يُخْبر أولاده بما حدث لنا…أو بما فعله بعضنا” (ص 118). إنّه يستعيد ما حدث في الماضي، ما سبق أن حدث، فالاسترجاع يتمّ بوساطة التّفاعل بين الحاضر والماضي، فتنصهر المسافتان الزّمنيتان في إيقاع واحد (طالب، 2005، ص 43)، فكانت القصّة قادرة على نقل تفاصيل الحياة في بيروت لحظة وقوع القصف، والملجأ وإن كان مكانًا محصورًا، لكن من خلاله رسم الكاتب الحالة النّفسيّة للنّاس الذين يمثّلون عيّنة من أفراد المجتمع.
فالأطفال كان الملجأ بالنّسبة إليهم مصدر فرح، فإذا كان الأهل يفرحون ويشعرون بالآمان لعودتهم إلى بيوتهم وترك الملجأ، فالأطفال يرون أنّ الأيام التي يقضونها بالملجأ أفضل من غيرها، “ولكنّني أصارحكم بأنّني كنتُ أشعر في مثل تلك الأسابيع بالحزن؛ فالملجأ كان مصدر فرح لنا، نحن الأولاد ننتظرُه بفارغ الصّبر لنلهو مع أولاد الجيران الذين يذهبون إلى مدارس مختلفة، ولنعرض عليهم مُقتنياتنا ومهاراتنا الجديدة” (إدريس، 2009: 14)، إنّ مفهوم الملجأ قد اختلفت بين جيل الكبار وجيل الصّغار، وإن كان قد جمعهم همّ الرّعب من القذائف والصّواريخ التي تهطل، ما ينبّه الجميع بضرورة الدّخول إلى الملجأ، الذي وحّد الجميع مهما تنوّعت مشاربهم ونفسياتهم.
فنجد “أم هاني” إحدى الجارات في البناية الرّافضة لوجود الحيوانات، ترى أنّ للكلب ضررًا، ويكفيهم ما يعانونه من القلق، والتّأزّم النّفسي من القصف، فتصرخ بوجه مازن: “هِشْ. هذا ما ينقصنا. كلب! ما أوسخه! ارْمِه في الشّارع. تخلّص منه. كلّه ميكروبات!” (إدريس، 2009: 17)، وفي مقابل موقف أم هاني نتلمّس موقف مازن المحبّ لكلبه “سلطان”، ويراه قادرًا على التّفاهم مع البشرن ويدرك ما يقولون، فيردّ “سلطان” على ما تقوله أم هاني حيث يهرع إلى مكان جلوس مازن، ويتكوّم بين ذراعية وساقيه، و”هو يَحْدِجُ أمّ هاني بنظرة أسف وعتاب”، ويصل الأمر بمازن أن يعرّض نفسه لخطر القصف لإنقاذ كلبه. إذًا تعتمد القصة على رسم التّضاد بين مواقف الشّخصيات نحو الحيوانات، لتشير إلى موقف ينشده الكاتب، وهو ما سنراه أيضًا في أغلب قصصه، وهو الموقف المحبّ لعالم الحيوان، وعدّه عالمًا موازيًا لعالمنا، ويمكن اتّخاذ الحيوان صديقًا لنا، نعامله معاملة حسنة فيرد ذلك بموقف مماثل، وربما أفضل.
ومن المواقف التي عرضتها الرّواية ما له علاقة بمغامرة مازن وثريا التي ندرجها في خانة السّرقة، عندما قاما بسرقة الحلوى من غرفة سمير العواد، ظنًّا منهما أنّهما يكتشفان سرّ هذه الغرفة، وما يحاك حولها من شائعات أهمّها شائعة احتوائها على المخدّرات، ولا يمكن حسبان هذه المغامرة هي من باب التّسلية للفتيان والفتيات فقط، فهي تقدّم إيحاءات تربويّة مهمة، تبين آفة السّرقة، لكن اللافت أنّ الكاتب قد عرض للسّرقة وجعل من يقوم بهذا العمل هما من بيئة تتميّز بقدر مقبول من التّربيّة وغير مهيئة للسّرقة، وهو ما لم نعتد عليه في القصص التّربويّة التي تنشد الصورة المثاليّة دائمًا، إذا الكاتب يحاول أن ينقل الواقع كما هو من دون تزيين أو تشذيب، ومع اهتمام الكاتب بالبعد التّربويّ لكن لم يؤطّر نفسه كواعظ وكاد أن يقع في ما تقع عليه الكتب التّربوية، أو “الكتب المدرسية عمومًا، لولا المواقف الطريفة والفطِنة والشخصيات الحقيقيّة التي شكّلت محاور رواياته الصغيرة. ومن هنا الكلام على اللباقة والأناقة في نقل واقع الحرب” (رضا،www.alhayat.com/article/1237026.)، وما ذلك إلّا لاهتمامه بنقل الحقائق والواقع كما هو. فالرّواية تحاول أن تقدّم عرضًا لحياة الفتيان والمراهقين، وما يمكن أن يشغل بالهم في الحياة، فإنّها قدّمت معلومات عن أنواع الأسلحة، وأشارت إلى علم السّياسة المتعلّق بالأطراف المتناحرة، وكيفية القتال بينها، ودوافع كلّ طرف، محاولًا من خلال ذلك تقديم الحلول لمن عاش هذه الظّروف، مصوّرًا هذا الواقع الحياتي لبيئة الحرب.
- قصة فلافل النّازحين
3.1. ملخص القصة
“فلافل النّازحين” (إدريس، 2011) رواية للفتيان والفتيات، تدور أحداثها في صيف 2006، ومع بداية العام الدّراسي، ويتعدّد الرّواة فيها، بدءًا من”وردة” الفتاة ابنة الثّالثة عشرة التي تعاني من هاجس تبدّل أصدقائها في المدرسة مع انتقالها إلى الصّفّ الأعلى، مروراً بشقيقها الصّغير “رامي” المتعلّق بألعابه، ووالدتهما “جوسلين” التي تقضي أغلب وقتها في مناصرة الطّبقات الاجتماعيّة المتدنيّة، ووالدهما عدنان الصّافي المسؤول في أحد الأحزاب التّقدميّة الذي غالبًا ما يختلف مع زوجه، وتبرز معاناة وردة بسبب خصام والديها، ما يسبّب القلق الدّائم لديها، وتخشى طلاقهما، لهذا تسعى إلى مصالحتهما، على الرّغم من زواجهما بعد قصّة حبّ ومواجهة الأهل، فعدنان عارض أمّه التي رفضت زواجه من امرأة تكبره سنًّا، اعتقادًا منها أنّ المرأة تظهر عليها سمات الكبر أسرع من الرّجل، وكذلك عارض والده الذي رفض أن يتزوّج ابنه زواجًا مدنيًّا، كونه مسلمًا وجوسلين مسيحيّة. أمّا ما يجمعهما فهو اشتراكهما بالعمل السّياسيّ والشّؤون الاجتماعيّة، ومن شدّة اهتمامه بالعمل الاجتماعيّ أنّه عرّف جوسلين في أثناء خطوبتهما على بعض الكتب التي تتناول حريّة المرأة. ليعود عدنان وينتقد زوجه بعد حصولها على وظيفة، فيرى أنّها أهملت بيتها، فتتهمه بالازدواجيّة لأنه لا يطبق أفكاره التّقدميّة في تعامله معها.
من خلال عرض أحداث القصة يبدو أنّنا قادرون على أن نستشف جزءًا من حياة الكاتب، أيّ أنّها أقرب إلى السّيرة الذاتيّة، لكنّ القصة لم تقف عند حدود هذه العلاقات الاجتماعيّة، إنّما كان لأحداث حرب تموز في 2006 أثر بارز في أحداث القصّة، حيث تذهب العائلة بأكملها إلى حديقة الصّنائع[iii] التي استقبلت النّازحين في أثناء حرب تموز حيث حماسة الاندفاع إلى مساعدة الآخرين تتداخل مع الخوف والحذر. يقوم الأبوان بمساعدة النّازحين ويدفعان بولديهما الى التبرع بألعابهم. وهناك يتعرّفون على نماذج من الأشخاص الذين عانوا من الحرب. وتكبر معاناة وردة عندما تعود إلى المدرسة، وتحرج أمام زملائها حول قضاء عطلتها، فهم يخبرونها عن عطلتهم التي قضوها في فرنسا، فلا تجد نفسها قادرة على التّصريح بأنّها قضت إجازتها في مساعدة النّازحين بحديقة الصّنائع، وتلقي اللوم في ذلك على والدها الذي علّمها مبادئ لا يؤمن بها الآخرون.
وحوراء الفتاة الجنوبيّة من الذين تتعرّف وردة والعائلة عليها في حديقة الصّنائع ، وحوراء لا تعرف شيئًا عن مصير أمّها التي بقيت في الجنوب بعدما نزحت وأباها إلى بيروت. ولا تلبث أن تجتمع العائلة الجنوبيّة (حوراء وأمها وأبوها) في آخر أسبوع من الحرب عندما تقصف منطقة الشياح. وهنا يتكشّف لنا العنوان “فلافل النّازحين، فندرك أنّ هذه الفلافل كانت من أجمل اللّحظات التي كان فيها والدا حوراء يقضيانها في أثناء خطوبتهما، “بتعرف، إستاز، شو ما بيخلّيني انسى خديجة ولا تكّة؟. أصمتُ. أوّل ما تعرّفت عليها، نزلْنا بالسرفيس[iv] على بيروت. اشتريْنا سندويشتين فلافل من الحمرا[v]. وبتعرف وين جينا أكلناهلن يا إستاز؟ أربّتُ على كتفه وألتزمُ الصمتَ” (إدريس، 2011: 98)، ينزلان إلى بيروت، ليستمتعا بالفلافل في حديقة الصّنائع التي كانت لذّة اللقاء قديمًا وحلاوة اللقاء من جديد.
- القيم الاجتماعيّة والسّياسيّة في قصة فلافل النّازحين
تعدّدت القضايا الاجتماعيّة والسّياسيّة التي تعرضها قصة “فلافل النّازحين”، فالقصة تعتمد في حبكتها على حقبة تاريخيّة حقيقيّة مرّ بها لبنان، وهي أحداث حرب تموز 2006، “… وفي 12 تموز تحديدًا، شنّت إسرئيل حربًا ضخمة على لبنان. كام حزب الله قد نفّذ عمليّة على الحدود مع فلسطين، أسر من خلالها جنديين إسرائيليين وقتل ثمانية جنود آخرين، وهدفه كما قال: تحرير أسرى لبنانيين في السّجون الإسرائيليّى، وأحدهم، سمير القنطار، ما زال هناك 28 عامًا. على الفور، اجتاح الجيش الإسرائيليّ جنوب لبنان، وهدمَ معظم الجسور لقطع خطوط الاتّصال بين المقاومين وقيادتهم” (إدريس، 2011: 25). وما نتج عن هذا الاعتداء من نزوح للمهجّرين من الجنوب، فوجدوا في حديقة الصّنائع ببيروت الملاذ لهم. يحاول إدريس في هذا النقل الدّقيق للحرب توثيق هذه المرحلة في أذهان الفتيان والفتيات، الذين ينفرون عادة كتاب التّاريخ المدرسيّ، فينقل لهم هذه الحقائق بأسلوب محبّب قريب، ويقول إدريس: ” شيئًا فشيئًا رحتُ أدرك أنّ السّياسة ليست غائبةً عن قصص الأطفال وكتاب التربيّة، بل حاضرة بقوّة لصالح صورة ورديّة عن كلّ شيء في لبنان” (إدريس، 26 حزيران 2012).
وقد نجحت هذه القصة في نقل صورة التّآزر المطلوبة مع هؤلاء النّازحين، وفي ذلك تعميق حسّ المواطنة الضّرورية، فاندفعت عائلة عدنان لمساعدة النّازحين وتقديم المساعدة لهم، ولو كان ذلك بتقديم جزء من الألعاب الخاصة، ولم يكن ذلك سهلًا على الطّفل رامي، الذي رفض ذلك في بادئ الأمر، لكن مع محاولات أخته بتعنيفه ونعته بالأناني، أو محاولات والدته بضمّه إلى صدرها إقناع والده له بجدوى ذلك: ” إنّنا لا نعطي تلك الأشياء لأنّنا نُشفق على أحد بل لأنّ ذلك جزء من مسؤوليّتنا تجاه شعبنا. كان يمكن أن نكون نحن أيضًا نازحين في الصّنائع لو كنّا نعيش في بنت جبيل مثلًا” (إدريس، 2011: 30). فينتهي الأمر بأن يختار رامي لعبته القرد “دهشان” ويضعه في صندوق وردة. ومن الواضح هنا أنّ القصّة تدعم الشّعور بالمواطنة الذي لم يأتِ لم يأت نتيجةً للثقافة، وإنّما نتيجة للاندماج العائليّ والانخراطِ الوطنيّ في مواجهة آثار العدوان. المواطَنة ليست موقفاً عقليّاً مجرّداً، بل خلاصة تجربة حياتيّة، والمواطنة عبارة عن التزامات متبادلة بين الأشخاص والدّولة، فالشّخص يحصل على حقوقه المدنيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة نتيجة انتمائه لمجتمع معين، وعليه في الوقت ذاته واجبات يتحتّم عليه أداؤها، فالمواطنة تشير إلى الانتماء إلى الوطن، وهذا التآزر هو تعبير عن ذلك.
ولم يكن رفض رامي أمرًا مستهجنًا، فإدريس يدرك الواقع النّفسي للطّفل، فلا يجب أن نقلِّل من أهمية اختيار الأطفال للعبهم، فقد يعكس ذلك جوانبَ نفسية خفيّة من شخصيتهم، ومن الطّبيعي أن يكزن لدى الطّفل دافع التّملّك، وذلك من خلال الرّغبة لديه باقتناء الأشياء والمحافظة عليها، أو الميل نحو بناء مجموعات من الأغراض الشّخصيّة والحفاظ عليها حتى لو لم تكن لديهم حاجة بها، وهكذا كانت علاقة رامي بلعبه وخصوصًا دمية القرد الذي أطلق عليه اسم “دهشان”، وادراك الكاتب لأهمية الألعاب في نفسية الطّفل، جعله يجعل “دهشان” راويًّا من الرّواة في القصّة، فيخبرنا كيف تعلّق به رامي، وإصراره على شرائه عندما حضر ليشتري لعبة لرفيقه، يقول دهشان: “رفضت الماما شرائي وذكّرتْه بما وعدها به قبل المجئ إلى المحل: أنّه لن يشتري لنفسه شيئًا. لكنّه شدّني إلى صدره بقوّة. حاولت سحبي منه، فرمى بنفسه أرضًا وهو يحتضنني. انتزعتْني منه بالقوة، ثمّ حطّتني على رفّ عالٍ لا يمكنه الوصول إليه. لكن في الصّباح التّالي، وكان يوم سبت أو أحد بالتّأكيد، جاء رامي، مع البابا هذه المرة، واشترياني، وما زلت إلى اليوم لا أعرف ما حدث تلك الليلة” (ص 58). إصرار كبير من رامي لاقتناء هذه اللعبة، وقد حرص لاحقا على اختيار الاسم المناسب لها، واهتمامه به مدّة من الزّمن إلى أن أصبح لعبة مركونة على رفّ في غرفته، لكنّ هذا الحنين يعود عندما يريد التّبرّع به، ولعلّ اختياره لهذه اللعبة بالذّات دليل على أنّه يقدّم أغلى ما عنده.
وإذا تعلّق رامي بدميته، فوردة عاشت القلق النّفسي في مواجهة زملائها في المدرسة ولم تستطع التّصريح بما فعلته في عطلتها الصّيفيّة، خصوصًا بعد أن سمعت أخبار عطلتهم التي قضوها في أوروبا وأميركا وتمضية الوقت بالشّراء والتّمتع بالأماكن الجميلة؛ فماذا تقول، صراع نفسيّ بين تأدية الواجب وبين الاهتمام بالمظاهر الاجتماعيّة الزّائفة، “قلبي يدقّ بقوّة: كيف سأحكي حين يحين دوري، عن جنينة الصّنائع؟ سيقولون إنّ أهلي مجانين. سيقولون إنّ النّاس الطّبيعيين في زمن الحرب، يهربون طلبًا للأمان، في حين ذهبت عائلتي إلى حيث التّهجير والتّعتير. سيقولون إنّني شايفة حالي. فكيف لو يعلمون أنّنا ذهبنا، بعد نهاية الحرب، إلى سلعا وزبقين ومركبا والطّيبة لمساعدة الأهالي الذين عادوا إلى بيوتهم..” (إدريس، 2011: 53)، نعم هو صراع بين الواجب وبين الخجل، صراع بين الإحساس بأنّ ما قامت به هو عمل بطوليّ يستدعي الفخر والإحساس بالزّهو: “عليك إلّى تستحي يا بنت ممّا فعلته! لكن كيف أقوله من دون أن يظنّني التّلاميذ متعالية عليهم؟ ألن يتأفّفوا منّي لو تحدثّت عن المسؤوليّة والوطنيّة؟ ألن يظنوّا أنّهم في صفّ التّاريخ؟” (ص 54)، هي تعوّدت ذلك من والديها فهما شاطران في هذه الأشياء، فيتحدثان عن المقاومة والوطنيّة.
صراع ينتهي بأن تكذب وتقول إنّها ذهبت إلى شيكاغو، لكنّها تعود لتلوم نفسها على كذبها، فهي تفخر بما قامت به، خصوصًا لما فيه من إثارة وتنوّع، لكنّ خوفها ربما يعود إلى أنّ المعلّمة ترفض السّياسة في الصّف، وقد تفّض علاماتها بحجّة “أنّ المقاومة دمرّت البلد من شان كم أسير ومزرعة” (ص 77)، هي قضية مهمة في مجتمع كلبنان الذي تختلف فيه الانتماءات والأفكار والتوّجهّات، فتضعنا الرّواية في مواجهة الآراء المختلفة، ما يدفع وردة إلى أن تشعر بالغضب من والديها: “لماذا ورطاني في أشياء لا أعرف كيف أن أدافع عنها أمام النّاس” (ص 77)، وما هذا الغضب إلّا الغاية التي أرادها سماح إدريس ليضع الجيل الجديد في مواجهة لواقعه السّياسي الذي يعيشه.
وإذا قدّمت لنا القصّة موقفًا وطنيًّا مهمًّا، فإنّها وضعتنا أيضًا أمام تعدّد المواقف البارزة في المجتمع اللّبنانيّ حول الطّائفيّة، وذلك من خلال قضية زواج عدنان المسلم من جوسلين المسيحيّة، ولم يقتصر الرّفض من قبل والد عدنان، إنّما رأينا ذلك عند أمّ موريس والدة جوسلين، فنراها تقف معترضة على هذا الزّواج، وتنعت من كان من غير الطّائفة بأنّه غريب: “بتحبّي ألف واحد غيرو يا بنتي!… طايفتنا ما بقى فيها رْجال بينْحبوا حتّى نتزوّج من غِرِب؟” (ص 72)، لكنّها تخضع نظرًا لاصرار ابنتها وتمسّكها بحبّها. ويستمرّ الصّراع عند أم موريس من خلال (صبحيّة) مع جاراتها، فكانت تحاول تغيير الحديث عن سلوك أحفادها الدّينيّ، لكن يأتيها الرّد بأمثال شعبيّة تشير إلى ضرورة التمسّك بالطائفة: ” زوان البلد ولا قمح الغريب”، ” اللي بيطلع برّات تيابو بيبرد”، “اللي بياخد من ملّة غير ملتو، شو بصيير فيه يا إم موريس؟ بيوقع بعلّة غير علتو! يعني بيزيد على مصيبتو مصيبة جديدة. الله ينجّينا!” (ص 71- 72). من خلال عرض هذه القضية في هذه القصة الموجهة للفتيان، ما هي إلّا إشراك هذا الجيل بمشكلة اجتماعيّة يعاني منها المجتمع اللّبنانيّ، وتترك أثرًا في يومياته وعلاقات أفراده مع بعضهم البعض، وهذه المشاركة مع هذا الجيل ما هو إلّا لتحفيزهم على إيجاد الحلول.
ومن القضايا الاجتماعيّة التي أثارتها القصّة ما له علاقة بمسألة وضع المرأة العربيّة والمساواة بين الرّجل والمرأة، فمن الأسباب التي أدّت إلى الخلافات بين عدنان وجوسلين، هو تبدّل التّفكير عند عدنان، فبعد أن كان يهتم بوضع المرأة العربيّة، وباحترامه لعمل المرأة، بدأ بتوجيه الاتّهامات لزوجه ما أثار دهشتها، “لذلك لم أصدّق أذنيّ حين سمعته بعد سنوات من زواجنا، يتّهمني بإهمال البيت والولديْن! كنت أعتقد أنّه سيقدّر عملي الجديد، فيشاركني أعمال البيت والتّنظيف والطّبخ والجلي ورعاية الولديْن، استنادًا إلى المبادئ التّقدميّة التي فلقني بها منذ أيام لقائنا الأولى، وإلى الكتب التي أعارني إيها أثناء فترة خطوبتنا” (إدريس، 2011: 17).
الخاتمة
جال هذا البحث في نماذج من أدب سماح إدريس لأدب النّاشئة، هذا الأدب الذي يقع بين مستويين، فلا هو يناسب الأطفال الصّغار، ولا ينتمي إلى أدب الكبار، لكنّه الأدب الذي يمهّد للانتقال من أدب الأطفال إلى مرحلة البلوغ. وما أحوجنا في هذه المدّة أن نقدّم أدبًا يناسب هذه الرحلة، لهذا يمكن القول إنّ سماح إدريس تصدّى لهذا الأمر، وكان موفقًا فيه.
فمن الملاحظ أنّ معظم الكتابات الموجهة لهذه المرحلة ركّزت على تقديم المعرفة الثّقافيّة، وأغفلت التّوجه إلى القيم الإنسانيّة والأخلاقيّة ومنها قيم التّسامح والمحبة والعطاء وغيرها من القيم. ومن هنا يمكن استخلاص القيم التي برزت في أدب سماح إدريس وتبيان تجليّاتها فيه:
- برز التّفاعل بين الأدب والمجتمع ولم يكن إدريس بعيدا من ذلك.
- الاهتمام بدور الشّباب في المشاركة السّياسيّة، وضرورة توجيه هذه الفئة إلى التّعبير الحرّ، القائم على فكر وثقافة، مستعنين بأفكار من سبقوهم ومن جاربهم، ولهذا اهتمّ الكاتب بالاستعانة بأقوال المفكرين.
- اهتمّ سماح إدريس بالآداب والعلوم الإنسانيّة، وضرورة توجيه الجيل الجديد إليها، لما فيها من تعميق للقيم الإنسانيّة.
- الابتعاد عن دور الواعظ والمرشد، والانطلاق من ميول المراهقين ورغباتهم، وبذلك نعيش معهم أشجانهم وأهواءهم، ومن خلال ذلك يمكن الوصول إلى تركيز مفهوم القيم لديهم، ووضعهم في أجواء مشاكل المجتمع وقضاياه.
- اهتمّ الكاتب بقضايا عديدة، منها ما له علاقة بمسألة وضع المرأة والدعوة إلى تأمين حقوقها.
- عرض القضايا المتعلّقة بالطائفيّة السّائدة في لبنان، وأزمة الصّراع مع الكيان الصّهيونيّ، بأسلوب محفّز ومشجع إلى تبني الرأي من دون تحويل ذلك إلى خطابات جماهيريّة أو استعراضات مهيبة.
- الدعوة إلى التّآزر الإنسانيّ، والتّعاون لما فيه خدمة المجتمع، انطلاقًا بما يتناسب مع التّركيبة النّفسيّة للناشئ في هذه المرحلة.
- تقديم تفاصيل عن تاريخ لبنان وجغرافيّته وتركيبته السّكانيّة، في ثنايا العمل السّرديّ، ما يبعد الملل عن الناشئ، ويقدّم له المعلومات بأسلوب مشوّق ومرن.
إنّ أدب سماح إدريس إضافة لما قدّمه من عمل سرديّ متكامل في لغة مرنة، قريبة من لغة الحياة، وبما فيها من تجدّد وحيوية، كان معبّرًا عن القيم الإنسانيّة، وقادرًا على جعل هذه العلوم الإنسانيّة علومًا مسايرة للحياة، مساهمة في رفعته وتطوّره. وإنّ البحث في الأدب الذي يتناول القيم الإنسانيّة هو بحث متجدّد ومتحوّل بحسب تحوّلات الحياة وتغيّراتها، ومن المهم عدم توقّف هذه الدّراسات، لأنّ في توقّفها موتًا للحياة، وتدميرًا لما فيها من قيم.
الهوامش
[i] – أستاذ مساعد، الجامعة اللبنانيّة-كلية الآداب/ الفرع الخامس
Assistant Professor, Lebanese University – Faculty of Letters & Human Sciences / Fifth Branch
Email:dorriaf@hotmail.com
-[ii]سماح إدريس : رئيس تحرير مجلة الآداب الورقيّة (1992 ـ 2012) والإلكترونيّة (2015 ـ…). له كتابان في النقد الأدبيّ، وأربعُ رواياتٍ للناشئة، وإحدى عشرة قصّة مصوّرة للأطفال، وعشراتُ الدراسات والمقالات والكتب المترجمة. استصراح مع الكاتب بتاريخ 18/12/2019.
[iii] حديقة الصنائع هي حديقة عامة في العاصمة اللبنانيّة بيروت، تعدّ الحديقة كأحد آخر المتنفسات الخضراء لأهالي المدينة.
[iv] السرفيس : Service de transport de voiture كلمة مستخدمة في لبنان للدّلالة على سيارة الأجرة.
[v] الحمرا: هو أحد الشوارع الرئسية في عاصمة لبنان بيروت، وواحد من المحاور الرئيسة والاقتصاديّة والدّبلوماسية في بيروت. يرجع ذلك لأنه يوجد فيه العديد من المقاهي على الرصيف، ويوجد به المسارح اللبنانيّة المشهورة، وكان شارع الحمرا مركز النّشاط الفكريّ في بيروت قبل الحرب اللبنانيّة.
المصادر والمراجع
المصادر
إدريس، سماح، (2009). الملجأ، ط2. بيروت: دار الآداب للنّشر والتّوزيع.
(2011). فلافل النّازحين، ط1. بيروت: دار الآداب للنّشر والتّوزيع.
( 2014). خلف الأبواب المقفلة، ط1. بيروت: دار الآداب للنّشر والتّوزيع.
المراجع العربيّة
-1عبد الله، محمد حسن، (1989). “الرّيف في الرّواية العربيّة”. عالم المعرفة، عدد 143. الكويت: المجلس الوطني للثّقافة -والفنون والآداب.
-2الموسوي، محسن جاسم، ( لا ت). ثارات شهرزاد فن السّرد العربي الحديث، لا ط. بيروت: دار الآداب.
المراجع الأجنبيّة المترجمة
-3بيندي، جيروم وآخرون، ( 2004). القيم إلى أين؟، ط 1. (تر. زهيدة درويش جبور وجان جبور). تونس: منشورات اليونكسو، تونس، المجمع التّونسي للعلوم والآداب والفنون بيت الحكمة.
-4جان جاك روسو، ( لا ت). إميل أو تربية الطّفل من المهد إلى الرّشد، لا ط،. (تر. الدكتور نظمي لوقا). القاهرة: الشّركة العربيّة للطباعة والنّشر
-5 رالف لنشون، ( لا ت). دراسة الإنسان، لا ط. (تر. عبد الملك النّاشف). بيروت: المكتبة المصريّة.
-6نيتشه، فريدريك، ( 1938). هكذا تكلم زرادشت، لا ط. (تر. فليكس فارس). الاسكندريّة: مطبعة جريدة البصير.
المجلّات والجرائد
-7إدريس، سماح، ( 26 حزيران 2012). “السّياسة في أدب الأطفال: تجربة شخصيّة”. مجلة الآداب.
-8طالب، أحمد، (1426هـ ،2005). “الزّمان من الفلسفة إلى الأدب”. مجلة الفيصل الأدبيّة، العدد 4، مج 1.
-9الطويل، كاتيا، ( 8 أغسطس 2014). “سماح إدريس يعصرن أدب الفتيان”. جريدة الحياة.
المواقع الإلكترونيّة
-10الشامي هشام، مدونة الجزيرة، https://blogs.aljazeera.net/blogs .
-11رضا فاطمة ، الملجأ لسماح إدريس … تجربة جديدة في أدب الحرب للفتيان، www.alhayat.com/article/1237026
–12ويكيبيديا الموسوعة الحرّة، https://ar.wikipedia.org.