عنوان البحث: دراسة وتحلیل للنزعة الصّوفیّة عند العطار النيشابوري
اسم الكاتب: سمیة رحیمی
تاريخ النشر: 19/01/2025
اسم المجلة: مجلة أوراق ثقافية
عدد المجلة: 35
تحميل البحث بصيغة PDFدراسة وتحلیل للنزعة الصّوفیّة عند العطار النيشابوري
A study and analysis of the Sufi tendency of Attar al-Nishapuri
Soumaya Rahimi سمیة رحیمی([1])
- Hossein Aqa Hosseini د. حسين آقا حسيني([2])
Dr. Mahbouba Hematian دة. محبوبة همتیان([3])
Dr. Seyyed Ali Asghar Mirbagheri Fard د. سيد علي أصغر ميرباقري فرد([4])
تاريخ الإرسال: 23-12-2024 تاريخ القبول: 5-1-2025
الملخص
فريد الدين عطار النيشابوري من أبرز العارفين الذين تركوا أثرًا بالغًا في تاريخ التصوّف الإسلامي، وحاز مكانة خاصة بين مشايخ الصّوفيّة بفضل أعماله المتنوعة. وعلى الرّغم من الأبحاث الواسعة التي تناولت حياته وأحواله، لم تُجرى حتى الآن دراسة شاملة لمشربه الصوفي. يهدف هذا البحث الذي اعتمد المنهج الوصفي التحليلي إلى التعرف على مشرب عطار الصوفي في أربعة من أعماله هي: الأسرارنامه، منطق الطير، الإلهي نامه، والمصيبة نامه، وذلك باستخدام نموذج يتكون من إجابات مفصلة على عدة أسئلة، تسعى إلى الإجابة عن التساؤلات الآتية: ما هو المبدأ والمقصود في سلوك عطار الصوفي؟ وما هي المراحل الواقعة بين المبدأ والمقصود وترتيبها؟ وما هي أهمية كل مرحلة؟ وما هي القدرات اللازمة لتحقيق كل مرحلة وكيف تُكتسب؟ ولما كان الشّاعر قد وضع أربعة تصاوير مختلفة للسّلوك في أعماله الأربعة، فإنّ فهم مشربه الصوفي ليس بالأمر السّهل. ولكن بناءً على الأدلة والبراهين وتوضيح نموذج مشربه، توصلنا إلى نتيجة مفادها أن الشّاعر قد رتّب مخطط السّلوك على ثماني مراحل هي: “الاستيقاظ والطلب”، و”التّوحيد” كغاية، و”تزكيّة النّفس”، والأحوال”، و”العشق”، و”الاستغناء”، و”الحيرة”، و”الفناء والبقاء”، وذلك بترتيب معين. يسعى السّالك في أعلى مراتب السّلوك، أيّ في الحب والحيرة والفناء، وفي أعلى مرتبة من مراتب تزكية النفس، أي التوبة، وكذلك في أعلى مرتبة من الأحوال، أي القرب إلى تحقيق التوحيد، ليفني بذلك كل ما سوى الله ويصل إلى الوجود الحقيقي.
الكلمات المفتاحية: السنّة الصّوفيّة، العطار، أسس التصوّف الإسلامي، المشرب الصوفي.
Summary
Farid al-Din Attar al-Nishapuri is one of the most prominent Sufis who left a profound impact on the history of Islamic Sufism, and he has gained a special status among Sufi sheikhs thanks to his diverse works. Despite the extensive research that has addressed his life and circumstances, a comprehensive study of his Sufi approach has not yet been conducted. This research, which adopted the descriptive and analytical approach, aims to identify Attar’s Sufi approach in four of his works: Asrarnameh, Mantiq al-Tayr, Ilahinameh, and Masibanameh, using a model consisting of detailed answers to several questions, seeking to answer the following questions: What is the principle and purpose of Attar’s Sufi behavior? What are the stages between the principle and the purpose and their order? What is the importance of each stage? What are the capabilities necessary to achieve each stage and how are they acquired? Since the poet has presented four different images of behavior in his four works, understanding his Sufi approach is not an easy matter. However, based on the evidence and proofs and the clarification of his model of his inclination, we have reached the conclusion that the poet has arranged the behavioral plan in eight stages: “awakening and seeking”, “monotheism” as an end, “purification of the soul”, “states”, “love”, “independence”, “confusion”, and “annihilation and survival”, in a specific order. The seeker seeks in the highest levels of behavior, that is, in love, confusion and annihilation, and in the highest level of the levels of purification of the soul, that is, repentance, as well as in the highest level of states, that is, closeness, to achieve monotheism, so as to annihilate everything other than God and reach the true existence
Keywords: Sufi Sunnah, Attar, Foundations of Islamic Sufism, Sufi inclination. – Iran
المقدمة
كان القرن السّابع الهجري نقطة تحول كبيرة في تاريخ التّصوف الإسلامي. في هذا القرن، حدثت تغييرات مهمّة في أسس وقواعد التّصوف، أدّت إلى ظهور طرق صوفيّة جديدة وقسمتها إلى مجموعتين مختلفتين کل واحدة تتبع طریقة خاصة بها. الطريقة الأولى: بدأت في منتصف القرن الثاني الهجري واستمرت حتى القرن السابع، وكانت الطريقة الأكثر شيوعًا. أمّا الطريقة الثانية: فبدأت مع ظهور أفكار ابن عربي في القرن السّابع وأصبحت الطريقة السّائدة بعد ذلك. “السنّة الصّوفيّة” تعني مجموعة القواعد والمبادئ التي توجه الصّوفي في طريقه الروحي وتحدد هدفه. “المشرب الصوفي” هو مجموعة من القواعد والأخلاق والتعاليم التي تأتي ضمن إطار أصول ومبادئ الطرق الصّوفيّة. وتستند كل طريقة صوفيّة في كل عصر إلى ركنين أساسيين: الأول هو تحديد الهدف النهائي، والثاني هو تحديد طريقة الوصول إلى هذا الهدف. وهناك ثلاثة محاور أخرى خاصة بفروع التصوّف أو المشارب الصّوفيّة هي: المواضيع والمفاهيم، واللغة الصّوفيّة، والنّظام التربوي والتّعليمي.
عندما ننظر إلى الكتب التي تتحدث عن التصوّف، نجد أنّ كلمة “مشرب” تستخدم بطريقة عامة وغير دقيقة، وتُوضع جنبًا إلى جنب مع كلمات مثل “مذهب” و”طريقة” و”جماعة”. ولكن ما نعنيه بـ “مشرب” في هذا البحث هو نموذج محدد للدراسة والبحث. هذا النّموذج هو جزء من نموذج أكبر وأشمل، وهو ما نسميه “نموذج السنّة”. بمعنى آخر، “مشرب” هو طريقة خاصة لدراسة جزء معين من السنّة وتطبيقه. يعني ذلك أنّه عندما نتحدث عن “السنّة الصّوفيّة”، فإنّنا نشير إلى المبادئ والأصول العامة للتصوّف التي تتفق عليها الطرق والفرق الصّوفيّة جميعها. أمّا “المشرب الصوفي” فيشير إلى مجموعة من الطّرق والآداب والتّعاليم الخاصة التي يختارها كلّ صوفي أو مجموعة صوفيّة للوصول إلى الكمال والهدف النهائي. بعبارة أخرى، المشرب الصوفي هو نموذج مستوحى من السنّة الصّوفيّة العامة، ولكنّه يركز بشكل أكثر تخصصًا على الجوانب العمليّة والتّطبيقيّة للسلوك الصوفي. هذا النّموذج هو نتاج أبحاث واسعة وتجارب الصّوفيّة على مر العصور. بشكل عام، يمكن تحديد مشرب أي صوفي بناءً على نموذج يتضمن العناصر التالية: 1. نقطة البداية في السّلوك الصوفي؛ 2. عدد كلّ مرحلة من مراحل السّلوك من البداية إلى النهاية ومسمياتها؛ 3. ترتيب هذه المراحل؛ 4. نوعيّة وكميّة تأثير كل مرحلة في السّلوك؛ 5. القدرات اللازمة لتحقيق أهداف كل مرحلة؛ 6. الطرق والأساليب اللازمة لاكتساب هذه القدرات([5]). يمكن القول إنّ المشرب الصوفي هو خطة يضعها الصوفيون للسير والسّلوك الروحي. إنّه نموذج يتبعه السّالك لبدء رحلته الروحيّة من نقطة الانطلاق والوصول إلى هدفه النّهائي، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. ووفاقًا لهذا النموذج، يُحدَّد عدد السّلوك ومراحله، وترتيبه وخصائص كلّ مرحلة، وكذلك الشّروط والوظائف التي تؤديها كل مرحلة في هذه الرحلة.
تهدف هذه الدراسة، باستخدام النّموذج السابق إلى تقديم فهم شامل لمشرب عطار النيشابوري الصوفي. إنّ الدّراسات السّابقة حول أعماله تركّزت بشكل عام على جوانب محددة، ولم تتناول مشربه الصوفي بشكل شامل. تسعى هذه الدراسة من خلال تحليل مشرب عطار وتقديم نموذج موحد له، إلى تفسير أكثر دقّة وعمق للعلاقة بين المفاهيم الصّوفيّة في أعماله.
من الجدير بالذكر أنّه من بين شعراء الصّوفيّة، ربما يكون عطار النيشابوري أكثرهم صعوبة في تحديد نموذج مشربه الصوفي. فبينما اقتصر سنائي ومولانا على تقديم نموذج واحد للسلوك، قدم عطار أربعة نماذج مختلفة في أعماله الأربعة. لذلك، واجهت هذه الدراسة تحديًا كبيرًا يتمثل في وضع نموذج موحد لمشرب عطار الصوفي، إذ يجب أن يكون هذا النّموذج متسقًا مع أعماله جميعها، وأن يعكس أهدافه الصّوفيّة. وعلى الرّغم من هذه الصّعوبة، تمكنت هذه الدراسة من خلال دراسة أعمال عطار وتحليلها، واستنادًا إلى الأدلة والبراهين، من استخراج عناصر المشرب الصوفي للشاعر، وتقديم صورة منهجيّة وعلميّة عن مشربه الصوفي.
- خلفیة البحث
أُجريت العديد من الدّراسات حول كيفيّة التعرف إلى المشرب الصوفي، والأساليب الصّوفيّة المختلفة وأوجه الاختلاف بينها. من أبرز هذه الدّراسات ما قدمه ميرباقري فرد في العام 2010، إذ قام بتحديد معايير تميّز بين الطريقتين الصوفيتين الرئيسيتن. وفي دراسة لاحقة 2015 ، قام بتوضيح هذه الفروق بشكل أكثر وضوحًا، وأضاف رؤيته الخاصة حول خصائص الطريقة الصّوفيّة بشكل عام.
کما أشار مير باقري فرد ورئيسي (2016)، ومير باقري فرد ومحمدي (2016) ومير باقري فرد وآخرون (1402) أيضًا في مقدمة الرسالة القشريّة (2016) لمير باقري فرد وروضاتیان إلى تعريف السنّة الصّوفيّة وتوضيح الفروق بينها، كما قدموا تعريفًا دقيقًا للمشرب الصوفي وأجزاءه والنموذج الأمثل لفهمه.
على الرّغم من الجهود المبذولة في دراسة المذهب الصوفي لعطار النيشابوري وتفسيره، لم يُوضع حتى الآن نموذج علمي ومنهجي موحد يشمل أعماله جميعها؛ قام فروزانفر Forozanfar في كتابه “شرح أحوال ونقد وتحليل آثار عطار النيشابوري”، وهلموت ريتر Helmut Ritter في “بحر الحياة”، وزرين كوب في “صوت جناح العنقاء” بدراسة الأفكار المختلفة لعطار في كل من مثنوياته الأربعة، إلّا أنّهم لم يقدموا نموذجًا موحدًا يشمل أعمال عطار جميعها، ويقدّم رؤية تحليليّة شاملة لمشربه الصوفي.
- منهج البحث
تهدف هذه الدراسة إلى بيان وتوضيح المشرب الصوفي لعطار النيشابوري في مؤلفاته الأربعة، وذلك من خلال الاعتماد على المصادر المكتبيّة واتباع المنهج الوصفي التحليلي. وتسعى الدراسة إلى تحديد مراحل السّلوك الصوفي كما وردت في هذه المؤلفات الأربعة. نظرًا لكثرة الأبیات الشّعريّة وحجم الدراسة المحدود، اكتُفى بالإشارة إلى مواضع الأبیات من دون نقلها كاملة.
2- المبحث الرئيس
- سنّة عطار في التصوف
يُعدّ عطار النيشابوري من أبرز العارفين في القرنين السّادس والسّابع الهجريين، ويشغل مكانة بارزة بين مشايخ التصوّف. نظرًا لعيشه في هذه الحقبة التاريخيّة، فإنّ تحديد سنته ومشربه الصوفي أمر بالغ الأهمية. إنّ دراسة السنّة العطّارية من منظور “الهدف” و”الطريقة” تساهم بشكل كبير في فهم أفضل لأفكاره ومساره الصوفي.
إنّ الهدف النهائي في السنن الصّوفيّة هو بلوغ المعرفة الإلهية، إلّا أنّ كل سنة صوفيّة تفسر هذه المعرفة بطريقتها الخاصة، ما يجعل كل طريق متميزًا عن الآخر. ووفاقًا للحديث الشّريف “من عرف نفسه فقد عرف ربّه”([6])، فإنّ بعض الطرق الصّوفيّة تبني معرفتها على أساس معرفة الله والإنسان([7]). في حين تبني طرق صوفيّة أخرى معرفتها على أساس عنصر ثالث وهو “الوجود”([8]).
إنّ الحقبة الزّمنيّة التي عاشها عطار النيشابوري (540-618 هـ)، بالإضافة إلى تطابق آرائه مع الخطاب الصوفي السّائد في عصره، قد صنفته ضمن صفوف الصّوفيّة من الطريقة الأولى. ونتيجة لذلك، فإنّه يؤمن، وفاقًا لسنته الصّوفيّة، أنّ معرفة النّفس هي المقدمة الضروريّة لمعرفة الله. وكما يقول عطار في “مصیبت نامه” مخاطبًا سالك الطريق: “تدور في الدنيا باطلًا، وما تبحث عنه في نفسك، وأنت نفسك حجاب بينك وبين نفسك([9])
سالکان را آخرین منزل توئی صد جهان در صد جهان حاصل توئی
چون تو هم جان هم جهان مطلقی هم دم رحمن و هم نفخ حقی[10]
“يصف هذا الشِّعر مقام الله تعالى ومنزلته العالية. يقول الشّاعر إن الله هو المقصود النهائي لسالكي طريق الحق جميعهم، وأنّ الكون كلّه يختزل فيه. إنّ الله هو روح كلّ المخلوقات ونفسها وعالمها الشّامل”.
والمعرفة في قصة الببغاء والمرآة، تنبع من رؤية الذات وتأملها([11]). المقصود بالطريقة هي الأسلوب الذي يسلكه العارف مستعينًا بالأدوات التي يختارها للوصول إلى مقصده. ففي الطريقة الصّوفيّة الأولى، لا سبيل إلى المعرفة الموثوقة إلّا بالكشف والشهود، بينما تعتمد الطريقة الصّوفيّة الثانية على العقل والنقل أيضًا([12]).
أساس منهج عطار هو المعرفة بالشّهود المحض والتي سعى إلى توضيحها في أعماله بطرق شتى. فقد استخدم مفردات متنوعة ليبيّن أهمية الربط بين مفاهيم كالعرش، والنّفس، والرّوح، والحبّ، لاجتياز القلب حواجز الجسد والوصول إلى عالم الرّوح.
العطار هو مرشد القلب ويؤمن أنّ القلب هو أساس تحقيق وتجلي كل المعرفة؛ بذکر الله ومراقبة القلب يمكن الوصول إلى الشهادة. “إن القلب وحده هو المرآة الكاملة للحقّ”([13]).
إنّ القلب حجاب بين الجسد والرّوح ([14])، وهو تجلّي الحق وبيت سره، وبحر يتسع للعالمَين. بعد أن يستنير العارف بنور معرفة قلبه، يبلغ مقامًا تتوافق فيه إرادته مع إرادة الحقّ، ويكتشف سرًّا “من كان لله كان الله له”([15]).
2-2 مشرب عطار الصوفي
يُتوصل إلى فهم شامل لمذهب أي صوفي عندما نجيب على الأسئلة الستة الآتية:1- ما هو مبدأ السّلوك الصوفي وغايته ؟ 2- كم عدد المراحل التي يمرّ بها السّالك في هذه الرحلة؟3- ما هو الترتيب الصحيح لهذه المراحل وما هو الأساس المنطقي لهذا الترتيب؟4- ما هو نوع التأثير الذي تحدثه كل مرحلة في تطوير الروح وتكاملها؟5- ما هي القدرات والمهارات التي يحتاجها السّالك لاجتياز هذه المراحل؟6- كيف يمكن للسالك اكتساب أو تطوير هذه القدرات؟([16]) إنّ الإجابة على هذه الأسئلة بشكل واضح ودقيق هي مفتاح لفهم أعمق لأي مذهب صوفي، بما في ذلك مذهب عطار النيشابوري. فعند تطبيق هذه الأسئلة على كتابات عطار، يمكننا أن نحصل على صورة واضحة عن تصوره للسير والسّلوك الروحي، والمراحل التي يمر بها السّالك في رحلته نحو الكمال.
1-2-2 مبدأ السّلوك
الخطوة الأولى في فهم مشرب عطار الصوفي هي تحديد نقطة انطلاقه في السّلوك الروحي. بعد دراسة أعماله بدقة، يتضح لنا أنّ الشّاعر، صراحةً أو تلميحًا، يعدُّ “الاستيقاظ والطلب” المرحلة الأولى في هذا السّلوك. وبالرجوع إلى آراء العارفين، نعني بالاستيقاظ هنا الاستيقاظ الباطني، الذي يضاد الاستيقاظ الظاهري([17]).
إنّ عمليّة استيقاظ السّالك تحتاج إلى شروطٍ كالتوفيق والفضل الإلهي، والخروج من غفلةٍ عميقة، كما يشير عطار في قصة الشيخ صنعان. فمن دون إرادة الله وعنايته، لا يمكن للسّالك أن يستيقظ من غفلته. وقد صور الشّاعر في قصة الشّيخ صنعان، توفيق الله في تغيّر حال الشّيخ، والغفلة، من خلال شخصيّة الفتاة المسيحيّة([18]).
في تصوف عطار، اليقظة هي مقصد رحلة طويلة شاقة، لا تتحقق إلا بالاجتهاد والسّعي الدؤوب. ومع أن توفيق الله هو الأساس، إلّا أنّ السّالك لا يجوز له أن يستسلم للكسل ويتوقف عن الجهاد([19]). من يأمل في لطف الربّ من دون سعي، كمن ينتظر أنّ تلفت أنظار ابنة الملك إليه وهو جالس في داره([20]). فالعرفان لا يُكتسب إلا بالطلب والمجاهدة. وكما أنّ الطيور في منطق الطير قد انطلقت طلباً للحقيقة([21]) ، فإنّ سالك الحقيقة في “مصيبة نامه” يسعى جاهدًا للوصول إلى جوهر ذاته، وهو سعي فطري في كل نفس بشريّة([22]).
2-2-2 العدد ، الأسماء وترتيب المراحل
أبرز ما يميز العرفان الإسلامي من غيره من النّظم المعرفيّة هو السّير والسّلوك. وقد قدم العارفون تصورات متنوعة عن السّلوك ومراحله([23])، لدرجة أنّ كلّ عارف بارز له تصوره الخاص. ويعود ذلك إلى اختلاف النّظم والمبادئ الفكرية لدى كل عارف، ما أدّى إلى تنوع الطرق الصّوفيّة. ونظرًا لأنّ كل عارف وصف مراحل السّلوك بناءً على حالاته وتجاربه الخاصة، فإنّ العديد من مكونات وخصائص الطريقة الصّوفيّة ما تتضح من خلال فهم هذه العوامل. وقد تطرق عطار، شأنه شأن سائر العارفين إلى مراحل السّلوك اعتمادًا على تجربته ورؤيته. وعلى الرّغم من إشارته في “منطق الطير” إلى بعض هذه المراحل مستخدمًا مصطلح “الوادي”، إلّا أنّه لفهم تسلسل هذه المراحل بدقة، يتعيّن دراسة أعماله الأربعة بشكل متكامل. وعلى الرّغم من ذكر بعض المراحل في هذه المنظومات، إلّا أنّها لم تتطرق إلى خصائص الطريقة العطارية جميعها، ما يستدعي تحليلًا دقيقًا للأدلة والاستناد إليها للإجابة على أسئلة تتعلق بطريقته الصّوفيّة.
المشرب العطاري يسلك طريقًا روحيًّا متدرجًا، يبدأ باليقظة عن غفلة الدنيا والطلب الحثيث للحق، ثم يتبعه تزكية النّفس وتنقيتها، وبعد ذلك تأتي أحوال العشق الإلهي التي تبلغ أوجها في الاستغناء عن كل ما سوى المولى. ثم يمرّ العارف بحالة الحيرة والاضطراب قبل أن يصل إلى مقام الفناء والبقاء، وصولًا إلى مقام التّوحيد الكامل.
3-2-2 أهمية كل مرحلة في السّلوك وأثرها في بلوغ المقصد
تختلف المشارب العرفانيّة باختلاف الأوزان التي يضعها كل عارف على مراحل السّلوك. فبعض المراحل تعدُّ جوهريّة في بناء المشرب، وتؤثر بشكل مباشر على النتائج النّهائيّة للسّلوك. هذا الاختلاف في التّقدير للأهمية النسبيّة لكلّ مرحلة يعكس اختلاف الأسس التي يبني عليها كل عارف منهجه الروحي.
سننتقل الآن إلى تحليل أركان المشرب العطاري التي شكّلت تجربة الشّاعر الصّوفيّة، وأثّرت في سلوكه ونتائجه الرّوحيّة. هذه الأركان هي البنيات الأساسيّة التي قام عليها مشروعه الصوفي، وهي التي حددت اتجاه سيره وصولًا إلى مقصده. سنستعرض هذه الأركان وندرس تأثير كل منها على جوانب المشرب الأخرى.
1-3-2-2 اليقظة والطلب: بداية السير في طريق المعرفة
تُعد اليقظة في العرفان الإسلامي، وخاصة في مستهل السير الروحي، تحولًا من حالة الغفلة إلى حالة الوعي والكمال. فحين يستقر نور المعرفة في قلب السّالك، يبدأ في استشعار ضرورة تغيير مساره وحياته.
يشير عطار إلى أن مرحلة الطلب تتسم بالشّدة والصعوبة، ويجب على السّالك أن يكون مدركًا لذلك. ومع ذلك، فإنّ هذه الصعوبات لا تثنيه عن السّعي([24])، بل تدفعه إلى الاستمرار في طلب الحقّ. ويجسد الشّاعر هذه الاستمراريّة من خلال تشبيهه بطلب العناصر الطبيعيّة كالمياه والجبال والسّماء([25]).
تُجسد قصة مجنون في “منطق الطير” ([26]) وقصص أخرى في “المصيبة نامه” رؤية عطار العميقة حول أهمية الاستمرار في الطلب([27]). فمجنون في عشقه لليلى، والسّالك في سعيه إلى الحق، كلاهما يمثلان نموذجًا للطلب المتواصل الذي لا يعرف الكلل. يرى عطار أن جوهر الإنسانيّة وحقيقة الخلق تكمن في هذا السّعي الدّائم، وأنّ الثبات على هذه الطريق هو السبيل إلى الكمال.
يقدم عطار رؤيتين متكاملتين حول هذا الموضوع:
- أهميّة النيّة: يرى عطار أنّ النية الصافيّة هي الأكثر أهمّيّة في الطلب، بصرف النّظر عن النتيجة. فالشيطان مثلًا، على الرّغم من شرّه، يمثل نموذجًا للطالب المتواصل، إذ يسعى إلى محاربة الله، حتى لو كان ذلك يعني التذعرض لللعن.
- لا نهاية للطلب: يؤكد عطار أن الطلب لا ينتهي حتى مع الوصول إلى أعلى المقامات الرّوحيّة. فالسّالك الحقيقي يظل متعطشًا للمزيد من المعرفة والتّقرب إلى الله، حتى لو ظن أنّه بلغ غايته.
وفي أعماق رحلته الرّوحيّة، يكتشف السّالك أنّ شوقه إلى الحقّ ليس إلّا انعكاسًا لشوق الله إليه. فالله هو الذي زرع في قلب السّالك هذه الرّغبة في اللقاء به، وهو الذي يوجهه في كل خطوة من خطوات طريقه([28]). وعندما يصل السّالك إلى نهاية هذه الرحلة، يدرك أن الطلب الحقيقي كان طلباً لله نفسه([29]).
2-3-2-2 تزکیة النفس
مرحلة اليقظة والطلب لا تكتمل إلا بالانتقال إلى المرحلة الأسمى وهي تزكية النّفس. تزكية النّفس هي عملية تطهير النّفس من الشّوائب والرذائل وصولًا إلى الكمال الإنساني. لتحقيق هذه الغاية، يحتاج السّالك إلى قوة معنوية يكتسبها من خلال الجهاد الأكبر وهو جهاد النّفس([30]).
إن تزکیة النّفس تتكون من عدة مراحل، كلّ مرحلة من هذه المراحل تسمى “المقام”([31]). تقسّم تزكية النّفس، عند عطار، إلى ستة مقامات متسلسلة، كل مقام منها هو نتيجة للمقام السّابق ومدخل للمقام اللاحق:1- التوبة 2-الزهد 3- الفقر 4- الصبر 5-التوکل 6-الرضا.
1-2-3-2-2 التوبة
التوبة هي أول مقام عرفاني وأساس للمقامات الأخرى. ويرى عطار أنّ التوبة لها شروط ومقدمات منها التوفيق والعناية الإلهية اللتان لا تيأسان سالك الطريق أبدًا([32])؛ ويعدُّ العبد الخاطئ التّوبة نعمة من الله تعالى استنادًا إلى سوابق إحسان الحقّ([33]). في حكاية “الحكيم الهندي وطائر لملك تركستان”، يمثل الطائر السّالك الذي يتحرر من أسر الدّنيا بفضل هداية المرشد، ويبلغ منازل العرفان([34]). يرى عطار أن أعلى نتيجة للتوبة هي الفناء في الحقذ والعودة إليه، وهي أسمى مراتب السّالكين. وتجسدت هذه الحقيقة في قصتي الشّيخ صنعان والرجل الحبشي، فتمثل كلتا الحكايتين نموذجًا واضحًا على أنّ التّوبة الحقيقيّة تؤدي بالعبد إلى الفناء في محبة الله تعالى.
2-2-3-2-2 الزهد
يرى عطار أنّ الزّهد هو مرتبة أعلى من التّوبة في السّلوك الروحي. فالتوبة هي البداية، وهي ترك المعاصي والذنوب، أمّا الزهد فهو الاستمرار في هذا الطريق وتجاوز المرحلة الأولى إلى مرحلة أعلى وهي ترك الدّنيا وملذاتها والتوجه الكامل إلى الله. وعندما يصل السّالك إلى هذه المرحلة، يصبح حاكمًا على نفسه وقدراته، أي أنّه يتسلط على شهواته وأهوائه([35]). يُعَرِّف عطار الزهد أنّه تجريد النفس عن ملحقات الدنيا كلّها من مال وسلطة وشهرة وهوى، وتجنب الأماني الدّنيويّة والأهداف الدّنيويّة. ويعكس الملك في “الهي نامة” هذا الفهم للزهد، فيحاول إبعاد أولاده عن الأماني الدّنيويّة. الزهد وسيلةٌ صالحة لتزكية النفس ما دام مصحوبًا بالتقوى والصدق، أمّا إذا اقترن بالكبر فإنه يصبح عملاً رياءً([36]).
2-2-3-2-3 الفقر
لم تحدد المؤلفات الصّوفيّة تعريفًا دقيقًا للفقر، وإنّما توسعوا في بيان مراتبه وصفاته، فقسموه إلى ثلاث: اسم الفقر وهو الحاجة الماديّة، ورسم الفقر وهو انعدام الرّغبة والأماني، وحقيقة الفقر وهي الفناء في الله. وبناءً على ذلك، فإنّ الفقر يبدأ بترك الدنيا وما فيها وينتهي بالفناء في ذات الأحديّة، فيكون الفقير هو من لا يملك شيئًا، أي أنّه تجاوز كل شيء ليصل إلى كل شيء([37]).
يری عطار أنّ النبي الأکرم صلى الله عليه وسلم هو نموذج للفقراء في المرتبة الأولى، إذ إنّه كان غير مبالٍ بالدنيا، وكان يعدُّ مال الدّنيا ملكًا لله، ولم يستجب لطلب فاطمة الزهراء عليها السلام على الرّغم من كثرة الغنائم([38]). کما في حكاية “الشّيخ والفتاة المسيحيّة”، يرى عطار أنّه لا يتسنى الجمع بين الدّين والدّنيا، وأن الله لا يؤتي هذين الأمرين لواحد، إذ الثّروة في أيدي المبتدئين المتكبرين تدفعهم إلى الهلاك([39]).
في المرتبة الثانية من السّلوك، يخلي الصوفي قلبه من أهواء الدنيا وزخارفها، ويسعى جاهدًا إلى كشف كنوز روحه وإظهار كمالاته الباطنيّة. ولا يرى عطار في امتلاك الدنيا بأسًا في ذاته، بل يذم ذلك حينما يصد عن ذكر الله تعالى ويُشغل القلب عن حقائق الدين. لذا، فإنّ استعمال المال في سبيل زيادة المعرفة وتقريب المرء من الله يعدّ أمرًا محمودًا، كما فعل بعض الملوك والصّوفيّة أمثال إبراهيم أدهم الذي جمع بين الملك والملكوت.
في المرتبة الثالثة من الفقر، يصل السّالك إلى حقيقة الفناء التّام، فيزول أثره تمامًا. ويصف عطار في هذه المرحلة وجود الإنسان بـ “الظل” و”النقش”، وذات الله بـ “الشمس” و”البحر”. وفي هذه المرتبة، ينعدم التّضاد بين العبد وربه، ويصبح الإنسان كظلٍ بلا جرم ولا جوهر. والتّجرد من الدنيا الذي يكتسبه الصوفي في مقام الزهد، هو ما يوصله إلى مقام الفقر. وحقيقة الفقر هي عدم الملكيّة التامة، حتى يبلغ الصوفي مقام الفناء، ويكون الفقير الحقيقي هو من تجاوز الدنيا ووصل إلى الحياة الباقية.
2-2-3-2-4 الصبر
يؤمن عطار أن كلّ انتصارٍ في السّلوك ينبع من الصبر، وأنّ آلام مجاهدة النّفس لا ينبغي أن تُثبط عزيمة العارف. وقد صنّف الشاعر الصبر إلى ثلاثة أنواع: الصبر على الشدائد والمشاقّ([40])، وهو ما يُعرف برجولة الرجال([41])، والصّبر والصّمت([42])، إذ يعدُّ الصّبر الطريق والحقيقة السّكوت([43])، وأصعبها صبر الفناء في الله، فلا يتحقّق إلا بتجلّي الحقذ، فيفني العارف في ذاته، وتزول إرادته واختياره، ويغرق في بحر لاهوت، وقد بيّن ذلك بوضوح في منطق الطّير([44]).
2-2-3-2-5 التّوکل
يُعَدّ عطار من أعمدة الصّوفيّة الذين تناولوا مقام التوكل بتفصيل وبصيرة نافذة، وقد ربط هذا المقام العرفاني ارتباطًا وثيقًا بمسألتي الجهد والكسْب والجبر والاختيار. وقد قدم عطار في هذا الصدد رؤيتين مختلفتين حول التوكل، مستعينًا بالأمثال والحكايات لتوضيح معانيه.
في الرؤية الأولى، يصف عطار التوكل أنّه تسليم كامل لأمر الله، واعتماد تام على مشيئته الحكيمة. ويشير إلى أنّ المتوكل في هذه المرحلة الأوليّة من السّلوك لا يزال يبذل الجهد في كسب الرزق، ولكنه في الوقت نفسه يثق تمامًا أنّ الله هو الرزاق الحقيقي، وأنّ كل ما يحدث هو بتقديره وقضائه. وهذا النوع من التوكل يستلزم إيمانًا راسخًا بقضاء الله وقدره، وعدم الشكّ أو التردد في أمره. ولقد استعان عطار بأمثلة جمیلة لتوضيح هذا المعنى: کقصة الطفل والدودة التي یصل رزقها لها، وهي في قلب الصّخرة وقصة المرأة الصالحة التي تثق برزقها من الله. في المرتبة الثانية والأعلى من التوكل التي شبهها سهل التستري بحال العبد بين يدي قدرة الرّب كالميت في يد الغسال، يرى عطار أنّ التوكل هو ترك الأسباب والاعتماد على المسبب الحقيقي، ويعدُّ الفناء مقدمة للوصول إلى المقاصد. وفي هذه المرتبة، يعد الأنبياء عليهم السلام، ومنهم إبراهيم الخليل، أمثلة بارزة للمتوكلين. وهذا المقام من التوكل يعني التسليم التام لأمر الله تعالى، والرضا المطلق بقضائه وقدره، ما يؤدي إلى ترك الدعاء والسؤال.
2-2-3-2-6 الرضا
قد وضع الشاعر سلسلة مراتب للرضا، وإن لم تكن متسلسلة بشكل منسجم، ومنها:
- الرضا بالقضاء: يقبل سالك الطريق القضاء الإلهي وما كتبه الله في اللوح المحفوظ. ويضرب لذلك أمثلة كقصة الرجل والقبطان، والنملة، وسؤال موسى عليه السلام. ويعتقد الشّاعر أن عدم الرضا غالبًا ما يدل على نقص المعرفة، وأنّ هذا عدم الرضا يضلهم عن الصراط المستقيم.
- الرضا والسرور: لا يشعر السّالك عند قبوله بالقضاء الإلهي بسخط أو ضيق، بل يستقبله بفرح وسرور، إذ يدرك أن كل مصيبة هي ابتلاء من الله تعالى لترقيته وتكميله. ويختلف هذا المقام عن مقام الصبر، ففي الصبر يصبر السّالك على المصائب على أمل زوالها بلطف الله وعنايته، أمّا في الرضا فيستقبله بفرح ويستفيد منه في تطهير نفسه وترقيتها الروحانيّة. ومثال ذلك قصة الرجل القاتل والرجل الذي لقّب بالسّعيد المسرور.
- الرضا والدعاء: یری فريق من العارفين إن شرط بلوغ مقام الرضا هو التوقف عن الدعاء والسؤال، والرضا التّام بكل ما قدر الله تعالى، حتى وإن كان ذلك مخالفًا لمشيئته الظاهرة، إيمانًا أنّ كل ما يحدث هو من حكمة الله تعالى. وقد عبر عطار عن هذا المعنى في قصته عن مناجاة العبد بربه وقصة الداعي والمجنون.
2-2-3-3 الأحوال
بعد أن يبلغ السّالك في مذهب العطار مرتبة تزكية النفس، ويتطهر قلبه تطهيرًا كاملًا، يصبح مستعدًا لاستقبال الأحوال الإلهية. وسنذكر في ما يلي تفصيلًا لهذه الأحوال.
1-3-3-2-2 القرب
يرى عطار أنّ قرب العبد من الحق متصل بالعهد الإلهي. ويستشهد بحديث قدسي وقد سأل داود عليه السّلام عن حكمة الخلق، فكان الجواب: لِيُدركوا هذا الكنز الكامن فينا([45]). ويؤكد الشّاعر أن قلبك بحاجة إلى نور الإيمان، وأنّ هذا النّور لا يكتسب إلا بقربك من الحقّ. ويشرح ذلك بحكاية الملك والعجوز، ليوضح مفهوم العهد الأزلي والتّقرب الإلهي([46]). ويرى أنّ التّقرب ليس مقتصرًا على العبد، بل إنّ الحقّ يتفضل على العبد بالتّقرب إليه([47]).
يستند العطار في شرح مرتبة القرب الأسمى، وهي مرتبة قرب النوافل([48]) إلى الحديث القدسي، ويشرح أن العبد القريب من الله يصبح كالمرآة العاكسة لصفات الله، فتتبادل الصّفات بينهما نتيجة الوحدة التي يبلغها([49]).
يرى الشّاعر أن الفقر يقرب العبد من ربه، ويجعله جارًا لله، وبفضل الله يمكنه أن يسود الدنيا والآخرة([50]). ويشبه الفقر بالكعبة المشرفة التي لها أركان أربعة، فإذا اجتاز العبد هذه المراحل وصل إلى أسمى المراتب وهي قرب الله([51]).
2-2-3-3-2 الخوف و الرجاء
على الرّغم من اختلاف الأقوال حول أفضليّة الخوف أو الرجاء في مختلف العصور، فإن المهم ماالذي قيل في هذا الشّأن هو أنّ كليهما متكاملان ولا یفوق أحدهما الآخر([52]). ويتفق عطار مع هذا الرأي، مؤكدًا أنّ الخوف والرجاء يجب أن يسيران جنبًا إلى جنب، فلا ييأس الإنسان من رحمة الله بسبب الخوف، ولا يغترّ بنفسه بسبب الرجاء. وهكذا يكون الخوف والرجاء سلاحين للسّالك في طريقه إلى الله، فيسير بينهما متوازنًا([53]).
يرى الصّوفيّ أنّ أحوال العبد وتجلياته الإلهية تتناسب مع حالة قلبه([54]). ولذلك فإنّ تجليات الله تعالى للعبد ليست مقتصرة على الجمال والرحمة، بل تشمل الجلال والعقاب أيضًا. وهذا يعني أن الخوف والرجاء يجتمعان في قلب العابد، خاصة في بداية طريقه. ويؤكد عطار أن الخوف من العقاب والأمل في الثواب لا يجب أن يكونا دافعًا للعبادة، بل يجب أن يكون حب الله وحده هو الدافع. ولذلك، ينبغي للسالك أن يتجاوز مرحلة الخوف والرجاء، وأن يتجه إلى مقام أعلى.[55]
2-2-3-3-3 الذکر
إن مفهوم الذكر في التصوف الإسلامي مستمد من القرآن الكريم (سورة الرعد، آية 28)، ويرتبط بمفهوم الاطمئنان القلبي([56]). ويشرح عطار معنى الذكر في سياق السّلوك الصوفي، فيرى أنّ الذكر في بداية السّلوك هو ذكر الله وصفاته، والتفكر فيه([57]). أمّا في نهاية السّلوك، فيتحول الذّكر إلى حالة من الانغماس الكلي في ذكر الله، بحيث يملأ الله كل كيانه، ويختفي كل ما سواه([58]). وهذه هي مرتبة الذكر الحقيقي التي تتطلب فناء النّفس.
يرتبط مفهوم الذكر بالتفكير ارتباطًا وثيقًا في التصوف. وقد اختلف الصّوفيّ في تحديد أيهما أسبق. ويرى عطار أنّ الذكر أسمى من التفكير، فالذكر ذو طبيعة إلهية ومعرفيّة، وهو المحرك للتغيير الروحي، في حين أن التفكير العادي بشري ومرتبط بالعلوم المكتسبة. ويشير عطار إلى نوع من التفكير يسميه “التفكير القلبي”، وهو تفكير ينبع من القلب وليس العقل، ولا يعتمد على الحواس أو العلوم المكتسبة، بل هو خاص بالصّوفيّة([59]).
2-2-3-3-4 المشاهدة
يرتبط منهج عطار في موضوع “المشاهدة” بمنهج عز الدين الكاشاني الذي يربط بين المشاهدة والتجلي والإخفاء([60]). ويرى عطار في قصتي الملك والمرآة([61]) والسرهنك والأمیرة ([62]) أن ما يراه العبد ليس هو الحقّ بذاته، بل هو تجلي للحق في مرآة النفس، وذلك لأنّ البشر في الدنيا لا يستطيعون تحمل رؤية الحقّ بذاته، وإنما يرون ذلك في الآخرة([63]).
2-2-3-3-5 الیقین
تشتمل المؤلفات الصّوفيّة على تعريفات متعددة لليقين، يتفق جلّها على أن اليقين هو زوال الشك من قلب العارف([64]). وقد قسم العارفون اليقين إلى ثلاثة أقسام: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين. وأدنى هذه المراتب هو علم اليقين، وأعلاها حق اليقين، ويأتي عين اليقين في الوسط([65]).
يصف عطار اليقين أنّه مرتبة سامية في السّلوك الروحي، إذ يرى العارف الحقائق الغيبيذة بعين قلبه، من دون حاجة إلى أدلة أو براهين عقليّة([66]). ويشير عطار إلى أن اليقين هو نهاية السّالك، وأن النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو أتمّ مثال لذلك، وقد وصفه بـ”بحر اليقين”([67]). وبالتالي، فإنّ السّالكين الذين يسعون إلى اليقين التّام يجب عليهم أنّ يتبعوا نور النبي صلى الله عليه وسلم([68]). كما يرى عطار أن اليقين يمر بثلاث مراتب، ولكنه يذكرها بإيجاز في هذا البیت من الشعر:
چون بدانستی ببین آنگه ببین([69]) چون بدانستی مکن این راز فاش([70])
2-2-3-4 العشق
يرى عطار أن العشق هو القوة الدافعة للسالك في سلوكه الروحي، فهو يعدُّه نعمة إلهية تبدأ بآلام الشذوق إلى الحبيب([71])، وتنتهي بالتّضحية بالنّفس في سبيله. يدعو الشّاعر السّالك إلى أن يكون طاهرًا ونقيًّا من أجل لقاء المحبوب. ويرى أن أسمى مراتب هذا الطهارة هي التّضحية بالنّفس([72]). ويؤكد الشّاعر على أن العشق هو الدافع الأساسي للإيثار والتّضحيّة، وأن العشق يكتسب طابعًا إلهيًّا، وقد وصفه بعض العرفاء أنّه صفة لله تعالى([73]).
يرى عطار أنّ تضحية منصور الحلاج بنفسه هي تجسيد حيّ للإيثار الذي يوصله العاشق إلى المعشوق([74])، ويرى أن هذا الإيثار هو مفتاح الوصول إلى الكمال الإلهي([75]). وفي تصوف عطار، العشق هو القوة الدّافعة التي تدفع الإنسان إلى التكامل الروحي، فالإنسان يحب الله تعالى حبًّا جمًّا، ويسعى من خلال هذا الحبّ إلى الصعود إلى مراتب أعلى من الوجود، آملًا في اللقاء بمحبوبه. ويشدد عطار على أنّ السّالك لا يمكنه أن يتقدم في طريقه الروحي إلّا إذا كان عاشقًا متيمًا، متخليًا عن كل شيء في سبيل محبوبه.
2-2-3-5 الاستغناء
الاستغناء من المفاهيم الأساسية في التصوف، وهو ينقسم إلى قسمين: استغناء الله تعالى واستغناء العبد. ويركز عطار على الاستغناء الإلهي الذي يمثل نهاية السير الروحي. ويشير إلى أن إدراك هذا الاستغناء الإلهي يؤدي إلى حيرة العارف أمام أفعال الله تعالى([76]) وخوفه من عظمته([77])، كما يقلّل من أهمية الرياضات والعبادات في نظر السّالك([78]).
أول ما يواجه العارف في مقام الاستغناء هو الحيرة التي تنتابه من عدم انتظام الأمور، وكثرة ما يجد من مخالفة للظنون والأعراف. يصف عطار هذا المقام أنّه عالم لا يسع فيه التساؤل ولا يمكن فيه تحديد معان ثابتة، فاللا نظاميّة هي السّمة المميزة لهذا المقام، وعلى العارف أن يصل إلى هذه الحيرة الشاملة ليدرك حقيقة الحق([79]).
2-2-3-6 الحیرة
جاء في كلام أبي نصر سراج: “الحيرة بديهة ترد على قلوب العارفين عند تأمّلهم وحضورهم وتفكرهم وتحجبهم عن التأمل والفكرة”([80]). وعلى الرّغم من أنّ الحيرة تعني في اللغة التيه والضياع، إلّا أنّها في طريق السّلوك تعني معرفة عميقة بالله تعالى، وهي ما دعى النبي صلى الله عليه وسلم إلى طلبها بقوله: “اللهم زدني فيك تحيّرًا”. وقد اتخذ العارفون هذا الحديث سندًا لهم في طلب الحيرة. تنشأ الحيرة من شعور العبد بعجزه عن إدراك أسرار الكون وعظمة الخالق، فيشعر بالصِّغر والذِّلة أمام جلال الله. وقد أشار عطار إلى هذه الحيرة مرارًا وتكرارًا، معربًا عن عجزه عن وصف جمال الله وعظمته، وكلما تقدم في طريقه زادت حيرته وتواضعه([81]).
الحيرة التي يسعی الیها العارف هي الحيرة التي تدفعه إلى التّفكر والتّأمل، وليست الحيرة التي تؤدي إلى الشّك والتّردد. يحير العارف عندما يرى صفات الله العظيمة، فيشعر كمن يقف على شاطئ بحر عذب ولا يستطيع أن يشرب منه. وقد وصف نجم الدين الرازي هذه الحالة أنّها “مقام المتمكنين من عالم لا نهاية لتحيره”([82]). ونتيجة هذه الحيرة هي الضياع في بحر المعرفة، وملازمة هذا الضّياع حسرة على ما فاته من إدراك لجمال الله([83]).
ثمرة الحيرة من منظر الشّاعر هي المعرفة العميقة التي يصل إليها العارف عندما يقف على حافة ما وراء الطبيعة والغيب. تتجلى معرفته هذه في صورة حيرة عميقة، فلا يستطيع تمييز الحقيقة من الخيال في ما يراه([84]). إنّ فهم أسرار الكون وعظمته ونظامه يتجاوز قدرة العقل البشري، ما يوقع الإنسان في حيرة عميقة[85]. فالبحر الكوني المليء بالأسرار لا نهاية له، ولا نهاية لحيرة الإنسان فيه([86]). لذلك، فإنّ الأسرار ستبقى مخفيّة عنك لأنّك غير قادر على فهمها وسوف تهلك، تمامًا كما يهلك قروي لم ير منارة قط عندما يرى واحدة لأول مرة. وعندما تزول الأستار عن الأسرار، فسيذوب كل شيء في نور الذات الإلهية. والأكثر أهمّية من ذلك، أن الحيرة ليست مقتصرة على الإنسان، بل كل جزء من الكون يعيش في حالة من الحيرة والتيه([87]).
2-2-3-7 الفناء والبقاء
الفناء في الاصطلاح الصوفي يعني زوال الصفات الإنسانية وانمحائها في حضرة الإلهية، ما يؤدي إلى بلوغ العارف معرفة ذاتية تدرك فيها أن معرفته هي عين معرفة الله. وبعد مرحلة الفناء، يصل السّالك إلى مرحلة البقاء. وقد عبّر عطار عن معنى الفناء بتعابير مختلفة مثل “الضياع” و”الموت”، ليوضح تلك الحالة من الزوال والانمحاء التّام([88]).
يُفهم الفناء أحيانًا على أنّه الموت الجسدي، كما يشير عطار في قصتي أبي الحسن النوري والأعمى([89]) وشيخ أبي القاسم الهمداني. فشرط صحّة الحب هو فناء المحبوب، وقد يتزامن هذا الفناء مع فناء الجسد، كما في قصة أبي علي الرّوذباري([90]). والفناء شرط أساسي للوصول إلى المعرفة التي تبدأ بالانفصال عن الذات. ولبيان هذا المعنى، يستخدم عطار مثالًا لمرآة السندباد، إذ لا تظهر صور العالم إلّا بعد أن تختفي المرآة نفسها([91]). وبالمثل، لا يمكن للإنسان أن يعرف حقيقته إلّا بعد أن “يموت” عن ذاته، كما يوضح ذلك بمثال العين التي لا ترى نفسها. إن نفي الذات وإنكارها كهدف وشرط للفناء هو موضوع دائم الاهتمام عند عطار، وتدل حكاية سؤال الدرويش عن شبلي على ذلك([92]). وقد فسّر عطار أحيانًا نفي المراد وترك الأماني، وهما من مقدّمات الفناء، بكلمة “لا شيء”([93]). كما أشار في حكاية “شيخ خالو سرخسي” إلى الفرق بين الفناء الحقيقي والوهم أو الظن بالفناء، وهو أمر لا يفرقه بينهما كثير من السّالكين([94]).
المرحلة اللاحقة للفناء هي البقاء، وبعبارة أخرى، فإنّ ثمرة الفناء هي الوصول إلى البقاء الأبدي. حينذاك، لا يرى السّالك وجودًا لنفسه منفصلًا عن الكلّ، وينفصل عن قيود التّعيين، فيبلغ مرتبة البقاء([95]). ومفهوم “الاستنارة” هو ما يرتبط بهذا البقاء الأبدي([96]). وفي قصة “الامرأة والأمیر”، يستخدم الشاعر الأسلوب التمثيلي لبيان أن غاية الفناء من الذات هي بلوغ هذه المرتبة السامية([97]).
2-2-3-8 التوحید
غاية السّلوك عند عطار هي مرحلة التوحيد. وفي النصوص الصّوفيّة، التوحيد الحقيقي هو أن لا يلتفت العبد إلا إلى الحق، وأن يرى كل شيء في الحقّ([98]). يعتقد عطار أنّ مرتبة الطريقة الصّوفيّة تكتمل عند بلوغ الصوفي أحوالًا ومقامات مختلفة بعد اجتيازه مراحل متتابعة والتّوحيد في نظر الشاعر يعني عدم وجود رؤية مزدوجة، وعدم رؤية غير الله في الكون، وإسناد الصفات والأفعال والتأثيرات جميعها إلى الله ونفيها عن سواه؛ ونفي كل نوع من التّمايز والاختلاف والكثرة والتفرقة في الكون، وهو ما يسمى “إسقاط الإضافات”. وبهذا، يكون كل وجود وصفة و فعل منسوبًا إلى الحق وحده، وينفي أي تمييز أو اختلاف بين الله والكون([99]).
يبيّن عطار في مراحل سلوكه الثمانية أنذ السّالك ليصل إلى مرتبة الفناء في الحقّ، لا بدّ له من أن يتخلَّص كليًا مما سوى الله، ويتزين بصفات الجلال والإكرام. وبعبارة أخرى، فإنّ الفناء هو شرط ونتيجة منزل التوحيد الذي يُسمّيه عطار التفريد، أي الزوال والانعدام. ونتيجة لذلك، تختفي الكثرات والتعدد، وتظهر حقيقة التوحيد والوحدة في كل مكان([100]). وعندما يزول التضاد بين العبد وربّه في الفناء، تتطابق كل إرادة مع إرادة الله، أي تذوب الإرادات في إرادة الحقّ([101]). يؤمن عطار أنّ جوهر الحبّ هو الاتحاد بين العاشق والمعشوق، لكن تجلي المعشوق في وجود العاشق لا يعني حلولًا ووحدانًا([102])، ذلك أنّه لا وجود لدوئية هنا، وكل ما هو كائن هو ذات المعشوق الواحدة والمخلوقات مغروقة في بحر توحيد الحق. والاستغراق هو نفي الخلق وإثبات الحقّ، والحلول هو إثبات الخلق والحق معًا، فالاستغراق عين التوحيد والحلول هو شرك محض([103]).
2-2-4 شروط وآداب اكتساب القدرات في كل مرحلة
إنّ شرط اجتياز كل مرحلة من مراحل السّلوك هو اكتساب المهارات والقدرات، وطريق تمكين السّالك للحصول على الصفات اللازمة للسّلوك يبين النظام التربوي والتعليمي للسالك؛ ولهذا السبب، فإنّ أحد أوجه الاختلاف بين عارفي السنّة الأولى والثانية هو اختلاف نظاميهما التربوي والتعليمي.
1-4-2-2 الطاعة والتبَعِيّة للشيخ والمرشد
في الطریقة الأولى كان التعليم يحصل من خلال تحديد الآداب والمعاملات للسالك ووضعه في الطريقة، وكانت العلاقة بين المعلم والمتعلم علاقة مريد ومرشد، أمّا في الطریقة الثانية فكان التعليم يحصل من خلال عقد الدروس والمناظرات ونقل الأسس والمفاهيم، وبالإضافة إلى العلاقة بين المريد والمرشد، كانت هناك علاقة بين الأستاذ والتّلميذ([104]). وعطار من عارفي الطریقة الأولى، وكان نظامه التربوي مبنيًا على علاقة المريد والمرشد.
إذن، من وجهة نظر الشاعر، فإنّ اختيار المرشد هو الخطوة الأولى لتحقيق مكاسب السّلوك وتمكين السّالك. ويعتقد عطار أن وجود المرشد كدواء شافي يشفي الإنسان من الأمراض الجسديّة والنفسيّة جميعها، وهو مفتاح حلّ المشكلات ويد الله على الأرض، حيث يبلغ بقبضته كل سالك إلى مقصده([105]).
يصور عطار المرشد الروحي بأنه كالجوهرة النادرة التي تضيء دروب السّالك، وكمثال على الإكسير الذي يحول القاعدة إلى ذهب ([106]) فیجب المحافظة علیه. ويشدد على أن العلاقة بين المرشد والتلميذ علاقة روحية عميقة، وأن المرشد هو البوصلة التي توجه التلميذ في بحر الحياة([107]).
المرشد هو قطب الرّحمة والحقّ، وهو الذي لا يضل من اهتدى به. وعلى سالكه أن يسلم له قلبه وعقله، فإنه يعلم ما لا يعلمون. وله حقّ التأديب والتوجيه ليصلح المرء ويقومه([108]).
2-2-4-2 الصّمت والسّکوت
یرى عطار أن الصمت والقول القليل المدروس([109]) هو خير وسيلة للحفاظ على اللسان من الكذب والنميمة والبهتان، والنجاة من عواقبها الوخيمة. وكلما قل كلام الإنسان، تحرر من آثار اللسان وارتقى شأنه([110]) إنّ الصمت في المراقبة كالسّكينة التي تستقر في القلوب، فبالسكوت ينقطع السّالك عن ضوضاء الدنيا ويصل إلى أعماق نفسه. ولذا فقد ربط بين الصبر والصمت، واعتبر الصبر طريقًا والحقيقة سكوتًا([111]) . ويريد عطار أن يبين أن السّالك عندما يصل إلى أسرار الحق لا ينبغي له أن يتحدث مع الجهال والأغبياء، لأنهم عاجزون عن فهمه([112]) ويضرب مثلاً بالصبح، إذ يكتنف كل شيء بظلامه، ثم ينشق الفجر ويظهر النور. فالسّالك كالصبح، يحمل في طياته أسرارًا لا يبوح بها إلا لمن يستحق([113]).
2-2-4-3 الإمساك عن الطعام
من الرياضات الصّوفيّة المعروفة، والتي يرى عطار أنها من أبرز سبل تزكية النفس، التقليل من الطعام. فالاقتصار على الضروريات من الأكل يغذّي الروح ويقويها، بخلاف الإكثار من الطعام الذي لا يغذي إلا الجسد، بل هو كمن يجمع طعام الدود في القبر. ومن ثمّ، فإن من يشغل نفسه ببناء البدن لا يستطيع تطهير الباطن والوصول إلى الكمال والمعرفة الإلهية([114]). ويضرب الشاعر مثلاً برابعه العدوية ليبيّن أن الانشغال بالروحانيات والتقرب إلى الله يفتح أبواب الكمال والمعرفة([115]).
2-2-4-4 التواضع
يُعدُّ التواضع عند عطار، في نظرة عميقة، إنكارًا للتفوق الذاتي على الآخرين، وليس مجرد سلوك ظاهري. فهو يؤكد أصل الإنسان الترابي وعودته الحتمية إلى التراب، ما يجعل أي ادعاء بالفضيلة ساقطًا([116]). ويرى عطار أن المستقبل الغامض والقدر المجهول يبطل أي نوع من التكبر؛ فمن قد يكون في قمة المجد اليوم قد يكون في قاع الشقاء غدًا والعکس صحیح([117]). وفي حكاية خواجة جندي([118])، يؤكد الشاعر أهمية التواضع والتّدبر العميق في النّفس والآخرين([119])، إيمانًا أن الحقيقة ستكشف عن نفسها في النهاية.
النتائج
إن عطار النيشابوري يعُد من أبرز العارفين الذين تركوا أثرًا بالغًا في تاريخ التّصوف الإسلامي. ويتبع عطار المدرسة الصّوفيّة التي تعتمد على الكشف والشهود طريقًا لمعرفة الحق، ما يجعله من أتباع الصّوفيّة الأولياءعلى الرّغم من أنّ عطار قد قدم في مؤلفاته أربعة تصورات مختلفة للسلوك الصوفي، إلّا أنّه لم يقدم وصفًا منهجيًا دقيقًا لمراحل السّلوك كما هو الحال في بعض الكتب الصّوفيّة الأخرى. ومع ذلك، وبعد دراسة متأنية لأعماله، تبيّن أن سلوك عطار يمر بثمان مراحل رئيسة هي: اليقظة والطلب، والتزكية، والأحوال، والعشق، والاستغناء، والحيرة، والفناء والبقاء، والتوحيد.
ويؤكد الباحثون أن كل مرحلة من هذه المراحل تؤدي دورًا حاسمًا في السّلوك الصوفي، وأن الانتقال من مرحلة إلى أخرى يتطلب كسب مهارات وقدرات معينة لا يمكن اكتسابها إلا بتوجيه شيخ صوفي. ومن أبرز الوسائل التي أوصى بها عطار لتنمية هذه القدرات هي السكوت، والاعتدال في الأكل، والتواضع.
إن مراحل العشق والفناء والحيرة تحتل مكانة مركزية في مشرب عطار الصوفي، إذ تركت آثارًا عميقة على جوانب أخرى من مشربه. فبعد أن يمر السّالك بالمراحل السابقة جميعها، يصل إلى مرحلة التوحيد، فيدرك أن كل شيء فانٍ وأنّ الحق هو الوجود الأزلي والباقي.
ملاحظات:
- نظرًا لتطابق تاريخ نشر كتابي عطار “المصيبة نامه” و”أسرار نامه”، فقد ميّزناهما بالأرقام (1) و(2) على التوالي في الهوامش.
- لمقارنة بين الخوف والرجاء وتفضيل أحدهما على الآخر، يرجى الرجوع إلى (السلمي 1372هـ: 76؛ الهجويري 1396، 171، 187-186؛ القشيري 1388: 200؛ عز الدين محمود كاشاني 1387: 274)
المصادر
- القرآن الكريم (2010): ترجمة مهدي إلهي قمشي، أصفهان، قلم آريا.
- ابن أبي الحديد عبد الحميد بن هبة الله. (1367). شرح نهج البلاغة. 20ج، قم: مكتبة آية الله المراشي النجفي.
- السراج الطوسي، أبو نصر (1388 هـ). اللمع في التصوف، تحقيق رينولد نيكلسون، ترجمة مهدي محبتي. طهران: اساطير.
- ________(1914م). اللمع في التصوف، تحقیق رینولد نیکلسون، لیدن، مطبعة بریل
- ابوطالب مکي (1417ق). قوت القلوب في معاملة المحبوب، تحقیق باسل عيون السود بيروت: دار الكتب العلميه.
- حسين الواعظ الكاشفي (1396 هـ). لب لباب المثنوي، بتحقيق وتصحيح سيد نصر الله التقوي، و مقدمة لسعيد النفسي، طهران:أساطیر.
- دهباشي، مهدي و سيد علي أصغر ميرباقري فرد. (1386 هـ). تاريخ التصوف، الجزء الأول، طهران: سمت.
- روزبهان بقلي الشيرازي (1374 هـ). شرح الشطحيات، تحقيق هنري كوربن، طهران: طهوري.
- هلموت ريتر (1388 هـ). بحر الحياة: دراسة في آراء وأحوال الشيخ فرید الدين عطارالنيشابوري، ترجمة عباس زرياب خويي ومهرآفاق بايبردي، في مجلدين، طهران: الهدى.
- عبد الحسين زرين كوب (1380 هـ). صوت جناح السيمرغ: دراسة في حياة وأفكار عطار، طهران: سكن.
- سلمي، أبو عبد الرحمن. (1372 هـ). طبقات الصّوفيّة، تحقيق نور الدين شريبه، مصر: دار الكتاب العربي.
- سيوطي، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر. (1428 هـ). الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير، بيروت: دار الفكر.
- عز الدين محمود الكاشاني. (1387 هـ). مصباح الهداية ومفتاح الكفاية، مقدمة وتصحيح وشرح عفت کرباسي ومحمد رضا برزگر خالقي، طهران: زوار.
- فرید الدين عطار النيشابوري (1391 هـ). تذكرة الأولياء، تحقيق محمد استعلامي، الطبعة الثالثة والعشرون، طهران: زوار.
- ___(1383 هـ). منطق الطير، تحقيق محمدرضا شفيعي كدكني، طهران: سخن.
- ___(1386 هـ/ الجزء الأول). أسرار نامه، تحقيق محمدرضا شفيعي كدكني، طهران: سخن.
- ___(1386 هـ/ الجزء الثاني). مصيبة نامه، تحقيق محمدرضا شفيعي كدكني، طهران: سخن.
- ___(1388 هـ). إلهي نامه، تحقيق محمدرضا شفيعي كدكني، طهران: سخن.
- الغزالي، أبو حامد محمد (1361 هـ). كيمياء السعادة، بتحقيق حسين خديو جم، الجزء الثاني، طهران: العلمي الثقافي.
- فروزانفر، بديع الزمان (1397 هـ). شرح أحوال ونقد وتحليل آثار الشيخ فرید الدين عطار النيشابوري، الطبعة الثالثة، طهران: جمعية آثار ومفاخر الثقافية.
- القشيري، أبو القاسم عبد الكريم (1374 هـ). الرسالة القشيرية، تحقيق عبد الحليم محمود ومحمد بن شريف، قم.
- ___(1388 هـ). ترجمة الرسالة القشيرية، ترجمة أبي علي عثماني، تحقيق بديع الزمان فروزانفر، طهران: العلمي الثقافي.
- ___(1396 هـ). الرسالة القشيرية، ترجمة أبي علي عثماني تحقيق سيدة مريم روضاتيان وسيد علي أصغر ميرباقري فرد، طهران: سخن.
- المستملي بخاري، إسماعيل (1363). شرح تعرف لمذهب التصوف، ج 1، تصحيح محمد روشن، الطبعة الثانية، طهران: أساطير.
- گوهرین، سيد صادق (1388). شرح اصطلاحات التصوف، 10 أجزاء، طهران: زوار.
- میبدي، أبو الفضل رشيد الدين (1371). كشف الأسرار وعدة الأبرار، بسعي وعناية علي أصغر حكمت، الجزء الثالث، طهران: أمير كبير.
- ميرباقري فرد، سيد علي أصغر (1394). تاريخ التصوف، الجزء الثاني، طهران: سمت.
- ___[1391]. «العرفان العملي والنظري أو السنتان الأولى والثانية في التصوف»، مجلة بحوث الأدب الصوفي (گوهرگویا)، السنة السادسة، العدد الثاني المتتالي 22، الصفحات من 65 إلى 88.
- نجم الدين الرازي. (1383). مرصاد العباد، تصحیح محمد أمين رياحي، الطبعة العاشرة، طهران: العلمي والثقافي.
- هجویری، أبو الحسن. (1396). كشف المحجوب. مقدمة، تصحیح و تعليقات محمود عابدي، طهران: سروش.
د. حسين آقاى حسيني
د. سيد مير باقري فرد
دكتر محبوبة هميتان
1– طالبة دكتوراه في اللغة والأدب الفارسي، جامعة أصفهان – إيران.
PhD student in Persian Language and Literature, University of Isfahan Email: S_rahimi_84@yahoo.com-
[2] – أستاذ اللغة والأدب الفارسي، جامعة أصفهان- إيران.
h.aghahosaini@ltr.ui.ac.ir :Professor of Persian Language and Literature, University of Isfahan, Iran. Email –
[3] – أستاذ مساعد في اللغة والأدب الفارسي، جامعة أصفهان- إيران.
Assistant Professor of Persian Language and Literature, University of Isfahan, Iran. Email: m.hematian@ltr.ui.ac.ir-
أستاذ اللغة والأدب الفارسي، جامعة أصفهان- إيران. -[4]
Email: bagheri@ltr.ui.ac.ir -Professor of Persian Language and Literature, University of Isfahan, Iran-
[5] – راجع قشيري، 2016، المقدمة 21.
[6] – ابن أبي الحديد، 1367: 220-292.
[7] – راجع: ميرباقري فرد 1391: 74.
[8] – المصدر نفسه، ص 75.
[9] -عطار، 1383: 10-96.
[10] – العطار، 2/1386: 438.
[11] -العطار، 1386/1: ب 1556-1552.
[12] – میرباقری فرد، 1391: 77.
[13] -العطار، 1383: ب 1123-1123.
[14] -العطار، 2016/2 ب 429.
[15] -العطار، 1388: ب 2633-2620.
[16] -راجع: القشيري، 1396: مقدمة 21.
[17] -راجع المستملي البخاري، 1363، الجزء الرابع: 1760-1759.
[18] -عطار، 1383، ص 1552-1547، وص 1542-1537.
[19] -العطار،1/1386: ب532 و533.
[20] -العطار،2/1386: ب 1237-1232.
[21] -العطار، 1383: ب 687-682.
[22] -عطار،2/1386: ب 948-945.
[23] -دهباشي و میرباقري فرد، 1386: 219-205.
[24] -العطار :1383: ب 3258-3258؛ العطار،2/1386 ب 2730-2726.
[25] – العطار2/1386: ب 3402 ويب 3678.
[26] – العطار، 1383: ب 3316 3313.
[27] -العطار2/1386 : ب 2767-277192751.
[28] -العطار1/1386 ب56.
[29] -العطار 2/ 1386: ب 6943-6947.
[30] -العطار 2/1386: ب 4619-4613.
[31] -دهباشي وميرباقري فرد، 1386: 190.
[32] -العطار 1383 ب 1850-1835.
[33] – المصدر نفسه ب 1544-1521.
[34] -العطار، 1/1386: ب1465-1440.
[35] -العطار، 2/1386: ب 2586-2564.
[36] -العطار، 1388:ب 6433-6417.
[37] -حسین واعظ کاشفي،1396:383.
[38] -عطار،2/1386، ص 704-696.
[39] -العطار،1388:ب،5481-5477.
[40] -العطار، 1383:ب3327-3323.
[41] -العطار، 1388:ب 1821.
[42] -العطار، 1/1386:ب2142-2140-1796-1794.
[43] -العطار، 1/1386:ب3137.
[44] -العطار، 1383: ب1131-1097.
[45] – العطار،1/1386: ب1631-1630.
[46] – المصدر نفسه: ب 1662-1694.
[47] -العطار، 1388: ب 5045-5039.
[48] -سیوطي، 1428 ق، ج1 :70.
[49] -العطار، 2/1386: ب6039-6036.
[50] -العطار، 2/1386: ب6055 -6056.
[51] -العطار، 2/1386: ب6094.
[52] -راجع قشيري 2008، كاشاني، 2007: 294-293.
[53] -العطار، 2/1386: ب297-293.
[54] -راجع أبو نصر سراج، 1388 (111).
[55] -العطار، 1383: ب3096-3089.
[56] -راجع دهباشي وميرباغري فرد، 2016: 226.
[57] -العطار، 1/1386: ب1527-1526.
[58] -العطار، 2/1386: ب1164-1161 و 5432 نفس المصدر، 1388: ب 2177 و 2178.
[59] -العطار،2/1386: ب915- 909.
[60] -راجع عز الدين محمود كاشاني 1387: 131-129.
[61] -العطار، 1383: ب1119-1100.
[62] -العطار، 1388: ب1473-1389.
[63] -العطار، 1388:ب1388- 1387.
[64] -راجع الجرجاني 1370: 114)
[65] -راجع عز الدين محمود الكاشاني، 1387: 50. جوهرين، 1388، المجلد10 -301-303)
[66] -العطار،1/1386: ب396)
[67] -العطار، 1383: ب266، نفس المصدر،1388:ب189-232-292)
[68] -العطار، 2/1386:ب5094-5096)
[69] -يشير هذا الجزء من البيت إلى مرحلة وصل فيها السالك إلى الحقيقة والمعرفة الحقيقية. وبعد أن وصل السالك إلى المعرفة الحقيقية، يجب عليه أن يجسد ما رآه وفهمه في ذاته وأن يعمل به. كلمة “ببین” تعني الرؤية والشهادة الداخلية، وكلمة “بباش” تعني تحقق وتجلي تلك المعرفة في ذات السالك.
[70] -العطار، 1383: 281- يشير هذا الجزء من البيت إلى أهمية حفظ أسرار العرفان. فبعد أن يصل السالك إلى سرٍّ ما، لا يجب عليه أن يفشيه لأي شخص. لأن أسرار العرفان ليست مفهومة للجميع وقد تؤدي إلى سوء الاستخدام أو تحريف المعاني. وكشف بعض الأسرار قد يؤدي إلى الفتنة والاختلاف.
[71] -العطار، 1383:ب1186-1178. نفس المصدر: ب2907-2905.
[72] -العطار 1383: ب3443-3445. ب3488-3486.
[73] -راجع روزبهایي بقلي شیرازي، 1382 : 138.
[74] -راجع العطار، 2011: 516.
[75] -العطار، 1383:ب736-733.
[76] -العطار، 1/1386: ب134-109 و 4182.
[77] – المصدر نفسه، ب3608-3605.
[78] – العطار، 1383:ب4195 . العطار، 1/1386: ب106-104.
[79] -العطار، 1388:ب3604.
[81] -العطار، 1/1386: ب86-84. ب975-950.
[82]-راجع نجم الدين الرازي، 2013: 326.
[83]-العطار، 1/1386:ب86-84. ب 975-950.
[84]– المصدر نفسه:ب1713-1706.
[85] – المصدر نفسه: ب1552-1745.
[86] – المصدر نفسه: ب1720-1714.
[87] – المصدر نفسه: ب1943-1946.
[88] -العطار،1388: ب1825-1822؛ ب6272-6269؛ب2177.
[89] -العطار، 1388: ب1967-1959.
[90] – المصدر نفسه: ب5184-5144
[91] – المصدر نفسه: ب3304-3272.
[92] – المصدر نفسه: ب3469-3460.
[93] – المصدر نفسه: ب 3345-3340.
[94] – المصدر نفسه: ب5124-5102.
[95] – المصدر نفسه: 2587.
[96] – المصدر نفسه: ب3414-3413؛ ب3673-3677، ب3474.
[97] – المصدر نفسه: ب862-815.
[98] -راجع: القشيري، 1388: 519؛ روزبهان بقلي الشيرازي، 1374: 988-97؛ الميبدي، 1371، ج2: 396.
[99] -العطار، 1383:ب3732؛ نفس المصدر، 1/1386:ب 31 و32، 54و 55؛ نفس المصدر ، 2/1386: ب4249؛ ب1532 و 1533.
[100] -العطار، 2/1386: ب4239-4236؛ نفس المصدر: 1383: ب3787.
[101] -العطار، 1388: ب1797.
[102] -العطار، 1/1386: ب1573 و1574.
[103] -فروزانفر، 1397: 361.
[104] -میرباقري فرد، 1394، ج2 : 31و30.
[105] -العطار، 2/1386: ب1038-1037.
[106] -العطار، 2/1386: ب1027.
[107] -العطار، 1388: ب1676-1665.
[108] -العطار، 1/1386: ب1373-1365.
[109] -العطار، 1/1386: ب3057-3058 و 3064 و 3105.
[110] -العطار، 1388: ب6451-6446؛ العطار، 1/1386:ب3141.
[111] -العطار، 1/1386: ب1795 و3137 و3174.
[112] – المصدر نفسه: ب 2140؛ ب 1302 و1303.
[113] -العطار، 2/1386: ب7219-7206.
[114] -العطار، 1388: ب2141-2121.
[115] -العطار، 1388: ب2827-2844.
[116] -العطار، 1388: ب988-986و3781.
[117] – المصدر نفسه: ب2954-2946.
[118] – المصدر نفسه: ب953-946.
[119] -العطار، 2/1386: ب4317-4311.