foxy chick pleasures twat and gets licked and plowed in pov.sex kamerki
sampling a tough cock. fsiblog
free porn

دور الفلسفة في تكوين مواطن المستقبل

0

عنوان البحث: دور الفلسفة في تكوين مواطن المستقبل

اسم الكاتب: د. لبنى محمود الأعور

تاريخ النشر: 19/01/2025

اسم المجلة: مجلة أوراق ثقافية

عدد المجلة: 35

تحميل البحث بصيغة PDF

دور الفلسفة في تكوين مواطن المستقبل

The role of philosophy in forming the citizen of the future

Dr. Lubna Mahmoud Al Awar * د. لبنى محمود الأعور

تاريخ الإرسال: 27-12- 2024                                تاريخ القبول: 6-1-2025

ملخص                                                                              turnitin:11%

ترتبط ولادة الفلسفة بالمواطنة، فكلتاهما ولدتا في أثينا حيث سادت الحرية، وتمتّعت هذه المدينة بالديمقراطيّة. تقوم الفلسفة على التفكير الحرّ، الذي يدعو إلى المساءلة والنقد والتحاور والانفتاح على الآخر واحترامه كونه ذاتًا مفكّرة. وتلعب بالتالي دورًا فاعلًا في تكوين المواطن الصالح والواعي القادر على التصدي للتحدّيات التي قد تواجهه، بكل استقلالية ووضوح رؤية، مما يمكّنه من التفكير العميق خارج الصندوق وابتداع الأفكار، فيزيد من فرصه في اجتراح الحلول وصنع مستقبل أكثر تقدمًا وازدهارًا.

الكلمات المفاتيح: الفلسفة، التعليم الفلسفي، مواطن المستقبل، المواطنة، الديمقراطية، الحرية، النقد، التفكير الحرّ.

Abstract: Philosophy is closely tied to citizenship, as both were originated in Athens, where freedom prevailed, and democracy flourished. Philosophy is founded on free thinking, which encourages questioning, criticism, dialogue, openness to others, and respect for them as autonomous individuals. Therefore, it plays an active role in shaping good and conscious citizen who is capable of independently and clearly addressing the challenges he faces. This empowers him to think deeply outside the box, innovate, create solutions, and achieve greater progress and prosperity in the future.

Keywords: philosophy, philosophical education, citizen of the future, citizenship, democracy, freedom, criticism, free thinking.

د. لبنى محمود الأعور

مقدمة: تقوم الفلسفة على ما يدعوه كانط Kant بـ “الحرية العقليّة” التي لا يمكن للفلسفة أن توجد من دونها، كونها تنبني على الاعتراف بتعدد المواقف والرؤى، وتستند إلى مبدأ الإصغاء والتّحاور مع الآخر وإلى المساءلة والنقد، لذلك، يمكن الإقرار أن فعل التفكير كاستخدام لملكة العقل، يقوم أساسًا على مبدأ الحرية. وشرط التّفلسف هو تفعيل الحوار والتخلّي عن كل نزعة دوغمائيّة أو إقصائيّة، وتأكيد أن الفكر الفلسفيّ هو وجه من وجوه “الثقافة الديموقراطيّة”. ولأنّ التّفلسف مُمارسة نقدية، فإنّه يستدعي خوض غمار المُساءلة والدخول في معترك الأسئلة، عبر تتبع مسارات الفكر الذي ينادينا ويدعونا للقيام بفعل التفكير، فهو إذن دعوة للابتكار والخلق ولخلخلة الثوابت، والبديهيات والمطلقات وتفكيكها من الدّاخل. من خلال عمليّة التفكيك، تصبح القضايا كلّها عرضة للمساءلة، والنّقد والحوار وهذا هو الهدف الأساسي من كل ممارسة فلسفيّة. ونهج الفلسفة قائم على النّقد والتساؤل والحرّية، لذا يفترض تعليمها خلق فضاء حواريّ تفاعليّ، قائم على الاستفهام وطرح الإشكاليّات، بُغية بعث روح النقد والمُساءلة لدى المتعلم.

يُسهم التّعليم الفلسفيّ بواسطة تكوينه عقولًا حرّة، ومفكرة بشكل مهم وفاعل في تكوين مواطنين أحرار، يمارسون قدراتهم في الحكم، كما إنّه يدرّب بالفعل على استخدام ملكة الحكم للخروج من روتينيّة الفكر ومواجهة مختلف الآراء وحُجاجها مع احترام آراء الآخرين وكلامهم، كونه صادرًا عن ذوات مفكّرة، بالعودة والخضوع لسلطة العقل وحده. ويمكّن التعليم الفلسفي من الاشتباك الفكري والثقافي بين أعباء الماضي، وتحديات الحاضر ومتطلبات المستقبل. وعلى هذا هو الزاد الأمثل لبناء مواطن المستقبل الذي يستطيع مواجهة التحديات وتخطي الصعوبات، وإيجاد حلول للمشكلات التي تعيق تقدمه وتطوره، بكل استقلالية ووضوح رؤية. فيكون أقدر على بناء مستقبل أفضل وأكثر إشراقًا.

ولكن الفلسفة ما زالت تُعاني التهميش والاغتراب في المجتمعات الشرقيّة عمومًا والعربيّة خصوصًا فيَصِمُها أصحاب الرؤية الدّينيّة المُنغلقة بالكفر والإلحاد، وينظر اليها متعصبو العلم نظرة دونيّة، كونهم لم يخرجوا حتى اليوم من زمن “ما بعد الحداثة”.

ومن هذا المنطلق نطرح الإشكاليّة الآتية: انطلاقًا من وظيفتها الطبيعيّة، ما هو الدور الذي تقوم به الفلسفة في تكوين المواطن بما يساهم في إعداده للمستقبل؟ ويتفرع عنها السؤال التالي: هل تقوم الفلسفة بهذا الدور في مجتمعاتنا العربية؟

استخدمنا في بحثنا المنهج الوصفيّ التحليلي Descriptive Analytic Method والمنهج التاريخي لرصد علاقة الفلسفة بالمواطنة، وتأثير الأولى على تكوين مفاهيم المواطنة، وتوفيرها للأدوات التي تساعد في بناء مواطن قادر على مواجهة تحديات المستقبل.

 إنسانيّة الفلسفة: حاكت الفلسفة دومًا العقل الإنساني، ومنه انطلقت وجعلت غايتها الإنسان لتهتمّ بحقوقه، مشاكله، أزماته، قلقه وعبثيّته إزاء هذا الوجود وفي خضمّ هذه الحياة؛ محاولة إلزام نفسها بقضاياه، وكونها عُنيت، غالبًا، بالمبادئ والكليّات، فهي لم تنسلخ يومًا عن هذا الإنسان. وسواء انطلقت من المبادئ إلى الإنسان بمنهج استدلالي عقلاني، أو انتهجت منهجًا استقرائيًّا تجريبيًّا يعتمد على المعطيات الحسيّة متخذة منحى عكسيًّا، بقي موضوعها الأصليّ هو الإنسان بوصفه ذاتًا مريدة حرّة. فسعت دومًا إلى تأمين حياة أفضل يحقق فيها هذا الكائن العاقل أكبر قدر ممكن من العدل والسعادة والرخاء.

ارتبطت الفلسفة في وجودها بالحريّة والديمقراطيّة، فليس صدفةً ولا عبثًا أنها نشأت في أثينا التي كانت أول مدينة – دولة عرفت الحرية السياسيّة والديمقراطيّة، فقد نشأ للمرّة الأولى مفهوم المواطن. فها هو “أرسطو Aristotle” يعرّف الإنسان أنه مدنيّ بالطبع وحيوان اجتماعي سياسيّ. وربط بين الاجتماع السياسي والحقوق والحرية، فعدَّ “أن المدينة ليست إلا جماعة من الأحرار .. وهذا الذي يكون مواطنًا تمامًا هو الذي له نصيب في السلطات العامة”([1]).

لا تقبل الحريّة الخضوع إلّا لسلطة واحدة، هي سلطة العقل، في الإنسان كما في الدّولة. فسلطة القانون في الدولة تُحاكي سلطة العقل في الفرد كما بيّنها لنا “أفلاطون”، وكما وضّحها وفصّلها في ما بعد “كانطKant” عندما طابق بين صورة العقل الإنساني وصورة الدولة المواطنة في توزيع السّلطات فيها يتماثل مع ملكات العقل: فالسلطة التشريعيّة تقابل العقل النظريّ المشرّع الذي يملك المعرفة؛ السّلطة التنفيذيّة توازي العقل العمليّ الذي يطبّق أفكاره بموجب مبادئه وقواعده؛ وتقوم السلطة القضائيّة بدور مواز لدور ملكة الحكم التي بموجبها يقرّر العقل صدق معارف الإنسان وأفعاله وصلاحيّاتها. ولن تَتحقّق دولة الحق، المؤجّلة بحسب كانط Kant، إلّا عندما يرتقي الانتماء إلى مجتمع سياسيّ يتعالى عن الفوارق ويحوّل كل فرد إلى شخص معنوي، يتساوى بالحقوق ويتماثل مع كل الآخرين، وراء خصوصيّاته واختلافاته، ويتعامل مع الآخر، على أنه ذات مفكرّة حرّة. ومن هذا المنطلق عدّت منظمة اليونسكو أن الفلسفة هي إحدى الطرق المهمّة لتحقيق السلام لما تتميّز به من الهامش الواسع من الحرّية، والحوار والمساءلة والنقد البنّاء والانفتاح على الآخر، انطلاقًا من أنّه: “لمّا كانت الحروب تتولد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن تُبنى حصون السلام([2])“.

ولتأكيد أهمية تعليم الفلسفة في سبيل تعزيز الحياة الديموقراطية والمواطنة، عقدت منظمة اليونسكو ندوة باريس حول “الفلسفة والديمقراطية” في أواسط شباط 1995 وصدر عنها بيان عام يتمحور حول العلاقات بين الفلسفة والديمقراطيّة في العالم اليوم، كما صدر إعلان عرف باسم “إعلان باريس من أجل الفلسفة” وفيه تدعو اليونسكو إلى اعتماد الفلسفة في التربية والتعليم، وفي السياسة وفي التفكير في مستقبل البشرية. في عالمٍ يتخبط اليوم، بأشكال الصراعات والعنف كافة ،والانغلاق والتعصب والإلغاء ورفض الاْخر المختلف، ما أحوجنا إلى الفلسفة والتفلسف!

لقد خلّدت الدولة اليونانيّة القديمة، عقولًا فذّة، دلّت للمرة الأولى في تاريخ البشرية، على استيقاظ الوعي الإنساني والعقل المفكّر، الذي تُرجم بولادة الفلسفة. وهذا الوعي انعكس في الدولة التي حاكت العقل الإنساني، حيث سادت فيها القوانين العامة. وهذه القوانين ليست إلا قواعد العقل ذاته. وهذا ما بيّنه سقراط عندما عدَّ الدولة ليست إلاّ شخصًا كبيرًا([3]).

ومنذ أن أسقط سقراط Socrates الفلسفة من السماء، وجعلها حالة من الوعي “إعرف نفسك” وأقرّ بجهل الإنسان في كل ما يتعلق بحياته وحتى بذاته، وما مقولته الشهيرة “كل ما أعرفه هو أنني لا أعرف شيئًا”، إلّا دعوة مفتوحة لكل إنسان بالمطلق وكل فيلسوف بالأخصّ أن يبدأ رحلة المعرفة، معرفة هذا الكائن “Être” وكل ما يحيط به، فصارت الفلسفة تُعنى بكل جوانب حياة الإنسان وميادينه.

لم يختلف الأمر كثيرًا مع الفلاسفة المحدثين من “ديكارت Descartes” في كتابه “Discours de la Methode”، إلى فوكو “Foucault” الذي لم يعلن موت الإنسان في كتابه “Les Mots et les hoses” إلا ليعيد للإنسان دوره ومكانته في هذا العالم الذي أخضع الإنسان وأصبح يتحكّم به، فيرى أنّ المشكل ليس هو تغيير “وعي” الناس أو ما يوجد في ذهنهم، بل تغيير النظام السياسي والاقتصادي والمؤسسيّ لإنتاج الحقيقة. ومن هذا المنطلق عُني الفلاسفة منذ العهود الأولى بمحاولة تحديد، المفاهيم التي تتعلق بهذا الكائن المفكر وتفسيرها، وتنعكس على حياته الفكريّة، الاجتماعيّة، السياسيّة السلوكيّة والعمليّة، كأسباب الاجتماع وغايته والسياسة والأخلاق ومفاهيم الحق والواجب والحرية، والدولة والرعاية، ودولة الحق وحقوق المواطن، والتربية على المواطنة، والديمقراطية وغيرها من المفاهيم. وتشكّل المواطنة الحجر الأساس لتكوين مواطن المستقبل كونها السبيل الوحيد للانتماء للوطن. فما هي المواطنية وكيف تتحقق؟

  • المواطنة: إن مفهوم المواطنة، كما سبق أن بيّنا، يونانيّ المنشأ، ديمقراطيّ المنحى، ينضوي تحت ظلّ القوانين التي يخضع لها الجميع من دون استثناء بمقتضى العدالة. ويرتبط طبيعيًّا مفهوم المواطنة بالوطن أو الدولة، فالمواطنة هي العلاقة التي تربط المواطن بالوطن. لم ينحصر اهتمام الفلسفة اليونانية في تعليم الفلسفة نظريًّا وفكريًّا، ففي أثينا انشغلت الفلسفة في إنشاء المواطن الصالح. وعدَّت أن صلاح الفرد في نفسه والمواطن في مدينته هما السبيل الوحيد لصلاح المدينة واستمراريّتها.

والدولة، بحسب أرسطو Aristotle، هي الراعية لمواطنيها والتي تكفلهم وتهتّم بهم اهتمام الأب الراعي لأولاده الذي يبحث عن رفاه أولاده وسعادتهم. وليس غريبًا أن يؤكد، مؤسس علم السياسة، فكرة ضرورة حماية الدولة للمصلحة العامة ومحوريّتها في وضع الدساتير. فيصرّح: “الدساتير كلها التي تقصد إلى المنفعة العامة، هي صالحة لأنها تتورع في إقامة العدل”([4]). وهذه الرؤية سابقة بعصور لمفهوم، دولة الرعاية التي ولدت بعد عصر الأنوار، بل وحتى متخطية لها، كونها لا ترى الدولة فقط راعية لمواطنيها، وتؤمّن لهم الرفاه، بل تجعل سعادتهم غايتها.

إن عبقرية أرسطو Aristotle واعتماده المنهج التاريخي سمحا له بتحديد السلطات الثلاث وفصلها قبل مونتسكيو Montesquieu، كما أنّ رؤيته للأهليّة السياسية للأكثرية لجهة انتخاب الحكام، تتفق مع رؤية مكيافللي Machiavelli في كتابه “الأمير”. ويجدر أن لا ننسى أن كلًّا من أفلاطون Plato وأرسطو Aristotle ، يؤكّد أن السيادة يجب أن تكون للقوانين المؤسّسة على العقل أو سلطان العقل. وأنّ أيّ دولة لا تعرف أن تقوم على صورة هذا العقل، هي دولة فاسدة مؤذنة بالانهيار.

اختلفت النظرة في القرن الثامن عشر إلى الإنسان – المواطن وخاصة مع عصر الأنوار، وصار ينظر إلى الإنسان بصفته إنسانًا، أي لا فرق في الطبيعة بين إنسان وآخر، والتمايز بين الطبيعة الإنسانيّة والطبيعة الحيوانيّة يقوم على العقل أو الفكر. وكانت أفكار كل من لوك Luke ومونتسكيو Montesquieu وروسو Rousseau وكانط Kant ذات تأثير هائل على عصر الأنوار وعلى الجمعية التأسيسيّة الفرنسية ولاحقًا على شرعة حقوق الإنسان. كما اختلفت النظرة إلى المواطن، وإلى حقوق هذا الإنسان/ المواطن الذي صار يتمتّع بالإضافة إلى حقوقه الطبيعيّة والسياسيّة، بحقوق مدنيّة. فما هو الحق؟

  • مفهوم الحقّ: إذا انطلقنا من كون الحقّ قيمة، تتحدد في أفعال الأفراد وسلوكياتهم داخل المجتمع فلا يمكن تصوّره بمعزل عن القيم الأخرى التي انبنت عليها قواعد أفعال الإنسانيّة وشروطها ومواقفها، مثل الحرية والمساواة والعدالة والكرامة والواجب وغيرها.

لغويًّا، بحسب معجم “لالاند Lalande”، “إن كلمة الحق يمكن أن ترجع إلى فكرتين: الحق هو ما يكون مسموحًا به، وأيضًا يمكن تفسير الحق بأنه ما يكون مطابًقا لقاعدة محددة. وهو على ثلاثة أشكال: طبيعي ناتج عن طبيعة البشر والعلاقات القائمة في ما بينهم باستقلال عن كل تشريع، وحق وضعيّ ناتج عن القوانين مثل الحق المدني، وحق ثالث تأسس على مبدأ المساواة، ويشمل العلاقات بين الدول، وأيضًا العلاقات بين المواطنين المنتمين لهذه الأخيرة”([5]).

وعن الحق الطبيعي والمدني انبثقت الإعلانات عن حقوق الإنسان والمواطن، من النّظريات الفلسفيّة حول الحقوق الطبيعيّة والمدنيّة. وهي النّظريات التي تبلورت على يد كلّ من “سبينوزا Spinoza” و”هوبز Hobbes” و”لوكLuke” و”روسو Rousseau”، في إطار ما يعرف بنظرية الحق الطبيعي، وما تفرّع عنها من قضايا تهمّ العنف والسلطة والحرية المدنية والديمقراطية…

وستعرف هذه القضايا تعميقًا وتطويرًا، في إطار الفلسفات السياسيّة الحديثة المعاصرة، مع كانط Kant وهيجل Hegel وماركس Marx وشتروس Struss وهابرماس Habermas… إذ أخذت قضايا الحق والواجب والعدالة والمساواة، الأولوية في اهتمام هؤلاء الفلاسفة.

في محاولة لتأصيل مفهوم الحق الطبيعي والمدني فلسفيًّا، نجد أن الأسس التي استند عليها هي: مبدأ العقل والنزعة الإنسانية ومبدأ الحريّة.

  • من الحق الى الواجب: كيف يمكن فهم العلاقة بين ما تفرضه الإلزامات الأخلاقيّة والاجتماعية كواجبات، وبين الحرية كأساس لكل حق؟ وبصيغة كانطيّة، كيف ننعت إنسانًا بكونه حرًّا، في الوقت نفسه الذي يكون فيه خاضعًا لضرورة لا مناص منها؟

رأى كانط  Kantأن الحق قبليّ (apriori) أي واقع في عالم النومينات – أو الأشياء في ذاتها- سابق على التجربة. ويعرّف كانط Kant الحقّ بقوله: “الحق هو كلّ عمل يستطيع – بواسطته أو قاعدة سلوكه – تفعيل حرية إرادة فرد ما للتعايش مع حرية فرد آخر على أساس قانون عام”([6]). وقد بيّن إمكان التفكر في الأحكام القبليّة المؤسسة للأفعال، واستنبط الفرض الأخلاقيّ من المبدأ العقليّ، بصفته مُحايثًا للطبيعة الإنسانيّة. وتسمح مرجعيّة الحق القبليّة بقبول الواجب بصفته شرط بلوغ الحق، الذي يترجم في الواقع بالقانون كمفهوم عقليّ، يمكّن من الربط بين الكليّ والجزئيّ بواسطة الفعل.

فكيف تتحّدد العلاقة في إطار هذه الدولة، بين القانون كإلزام والحقوق كحريات؟

  • دولة الحق وحقوق المواطن: غنيّ عن البيان، أنّ سيادة القانون واحترام وخضوع الجميع له واحترام الشّخص الإنساني هي النواة الصلبة لدولة الحق. وهي بتعبير “جاكلين روس Jacquline Russ”: “دولة يوجد بها قانون وحق مرتبطان باحترام الشخص. هي إطار قانوني، يضمن الحريّات الفردية ويدافع عن الكرامة الإنسانيّة ضد كل أشكال العنف والاستبداد”([7]).

إن الأسس والمبادئ النظريّة لهذه الدولة تأسست بين القرنين السادس والثامن عشر. بداية مع “هوبز Hobbes” الذي رأى أن دولة الحق هي الدولة الضامنة للحريات الفرديّة. فالدولة تقوم حين يتنازل الناس عن سلطتهم لصاحب السيادة، فتتركز في يده سلطة عظيمة، يخافونها ويشكل بها إرادتهم بذلك لصيانة السلام في الداخل، والدفاع عن الداخل أمام الخارج.

اختلف مفهوم الدولة بمرور الزمن، وارتبط بتطور الرؤية الواعية إلى الإنسان وحقوقه وعلاقته بالدولة. الأمر “مونتسكيو Montesquieu” فقد آمن صاحب كتاب “روح الشرائع” بتأسيس أنظمة ضرورية على أساس إرادة الشّعب بدلًا من الاستناد إلى فرد واحد أو عدة أفراد، وهذا ما سيؤدي بنظره إلى ظهور دولة حرة يكون كل فرد فيها حرًّا وتحت إرادته. وتعدُّ نظريته في ضرورة فصل السلطات: التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة، للحفاظ على الحرية والمنفعة العامة، ذات أهمية قصوى، وأصبحت القاعدة التي تقوم عليها الدساتير في العالم بعد القرن التاسع عشر.

انطلق “روسو Rousseau” من العقد الاجتماعي الذي بنظره يؤلّف الركيزة الحقيقيّة لتأسيس المجتمع المدني. وهو عقد حرّ بين كل فرد بصفته إرادة حرّة والمجتمع بوصفه مجموع إرادات حرة متفقة. والنظام السياسي في فكر روسو Rousseau أشبه بالشركة، لا يطيع فيه المشتركون – أي الشّعب – أحدًا سوى أنفسهم، مع وجود حال التضامن فيما بينهم. ويعرّف روسو المواطنين على الخصوص، كمشاركين في السلطة ذات السيادة([8]). ويدخل في هذا الإطار مفهوم الحريّة الفرديّة التي تكمن في العلاقة التي تتناول التحام الفرد/ المواطن، أي الإنسان صاحب الحقوق الفردية التي يتنازل عن جزء منها للصالح العام الذي هو جزء منه فيكون كأنما يتنازل لنفسه.

وتبلور فيما بعد مفهوم العقد الاجتماعي مع كانط “Kant” الذي هو بالنسبة إليه، محصلة لعقلانية الإنسان، فهذه العقلانية لن تستقرّ إلا بإبرام العقد الاجتماعي، وتأسيس الحكومة المدنية. المواطنون عند “كانط Kant” هم الأعضاء الفاعلون وأصحاب الصلاحيّة والاختيار في المجتمع المدني. وعلى هذا فالمواطن بالنسبة إلى كانط Kant هو “عضو” في المجتمع المدني وليس “جزءًا” منه كما هو عند “روسو Rousseau”. أي إنّه يساهم بإرادته الحرّة، بشكل فاعل في شؤون المجتمع. وهو يخضع للقانون عن رضا لأنه هو الذي شرّعه، ولو أحجم عن إطاعته فالسلطة السياسيّة تجبره على طاعته. فالمجتمع المدني يدور عنده، حول القانون لا حول الفرد، والدولة هي دولة القانون.

ونرى أن العلاقة في المجتمع المواطنيّ، بالنسبة إلى كانط Kant، انتقلت من المفارقة إلى المُحايثة، فطابق بين صورة العقل الإنساني وصورة الدولة المواطنة في توزيع السلطات فيها يتماثل مع ملكات العقل: فالسلطة التشريعيّة تقابل العقل النظريّ المشرّع الذي يملك المعرفة؛ السلطة التنفيذيّة توازي العقل العمليّ الذي يطبّق أفكاره بموجب مبادئه وقواعده؛ وتقوم السلطة القضائيّة بدور مواز لدور ملكة الحكم التي بموجبها يقرّر العقل صدق معارف الإنسان وأفعاله وصلاحيّاتها. إن هذا التوافق بين العقل ودولة الحقّ، فرض توزيع الأدوار بالنسبة إل المؤسسات، بالفصل بينها، ومراقبتها بأجهزة تمنع تجاوز القانون.

وكان لكلُّ من “أنغلز Engels” و”لينين Lenin” رأي مختلف، فالدولة برأيهما مؤسسة نشأت تاريخيًّا لضمان سيطرة طبقة من الناس على طبقة أخرى وهي من نتاج الطبقات العليا، لأنّ مصلحتها تدفعها للسيطرة على باقي الطبقات التي تقوم بعملية الإنتاج الفعليّة. وكذلك رآها “مكس ويبر Max Weber” أنّها تلك المؤسسة التي في مجتمع ما تحتفظ لنفسها باحتكار شرعية استعمال القوة والسّلطة على بقعة محددة من الأراضي. ومهما كانت النظرة للدولة، نوعها ونظامها، يبقى المهم من وجهة نظر بحثنا العلاقة الجدلية التي تربط المواطن بالدولة. والرباط الأساسي الذي يقوم عليه كلّ من مفهوم المواطن، ومفهوم الدولة هو مفهوم الحقّ والذي يعدُّ أحد المعايير المهمة التي تحدّد نوع الدولة وماهيتها.

لكن هل يكفي أن يكون للإنسان حقوق طبيعيّة سابقة على التّجربة حتى يعرف هذه الحقوق ويطالب بها ويحافظ عليها؟ وهل يكفي فقط إرساء الديمقراطيّة حتى تتأمن الحقوق، الطبيعيّة والمدنية والسياسيّة كافة ، ويعمّ العدل والطمأنينة والسلام؟ أم كما يقول روسو Rousseau الأكثر أهمّيّة من ذلك أنّه “لا يجب فقط تأسيس السيادة ولكن يجب أيضًا المحافظة عليها”([9]).

أو ليس على المواطن الميتافيزيقي من دون علمه، على حدّ تعبير دريدا Derrida، أن يفهم فلسفة الحقّ الطبيعي وماهيّة الإنسان الذي ولد حرًّا ومتساويًا في الحقوق مع الآخرين، حتى يتمكن من المُطالبة بحقوقه إذا سُلبت والمحافظة عليها وصيانتها من كل تعدّ واستلاب إذا وجد؟ فكيف يتعرّف الإنسان إلى حقوقه وواجباته؟ ألا تعدُّ التربية والتعليم بشكل عام، والفلسفة بشكل خاص، الباب والمدخل الأول لهذه المعرفة؟ وهنا من الملّح الانتقال في سياق بحثنا إلى مفهوم التربية المواطنية.

  • التربية على المواطنة: تنقسم الآراء حول أهمية التربية إلى اتجاهين مختلفين؛ يؤكّد الأول أنّ التربية قادرة أن تفعل كلّ شيء “فهي تقدر أن تجعل الدببة ترقص”، ويعبّر “التوسير Althusser عن الرأي الآخر قائلًا: “لا يمكن للتربية أن تغيّر أي شيء كونها موجهة أصلًا ومبرمجة لتعيد إنتاج ذاتها”([10]). تلتقي النظريتان في أن التربية تستطيع أن تُوجّه المتربي /الطالب /المواطن إلى حيث يريد المربي/المعلم /الدولة توجيهه لإحداث التغيير أو إعادة إنتاج النماذج والقوالب ذاتها.

إذا كانت التربية هي إعدادًا للحياة العامة كما يعرّفها “سبنسرSpencer” فالتربية المواطنة هي إعداد المواطن الصالح([11]). ولهذا السّبب بعينه لم يهمل أي مفكر، أو فيلسوف أو باحث اجتماعي قديم أو حديث أهمية التربية، سواء أكانت نظرته إيجابيّة أم سلبيّة إليها، وكرّست الدول والأنظمة، وخاصة الحديثة منها، للتربية الجهود الهائلة وجعلتها النّول الأساسيّ والمحوريّ الذي تحوك عليه كلّ تصوراتها ورؤيتها الوطنيّة، الاجتماعيّة والاقتصاديّة والايديولوجيّة الحاليّة والمستقبليّة.

إن مفهوم “التربية على المواطنة” ليس مفهومًا حديثًا، قد يكون ارتبط بظهور فكرة المواطنة نفسها، منذ العهد اليوناني، أوليَت التربية اهتمامًا كبيرًا. إذ اقترح أفلاطون في كتاب “الجمهورية” أنه يجب تعليم المواطنين أن يقبلوا أدوارهم الملائمة في المجتمع، فالمواطنون من دون التربية الملائمة ستتكون لديهم طموحات واهتمامات غير ملائمة، كما أن الصراع سوف يتولّد وتتغيّر العلاقات الاجتماعية، ما يمكن أن يهدّد استقرار الدولة. وتسير الدولة حسب أفلاطون قدمًا إلى الارتقاء في مدارج السعادة والفضيلة ولذا ليس في الجماعة منفعة واحدة، أو شأن واحد أحقّ بحسن الرعاية ولا بأدقّ العناية من التربية. وبدوره يَجزم أرسطو Aristotle على أهمية التربية فيقول: “حيثما كانت التربية مهملًا أمرها أصاب الدولة من ذلك مصيبة مشؤومة”([12]). ويؤكّد أن الديمقراطية لا يمكن لها الاستمرار من دون تربية صحيحة يقول في كتابه السياسة: “وإن الأخلاق الديمقراطيّة تحفظ الديمقراطيّة، وكلما كانت الأخلاق أظهر كانت الدولة أثبت”([13]). يؤكّد تربويّو اليوم، أنّ التربية على المواطنة هدفها تحقيق الديمقراطيّة ونشر قيم الولاء والانتماء بين أفراد المجتمعات. وتعدّ الركيزة الأساسيّة لتحقيق المشاركة الإيجابيّة والفعّالة. ويرى “ناصيف نصار” أن التربية المواطنة عمليّة نضاليّة مُستمرة. وهي تربية على المسؤوليّة السياسيّة”([14]).

ويضيف أن التربية على المواطنة تؤدي دورًا في تحويل المواطن إلى مواطن مستنير، بل هي أكثر من مجرد تنوير، إذ إنها مسؤولة عن تحويل المواطن بالقوة إلى مواطن بالفعل، أي مسؤولة عن تشكيله كمواطن وتنمية وعيه وشعوره وإرادته كمواطن([15]). ولهذا السبب نجد أن الدول الوطنيّة الديمقراطية في بلدان أوروبا جعلت من التربية المواطنة جزءًا لا يتجزأ من نظامها التربويّ، لإعداد مواطنيها للقيام بدورهم في ارتقاء الدولة لضمان صعودها في سلم التّطور والتقدّم. لكن ما هي علاقة الفلسفة بالتربية، بالمواطنة والتربية على المواطنة؟

  • الفلسفة والتربية على المواطنة: أرادت الفلسفة دومًا أن تكون لغة الوجود الذي يقول ما هو موجود([16]). وقد شغلت الأخلاق حيّزًا كبيرًا فيها، فقد عنيت عناية خاصة بمفاهيم الحقّ والواجب والحرية والعدالة، والتي يترجم تطبيقها في مفهومنا السياسي اليوم، بالدّيمقراطيّة. تتلازم القيم. فمفهوم الواجب كإلزام، يستدعي مفاهيم الحقّ والحريّة العقل والإرادة والكرامة فالواجب يكتسي أهمية من خلال احترام الشخص الإنساني، وفكرة الالتزام ترتبط بفكرة الحق، لأن الغاية النهائيّة لكل تصرّف هي احترام حرية الإنسان وكرامته. والحق لا ينحصر فقط في المجال الحقوقيّ والسياسيّ. وهذا ما يؤكده كانط Kant في تحديده لعلاقة كليّة الحقوق بالفلسفة في “صراع الكليات” (Le conflit des facultes) فعدُّ أنّ قول الحقيقة حول الحقّ عبر ملفوظات نظريّة وتقريريّة، منوط بالفيلسوف وليس بالحقوقي ولذلك فإنّ الدّولة مطالبة بمنح هذا الحقّ لشعبة الفلسفة. وإذا كانت الفلسفة إنسانيّة بامتياز، ذات طبيعة شموليّة تتدخّل بكل الموضوعات والميادين الفكريّة الاجتماعيّة السياسيّة الأخلاقيّة والعملانيّة، إلخ … وموضوعها الأساسي هو هذا الكائن المُفكر حاملةً قضاياه، أزماته وقلقه، باحثةً بحرية عن الروابط العلائقيّة بين الذات والأنا، وبين الأنا والآخر. للحرية ارتباط بالفكر الفلسفي، إذا غابت لا يكون، وإذا لم يوجّه ذلك الفكر العقل نحوها لا يكون قد أدّى مهمّته في صيغتها المثلى. فالفلسفة انبثقت عن تفكير حرّ، وصار عليها أن تدافع باستمرار عن حرّية الفكر. تلك هي مهمة الفلسفة والضرورة الملحّة لاستمرارها في العالم المعاصر. وللفلسفة خصوصيتها فهي لا تنتمي لا إلى الثقافة ولا إلى العلم، ولا تستمد الفلسفة من الدولة مشروعيتها، بل من ذاتها. ويسميّ “كوزان Cousin” مادة الفلسفة، بالمادة المُشاغبة (La discipline indisciplinable) والتعلّم الذي لا يمكن تعليمه؛ ولقد سبق أن بَيّنها كانط Kant بشكل واضح في “نقد العقل الخالص” نستطيع أن نعلمه كيف يتفلسف ولكن ليس الفلسفة لأن هذه لم توجد بعد.

وإذا التربية على المواطنة هي تحويل المواطن إلى مواطن مُستنير، يَعي مسؤوليته وحقوقه ويعرفه واجباته. كما أهمية الاختيار الصحيح لممثليه. أي تحويله من مواطن بالقوة إلى مواطن بالفعل. أي أن التربية المواطنية مسؤولة عن تشكيل الفرد كمواطن، وتنمية وعيه وشعوره وإرادته كمواطن. وهنا تبدو الحاجة إلى الفلسفة لتثبيت هذا الوعي، وتدريب الفكر على إخضاع كل المسائل الاجتماعيّة السياسيّة لمحكمة العقل، وقِيم العقلانيّة والحريّة في جو من التّفاعل والانفتاح على الآخر. والفلسفة التربويّة، هي هذه الرؤية الواعية الشّاملة للعملية التربويّة، الهادفة المُمنهجة من أجل غايات محددة (من السّلطة عادة) لتوجيه التربية نحو الأهداف المقصودة.

لذلك فإنّ الفلسفة التربوية ضروريّة لفهم الواقع التربوي كما هي ضرورية لإصلاحه، إن الفلسفة التربويّة هي رافعة التغيير الحقيقيّة في التربية السّاعية إلى التغيّير، الواعية لإمكاناتها ومقاصدها([17]). ويرى عبد الدايم عبد الله في كتابه “فلسفة تربوية عربية” أنّ” فلسفة التربية حوار، وأن فلسفة التربية الحقّة … ينبغي أن تكون المكان الذي تطرح فيه مشكلات الوجود الإنساني جميعها في علاقتها بالتربية لتُدرس وتناقش وتُحلل”([18]).

  • دور الفلسفة في بناء مواطن المستقبل: تُشكّل قيم الحرّية والحق والمواطنة، والتّعددية والمشاركة والمساواة والفرديّة، العوامل المغذّية للديمقراطية. تكون الدولة راعية في المجتمع الديمقراطي الذي يتسم بالانفتاح وتضعف فيه قوى الرقابة الاجتماعيّة والسياسية، وتَنتعش فيه المبادرة الفردية الواعية، في إطار ما يُسمى بالوعي الديمقراطي. وهنا تبرز الحاجة إلى الفلسفة، كما يقول الخطابي، لتثبيت هذا الوعي، بتأكيدها أهمّيّة الفاعليّة الإنسانيّة الهادفة إلى إخضاع التنظيم الاجتماعي لقيم العقلانية والحريّة([19]). ومن منطلق مساهمتها منذ نشأتها بالدّفاع عن حقوق الإنسان، والسّعي الدّائم نحو السلام العالمي، رأت اليونسكو أنّه “لمّا كانت الحروب تتولد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن تُبنى حصون السلام”. وهل أنجع من الفلسفة التي تقوم على الحوار المنطقي، والتفكّر الحرّ المستقلّ، وتمتلك الجرأة في خوض في المسائل كلها، ورفض الثّوابت والمُساءلة وخلخلة البديهيّات والاعتماد على العقل سلاحًا؟ هذا العقل المشترك بين سائر البشر الذي يوحدّ هذا الكائن المفكّر على مستوى الكليات، ولو اختلف على مستوى الفاهمة.

بناءً على ذلك، شجعت منظمة اليونسكو على تعلّم الفلسفة وتعليمها، وأعلنت العام 2005 عن اليوم العالمي للفلسفة، وحددته يوم الخميس من الأسبوع الثالث من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من كل عام. وعقدت ندوة باريس حول “الفلسفة والديمقراطية”، وصدر إعلان عرف باسم “إعلان باريس من أجل الفلسفة”. أشار المؤتمر إلى أهمية هذا التخصص، لاسيما بالنسبة إلى الشّباب، لأنّ الفلسفة تخصّص يُشجع الفكر النقديّ المُستقل الكفيل بالإسهام في تحسين فهم العالم وتعزيز التسامح والسلام.

وترى اليونسكو، أنّ الفلسفة تُجسّد عمليّة تفكير شاملة؛ توفر تحليلًا ينبغي أن يغطي التخصصات جميعها من أجل تحسين فهم عالمنا، وتحديد استجابات مناسبة لما نُواجهه من تحديات. ويؤدي الفلاسفة دورًا مهمًا جدًا في توضيح التّحدّيات المعاصرة، ولا سيّما التّحديات المتعلقة بالأخلاقيّات والعدالة. وتؤكّد المنظمة “أن مسائل التّفكير النقدي والاستشراف والمنطق الأخلاقي هي عناصر مهمة جدًا لبناء مجتمع سليم. ووصفت الفلسفة أنّها قوة من أجل التحرر الفرديّ والجماعيّ”([20]).

وأكّد هذا المعنى لحضور الفلسفة، “فيدريك مايور Federic Mayor” أحد مديري منظمة الأمم المتّحدة للتربية والعلوم والثقافة عند تقديمه لكتاب حول “الفلسفة والديمقراطية في العالم”، فنظر إلى الفلسفة بوصفها مدرسة للحرّية. فهي” تحثّ الفكر باستمرار على اليقظة الفكريّة التي تتيح وضع الأسئلة المنتجة لمعارف جديدة، وتُخرج الفكر من روتينه العقليّ. والفكر الفلسفي ينطلق من تحرّره من التقاليد الفكريّة، ويدفع الآخرين نحو الشكّ الإيجابي المُنتج. ويضيف أن الفلسفة تحفز الفكر على اليقظة الدائمة، فضدّ الرّتابة الفكرية يكمن العلاج الذي تقدمه في خلق مفاهيم. يتمثل التّحريف الأساسي الذي تقوم به الفلسفة في ما يلي: لتتجرؤوا على أن تكون لكم أفكار جديدة، لتكن لكم أفكار لم يسبق لأحد أن كوّنها”([21]).

ونستنتج من هنا أهمية التعليم الفلسفي في بناء مواطن المستقبل: تكوينه لعقول حرّة ومفكرة، إذ يساهم في تكوين مواطنين أحرار يمارسون قدراتهم في الحكم كعنصر أساسي في كل ديمقراطيّة. كما يُدرّب بالفعل على الحكم الخاص (الشخصيّ)، وعلى مواجهة مختلف الحجيج، واحترام كلام الآخرين، والخضوع لسلطة العقل وحده. وهذا ما سيجعل المواطن قادرًا على مواجهة التّحديات باستقلاليّة فكريّة، ووضوح رؤية تمكّنه من ابتكار حلول مناسبة.

وهو ما أكّده المستشار التّربوي للفلسفة، في المنهاج الفرنسي “جيرار بارتو Barthoux Gérard”، أن فيكتور كوزان Victor Cousin أصرّ على التّعليم الفلسفيّ أكثر من الفلسفة، حتى يكون واضحًا أن هذه المادة لا تعلّم من أجل ذاتها، ولكن من أجل تكوين رجال ومواطنين شفافين وأحرار. وكان “أناتول دو مونزيه Anatole de Monzie” وفيًّا لميراث فيكتور كوزان Victor Cousin الذي أراد خلق تعليم قادر أن ينشر في عمق كتلة الشعب، بالتعليم الفلسفي بالثانوي، تفكيرًا عقليًّا حقيقيًّا.

إن غاية التعليم الفلسفيّ هي دومًا، تأسيس حرّية تفكير حقيقيّة. ما يساهم في تشكيل القدرة على الحكم بشكل فاعل وفق المسؤوليّة الأخلاقيّة والمدنيّة، ومواطنين قادرين على ممارسة الحكم المُستنير والمستقل الذي تتطلبه مجتمعاتنا الديمقراطيّة. فالتعليم الفلسفي يسعى بشكل أساسي إلى تكوين الإنسان والمواطن. ويهدف إلى جعل الطلاب يفهمون معنى الحريّة في المجتمعات المعاصرة.

ومن مقاصد التعليم الفلسفي أيضًا، إعطاء الطلاب الوسيلة ليس فقط لفهم العالم الذي يحيط بهم، وإنما أيضًا لفهم الإنسان نفسه. ولا يقتصر التعليم الفلسفي على فهم الإنسان والعالم كما هو، بل كما يجب أن يكون، كما يمكن أن تكون الإنسانيّة. في الواقع إنّ القيم التي تجعل التعليم ممكنًا هي التي بذاتها تجعل للتعليم الفلسفيّ غايةً وهدفًا وهو تعليم وتطوير الطلاب/ المواطنين، القادرين على تغير ما هو قائم بتصوّر مجتمع أفضل يسعون للوصول إليه.

تُوحّد الفلسفة الإنسانيّة، في عالم الاختلافات والتناقضات، تحت ملكة العقل المشتركة، بين كلّ الذوات المفكرة من دون استثناء. من دون أن تحاول إلغاء هذا الآخر أو حتى إلغاء اختلافه. بل تقوم على محاورته فكريًّا ومنطقيًّا مع كل تباينه والانفتاح عليه، على قاعدة كونه ذاتًا مفكرة حرّة.

وقد يتساءل البعض عن دور الفلسفة في عصر وصل فيه التطوّر العلميّ ذروته، طالما نعيش في مجتمع يحكمه الذّكاء التقنيّ؟ عصر تبدو فيه الفلسفة خارج السّياق وخارج السباق المعرفي. وما الحاجة إلى الفلسفة وماذا يضير التربية المدرسيّة والاجتماعيّة، إذا ما استبعدت النظريّات الفلسفيّة، وأقوال الفلاسفة، ومنهج التفلسف؟

والإجابة على هذا التساؤل قد لا تكون معقدة جدًا بل هي أبسط من السؤال نفسه، إذ أن الذكاء الاصطناعي أبدع في الإجابة عن كل الأسئلة العلميّة، والاقتصاديّة، والهندسيّة، وحتى الاجتماعية والأدبية… ولكنه لم يستطع أن يُجاري الفلسفة بمفاهيمها وأفكارها المجردة، على الرّغم من ارتباطها العميق والمتين بالواقع. فما زال هذا الذّكاء الاصطناعي قاصرًا عن الإبداع والتّفلسف ولا يبدو أنّه سيكون قادرًا على المدى القريب. وهذا ما يجعل الفلسفة مرّة جديدة إنسانيّة بامتياز. ويكون المجتمع إنسانيًّا حين يحكمه عقل الإنسان لا التقنيّة الذكيّة، والتربية عمومًا والتربية المواطنة خصوصًا، تفقد ماهيّتها وجزءًا من غايتها بتغييب الفلسفة عنها.

خاتمة: غنيّ عن البيان ما عاناه ويعانيه وطننا العربي وعلى الأخص بلدنا لبنان، من أزمات وحروب دينيّة، طائفيّة، وسياسيّة. تعددت أشكال الأزمات وألوانها، واختلفت أسبابها ولكن عمقها واحد؛ أزمة مواطنة. هي أزمة انتماءٍ إلى هذا الوطن، بل وحتى أزمة هُويّة. لا يعرف الفرد فيه إن كان ينتمي إلى نفسه، عائلته، جماعته، طائفته أم ينتمي إلى وطنه.

في وطن يحكمه ويتحكّم به نظام طائفيّ اقطاعيّ، يعيد انتاج نفسه مرّة بعد مرّة، ولا تمرّ حقوق الأفراد والجماعات فيه، طبيعيّة كانت أم مدنيّة، إلّا عبر اقطاعي أو رمز طائفي يمثّل جماعته. وهكذا يرتبط الفرد بهذه الجماعة ورمزها ليؤمن بعض حقوقه، فيبقى المجتمع أقرب إلى الشخصانيّة، تسود فيه العلاقات الأولية، ويبقى بعيدًا بالمعنى الفعليّ من المجتمع المدني المواطنيّ. وبما أنّ السلطة السياسية هي التي تضع المناهج التربويّة، فمن الطبيعي أن تكرّس هذه المناهج النظام السياسي وتكفل إعادة انتاجه.

لمحاولة الخروج من هذه الدائرة المُفرغة لا بد من استخدام سلاح على الرّغم من كونه تقليدي: “التعليم الفلسفي”، إلا أنّه يُعدُّ الأمضى في التّدرب على استقلاليّة التفكير، التأمل الحرّ والتعلّم الذاتي. لأن مادة الفلسفة وحدها بماهيتها النقدية تدعو إلى خلخلة الثوابت والبديهيات والأحكام الجاهزة، وطرح التساؤلات والتحقق من الحجج والتبريرات وصلاحياتها.

إن طبيعة الممارسة الفلسفية تمكّن من التفكُر على مستوى العقل الكليّ، المُشترك عند كل البشر لأنّه يخص الطبيعة الإنسانية، أي كونه ذات عاقلة مُفكّرة. لكن هذا المستوى من التفكّر، على مستوى العاقلة أو الكليات، لا يكون فُطريًّا، بل يحتاج إلى التمرين حتى يتمكن المُتعلّم من بلوغه. وهو ما يقرّب أفراد الإنسانية من بعضهم البعض ويرسّخ مفهوم الإنسان وانطلاقًا منه تُبنى الهُوية.

فالغاية الأساسيّة لدرس الفلسفة هي جعل المُتعلّم متمرسًا على أساليب المساءلة والتّحليل النقدي والمُحاججة، بوصف هذه العمليات هي الضامنة لاستقلاليّة التفكير، وهي السبيل إلى إقرار فكر الإنصات والتّحاور والتفاهم، ونبذ العنف. إنّها مدخل للعيش المُشترك، فضلًا عن كونها مقاومة عقليّة منهجيّة لأحادية الرأي، وتدعيم التّعددية والتنوع والاختلاف، واحترام القيم الثقافية لكل المجتمعات والشّعوب، وكذلك الخصوصيّات والهويات الثقافيّة، ما يحول دون الوقوع في شرك الانغلاق على الذات.

وتعترف كلّ من الفلسفة والديمقراطية بقواعد النقاش وبأخلاقياته ومعاييره، فتكون الغلبة لأفضل حجة، وتحلّ “سُلطة الحجة” محل “حجة السُلطة”([22]). وهذا ما دعا اليونسكو إلى إقرار يوم عالمي للفلسفة والحثّ على تعلّمها وتعليمها.

للأسف تغيب فكرة الدّور التأسيسي للفلسفة من كل السّياق العربي، فيغيب دور العقل لأنّه عندما نقول أن الفلسفة نسق وتؤسس للكل معرفة وكل ممارسة، فهذا يعني على أرض الواقع مجتمع منتظم عقليًّا، فتكون العلاقات بين أعضاء المجتمع منظمة عقليًّا. فكما الذات تخضع لسلطة الفكر كذلك لا بدّ أن يخضع المجتمع لسلطة القوانين التي انبثقت منه ولأجله، ولسلطة القوانين وحدها والتي تكفل الحرية وتضمنها. ويغيب تدريس الفلسفة عن العديد من المناهج العربية، ويحضر على استيحاء كمادة هامشية في البعض الآخر. وحُصرت وظيفة الفلسفة، أو جرى تقليص قيمتها الفكريّة في بلدان أخرى، فتحولت إلى مادة حفظ واستذكار، ما يغيّر طبيعتها ويسقط عنها كل خصائصها ومميزاتها، فتمسي جسدًا بلا روح، لا تُسمن ولا تُغني من جوع.

ويستحضرنا هنا السؤال الآتي، هل تغييب دور الفلسفة والتفكّر الفلسفيّ في العالم العربي مقصود؟ أم هو مجرد غياب للعقل والفكر الواعي بذاته؟

الهوامش

* دكتوراه في الفلسفة- الجامعة اللبنانيّة- كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة- بيروت – لبنان.

PhD in Philosophy – Lebanese University – Faculty of Arts and Humanities – Beirut – Lebanon

Email: lubnaawar@gmail.com

 [1] – ارسطو، السياسة، الكتاب الثالث، الباب الثالث، ص.200.

[2] – موقع منظمة اليونسكو، اليوم العالمي للفلسفة، تشرين الثاني 2005 .

[3] – أفلاطون، الجمهورية، ص. 34.

[4] -أرسطو، السياسة، الكتاب الثالث، الباب الرابع، ص. 203.

 

[5] – Lalande, p.250/253 .

[6] – kant, Fondements de la métaphysique des moeurs, pp. 132-3

[7] -Russ, Les théories du pouvoir, p90.

[8] – Voir, Rousseau, Du contrat social, p.81

[9] – Ibid, p.284.

[10] – Althusser, Positions, p.100

[11] – وذلك طًبعا حسب مفهوم المواطن الصالح بالنسبة لكل دولة.

[12] – السياسة، ك5، ب1، ص. 296.

[13] – المرجع نفسه، ص. 296.

[14] – نصار، التربية والسياسة، ص. 50-51.

[15] – المرجع نفسه، راجع ص. 56-57

[16]– Derrida, Du droit à la philosophie, p.72.

[17] -نصار، التربية والسياسة ، ص. 110-111.

[18] -عبد الدايم، نحو فلسفة تربوية عربية، ص.75.

[19] – راجع الخطابي، مسارات الدرس الفلسفي بالمغرب، ص. 71-73

[20] – راجع موقع منظمة اليونسكو، 19تشرين الثاني 2011.

[21]– Roger-Pol, Droit Philosophy and democracy in the world: a UNESCO survey, 1995.

[22] – الخطابي، مسارات الدرس الفلسفي بالمغرب، ص 78.

المصادر والمراجع

  • أرسطو، السياسة، ترجمة أحمد لطفي السيّد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1979.
  • أفلاطون، جمهورية أفلاطون، الطبعة الخامسة، حنا خبّاز، (ترجمة)، بيروت- لبنان ، دار القلم، 1985.
  • الانتصار، عبد المجيد، مستجدات تعليم الفلسفة في المغـرب، 2000.
  • الخطابي، عز الدين ، مسارات الدرس الفلسفي بالمغرب: حوار الفلسفة والبيداغوجيا”، تقديم عبد الكريم غريب، منشورات عالم التربية، الطبعة الأولى ، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2002.
  • فريحة، نمر، من المواطنة الى التربية المواطنية: سيرورة وتحديات، لبنان، بيبلوس ، منشورات المركز الدولي لعلوم الإنسان، 2012.
  • عبد الدايم، عبد الله، نحو فلسفة تربوية عربية، مركز مراجعات الوحدة العربية،1991.
  • كنط، عمانوئيل، نحو السلام الدائم، الطبعة الأولى، ترجمة د. نبيل الخوري، بيروت، دار صادر، 1985.
  • …………..، نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، 1990.
  • مونتسكيو، روح الشرائع، ترجمة عادل زعيتر، مؤسسة هنداوي، 2013.
  • نصّار، ناصيف، نحو مجتمع جديد، طبعة خامسة، بيروت، دار الطليعة، 1995.
  • ……………..، التربية والسياسة، طبعة ثانية، بيروت، دار الطليعة، 2005.

 

  • Althusser, L., Positions, Edition sociales, 1976.
  • Descartes, R., Discours de la Methode,Livre de Poche,
  • Derrida, , Du droit à la philosophie, Galillée, 1990.
  • Foucault, M., La volonté de savoir, Paris, Gallimard, 1976,
  • Foucault, M.,Les Mots et les choses, Gallimard, 1990.
  • Kant, E., Le conflit des facultés , bibliothèque de la pléiade, Gallimard, 1986.
  • Kant, E., Fondements de la métaphysique des moeurs, Nathan, 1991.
  • Lalande, ,Vocabulaire technique et critique de la philosophie, P.U.F. 2010.
  • Rousseau, Jean-Jacques, Du contrat social, Le Livre de Poche, Paris, Classiques de la philosophie ,1992.
  • Russe, Jacquilne, Les théories du pouvoir, Librairie générale francaise, 1994.
  • Philosophy and democracy in the world, a UNESCO survey / Roger-Pol Droit ; foreword by Federico Mayor ; translation by Catherine Cullen,
  • Tozzi, M., Apprendre à philosopher dans les lycées d’aujourd’hui, Michel et autres, édition Hachette, 1992.
  • Weber, M., Le savant et le politique, Paris, Puf, Sup. coll. Philosophes, 1969.

 

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

free porn https://evvivaporno.com/ website