عنوان البحث: الألم
اسم الكاتب: د. محمّد أمين الضنّاويّ
تاريخ النشر: 18/07/2024
اسم المجلة: مجلة أوراق ثقافية
عدد المجلة: 32
تحميل البحث بصيغة PDFالألم[1]
د. محمّد أمين الضنّاويّ[2]
يقول مالئ الدنيا وشاغل الناس أبو الطيّب المتنبّي[3]:
“رَماني الدَهرُ بِالأَرزاءِ حَتّى فُؤادي في غِشاءٍ مِــن نِبـــــــــــــالِ
فَصِرتُ إِذا أَصابَتني سِهامٌ تَكَسَّرَتِ النِصالُ عَلى النِصالِ
وَهانَ فَما أُبالي بِالرَزايــــــــــــــــا لِأَنّي ما اِنتَفَعتُ بِأَن أُبالـــــــــــــــــي”[4]
أصبحت حالنا كحال أبي الطيّب المتنبّي، فقد أدمنّا الألم حتّى بات جزءًا لا يتجزّأ من حياتنا، ولو صادف وضحكنا نستطرد بعد ضحكتنا مباشرة بالقول: “الله يعطينا خير هذه الضحكات”. فعليًّا هذا الاستطراد تعبير واضح وإقرار صريح بعدم ثقتنا في هذه الحياة وما تخبّئه لنا، فقد أصبحنا نقتنص الفرح اقتناصًا، وكأنّه أمر نادر الوجود في حياتنا. لأنّ قسوة الحياة اليوميّة وخصوصًا في هذا الزمن المليء بالتعب، والحروب، والأوضاع الاقتصاديّة الصعبة، تستدعي أعباءً ثقيلة على الناس جميعًا، وهذه القسوة لا شكّ في أنّها مؤلمة جدًّا على المستوى النفسيّ للناس ما يجعل البعض منهم قادر على أن يتحمّلها بينما لا يقدر البعض الآخر على ذلك. وهذا قد يُسبِّب لهم مشكلات مؤلمة. فالألم هو شعور غير سارّ يُشير إلى وجود أذيّة حقيقيّة أو محتملة. ويتباين الناس بشكل واضح في درجة تحمّلهم للألم، فقد يمكن للألم أن يكون حادًّا أو خفيفًا، متقطعًا أو مستمرًّا. وقد يواجه المرء صعوبة في تحمّل الألم الناجم عن جرح صغير، أو كدمة بسيطة، في حين قد يتحمّل آخر الألم الناجم عن حادث كبير، أو جرح سكّين. فقدرة الإنسان تتأثّر بالألم بحسب المزاج، وطبيعة الشخصيّة، والظروف المحيطة به.
من هنا لا بدّ من الوقوف على ماهيّة هذا الألم الذي يترتّب عليه انعكاسات خطيرة على حياة الأفراد بشكل خاصّ والمجتمع بشكل عامّ. إنّه الألم الناتج عن أسباب غير جِسمانيّة، فقد تكون نفسيّة، وقد عرّفها أحد الباحثين في السلوك بقوله إنّه: “حجم الأذى الذي يتعرَّض له الإنسان؛ إذ إنَّها معاناة ذهنيّة وعذاب ذهنيّ”.
إذًا قد يكون الألم النفسيّ هو نتاج تجربة حسّيّة وعاطفيّة، وبغض النظر عن الأسباب، فالألم النفسيّ عبارة عن ألم شديد مؤثّر بشكل كبير في العديد من المجالات المتعدّدة في حياة الإنسان، مع أنَّه في الحقيقة أنّ الكثيرين يعدّونه أنّه ليس خطيرًا كالألم الجسديّ، إلاّ أنّه من الأهمّيّة بمكان، ويجب أن يُنظر إلى موضوع الألم النفسي بجدّيّة، خصوصًا لارتباط هذا الألم بالمشاعر التي ينتج عنها الألم النفسيّ، إذ يمكن أن يكون لها تأثير على الصحّة الجسديّة والعقليّة على حدّ سواء. من أسباب الألم النفسيّ على سبيل المثال لا الحصر: الحزن[5]، القلق[6]، الخوف[7]، الغضب[8] والاكتئاب[9].
ممّا سبق يجد المرء نفسه حائرًا فهو الحزين من واقعه المعيش، والقلق على حياته، وأهله، وأحبّائه، وحاضره غير المستقرّ، والخائف ممّا ينتظره في مستقبله غير الواضح المعالم. والغاضب من كلّ شيء حتّى من نفسه، وعدم شعوره بالرضى عنها، وهو المكتئب إذ تكفيه مشاهدة نشرة أخبار، أو متابعة الأوضاع السياسيّة والحياتيّة في بلده وفي الجوار حتّى يصبح الاكتئاب ملازمًا دائمًا له.
ختامًا ممّا لا شكّ فيه أنّ لهذا الألم النفسيّ انعكاسات على صحّة الإنسان الجسديّة، فقد يضطرب نومه، وعاداته في تناول الطعام، ما ينتج عن هذا الاضطراب حدوث مشكلات هضميّة كالإسهال، أو الإمساك، أو الغثيان، أو اللجوء إلى التدخين، أو شرب الكحول وما شاكل، وقد يُصاب المرء بارتفاع في ضغط الدمّ، وتغيّر في دقّات القلب، وربّما آلام في المعدة أيضًا.
صدق أبو العلاء المعرّيّ[10] في قوله:
“تعبٌ كُلّها الحياةُ فما أعـ جبُ إلاّ من راغبٍ في ازدياد”[11]
[1] – https://ila.io/5h0vt5 – https://ar.wikipedia.org/wiki
[2] – أستاذ جامعيّ سابق، وأحد رئيسَيْ تحرير مجلّة أوراق ثقافيّة، مجلّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، له العديد من المؤلَّفات.
[3] – هو أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفيّ الكوفيّ الكنديّ. ولد في كندة بالكوفة سنة 303هـ=915م. يقال: إنّ والده الحسين سمّاه أحمد ولقبه بأبي الطيّب، ويقال: إنّه لم يعرف أمّه لموتها وهو طفل فربّته جدّته لأمّه. قضى طفولته في كندة (304-308 هـ= 916-920م)، اشتهر بحدّة ذكائه واجتهاده، وظهرت موهبته الشعريّة باكرًا، فقال الشعر صبيًّا، وهو في حوالي العاشرة، وبعض ما كتبه في هذه السن موجود في ديوانه.
[4] – هذه الأبيات من قصيدة: “نعد المشرفية والعوالي”، نُظمت على وزن بحر الوافر الديوان 323.
[5] – حسب تعريف معجم علم النفس الأمريكي (APA): “هو حالة عاطفيّة من التعاسة، تتراوح في شدّتها من معتدلة إلى شديدة، وعادة ما يثيرها فقدان شيء ذي قيمة عالية، ويتجلى بعلامات خارجية مثل: البكاء، والتشاؤم، والحزن، وتختلف الأسباب التي تدفع بالإنسان إلى الحزن مثل: فقدان العمل، وموت شخص عزيز، والإصابة بالمرض، والفشل في علاقة عاطفية، والشعور بعدم الرضى عن شيء ما، والشعور بالنقص، وغيرها من الأسباب”.
[6] – حسب تعريف معجم علم النفس والطب النَّفسي: “هو شعور عام بالفزع والخوف من شر مُرتَقب وكارثة توشك على أن تحدث، والقلق استجابة إلى تهديد غير محدّد، وكثيرًا ما يصدر عن مشاعر عدم الشعور بالأمان، والنزاعات الغريزيّة الممنوعة من داخل النفس؛ وفي الحالتين يُملأ الجسم بإمكانيّة مواجهة التهديد، فتتوتّر العضلات وتتسارع ضربات القلب”.
[7] – حسب تعريف معجم علم النفس والطب النَّفسي: “هو اضطراب يصيب الفرد عند تعرُّضه إلى خطر ما أو تهديد، سواءً كان حقيقيًّا أو تخيّليًّا؛ مثل الخوف الاجتماعيّ، أو الفوبيا من الأماكن المغلقة، أو فوبيا الحشرات وغيرها، ويؤثّر الخوف في كلتا الحالتين النفسيّة والجسديّة تأثيرًا سيّئًا؛ إذ يُحدِث حالة من التوتّر والإرهاق الذي يدفع الفرد إلى اختيار العزلة، والبقاء بمفرده، واختيار الوحدة عوضًا عن مواجهة هذا الخوف، ومن ثَمَّ يحدث الألم النفسيّ للفرد”.
[8] – حسب تعريف معجم علم النفس والطب النَّفسي: “هو ما يُعَدُّ الغضب من الانفعالات التي تشتهر شهرة أكبر في حياة الإنسان، وكثيرًا ما يشعر بها عندما يواجه الضغوطات في حياته، وهو انفعال غير سارّ وأحد أسباب حدوث الألم النفسيّ”.
[9] – حسب تعريف معجم علم النفس والطب النَّفسي: “هو اضطراب مزاجيّ يسبّب الحزن الدائم، ويؤثّر في جوانب عديدة من حياة الفرد بدءًا من طريقة تفكيره، أو سلوكه، أو قيامه بالأعمال، كما يؤثّر في حياة الناس المحيطين به والمحبّين له؛ وذلك بسبب عجزهم عن مساعدته في التخلّص من الاكتئاب وعودته إلى الحياة الطبيعيّة، والخروج، أو التخلّص من الاكتئاب. فهو ليس بالأمر السهل إذ يصعب الخروج منه، ويتطلّب رحلة علاج طويلة نوعًا ما”.
[10] – هو أحمد بن عبد الله بن سليمان القضاعيّ التنّوخيّ المشهور بالشاعر أبي العلاء المعرّيّ، وسمّي بالمعريّ نسبةً إلى بلده التي ولد فيها معرّة النعمان، وهو ينتمي إلى قبيلة تنّوخ، وقد برزت عائلته في الشعر والقضاء، فكان جدّه أوّل قاضٍ في معرّة النعمان.
[11] – وردت هذه القصيدة في مطلع ديوان أبي العلاء المعرّيّ “سقط الزند”، لكأنّ الشاعر رغب في أن تكون قصيدته هذه طليعة شرره الشعريّ الذي يخرجه إلى العالم، مع أنّها من القصائد المتأخّر صدورها. وتصدّرت القصيدة بتعيين نوعها الشعريّ: “حكمة ورثاء”. والرثاء هو في الفقيه الحنفيّ، صديق الشاعر أبي حمزة، ورفيق صباه.