عنوان البحث: الفنيّة بين الغموض والوضوح
اسم الكاتب: د. محمود خليل
تاريخ النشر: 20/12/2024
اسم المجلة: مجلة أوراق ثقافية
عدد المجلة: 34
تحميل البحث بصيغة PDFالفنيّة بين الغموض والوضوح
Artistic art between ambiguity and clarity
([1])د. محمود خليل Dr. Mahmoud Khalil
تاريخ الإرسال: 20-7-2024 تاريخ القبول: 9-8-2024
الملخص
تعدّ قضيّة الغموض والوضوح في الحياة البشريّة من القضايا ذات الأهمّيّة بشكل عامّ، وبالنّقد والفكر الإنسانيّ بشكلٍ خاصّ.
من هنا، جاء هذا البحث بصفحاته المعدودات متناولَا هذه القضيّة الفنيّة الدّقيقة من جوانبها كافّة، ليبيّن منشأها، أهمّيتها، أسبابها، ودورها في الأدب والنٍقد معَا، مركزَا على قيمتها العلميّة المحضة؛ لا سيّما بين عنصري المعنى والدٍلالة.
الكلمات المفاتيح: الغموض – الوضوح – الأدب – النّص – الحداثي – النقد – المعنى – الدّلالة – الرؤية _ الفنيّة – الحديث – القديم – الدراما – الثقافة.
Abstract
The issue if ambiguity and clarity in human life is an important issue in general and in human cristicism and thought in particular…
Hence, this research, with its few pages, addresses this delicate artistic issue from all its aspects, to explain its origin, importance, reasons, and role in literature and criticism together, focusing on its pure scientific value, especially between the elements of meaning and significance.
Keywords: Mystery – Clarity – Literature – Text – Modernest – Criticism – Meaning – Indication – Vision – Artistic – Modern – Ancient – Drama – Culture.
المقدّمة
الغموض والوضوح مفهومان متقابلان في الحياة على المستويات الماديّة والمعنويّة كافة، وفي بحثنا هذا نريد أنّ نقدم المسألة المرتبطة بالوضوح والغموض مقرونةً بالفنيّة، وما نقصد بالفنيّة عنصر الفن الذي يجسّده أي عمل فني سواء في الشّعر، أو الأدب أو الرّسم أو سائر الفنون الجميلة، وينصب بحثنا في ما يلي من صفحات على قضية الغموض، والوضوح على مستوى التّراث الأدبي والشّعري وسائر الموروث القولي في ما يصنف لا بالشّعر ولا بالأدب، كما هي الحال في لحاظ كتاب الله العزيز الذي لا يمكن تصنيفه في قاموس الشّعر، كما لا يمكن تصنيفه في قاموس الأدب أيضًا، وإن سألت ما هو القرآن الكريم فإن الجواب الحتمي يقول: إنّه القرآن الكريم ولا شيء سوى القرآن الكريم، والغموض والوضوح واحدة من الجدليات الكبرى التي تواجهنا في الخطاب القرآني، إذ فيه من الغموض ما لا يوصف، كما أنّه واضح وضوحًا يتيح الهداية، حتى بدا لدينا أنه ما من سبيل إلى وجود الإغلاف في أي آية من آيات هذا الكتاب العزيز وإلا انتفت صفة الهداية منه،﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة، الآية 2). ويمكن لنا أيضًا أن نختار شيئًا من التراث الفكري العظيم؛ وهو كتاب علي بن أبي طالب عليه السّلام “نهج البلاغة” فهو كتاب فوق طاقة الأدب، والشّعر والأدباء والشّعراء ومن دون كتاب الله العزيز، وأيضًا فيه ما فيه من الغموض وفيه ما فيه من الوضوح السّهل والممتنع في آنٍ معًا. لهذا كثرت الشّروحات التي وضعت حول هذا الكتاب الذي يعد جزءًا لا يتجزأ من التراث الإنساني الكبير، وهو كتاب فيه ما فيه من الحكمة البالغة، والحكمة الدّافعة، والنّسق الأنيق، واللفظ الدّقيق الذي يختزن طاقة دلاليّة لا تدرك حدودها، ولا توصف مضامينها حتى يكاد يشتبه عليك الأمر في جماليّات النّص وأناقة القول، وشدّة السّبك وقوة التّعبير.
إنّ قضية الغموض والوضح مسألة تداخلت في كلام العرب جميعهم من شعر ونثر، وهي مسألة نسبية في النّص الأدبي، إذ إن الغموض نسبي والوضوح نسبي أيضًا، لأنّ معياريهما نسبيين لا يعتمدان على جهة واحدة بل على جهتين رئيستين أوّلهما المرسل وثانيهما المتلقي، كما يخضع معيار الغموض والوضوح للطاقة الثقافيّة التي يتحلى بها كلّ من المرسل والمتلقي، وقد يكون الغامض مبهمًا وواضحًا في مكان آخر والعكس صحيح، ولا يمكن لنا تدبير المسألة إلّا بتتبع وأصل نضوج العمل الأدبي، هذا العمل الذي يستند إلى اللغة كمكوّن رئيس لمادة الأدب كوجود فني يقصد منه الكثير من الأهداف، والغايات ويأتي على رأس هذه الغايات الوظيفة الإبلاغيّة إذ هي عمدة النّص وأعظم غاياته، ويخطئ من يظن أن مسألة الغموض والوضوح هي مسألة اعتباطيّة في الأدب والشّعر، بل هي نوع من تقنيات الكتابة الفنيّة التي يعتمدها الكاتب أو الشّاعر عن سابق قصد وترصُّد.
إنّ بحثنا هذا يؤسس لدراسة أوضح وأعمق وأكبر من الصفحات التي بين أيدينا عددًا، إذ إن الغموض والوضوح من الخصائص الفنيّة التي تسم العمل الأدبي بإضافة جماليّة لا يمكن التنكر لها، وإنّه إن كان في النور منفعة أعظم من الظلمة، وإن كان الوضوح خير من الغموض في الكثير من المسائل والقضايا الحياتيّة إلاّ أنّ معظم الناس – إن لم نقل جميعهم – يجدون المتعة في الأعمال الفنيّة الغامضة أكثر منها في النّصوص الواضحة، ولأنّ الغموض والوضوح أمران نسبيان فإنّنا نرجع إلى القصة المشهورة عبر التاريخ الأدبي في ما حصل مع أبي تمام عندما قال له أحدهم: “لم تقول ما لا يفهم؟” فأجاب وقال: “ولم لا تفهم ما يقال”.
نريد في هذا البحث أن نضع بين يدي القارئ عملًا نقديًّا يمكنه من فهم مسألة الغموض والوضوح، كما ونهدف إلى تأسيس هذه الفكرة على أسس نقدية نثبت من خلالها أنّ “الغموض والوضوح” ظاهرة فنية غير اعتباطية وهي جزء من نشاط العمل الأدبي ومن تقنيات الشّاعر والأديب.
الغموض بين اللغة والاصطلاح: الغموض اسم وغموض من فعل غَمَضَ ويقالُ في كلامه غموض، أي إبهام وعدم وضوح، ويقال غمضت عينه أي نام، أو انضمّ جفناها وانطبقا، ويقال أيضًا: “لم يغمُض له جفن أيّ، أنّه لم يعرف طعم النّوم والرّاحة، وفي بعض الأحيان يكون على قلق. (لسان العرب، مادة غ م ض). وذكرت معاجم اللغة عددًا كبيرًا من دلالات الفعل غمض ومنها غمض في الأرض غمضًا وغموضًا أي، ذهب فيها وغاب، ويقال أيضًا غَمَضَ عنه في البيع والشّراء أي، تساهل معه، وقيل غمضت الدار، أي ابتعت عن الشّارع. وغمض الخلخال في الساق أي اختفى فيها لسمنها، وغَمَضَ كلامه أي، أبهمه وجعله غير واضح. وقيل في كتاب الله العزيز: ﴿وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ﴾ (البقرة، الآية 267) أيّ، تتساهلوا وتتسامحوا في أخذه، وغمض عن أخيه أي، صبر عليه، واغتمض البرق أي، سكن لمعانه، وتجمع معاجم اللغة العربيّة القديمة منها والحديثة على جملة من المعاني التي نستفيد منها في السّياق وهي:
الغموض: الخفاء؛ الغموض: ضد الوضوح، الغموض: البعد والابتعاد؛ الغموض: الصبر؛ الغموض: الإطباق؛ الغموض: الإبهام.
فالمادة اللغويّة تشير في جوهرها إلى مادة الخفاء، والاختفاء وعدم الوضوح في الرّواية البصريّة والعقلية على حدٍّ سواء. ولا يمكن في حال من الأحوال أن تنفكّ الدّلالة اللغويّة عن الدّلالة العامة للسّياق، إذ يعد الغموض اصطلاحًا من أنواع الإغلاق والإبهام على مستوى دلالات النّص – في السّياق الأدبي – ونقصد بالإغلاق اصطلاحًا، عدم القدرة على اختراق النّص للوصول إلى حقيقة ما يوحي به، ولهذا ذهبت معظم آراء علماء تفسير القرآن الكريم إلى عدم وجود إغلاق في أيّ آية من آياته الكريمة، لأنّه لو افترضنا وجود إغلاق لانتفت صفة الهداية عن القرآن الكريم إذ أكّد الله تعلى على قوله تعالى:﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة، الآية 2).
لكن المستفاد من المسألة أنّ الغموض هو لونٌ من ألوان الإغلاق (محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، جزء 1، ص 112). وما نحن بصدده مصطلح الغموض في لحاظ الأدب العربي شعرًا، ونثرًا كظاهرة في الأدب ترتبط بجماليّة الشعر والّنثر على حدٍّ سواء، وقد لا يكون في حالٍ من الأحوال الغموض يجنح باتجاه الإغلاق إنّما إلى حالة من الإيحاء، فيذهب الذّهن إلى أكثر من دلالة واحدة لأصل واحد، ولطالما نعمل على مسألة الغموض والوضوح في الأدب العربي بصورة خاصة والأدب بصورة عامة فلا بد من الوقوف على حقيقة ماهية الأدب وعلاقته بالحياة.
الأدب: الأدب بالمعنى الاصطلاحي تعبير عن الحياة وسيلته اللغة (مقدِّمة لدراسة الأدب، ويليام رودريك هدسن، ص23). وهو سجلٌّ حيوي لما شاهده الناس في الحياة وما اختبروه منها، وما فكّروا فيه وشعروا به حول تلك الجوانب منها، وما يشغلنا من هذا التّعريف، مصطلح “تعبير”، لأنّ التّعبير بحدّ ذاته مسألة خاضعة للذائقة الخاصة بالأديب من جهة، وبالفكرة من جهة أخرى. ونقصد بالفكرة تلك الظاهرة التي يريد الأديب أن يعبّر عنها، وهي فكرة عقليّة مستمدة من الحياة، لأنّها مصدر كل فكرة، إذ إنّ هذا الوجود بكليته، هو المكان الأوحد الذي ينصرف إليه الذّهن والذي يشكّل ميدان العقل الأوحد، والتّعبير عن هذا الوجود خاضع لنظام الأديب الذي يعتمده فقد يكون معقدًا وصعبًا يؤدي إلى الغموض في النّص، وقد يكون نظامًا صريحًا يؤدي إلى الوضوح، وما نعنيه بمصطلح “نظام التّعبير” هو الدّرجة الفنيّة التي يتوسلها الكاتب في بناء النّص لديه، وهنا نعود إلى الأدب وتعريفه، ونذكر أنّ للأدب عناصر تشترك في صناعته، وهذه العناصر هي:
- العقل: وهو عنصر الفكرة المستمدّة من الحياة والتي يريد الكاتب معالجتها وتسليط الضوء عليها. ولا يمكن وصفها بأنها غامضة أو واضحة إذ حسب تعبير الجاحظ فإن “المعاني مطروحة على الطرقات وإنما يتميّز الناس بالألفاظ، فالمعاني يعرفها العجمي والعربي، البدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن والقافية، (كتاب الحيوان، الجاحظ، ص74).
- العاطفة وهي ذلك الشّعور الذي يريد الأديب أن يثيره فينا، أو تلك العاطفة التي يريد نقلها منه إلينا أيًّا كانت تلك العاطفة، وعنصر العاطفة من العناصر التأثيريّة التي يمارسها الأديب للحصول على تأييد أكبر لموقفه.
- ثم بعد ذلك يأتي عنصر الخيال المعبَّر عنه بالقدرة على التأمل بنظر عميق في الأشياء، وسائر القضايا التي يعالجها الأديب، ويعدّ الخيال من العناصر الأساسيّة الثابتة التي ترتبط بمسألة الغموض والوضوح، لأنّ الخيال تقنية ذهنيّة تعتمد على إمكانات التصور، ورسم الأشياء بصورة غامضة أو بصورة واضحة، وفي الغالب يكون الخيال على درجة أرقى من الواقع وأعظم منه، كما أنّ الخيال أقرب إلى الغموض منه إلى الوضوح.
- ويبقى عنصر الفن أو العنصر الفني، وهو العنصر الذي بواسطته تنظم الأفكار وتتجسد العاطفة ويُنظّم الخيال، وبالتالي فإنّ كل ما ينضوي تحت عنوان الفنّ من أسلوب وطريقة، وبلاغة وبديع وغيرها تندرج تحت عنوان العنصر الفني، ولهذا العنصر الدور الأبرز في تحديد درجة الغموض والوضوح في النّص.
إنّ حقيقة الغموض هي حقيقة نسبيّة لا محالة تعتمد على تردد بين المرسِل والمرسَل إليه، فقد تكون الأشياء غامضة لأحد ما وواضحة لغيره في الوقت عينه، وكذلك قد تكون الأشياء من الواضحات لأحد ما ومن المسائل الغامضة للغير، لكن هناك الحدّ الأدنى المتعارف عليه بين الأدباء وفي الوسط النقدي، وهنا يُطرح سؤال دقيق وأساسي وهو: أين يكمن الغموض أفي المعاني أم في الدّلالة؟
الغموض بين المعنى والدّلالة: إن المقصود بالمعاني هو شيء يتعلق باللفظ عينه فللألفاظ معانٍ عرفت بالمعاني المعجميّة، إذ إنّ المعجمات تجمع الألفاظ وتحفظ معانيها، وعلى الرّغم من أنّنا لا نؤمن بنظريّة التّرادف في اللغة، إذ إن المعنى موجود مستقل بحد ذاته ويقابله معنى له أو معانٍ – لكن من غير مساواة بين اللفظ والمعنى. لكنّنا نؤمن بوجود معنى طبيعي في الحياة يقابل اللفظ، كما تقابل صورة التّفاحة لفظ التفاحة، وكما نقابل صورة الطاولة لفظ الطاولة. لكن لا يمكن لنا في أي حال من الأحوال أن نصف أيّ معنى بأنّه غامض ومبهم لأنّ المعاني موجودات خاضعة لنظام المعرفة الفعلي، وبالتالي فاللفظ إمّا أن يكون معروفًا أو غير معروف لكنّه منصرف عن الغموض في أي صورة من صوره، (عباس حامد جبوري، اللفظ والمعنى، ص195)، أما مصطلح الدّلالة فهو متعلق بالفكرة التي يستنبطها العقل من قراءة تركيب محدد. ولهذا نقول ونسأل: “ما دلالة ما نقول؟” ولا نقول: “ما معنى ما تقول؟” فإذا ما قلنا: “الأستاذ في الصف” فإننا نستنتج ما يلي:
- وجود الأستاذ في الصف.
- إن الأستاذ بخير.
- إن المدرسة تفتح أبوابها.
- وجود التعليم بمظاهره كافة.
وتوزع هذه الدّلالات بين دلالات قريبة ودلالات بعيدة، وذلك تبعًا لنظام التبادر الذّهني بصرف النظر عن هذه الدّلالات إذ كانت غامضة أو واضحة، ولجعل الصورة أشدّ وضوحًا نعرض لجملة بسيطة في ظاهرها للشاعر أدنيس إذ يقول:
أمسِ فكرة
حضرت في رأسي الضائع
ربما ترغب أن تسكن فيه
كلّ تيه
ربما ترغب أن تصبح فكرة،
ونلاحظ في النّص وضوح الألفاظ بصورة بديهية لكن الدّلالة غامضة، ولا يمكن لنا بسهولة تقصي تلك الدّلالات التي يضجّ بها النّص، إذ لا ندري على وجه التّحديد ماذا كان يدور في وعي أدونيس أو لا وعيه، أو ما قبل وعيه من أفكار أو نزوات أو خلجات، أو فلنقل في لحظة كتابة هذه القصيدة، ولا أريد هنا أن أقحم القارئ في مستويات البحث الدّلالي في لحاظ هذا النّص إلا أنّه من البداهة بمكان أن الغموض يكتنف النّص من جوانبه جميعها، باستثناء الفاظه البسيطة غير المعجميّة.
نقرر في هذه اللحظة أن الغموض هو غموض على مستوى الدّلالة لكن السؤال الذي يطرح نفسه هل يصل هذا الغموض إلى حدّ الإغلاق؟ ونجيب أنّه إذا وصل الغموض إلى حدِّ الإغلاق فإنّ الدّلالة تصبح ضربًا من ضروب العبثيّة التي لا يتوخاها أحدٌ. فالأدب تعبير عن الحياة وله غاية اجتماعيّة فنيّة جماليّة، ولا تتحقق بالعبثيّة، واللهويّة ومبدأ الإغلاق، والآن أصبحنا قادرين على طرح مسألة الغموض كمنشأ فني في النّص لنسأل أنفسنا عن منشأ هذا الغموض أين يكمن؟
منشأ الغموض: قلنا في ما مرّ من صفحات إنّ البحث عن الغموض، مسألة لا ترتبط بالألفاظ في أيّ صورة من صورها، لكن الغموض شأن متعلق بالدّلالة عمومًا، والنّسيج الذي يكون بوساطته ربط الكلمات وهو المسؤول عن درجة الغموض ووجوده، وبكلام آخر فإنّ سياق الكلمات هو الذي يحدد مستوى الغموض في النّص وبالتالي فإنّ للعلاقات الإسناديّة في الجملة الدّور الأبرز في مدى غموض هذا النّص ووضوحه، وبمقدار ما يدفعك التّركيب نحو التفكير والتّأمل والتأويل في اتجاهات متعددة بمقدار ما يكون النّص أقرب إلى الغموض، والفرق واضح وبيِّن بين أن يقول الشّاعر بدر شاكل السياب لحبيبته: “عيناك جميلتان” ويسكت أو يقول لها: “عيناك غابتا نخيل ساعة السحر” (السّياب، الدّيوان، ص94).
ففي العبارة الأولى علاقة إسناديّة مبسّطة وواضحة وخاصة لمقياس المنطق الطبيعي، أمّا في السّطر الشّعري الثاني فالعلاقات الإسناديّة ليست منطقية، وغير طبيعية وتحمل في طياتها أسرارًا لا حصر لها. وهنا يكمن الغموض، إلّا أنّه غموض جميل، رقيق، عذب، ويبعث في النّفس أجمل المشاعر وأرق الأحاسيس، وهذا هو الغموض الذي نحن بصدده الغموض الفني الذي يرفع من مستوى جمال النّص الأدبي، ويرقى به إلى مصاف الأدب العظيم والفنون الجميلة. وتشترك في صناعة السياق عناصر متعددة من موسيقى، وخيال، وبلاغة وصرف ونحو واختيار اللفظ، وغير ذلك. فالأدب صنعة دقيقة حسّاسة تستند إلى موهبة عظيمة وخبرةٍ بالغة في الاستخدام اللغوي، إذ إنّ الإبداع ليس إلا مهارة عظمى ودرجة عالية على طريق استخدام اللغة.
الرؤية الدّقيقة لفنيّة الغموض: يقول الجامع في سفر الأمثال (الكتاب المقدَّس، سفر الأمثال): “للنّور منفعة خير من الظلمة!”. ومن البديهيات أنّ “الوضوح” خير من “الغموض”. فلماذا نجد في غموض الأعمال الفنيّة الجديدة متعة وخيرًا؟ وفيم هذه الموجة – بل هذا العباب المرتطم الأمواج – من التّعقيد، والاستعصاء على الفهم، والإشكال في المعنى والاستغلاق على النّظر والتفسير؟ ما الذي يلجئ الفنان الحديث – في كل ميادين الإبداع الفني المعاصر كلّها – إلى هجر النّصاعة التّقليديّة وتعمية رونق عمله، وركوب الوعر فيه، وتجشيم القارئ – أو المتلقي – كدّ السعي وراء “المعنى”؟ ألم نقرأ في تراثنا العربي، من أيام الدّول الإسلاميّة العظمى، أنّ البلاغة هي أن يحيط “الاسم بمعناك، ويجلو عن مغزاك، وتخرجه من الشّركة، ولا تستعين عليه بطول الفكرة، ويكون… بريئًا من التّعقيد، غنيًّا عن التأمل” (جعفر بن يحيى، ص201)؟
كُتُبُ العرب القدامى تفيض يمثل ذلك في إيثار وضوح الدّلالة، ودنو المأخذ، وطلاقة العبارة، ولطف المدخل، وأنس الكلام وسلاسة جريانه والتّراث الأوروبي الكلاسيكي في عصر الازدهار الأثيني والامبراطوريّة الرومانيّة حتى ما بعد “النّهضة”، وعصر الكشوف حتى أواخر القرن الثّامن عشر، ألا يمجد الوضوح والصفاء، ونقاء اللفظ ألا يكر ريب التحليط، ويدين تعمية المعنى، ويشيد بإشراق الفهم؟
ومع ذلك فإنّ الحقائق شيء عنيد ومن الحقائق منذ بداية ما يصح أن نطلق عليه “العصر الحديث”، بل منذ القدم، إذنّ الخبرة الفنية المعاصرة – في أوسع نطاق – خبرة تبدو للوهلة الأولى، شيئًا متهم الحدود، غامضًا، معمى على جمهور عريض من الناس.
جمهور عريض من النّاس، صحيح!… ولكن هناك دائرة – تطّرد اتّساعًا – من الجمهور، تقبل على هذا الفن الغامض، وتذوقه وتتحمس له، بل وتدعو إليه، ولا ترميه بتهمة “الغموض”.
والقضية دائمًا نسبيّة الغموض والوضوح إذن أمران نسبيان. الغامض عندك أراه واضحًا له دلالة وما تراه أنت مشرقًا ناصعًا قد أجده أنا ذا غموض يكتنفه الابتذال. وبذلك نعود إلى النكتة القديمة: “لم لا تقول ما يفهم”.. “ولم لا تفهم ما يقال؟”.
والمنوط في ذلك – في هذا الفهم – أن تلقي الخبرة الفنيّة ليس عمليّة عفويّة تلقائيّة، نظريّة والمشاركة في هذه الخبرة ليست إدراكًا حيًّا مباشرًا – كما تدرك وقدة النار أو جلجلة الرّعد – بل هي عمليّة حضاريّة مركبة، تقوم على إعداد ومرانة وثقافة. إن تلقي الخبرة الفنيّة إذن نوع من التلقن، وتدريب الوجدان، وتطويع الحواس على تقبل قيم جماليّة معقدة وليس العمل السيمفوني – مثلًا – ضجيج الكلام أصوات وخبط آلات وصدمة للأسماع، بل بناء عليك أن تدرب حسَّك على أن يحدس أسراره إن لم يفهمها ؛ عليك أن تروض نفسك أن تتفتح له – في نوع من المعاناة التي لا بدّ أن تأتي عن كل ترويض – حتى تصل إلى دروة أعلى من التّذوق والمعرفة، وهو فهم للمشكلة له وجاهته ومشروعيته، وإن كان فهمًا إجرائيًّا أيّ يدعو إلى القيام ببرنامج، والنّهوض بمنهاج، أو على الأقل يأخذ في حسبانه أنّ للمناهج والبرامج دورها في “تغيير” الأوضاع.
فإذا قطعنا هذه الخطوة القصيرة – على هذا النّحو – في تلمس المشكلة، فقد أصبح الفن نوعًا من اللقانة initiation الحضاريّة الحديثة، لا يحيط بأسراره إلّا المريدون، ولا يحدس روعة بهائه إلّا أصحاب الحظوة، وما دام الغموض أمرًا نسبيًّا فليس على المرء إلّا أن يصحح النّسب، ويتخذ موقفه المناسب في ميزانها؛ فإذا العمل الفني قد برئ من الغموض، وسطع في داخله النّور. كأنّها تجربة صوفية، أو أحد الطقوس الدّينيّة. ويصبح من المتاح لك أن “تفهم ما يقال”، أيًّا كان ما يقال! ولم تعد هناك مشكلة.
إلّا مشكلة واحدة وهي أن هذا الفهم يصطدم ببديهيات كثيرة درجنا عليها، ويؤلب عندنا على الفور حبًّا بالنّفور والكراهية – أو على العكس يدفعنا إلى نوع من النّفاق والادعاء.
فلماذا تقتصر الخبرة الفنيّة على نفر من أصحاب اللَقَانَة؟ أهي صفوة ارستقراطيّة جديدة؟ ألا يهدف الفنّ إلى أوسع مشاركة بين النّاس؟ اليس يتخطى حواجز العزلة والفرديّة لكي يصل إلى الأرض المشتركة في الوجدان الإنساني؟ ألا يخرج من الخاص لكي يبلغ العام؟ أليس الجمال، أو الخبر أو الحقيقة – أو ما شئت! – مقصده؟ فلم نحجز هذه القيم على القلّة، وننكرها على الكثرة التي لن تتاح لها دواعي التّلقن والدّرية والتّطويع؟ في ذلك ما يرتطم بلا شك بحاستنا الدّيمقراطيّة، وينبو عن إيماننا بالعدالة وتكافؤ الفرص ويجعل الخبرة الفنية – وهي حيوية – وقفًا على صفوة من الخاصة بينما هي حقّ الكافة.
ومن ثَمَّ فالوضوح، وقرب المتناول، ويسر المأخذ، ودنو المتعة الفنيّة هي شروط الفن الصحيح. أمّا التعقيد والغموض والكلفة والكدّ، فعيوب تبطل العمل الفني وتسقطه.
وهكذا عدنا إلى نقطة البدء، لأنّ الحقائق شيء عنيد، وليس الغموض في التّعبير الفني نزوة عابرة، بل ظاهرة لا غلاب لها، ترسخ أمتها باطراد يومًا بعد يوم، وهو قسمة أساسيّة في الخبرة الفنيّة المعاصرة، بل في تراث فني عريق وعريض بدأنا نعرفه في فنون الحضارات القديمة – ما اصطلحنا على تسميته بـ”البدائية” منها – أو ما نعرفه من حضارات تاريخيّة قديمة.
فلماذا الغموض؟ وقبل ذلك ما هو الغموض؟ وما قيمته؟
مثل هذه الأسئلة أساسية وهي تسلمنا على الفور إلى رؤوس المشاكل الكبرى، رؤوس المشاكل في الفلسفة – سواء أكانت انطولوجيّة أو ابستمولوجيّة أو اسطيطيقيّة – وإلى رؤوس المشاكل في علم اللغة، والنقد الفني.
وليس في نيتي – ولا في مقدرتي أولًا وقبل كل شيء – أن أسبر إجابات متعمقة عن مثل هذه الأسئلة قصارى تأملات، وحرمان حول رؤوس الموضوعات واستثارة للتساؤل من جديد. فليست الفلسفة ولا العلم ولا النّقد من شأني؛ إنما هي أفكار رجل أنفق عمره يتقصى وجه الفن، طلعة لا تهدأ رغبته في المعرفة، وقد سحرته ظاهرة “الغموض” في الفن؛ وجدت فيها روح العصر الذي أعيش فيه، بل وجدت فيها قسمات من روح الإنسان نفسه، بقدر ما بذلت لها من نظر ومن تعب ومن دون أن أعبًا بالكدّ والكلفة؛ ووجدت فيها واعترف – خطفات من برق المعرفة وصبابات من الوجد الجمالي. هذه إذن تأملات رجل لا يشتغل بالفلسفة ولا بالعلم، ولا بالنّقد، بل يعنيه ويؤرقه وجه الفن وحده.
ومع ذلك فإنّ مسألة الغموض والوضوح – أولًا وقبل كل شيء – مسألة فلسفيّة بل يذهب ميرلوبونتي إلى أنّ يعرف الفلسفة، ككلّ، أنّها “الصراع بين التّعبير والمعبر عنه”. هي العلاقة بين الفكر
والكلمات ومركز التّفكير – أو التّأمل – الفلسفي عنده ينتقل لكي يحتل مكانه في مشكلة اللغة. وقد ظهر إذن نطاق فلسفي كامل يُعرف باسم “ما وراء اللغة” le métalangage. وفي العصر الحديث وحده منذ هيجيل، حتى المدرسة البنيويّة، وعلى رأسها الناقد الفرنسي – الذي لا يزال يثير ضجيجًا كثيرًا مبررًا – رولان بارت عبورًا بالمدارس الفلسفيّة المتعاقبة، وبظهور علم دلالات المعاني la sémantique قطع التفكير الفلسفي شوطًا بعيدًا في محاولة استقصاء مشكلة التّعبير – التّعبير أولًا، في المطلق، بصرف النّظر الآن عن التّعبير الفني!
هل نحاول أن نلمّ إلمامة خاطفة بالاتّجاهات الرئيسة في هذا البحث المضني الطويل؟
أمّا عند هيجيل فإن الحركة التي تتجه من السّلبي إلى الإيجابي – والإيجابي هو الحقيقة – إنّما تمرّ باللغة. ولكن اللغة نفسها، بصفتها تلك، ليست إلا “سلبية”؛ إنّها ترتبط – من دون أن تختلط – بالفهم والعمل. ومن خواص الفهم والعمل – وهما من أسس القوة الإنسانيّة – أنّها تدمر المادة الخام في الكون، وتستخدمها، وتبينّها، وتقتلها. ذلك أنّ “الحاجة” تستهلك ما تحتاج إليه – أي تلتهمه وتقنيه. ذلك هو الصّراع الهيجيلي المعروف، واللغة – في الوعي وفي الفهم – تولد من هذا الصّراع إن الكلمات تحتوي – على الأقل “بالقوة” – إمكانيّة القتل قتل الشّيء المعبر عنه، لأنّها تستهلكه. والكلمة تحل محل الشيء في غيابه، بنوع غريب من “الحضور – الغياب” معًا. وإنّما إيجابيّة اللغة تتأتى فقط عن “الكلام” عن الكلي الذي يشمل الشيء ونقيضه عن الفهم الكامل عن الخلق، وإقامة الأفكار ولكن الفكر لا يتوقف عند هذا الحد الفكر يتجاوز ما ثبت وتحدد “بالكلام” ويعلو عليه ويستأنفه، في حركة دياليكتيكيّة لا تتوقف – عبر الصمت، عبر هذا الليل الحافل بالمعنى – والفكر إذن يذهب إلى أبعد مما صاغته الكلمات، ويتحرك الوعي – والكلام – بين اللاوعي الجامد الثابت، وما فوق الوعي المتمثل في الفكرة.
للُّغة عند هيجيل خاصيّة تتجاوز العقلانيّة؛ إن فيها خاصيّة سحريّة غير عقلانيّة: إنّها تقتل المادة الخام الشيء الغفل، لأنّها تحتويه وتحل محله في غيابه، وتستحضره في الوقت نفسه، ثم تذهب إلى أبعد منه – عبر لحظة الصمت المليء بالمعنى – إلى إيجابيّة تضم نقيضين: نقيضي اللاوعي والوعي، لكي تبلغ ما فوق الوعي: الفكر، أو الحقيقة، لتتألف حركة دياليكتيكيّة مستمرة.
في هذه النّظرية العميقة المغلقة ما يتعلق على نحو حميم بخاصيّة اللغة في الشعر الحديث والأدب الطليعي. ليس التّعبير الجمالي تركيبًا استاتيكيًّا منسقًا ثابت الجمال، بل هو عبور من هوّة ظلام المادة الغفل – وتدمير لها، وهو في نفس الوقت استحضار ديناميكي لها، على مستوى أعلى دائم الحركة.
لعل في ذلك استبصارًا ما يلقي بصيص ضوء على طبيعة التعبير.
وجاء فردينان دي سوسور Saussure عالم اللغة الشّهير – فأبقى على فكرة السّلبيّة من هيجل، ولكنه رأى في اللغة «علامات» ليس لها في ذاتها قيمة مطلقة بل تقوم بينها علاقات اللغة عنده تقل على الأشياء – أو على أفكار عن هذه الأشياء على الأصح – وليست اللغة شيئًا بذاتها.
ومما يراه هوسرل Husserl في عمل فلسفي يدور بأكمله حول تأمل كيفيّة مولد الدّلالة، والمعنى أن المعنى يولد على مستوى سابق هو “المستوى الإسنادي” (في المنطق) أي في مستوى يقع قبل العلاقة بين الموضوع والمحمول – في الظلام الذي يسبق ارتفاع الوعي المعنى عنده يسبق الحسن، والإدراك الحسي اللذين يأتيان ليؤكدا دلالة قد تشكلت بالفعل.
مرة أخرى، ومن دون غلو في الاستنباط والتّخريج، ألا تجد في هذا النّظر إلى “المعنى” بوصف مولده سابقًا على القضيّة المنطقيّة – بوصف انبثاقه سابقًا على الإدراك الحسي ومُؤْذِنًا به – ما يشير إلى قسمات من التّعبير الفني الحديث. ذلك التّعبير الذي يعلو – كما قال هوسرل – على مستوى العلاقة المنطقيّة، ويتجاوز – أو بودن – بإدراك
حتى يأتي لاحقًا له، مترتبًا عليه؟ فليست التّجارب الحسيّة شرطًا له، تعلي عليه قواعدها وأحكامها، بل إن العلاقة – في السّياق الفني المعاصر – معكوسة: التّجربة الفنيّة تسبق المعطيات الحسيّة المألوفة وتحكمها وتؤذن بها.
أمّا عندي فأظن أن المعنى والتّجربة الحسيّة متصلان ومنصهران ولا انفصال ممكنًا بينهما. أمّا عند قدامى نقادنا العرب فحسبي أن أقتطف بعض ما ورد عنهم لكي أوضح أن هناك أساسًا، مدرستين في النّظر العربي القديم إلى موضوع الوضوح والغموض.
المدرسة الأولى ترى في “نصاعة اللفظ وصفائه” معيارًا نهائيًّا. أمّا المدرسة الثانية فترى أن “المعاني” هي الأوْلى بالاعتبار.
في المدرسة الأولى يرى أبو هلال العسكري، مثلًا، أن من تمام آلات البلاغة العلم بفاخر الألفاظ وساقطها ومتخيرها، ورديتها أو أن “البلاغة إنهاء المعنى إلى القلب في صورة مقبولة ومعرض حسن”. ويرى الأصبهاني أن خير الكلام ما كان لفظه بكرًا ومعناه نحلا، ويرى الجاحظ أنّ البلاغة عند الكتاب هي “أنّهم التمسوا من الألفاظ ما لم يكن وحشيًّا ولا ساقطًا ولا سوقيًّا”.
ومن أقوالهم المأثورة في هذا السّياق: ليس الشّأن في المعاني لأن المعاني يعرفها العجمي والعربي والقروي والبدوي، وإنّما هو في جودة اللفظ وصفاته وحسنه وبهائه، ونزاهته ونقائه وكثرة طلاوته والخلو من أود النظم والتأليف.
ومن المدرسة الثانية يحيى بن حمزة اليمني الذي يرى في كتابه الطراز أن “الحقيقة في وضع الألفاظ إنما هو للدلالة على المعاني الذهنية دون الموجودات الخارجيّة”؛ أو أن “المقصود من البلاغة هو وصول الإنسان بعبارته إلى كنه ما في قلبه مع الاحتراز عن الإيجاز المخل بالمعنى ومن الإطالة المملة للخواطر..”؛ وأن علم المعاني إنما يبحث عن الكيفيات والخصوصيات التي تعدُّ في المعاني أولًا بالذّات، وفي الألفاظ ثانيًّا وبالعرض… فتبهوا على أن هذا العلم يتعلق بالمعاني وكيفياتها لا بالألفاظ نفسها على ما سبق في بعض الأوهام!
ويقول عبد القادر الجرجاني في الكتاب المنسوب إليه نقد النثر عبارة ما أعمق دلالتها “ليس في الأرض بيت من أبيات المعاني القديم أو محدث إلا ومعناه غامض مستتر”. كما يقول إنّ: “الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة ولا من حيث هي كلم مفردة إن الألفاظ تثبت لها الفضيلة، وخلافها، في ملاءمة معنى اللفظة المعنى التي تليها، أو ما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظ”.
وبذلك يقترب الجرجاني إلى ما أتصوره أقرب إلى لبّ المسألة فليس ثم تفارق بين عالمين منفصلين عالم اللفظ من ناحية وعالم المعنى من ناحية أخرى وإنّ مازج الأمر كله في ملاءمة أحد هذين العالمين للعالم الآخر، بل في اندماجهما معًا.
أمّا عندي فإن اللفظ ومعناه، الكلمة وشحنتها، اللغة ومضمونها، لا فصل بينهما… وأن أهون من لأحدهما من شأنه، لا محالة، أن يعدل وأن يغير الآخر، كما أسلفت.
فليس هناك في تصوري عالم للمعاني، قائم، محدد، مائل بذاته، في منطقة مسدل عليها ستار “اللا إفصاح” وليس هذا العالم – عندي – سابقًا، كاملًا في ذاته، على غرار المثل الأفلاطونيّة.
وليس هناك بالمثل، عالم الألفاظ الذي على الكاتب أن يبحث عنه، لكي يلائم بينه وبين هذا المعنى المثالي.
ليس عندي فصل حاسم بين «الدال» و«المدلول»، بين العالمين: عالم المعاني وما يجري مجراها، وعالم الألفاظ وما هو بسيلها.
إن اللفظ يسهم إسهامًا جوهريًّا في إيجاد المعنى وتكوينه. والمعنى لا يوجد إلا بانصهاره في تلك الكلمة بالذات والصياغة بذاتها مقوم أساسي من مقومات المعنى ليست تابعة له ولا سابقة عليه، بل هي التي تشكله ولا أولوية لها عليه. هنا تفاعل وثيق متصل ولا انفصام بين أطرافه.
ومن ثم فلا يمكن أن يكون هناك الغموض، إلا عندما يكون هناك الصورة في الإلهام وفي الأداء معًا، وعلى ذلك فليس الوضوح مطلباً في ذاته، كما أن الغموض ليس عائقًا بذاته.
فما الغموض؟ إن الفنّ بحث لا وصول، رغبة لا انتهاء. الفن باعث على القلق، لا على الراحة والاستدامة، ومع ذلك، ففي هذا البحث نفسه، في سياق الرّغبة والقلق يوجد نوع من الوصول ومن البناء – كما هو ضروري.
إن الكلمات هي في الوقت نفسه علاقات وقوى وطاقات.
وهو ما “يتضح” بجلاء في الكتابة الحداثية، وفي الشّعر الحداثي إن الشعر الحداثي، على سبيل المثال، إنما يتجه الآن أساسًا وجهة القارئ لا السّامع، وهو أمر مهم في سياق الحديث عن الشعر العربي، فقد كان الشعر العربي التقليدي طقسًا احتفاليًّا أو ربما كان طقسًا دراميًّا موجهًا لسّامع أو على الأصح إلى جمهور من السامعين تهتز جوانحه طربًا عند سماعه ترنيم الشّاعر القوال. أمّا الشّعر الحداثي فهو موجه للمتلقي القارئ الوحيد الذي تجمعه و”النّص/ الكتابة” علاقة حميمة، وإن كان ذلك لا ينفي وجود الموسيقى لكنها نوع خفي من الموسيقى هي موسيقى الشّعر المهموس (بتعبير بشر فارس ومحمد مندور).
إن الشّاعر لا يكتب لقارئ متمثل أمامه. ذلك أن القارئ موجود في حالة كمون في النّص والنّص لا وجود له إلا بقارئ، وليس ثمَّ نص “نهائي” معلق وثابت، بل يتغير “النّص”، كل مرة بتغير القارئ، بل يتغير القراءة عند قارئ بعينه في لحظات تلق متباينة. وهو أمر يأتي في عمار عمليّة الخلق نفسها، وهي عملية محكومة بظروف تطور ثقافي وفني واجتماعي. كل هذا يؤدي إلى انقسام الشّعر العربي الآن قسمين:
قسم الكتابة، وقسم الدراما أو الاحتفال، وحتى بعض الشّعراء الحداثيين لا يقلتون من أسر وجاذبة التواصل المباشر مع جمهور عريض فيكتبون شعراً مُوَقَّعًا خاصًّا لابتعاث النّشوة التقليديّة التراثيّة عند السامعين.
ولا أستطيع أن أنفي هنا قدرًا من التعمد سواء أكان معترفًا به أو غير معلن، وهناك بالفعل قدر من الانصياع العام لمتطلبات السّوق “الثقافيّة” عند بعض شعراء السّبعينات وعند بعض الآخرين. أمر قد يكون مؤسفًا، إذ قد يساعد على الترسل أو الإسهاب. لكنني اعتقد أن “النّص/ الكتابة” هو الأعون على التواصل والحميميّة والأقدر عليهما من قعقعة الإيقاعات السماعية السطحية.
وللكشف عن مفهوم مغاير للغموض وتصور آخر لمشكلة التلقي في الأدب الحداثي، أجد أن الغموض ليس مما يعتذر عنه بل أتصوره من صميم الخلق الحدائي.
الغموض بذاته نسبي ومتعدد الطبقات، فمعناه ليس مجرد الاستعصاء على الفهم كما هو شائع، بل لعله المغامرة في الميادين التي عود القارئ على ألا يقترب منها كأنّها حرم محظور، كميادين التكشف الحقيقي والسؤال الحقيقي والاقتحام الحقيقي لجدة الكون والوجود وأسرارهما.
وقد خاض في هذه المسألة قدمًا، نقادنا، فلعلنا لا ينسى هنا كلمة أبي إسحق الصابي: “أحسن الشعر ما غمض معناه فلم يعطك إلا بعد مماطلة”، أو نص الصوفيّة المأثور “صدور الأحرار قبور الأسرار” وهو نص يفترن فيه الغموض اقترانًا مدهشًا بالحرية؛ وهناك أيضًا نص غاب عني الآن قائله، بمعنى “إذا قرع الكلام السمع على جهة الإبهام فإن السامع له يذهب في إيهامه كل مذهب”، وهو قول يوحي ببذرة جنينية الفكرة النّص المفتوح أو النّص المتعدد التأويلات.
وإزاء الانتقادات الحادة التي توجه للكتابة الحداثية بأوصافها “غامضة”، لا أتردد في القول إنّ المستقبل هو للكتابة الحداثيّة، لأنّنا لو تتبعنا كم المنشور من الشعر (من ناحية الكم فقط لا الكيف) لاكتشفنا أنّ الأغلبيّة السّاحقة من النّصوص التي تنشر تحت اسم “قصيدة النثر” أو الشعر الحداثي أو الكتابة الحداثيّة تنتمي “للشعر/ الكتابة” لا للطقوس الشّعريّة الاحتفاليّة ولا للإنشاء التّقليدي الرنان، بكل تعقعته أو بكل قوالبه، ولوجدنا أن معظم هذه القصائد وهذه الكتابات نصوص كتبت لتقرأ ولم تقرض لتسمع، ولم تكتب لكي تقرأ على سبيل التسلية أو تزجية الوقت أو انزلاق العين على سطح الكتابة دون أن تخسر شيئاً بمجرد انزلاقها دون تعمق في أغوار لا وجود لها .
ذلك دليل على تولد ظاهرة اجتماعيّة جديدة، فهذا “الكم” له سوق، وإلا لكانت الظاهرة قد ضمرت وهي لا تضمر بل تنمو وتكبر. هذا بالنسبة إليكم فقط.. أمّا من النّاحيّة الفنيّة فإنّني أعتقد أن المستقبل سيكون بالطبع للقارئ المبدع لا للمستمع الطروب، ولا للقارئ الذي يعزف عن سبر عمق النّص ولا يريد منه إلا “وضوحًا” هو اسم آخر للسطحيّة. يبقى الحكم بعد هذا أو ذاك للقارئ نفسه في فهم فنيّة الغموض والوضوح.
المصادر والمراجع كما وردت في البحث
- القرآن الكريم.
- الميزان في تفسير القرآن، محمد حسين الطّبطبائي، بيروت، دار العلم للملايين ط 2 – سنة 1985.
- ديوان أبي تمام، شرح الخطيب التبريزي، تحقيق: محمد عبده عزام القاهرة، دار المعارف، 1965.
- الحيوان، عمرو بن بحر بن محبوب الكناني، أبو عثمان، بيروت، دار الكتب العلمية ط 2 – سنة 1424 هـ.
- اللفظ والمعنى، عباس حامد الجبوري، بغداد، دار الشروق ط 1 – سنة 1995.
- ديوان السياب، بدر شاكر السياب، بيروت، دار الفكر العربي ط 2 – سنة 1998.
- لسان العرب، محمد بن مكرم جمال الدين، ابن منظور، بغداد، دار الرافدين ط 5 – سنة 2016.
- الدال والمدلول، فرديناد دي سوسير ترجمة علي قبيسي، بيروت، دار صادر ط 1 – سنة 1978.
- دروس في فينو مينولوجيا الوعي الباطني بالزمن، ترجمة لطفي خير الله للمؤلف ادموند هوسرل، مصر، بغداد، دار الشرق ط 1 – سنة 1997.
- كتاب العهد القديم.
- الكتاب المقدس.
- مقدمة لدراسة الأدب، ويليام رودريك هرسن ترجمة مهدي خاطري، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، لا ط سنة 2005.
- الجاحظ، البيان والتبيين، تح: عبد السلام هارون مكتبة الخانجي، القاهرة، مصر، ط 7 – سنة 1998.
- ابن عبد ربه، العقد الفريد، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، سنة 1983، ج1.
- محمد مندور، النقد المنهجي عند العرب، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع 1996.
- أبو هلال العسكري الصناعتين، تح: علي محمد بجاوي، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية ط 1 – سنة 1952.
كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة. -أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانيّة الدّولية. [1]
Lecturer at the Lebanese International University – Faculty of Arts and Humanities Email: dr.mahmoud-khalil73@outlook.com