السعادة الزوجيّة والتماسك الأسريّ
دراسة نفسيّة تحليليّة على مجموعة من السيّدات المتزوّجات
د. مالك العنبكيّ*
- المقدّمة
إنّ النظام الأسريّ الحاليّ، والأسرة البيولوجيّة بشكلها المألوف، استغرق آلاف السنين لكي يتشكّل بهذه الصيغة الدينيّة والدنيويّة بوجود أب، وأمّ، وأولاد تربطهم قرابة الدم، يتّخذون سكنًا محدّدًا وهويّة تعرّفهم إلى الآخرين.
تعدّ الأسرة النواتيّة أصغر وحدة اجتماعيّة، ولكن تأثيرها النفسيّ والاجتماعيّ، كبير جدًّا على صعيد الفرد المنتمي إليها، أو على صعيد الجماعة التي ينتمي إليها. لذا، من المفترض أن نحافظ على سلامتها، وبقائها، وحمايتها من أيّ عوامل تؤدّي إلى تفكّكها، ومن ثَمَّ انبثاق زيجات غير مألوفة على عالمنا المُعاصر.
إنّ أبحاث الأنتربولوجيّ “لويس مورغان” في التطوّر الإنسانيّ، من عصر الهمجيّة إلى عصر البربريّة، ثمّ عصر الحضارة، ألهمت العالِم إنجلس في شرحة الدقيق، عن كيفيّة انبثاق عصر الأسرة النواتيّة الحاليّة، حيث قال إنّ النساء كانت ملكًا لأبي الرهط البدائيّ (يُسمّى في العصر الحديث شيخ العشيرة)، لا ينازعه عليهنّ أحد، ولكن عندما كبر الأبناء، أصبحت المنافسة بينهم وبين الأب شديدة، وذلك تحت وطأة الرغبة الجنسيّة، عندها ثار الأبناء عليه، ومن ثَمَّ امتلك كلّ منهم أنثاه، وانتشروا في بقاع الأرض مكوّنين أسرهم الخاصّة بهم ومتّخذين كهفًا يأويهم. (إنجلس، فريدريك: أصل العائلة)
جاءت الأديان لكي تكرّس هذا الحقّ في أن يكون للذكر أنثى، والعكس صحيح وفق قواعد، وشروط دينيّة ودنيويّة. أقول إنّ الأسرة النواتيّة، وبالاهتمام الذي يوليه كلّ فرد بالآخر تمكّنت من الوصول بالبشريّة إلى هذا التقدّم الهائل، لذا وجب الحفاظ عليها لأنّنا ندرك عوامل الخطر المحدقة بها مثل ظهور زيجات ذات أنماط جديدة غير مألوفة، وخصوصًا في العالم المُتقدّم (عبّاس مكّيّ، 2007، ص9)، وربّما غزت هذه الأنماط مجتمعاتنا العربيّة.
إنّ البحث في مؤشّر السعادة الزوجيّة مُهِمّ، لأنّه يعدّ عاملًا مُهِمًّا من عوامل تماسك الأسرة وديمومتها، أضف إلى أنّ البعض من الباحثين (أبو زيد، أحمد، 2005) كتب مقالًا في مجلّة العربيّ تحت عنوان: هل سيموت الأب، وتختفي الأسرة البيولوجيّة؟ إنّه عنوان صادم، ولكن فيه شيء من صدق الحدس التنبؤيّ، لأنّني أرى ذلك أيضًا، بأنّنا مقبلون على أشكال من المجموعات، ربّما صغيرة أو كبيرة، ليس لها أب وربّما ليس لها أمّ.
إنّ انتشار أشكال المساكنة في أمريكا (5.5 مليون حالة في الربع الأخير من القرن الماضي، على حساب تراجع الأسرة النواتيّة) (Donfeder, 2000) إثباتًا لذلك، يقابله انتشار أشكال غير مألوفة من الزيجات في مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة، بتفسيرات دينيّة لا يمكن للمنطق الإنسانيّ، والأخلاقيّ من أن يجد لها تفسيرًا. وهذا ما كان باعثًا للبحث في موضوع السعادة الزوجيّة.
كما أنّ التكنولوجيا القائمة على الاستنساخ التي بدأت بملامسة تصنيع الحياة البشريّة، ومنها تصنيع أطفال خارقي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* رئيس قسم العمل الصحّيّ الاجتماعيّ، الجامعة اللبنانيّة، كلّيّة الصحّة العامّة، الفرع الرابع.
الذكاء وبمواصفات تختلف تمامًا عن أطفال الحاضر، كانت دافعًا أيضًا للبحث في هذا الموضوع.
إنّ الدول المتحضّرة، والمجتمعات الراقية هي التي تحرص دائمًا على أن يكون مؤشّر السعادة الزوجيّة عاليًا لدى أغلب الأسر التي تندرج تحت رعايتها.
لكي نفهم مؤشّر السعادة الزوجيّة، علينا أن نفهم الغاية من الزواج، حيث إنّنا لا نريد أن نتطرّق إلى الخصوصيّات الفرديّة من هذه الغايات، ولكن هناك غايات عامّة، اتفقت شعوب الأرض المتحضّرة على الاعتراف بها، ومنها غايات الإشباع الجنسيّ التي قد تختلف ما بين الذكر والأنثى من ناحية الأولويّة، ولكن تعدّ من مؤشّرات السعادة الزوجيّة الأساسيّة.
أمّا الغاية الأخرى من الزواج، هو في الحفاظ على استمراريّة النوع البشريّ، ومن خلال هذه الاستمراريّة تتطوّر الحضارة، وتستمرّ عمليّة الإنتاج الاقتصاديّ.
إنّ السعادة الزوجيّة مُهِمّة للحفاظ على الصحّة النفسيّة لأفراد الأسرة، وللتخفيف من شدّة الضغط Stress الذي تعانيه بعض الأسر التي تحيا حياة التعاسة، وخصوصًا في مسألة تأمين لقمة العيش لأفرادها. إنّ مسؤوليّة الأب في تأمين مستوى العيش اللائق لأبنائه، لم تعد مسؤوليّة هيّنة في هذه الظروف، وكذلك مسؤوليّة الأمّ في تربية أطفالها.
لذا، فإنّ أهمّيّة دراسة هذا المؤشّر هو في تمكين الأسر من العيش في وفاق وتماسك في عصر التفكّك والاضمحلال.
أخيرًا، إنّ تحقيق السعادة سيظلّ الهدف الأسمى للإنسان سواء كان فردًا أو جماعةً، وهي كانت محور اهتمام العلماء والفلاسفة منذ عصور التاريخ الأولى.
صحيح أنّ موضوع السعادة كان مهملًا من قبل علماء النفس ولفترةٍ طويلةٍ، ولكن ظهر في الآونة الأخيرة، وفي مجال علم النفس الإيجابيّ، دراسات قيّمة في هذا المجال. وأرجو أن تكون هذه الدراسة ضمن ذلك السياق القيّميّ من الدراسات.
- أهمّيّة دراسة السعادة
إنّ أهمّيّة دراسة السعادة الزوجيّة، هو في أنّ السعادة، بحدّ ذاتها، تؤثّر إيجابًا على عطاء الإنسان سواء كان زوج، أو زوجة، لأنّ الأوّل إذا كان سعيدًا سينتج أكثر، والثانية إذا كانت سعيدة ستربّي بصدق وتفانٍ. كذلك، فإنّ السعادة تعزّز من تقدير الذات لدى الزوج والزوجة، وبالتالي تعزّز الثقة بالنفس، ما يخفّض كثيرًا من المشاكل المحتملة بين الزوج والزوجة، أو بينهما وأطفالهم، وهذا ربّما يؤثّر على التماسك الأسريّ.
إنّ السعادة تعزّز من إبداع الثنائيّ، خصوصًا في أداء المهارات الاجتماعيّة، وكلّنا يعلم أنّ هذه المهارات مُهِمّة في عيش الأسرة بوفاق مع المحيط الذي تنتمي إليه.
وأخيرًا، فإنّ السعادة تمكّن الزوجين من مقاربة المشاكل التي قد يمرون بها بشكل أفضل، بعيدًا عن التشنّج ٍStress أو الصراع، الذي قد يؤدّي إلى تفكّك الأسرة.
- أهداف البحث
لا شكّ في أن السعادة، كمصطلح قائم بذاته، يشتمل على الكثير من الأهداف، ولكن بحثنا يتعلّق بالسعادة الزوجيّة. لذا فالأهداف التي نتوخّاها في هذا البحث، هي الآتي:
- الكشف عن العوامل المُهِمّة في تحقيق السعادة الزوجيّة من خلال ما تقوله الزوجة، وبالتالي فإنّنا نبحث في الأصدق من العوامل التي تحقّق تماسك الأسرة.
- محاولة الوصول إلى المعايير العلائقيّة التي تحقّق الصحّة النفسيّة الأسريّة، وذلك لأنّ السعادة تحقّق جودة الحياة الأسريّة.
- معرفة السعادة الزوجيّة تمكّننا من تأطير علم النفس الإيجابيّ وتعضيده، الذي يهتمّ بمواطن القوّة لدى الإنسان، وبناء التمكين الشخصيّ، والمعرفيّ للذات (ذات الزوج، وذات الزوجة)، وهذا مُهِمّ للتماسك الأسريّ.
- المحافظة على استمراريّة الأسرة النواتيّة (أب، أمّ ثمّ أبناء)، لأنّها ساهمت في تطوير الإنسان من بعده الهمجيّ والبربريّ إلى بُعده الحضاريّ.
- الدراسات ذات العلاقة
إنّ الباحث في موضوع السعادة، سيجد منظومة من الدراسات المتنوّعة في هذا الموضوع، تتوزّع على دراسة السعادة كمتغيّر مستقلّ بذاته، أو دراستها وفق متغيّرات أخرى، كمتغيّر الأسرة ، ومتغيّر الأزواج، أو العيش بانفراد، ومتغيّر المساكنة. والبعض من الزيجات الغريبة وغير المألوفة للبعض من المجتمعات، وربّما مألوفة لدى مجتمعات أخرى، ومثال مسألة المساكنة Cohabitation.
وبما أنّ موضوعنا في السعادة الزوجيّة، والتماسك الأسريّ، فإنّ الدراسات التي بحثت في هذا الموضوع شحيحة في العالم العربيّ، وكثيرة في العالم الغربيّ ولكنّها ذات طابع تكراريّ.
إنّ دراسة (آرجايل 1993) التي أُجريت في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، والتي حاولت أن تربط الحالة الاجتماعيّة للفرد وعلاقتها بالسعادة، والتي أُجريت على عيّنة من المتزوّجين، والآرامل، والمطلّقين، توصّلت إلى أنّ المتزوّجين أكثر سعادة من غيرهم من الحالات.
لكن هناك دراسات لا تؤكّد ذلك، بل تقول إنّ الزواج ربّما يؤثّر إيجابًا على مستوى السعادة، عندما نبحث في الزيجات القديمة، أي زيجات ما قبل الستينيّات من القرن الماضي، والسبب منظومة القيم لمؤسّسة الزواج قد تغيّرت، ما أدّى إلى تعقيد الحياة العلائقيّة بين الذكور والإناث، خصوصًا في موضوع الاختيار.
دراسة (Mulstrom, J, and Staugh, E, 1981)، هدفت إلى معرفة السعادة الزوجيّة، وعلاقتها بالبعض من المتغيّرات، مثل متغيّر المهارات الاجتماعيّة. اتّخذت عيّنة من 112 ذكرًا و56 أنثى من المتزوّجين، وغير المتزوّجين، وكانت وسيلة البحث لديهم هي الاستبيان. توصّلت إلى أنّ غير المتزوّجين أقلّ إحساسًا بالسعادة، وأقلّ خبرة في المهارات الاجتماعيّة.
دراسة (Tkack and Lyubomirsky, 2006) هدفت إلى تبيان علاقة السعادة بالمساندة الاجتماعيّة، حيث توصّلت إلى أنّ مشاعر السعادة تتأثّر كثيرًا بمساندة من هم حولنا من أهل، وأصدقاء، ورفاق عمل إلخ… إنّ الدراسة ركّزت على السعادة النفسيّة، ولكن نحن معشر النفسانيّين، لا نعرف من السعادة بكلّ أنواعها ومواقعها، إلاّ السعادة النفسيّة المُتمثّلة بالمشاعر السارّة أمام إنجازٍ ما.
لكن، لكي نكون أكاديميّين في طرح هذه الفكرة، نقول إنّ هناك دراسة عن علاقة السعادة بالمساندة الاجتماعيّة قام بها (Wong and Others, 2007) أكّدت على أنّ الارتباط ضعيف بينهما، ولقد حدّدت نسبته بــ12% من الدرجة الكلّيّة للسعادة.
إنّ دراسة (Waite, LJ, and Gellaghen, M, 2000)، بحثت في الزواج وعلاقته بمتغيّرات السعادة، والصحّة، والأمور الماليّة، وهي دراسة تتميّز عن سائر الدراسات لأنّها حاولت أن تبيّن إذا كانت السعادة الزوجيّة تتأثّر بثلاثيّ المتغيّرات السابقة. لقد أكّدت الدراسة على أنّ الزواج المحصّن باستقرار اجتماعيّ ووضع اقتصاديّ جيّد للدولة التي يعيش فيها الزوجان فإنّ مؤشّرات السعادة، والصحّة النفسيّة، والجسديّة وتحسّن الوضع المادّيّ، في ارتفاع. وهذا الأمر منطقيّ.
وأخيرًا، يمكننا التوقّف عند دراسة (Kristen Lee and Hirashi, One)، تعكس نوعًا ما التبدّل في شكل الزواج، والاسرة الذي طرأ على البعض من المجتمعات الغربيّة والشرق آسيويّة، حيث بحثت في مؤشّر السعادة الزوجيّة عبر 27 دولة. إنّ الجديد في هذه الدراسة، أنّها درست مؤشّر السعادة بين المتزوّجين والمساكنين Cohabitation (علاقات جنسيّة في مسكنٍ واحد دون زواج).
استخدم الباحثون المنهج المقارن، عبر الثقافيّ، مستخدمين تقنيّات عدّة منها برنامج المسح الاجتماعيّ العالميّ. وكانت العيّنة كبيرة حيث تحدّدت بــ40.044. حيث توصّلت الدراسة إلى أنّ الإناث في مؤسّسة الزواج أكثر سعادة من الإناث في مؤسّسة المساكنة، وأنّه لا توجد فروق دالّة في مستوى السعادة بالنسبة للذكور في كلا المؤسّستين. وأنّ مؤشّر السعادة يختلف قليلًا، ويتأثّر بالبُعد الدينيّ لكلّ بلد، وكذلك بالمفهوم الاجتماعيّ للجندر.
نحن نجد أنّ تفسير الفروق في مستوى السعادة لصالح الإناث في الأسرة الزواجيّة، هو لأنّ أغلب دول العالم لا تقبل بعلاقة المساكنة حتّى ولو أُقرّت قانونيًّا، فالوسط الشعبيّ، والدينيّ لا يقبل كثيرًا في ذلك. لهذا، فالأنثى في مؤسّسة المساكنة، تشعر بالإحباط وبالعيب الاجتماعيّ.
- إشكالية بحثنا
بعد أن استعرضنا بعض الدراسات ذات العلاقة، يمكن أن نحدّد إشكاليّتنا بالآتي:
إنّ القاعدة الأساسيّة في علم النفس هي أنّ لكلّ سلوك غاية، والغايات هي نوع من الأهداف، تحرّكها منظومة من الحاجات، وكلّما تحقّقت حاجة يعدّ ذلك خطوة في الطريق إلى مؤشّر السعادة الزوجيّة. وكلّما تراكمت الحاجات دون الوصول إلى الإشباع، كلّما كان ذلك مؤشّرًا للإحباط وربّما التعاسة.
أمام الذي تقدّم، يتحدّد سؤالنا فيما إذا كانت الأسرة في بيروت تشعر بقدرٍ كافٍ من السعادة في هذه الظروف الصعبة والمعقّدة في لبنان والعالم العربيّ.
- منهج البحث
بعد أن استعرضنا الدراسات السابقة، وجدنا أنّ الغالبيّة العظمى منها اتّخذت منهج البحث الوصفيّ الكمّيّ، الذي يستند إلى وسيلة الاستمارة.
أمّا بحثنا فيتّخذ منهج البحث النوعيّ القائم على تقنيّة تحليل المحتوى أو المضمون، والوسيلة هي سؤال مفتوح موجّه إلى عدد من الزوجات نصّه الآتي: كيف تصفين كزوجة مفهومك للسعادة الزوجيّة؟ وما هي أولويّات تحقيقها؟ يمكنك كتابة ذلك بحرّيّة لأنّ الغرض من الدراسة هو علميّ بحت. وأرجو أن تذكري بصدق ما يحقّق سعادتك وأسرتك، ووفق التراتبيّة في الأهمّيّة التي تعتقدين بها، والتي تجدين أنّها ترتبط حتمًا بسعادة أسرتك وتماسكها. اشرحي لنا أكبر قدر ممكن ممّا تملكين من معرفة، مع المحافظة على التسلسل الزمنيّ منذ تعارفكما مرورًا بفترة الحبّ، وشهر العسل إلى ما بعد الزواج، وأرجو أن يكون الخطّ واضحًا. كذلك فإنّنا استخدمنا تقنيّة المقابلة لكي ندوّن، العمر، والعمر أثناء الزواج، الوضع الثقافيّ والتحصيل العلميّ للزوجة والزوج، وكذلك الوضع الاقتصاديّ لكليهما قبل وبعد الزواج، ومدى تقبّل الأهل لزواجهما، وما إذا كانت هناك أيّ أمور أخرى خاصّة.
- العيّنة وخصائصها
تتكوّن العيّنة من 40 سيّدة متزوّجة، تتوزّع جغرافيًّا على حيّي الظريف والبسطة، وهما من الأحياء البيروتيّة المختلطة، وفيهما من الديانتين الإسلاميّة والمسيحيّة، وقد تكون العيّنة الإسلاميّة أكبر.
لا يمكنني تحديد العمر في الفترة الأولى لأن كل سيّدة كانت قد تزوّجت بعمر غير عمر السيّدة الأخرى، ولكن سأبحث في الخمس سنوات الأولى من عمر الزواج، والسبب في ذلك يعود إلى أنّ السعادة، أو الإحباط، والتماسك الأسريّ، أو التفكّك، تتضّح معالمها في هذه الفترة من الزواج.
- تحليل نصوص السؤال المفتوح
توزّعت العيّنة من ناحية الانتماء الدينيّ، على 36 سيّدة مسلمة و4 سيّدات مسيحيّات. أمّا من ناحية توزيع العيّنة بين المنطقتين، فعيّنة الظريف اشتملت على 15 سيّدة، وعيّنة البسطة اشتملت على 25 سيّدة.
إن متسّط أعمار العيّنة عند الزواج هو 24.75، وهذا العمر لا يلزم تعميمه، لأنّه ناتج عن عدد محدّد من الحالات، لبحثٍ محدود ومحدّد.
أمّا متوسّط العمر الزمنيّ للعيّنة فهو 26 سنة، كذلك فإنّ 30 سيّدة حاصلة على إجازة جامعيّة، و10 سيّدات حاصلات على الدبلوم والماستر. أمّا في مسألة الإنجاب، فهناك خمس سيّدات لم ينجبن حتّى تاريخه، أمّا الباقيات وعددهنّ 35 سيّدة لديهنّ أطفال. هذا، وأنّ كلّ السيّدات يعشن مع أزواجهنّ، وأنّ 25 منهنّ يسكنّ مع في بيوت تعود ملكيّتها إلى الأسرة، أمّا الخمس عشرة سيّدة الباقيات فيسكنّ في بيوت مستأجرة. هذه المعلومات أُخذت من المقابلة الموجّهة بواسطة استمارة رصد.
بعد قراءة النصوص التي كُتبت كأجوبة عن السؤال المفتوح، وجدنا أنّ مؤشّرات السعادة، وفق رأي السيّدات المستجوبات وخبرتهنّ، ووفقًا لنسبة تواردها في النصّ، تتحدّد بالنقاط التالية:
- الوضع الاقتصاديّ والمادّيّ للأسرة
إنّ عدد السيّدات اللواتي ركّزن في نصّ إجابتهنّ على أنّ الوضع المادّيّ للأسرة مُهِمّ في إحساس أفرادها بالسعادة هو 30 سيّدة أي ما نسبته 75%.
لذا، يمكننا القول إنّ شعور الأسرة في الاكتفاء المادّيّ، يعزّز شعورها بالأمان، ويخفّف من القلق المعيشيّ. وقد رصدنا ذلك عند الأسر التي تعيش في بيوت تملكها في الغالب. كذلك فإنّ الاكتفاء الذاتيّ المادّيّ للأسرة يُمكّنها، على حدّ قول الكثيرات من سيّدات العيّنة، من تحقيق الغاية من وجود مؤسّسة الزواج، وذلك من خلال الحفاظ على تماسك الأسرة، وعدم انفلات أحد أعضائها نحو مسالك انحرافيّة.
هناك أبحاث كثيرة ناقشت علاقة متغيّر السعادة بالرضى الوظيفيّ وهو بالنتيجة، عامل الاكتفاء المادّيّ أساسيّ، هذه الأبحاث تقول بأنّ الكثير من الحاجات الأساسيّة يتوقّف إشباعها على المدخول المادّيّ الوظيفيّ، وخصوصًا مدخول الأب الذي يوفّر أغلب الحاجات الأسريّة، وهو مُهِمّ في ارتفاع، أو انخفاض مؤشّر السعادة الزوجيّة. وحدّدت بعض الدراسات إلى أنّ الدخل المتوسّط، هو من أكثر المداخيل التي ترتبط بالسعادة مقارنةً بالدخل المتدنّي، والدخل المرتفع. (Johnson, and Krueger, 2006)
وتفسيرنا لذلك، هو أنّ الدخل المتدنّي ربّما لا يلبّي أغلب احتياجات الأسرة، ما يجعلها تشعر بقلق العوز الدائم (مصطلح خاصّ بنا)، ومن ثَمَّ المشاكل الدائمة، والحاجة إلى الآخرين، وما في الحاجة من إذلال نفسيّ، وسلوك متزلّف، فيه خضوع مؤقّت للّذي أحتاجه، ثمّ أتحيّن الفرصة للانقضاض عليه. وكلّنا شاهدنا ثورات النهب، والتدمير التي حصلت في عالمنا العربيّ. إنّ الأسرة التي تقع بعوز مادّيّ، هي أسرة محبطة ناقمة على الوضع العامّ، وبالتالي تحمل في مكنوناتها صواعق انفجاراتها، وهذا مُهِمّ لكي يُدرك من قبل القيّمين على تحسين دخل الأسر.
أمّا مسألة الدخل المرتفع، فإنّ احتمالية تسلّل القلق واردة أيضًا، وذلك تحت سيطرة أفكار فقدان الثروة لدى البعض من أفرادها، خصوصًا الأب فيستجيب إلى ذلك بسلوك البخل (هذا ما قالته إحدى السيّدات من العيّنة المدروسة). حيث يسلك سلوك الاقتصاد الشديد، وهذا ما يولّد مشاكل بينه وبين زوجته وأولاده، وهو مؤشّر إلى تدنّي مستوى السعادة. أمّا إحدى السيّدات اللواتي كان زوجها غنيًّا، قالت إنّي اتّجهت لكي أصرف كثيرًا من مال زوجي، وأَكثِرُ من الطلبات، وأُشجّع بناتي أن يطلبن كذلك، لأنّ الرجل الغنيّ من الممكن أن يتزوّج مرّة أخرى، أو مرّتين، هذا القلق الناتج عن الوسواس (وسواس زواج الزوج مرّة ثانية) غير مريح حتمًا للأسرة، وخصوصًا الأمّ، لذا، فإنّ الأسر الغنيّة قد يكون لدى البعض منها قلق على إدارة الثروة، أو انزلاق الزوج نحو ملذّات أخرى، وهذا الأمر مزعج، ومنهك نفسيًّا، ربّما يؤثّر على مستوى تماسك الأسرة، ومن ثَمَّ مستوى سعادتها.
ولكن انطلاقًا من الأمانة في التطرّق إلى الأبحاث المناقضة لما جاء في تحليل نصّ العيّنة، من علاقة السعادة بالرضى الوظيفيّ، والمادّيّ للأسرة، فإنّ هناك أبحاث ركزت على أثر تحصيل الزوج المادّيّ، ونوعيّة الوظيفة وعلاقة ذلك بالرضى الزوجيّ، أي السعادة الزوجيّة، حيث أكّدت أنّه لا يوجد تأثير مباشر على الرضى الزوجيّ، وتحديدًا على الإشباع الجنسيّ، والأدوار الأسريّة. أي إنّ مؤشّر السعادة لا يرتبط بوظيفة الأب وما ينتجه. (David, B, Lynn, K, 1978)
إنّ تفسيرنا لذلك، هو أنّ هذه الدراسة أجريت في أمريكا، حيث هناك تقديمات اجتماعيّة ومادّيّة حتّى للعاطلين عن العمل، لا بل إنّ البعض من الأزواج يتركون وظائفهم للحصول على هذه الضمانات، والتقديمات، وهذا غير متوفّر في العالم العربيّ، ولدى العيّنة المدروسة.
أضف إلى أنّ تحليل النصّ، أشار إلى أنّ عدد السيّدات العاملات، والموظّفات هو 35 سيّدة أمّا الخمس سيّدات الباقيّات فهنّ ربّات بيوت، وقد يكون هذا العامل (عامل عمل الأمّ ووظيفتها الثابتة والمستقرّة)، قد عزّز مشاعر السعادة الزوجيّة.
- عامل الإشباع والرضى العاطفيّ
إن عدد السيّدات اللواتي ركّزن في نصّ إجابتهنّ على أنّ الوضع العاطفيّ مُهِمّ في إحساس أفرادها بالسعادة هو 27 سيّدة أي ما نسبته 67.5%،
وعندما قمنا بتحليل مضمون هذه النصوص، في بُعدها العاطفيّ الإشباعيّ، وجدنا الكثير من العوامل العاطفيّة الفرعيّة التي تؤثّر على مسألة إشباع الحاجات العاطفيّة ومنها تراتبيًّا، مضمون التخاطب بين الزوج والزوجة، الذي يتّسم بالاحترام، والحنان، ومراعاة مشاعر كلّ منهما للآخر، ما انسحب ذلك على تخاطبهما مع الأولاد، ومضمون حديثهما أمام الأصدقاء.
كذلك وجدت أنّ الاختيار الذي قام على الحبّ، والرغبة بالآخر قبل الزواج، له أثر في تعزيز هذا العامل، وأنّ الزوجة التي كان حبّها الأوّل، والأخير هو زوجها، تتعزّز لديها مشاعر السعادة وكذلك الزوج.
أمّا في ما يخصّ العلاقة الحميميّة، وخصوصًا في بُعدها الجسديّ الجنسيّ، لها أثر في سعادة الزوجين، والزوجة تحديدًا، لأنّ هذه العلاقة هي تأكيد مُهِمّ على بقاء جذوة النشوة، والإشباع اللبيديّ. صحيح أنّها لم تكن من أولويّات الإشباع، والرضى العاطفيّ، ولكن لأنّ العيّنة من حملة الشهادات العليا (إجازة جامعيّة وما فوق)، فإنّ نظرتهنّ إلى الواقعة الجنسيّة قد تعدّد ثقافيًّا عن نظرة اللواتي من الحاصلات على مستويات معرفيّة أدنى.
والنظرة هنا ناتجة من خلال النصّ، إلى أنّ الزوجة المثقّفة وكذلك الزوج، يتفهّمان بعضهما البعض من ناحية الظروف التي تحيط باللقاء الجسديّ الجنسيّ، من حيث تعب الزوج وبعض المشاكل التي تواجه الأسرة، وعدم رغبة الزوجة حاليًّا، والأوضاع الصحّيّة التي تمرّ بها.هذه الأمور نجد أنّها في مستوى الفهم لدى الشريكين وخصوصًا الزوجة في عيّنة بحثنا، وهذا مُهِمّ في سلامة الحياة الأسريّة وتماسكها.
كذلك، وجدت إشارات انحداريّة أوّليّة فارقة في موضوع جذوة الرغبة الجنسيّة لدى السيّدات اللواتي مضى على زواجهنّ أقلّ من ثلاث سنوات، مقارنةً بالسيّدات اللواتي مضى على زواجهنّ أكثر من ثلاث سنوات، أي إنّ السيّدات اللواتي مضى على زواجهنّ أقلّ من ثلاث سنوات، يشعرن بجذوة العلاقة الجنسيّة أكثر قليلًا من السيّدات اللواتي مضى على زواجهنّ أكثر من ثلاث سنوات. بما أنّ عيّنتنا قد تحدّدت بعمر زواج خمس سنوات وأقلّ، لذا نحن بحاجة إلى دراسة تؤكّد هذه الإشارات الانحداريّة البسيطة في الرغبة الجنسيّة بين الشريكين على مدى عمر زواجيّ أوسع (بين سنة وعشر سنوات حتى خمس عشرة سنة مثلًا).
إنّ المنطق النفسيّ، خصوصًا في طاقة اللبيدو (أنا أفهمها على أنّها وحدة قياس طاقة الحبّ، وليس مثل فهم فرويد لها على أنّها وحدة قياس طاقة الجنس)، إنّها تتوزّع بعد الزواج إلى الأولاد مثلًا، والعمل والنشاطات الحياتيّة الأخرى. لذا، على الزوجين أن يتوقّع كلّ منهما ذلك، وأن يدركا أن طاقة اللبيدو التي كانت محصورة بينهما كحبيبين قبل الزواج، هي ليست بذات الزخم بعد الزواج. هذه هي الحقيقة النفسيّة التي يجب أن تُدرك من قِبل الشريكين كي لا يدخل الشكّ، والغيرة، وتدمّر الحياة الزوجيّة.
إنّ الدراسات ذات العلاقة بعامل الإشباع، والرضى العاطفيّ كثيرة، خصوصًا في المجتمعات الأوروبيّة والشرق آسيويّة، ويعود ذلك للانفتاح والحرّيّة في طرح مواضيع علائقيّة، قد تكون (تابو) أي محرمة في الكثير من المجتمعات العربيّة والإسلاميّة.
مثلًا دراسة (Diener, E and Others, 2002) التي ركّزت على أهمّيّة إدراك ذات الشريكين للحياة الأسريّة التي أنتجاها، ومن المفترض أن يكون هذا الإدراك في المستوى الإيجابيّ، أي إدراكًا محبًّا لحياتهما الزوجيّة، ومقنعًا لهما.
أمّا إذا كرهوا حياتهما الزوجيّة، عندها قد يحصل لديهما، أو لأحدهما عدم تقبّل الآخر، وهذا ربّما يؤثّر على السعادة الزوجيّة، ومن ثَمَّ التماسك الأسريّ. لهذا، فإنّ الدراسة أوحت بأنّه على الزوجين أن يحترما ويقدرا ويحبّا الحياة الزوجيّة التي أنتجاها، بكل تفاصيلها، لأنّ ذلك يؤثّر على مستوى الإشباع العاطفيّ Emotional Satisfaction.
هناك دراسات تؤكّد على أنّ الرضا عن الحياة الزوجيّة يتأثّر وبقوة بذلك التآلف العلائقيّ Relationship Harmony، والدعم أو المساندة المجتمعيّة Social Support. (Kwan Bond, and Singelis, 1987). ونحن نؤيّد ذلك، فهناك في مضمون نصّ العيّنة، إشارات إلى المساندة التي يتلقاها الزوجان وأولادهما من عائلة الأب الأوسع، وعائلة الأمّ الأوسع. نعم، هذا صحيح (أضع طفلي بعهدة أمّي، وأنا أذهب إلى وظيفتي، وهذا يريحني – على حدّ قول إحدى السيّدات).
إنّ هذا الأمر مُهِمّ، إذا أردنا أن نبحث في عوامل السعادة الزوجيّة والتماسك الأسريّ، أي إنّ منظومة العلاقات الإيجابيّة بين أسرة الزوجين النواتيّة والأسرة الأوسع مُهِمَّة في تخفيف مستوى الضغط Stress، الذي قد يعانيه الزوجان من شدّة المَهَمّات اليوميّة الموكلة إليهم. إنّنا في الشرق، لا زلنا كأُسر، نعيش ذلك وهذا مُهِمّ.
هناك دراسة في هذا المجال أكّدت على أنّ الحياة الجنسيّة النوعيّة (يقصد بالنوعيّة، الفاعلة والمميّزة) تستند إلى الجسد، وهنا يقصد الباحثون بالخصائص، أو (الكاريزما) الجسديّة، وكذلك تستند إلى نوع العلاقة بينهما وعلى إدراكهما لقيمة العواطف فيما بينهما. (Tayton, D, and Others, 2013)
هدفت الدراسة إلى تحليل العلاقة بين الجنس والرضى في الحياة والسعادة، حيث أجريت على عيّنة مؤلّفة من 204 من السيّدات اللواتي تتراوح أعمارهنّ بين 18 و63 سنة، وأنّ العمر الوسطيّ للعيّنة هو 31.98. حيث استخدمت استبيانًا ذا علاقة. وأظهرت النتائج أنّ نوعيّة الجنس في حياة المرأة له علاقة إيجابيّة، ومباشرة بالسعادة، والرضى عن الحياة.
نحن نقرّ بأنّ المفاتن الجسديّة للشريكين، وخصوصًا المفاتن الأنثويّة مُهِمّة في الإشباع العاطفيّ، ولكن ليست أولويّة لدى الشريكين بتقدّم العمر الزواجيّ، لأنّهما سيدركان أنّ الجسد يتغيّر بمرور السنين، خصوصًا لدى الأنثى الولّادة، ولولا هذا الإدراك، لكانت عيّنتنا أعطت أولويّة للواقعة الجنسيّة، ولكن هذا لا يعني أنّ الشريكين سيهملان جسديهما. كلا، وعلى الاثنين وخصوصًا الزوجة المحافظة قدر الإمكان على تلك المفاتن، أو البعض منها على الأقلّ.
لكي يستزيد القارئ في ذلك، من الممكن أن يقرأ البعض من الأبحاث ذات العلاقة بالواقعة الجنسيّة، كمجلّة الأبحاث الجنسيّة (Hooghe, M, 2012).
- عامل الإنجاب
إن عدد السيّدات اللواتي ذكَرنَ في إجابتهنّ علاقة الإنجاب بالسعادة الزوجيّة، هو 22 سيّدة أي ما نسبته 55%.
لا شكّ في أنّ الحمل والإنجاب مُهِمّ في ديناميّة الحياة الأسريّة، لأنّ أسمى غاية للزواج هو في استمراريّة النسل، وذلك للحفاظ على النوع البشريّ من الانقراض، كذلك فإنّ الإنجاب يعزّز تقدير المرأة لذاتها الاجتماعيّة على أنّها تمتلك رحمًا خصبًا وولاّدًا، وهو يعزّز تقدير الرجل لذاته على أنّ ذكوريّته غير منتقصة، من خلال قدرته على إخصاب أنثاه.
إنّ الإنجاب، ومن خلال خبرتنا الميدانيّة العياديّة، يعزّز من حيّز الأمان للأسرة النواتيّة، ويعطي للأسرة هُويّتها من خلال اكتمال هيكليّتها ووضوح أدوارها.
أمّا في ما يختصّ بتحليل النصوص في موضوع الإنجاب، فيمكن التطرّق إلى أهمّيّته في ديناميّة الحياة الأسريّة، وفي سعادتها، ومن ثَمَّ تماسكها وفق التراتبيّة التالية:
أوّلًا: إنّ الإنجاب ووجود الأولاد، هو عنوان تماسك الأسرة والمحافظة على بقائها، حيث ورد فحوى هذا النصّ عند 20 سيّدة من أصل 22 سيّدة، وهذا الأمر يتناسب مع ثقافة العيّنة موضوع بحثنا، فالزيجات التي لا تؤدّي إلى الإنجاب مصيرها في الغالب الافتراق.
ثانيًا: وردت جملة أنّ الأطفال هم نعمة إلهيّة أي إنّ الله إذا أراد أن يكرّم الزوجين ينعم عليهما بالأطفال. عند 18 سيّدة من أصل 22 سيّدة.
ثالثًا: وردت جملة أنّ الأطفال ذخر وسند للوالدين، في أيّام الشدّة والكبر، وذلك لدى 14 سيّدة، وهذا ما يرجوه الأهل من أبنائهم، حتّى إنّ بعض النصوص ذكرت جملة (من خلّف ما مات)، أي إنّ الإنجاب هو غاية سخّرها الله لعباده (كلّ البشر) لكي يتمكّنوا من خلالها من مواجهة الموت، فالموت يشكّل قلقًا وجوديًّا للكثير من البشر.
رابعًا: وردت جملة أنّ الأطفال هم زينة الحياة الدنيا لدى 9 سيّدات، وهذه العبارة مقتبسة من النصوص الدينيّة، بمعنى أنّ الحياة بلا أطفال ربما تكون محبطة للزوجيّن، وليست ذات أهمّيّة.
خامسًا: هناك عبارات فرديّة في وصف الإنجاب والأطفال في ديناميّة الحياة الأسريّة، تحمل معاني متناقضة مثل السعادة في مجيئهم والهمّ في تأمين متطلّبات حاجاتهم، وعبارات أخرى تحمل الموروث الجندريّ التميزيّ (عندي بنت وأنتظر بفارق الصبر أن يطعمنا الله صبيّ لكي أرتاح).
نعم، الأسرة العربيّة والشرقيّة، لا زالت تبحث على الطفل الذكر لكي يحمل هُويّة العائلة.
ممّا تقدّم، نؤكّد أنّ الإنجاب مؤشّر من مؤشّرات السعادة الزوجيّة، وكذلك فهو مؤشّر من مؤشّرات التماسك الأسريّ. لذا فعليًّا، الحرص الشديد على الصحّة الإنجابيّة وتقديم الدعم النفسيّ والصحّيّ للمرأة الحامل أمر مهمّ لسعادة الأسرة.
في هذا الخصوص، سنتوقّف عند دراسة (Nicholas, H, 2016)، وهي دراسة حاولت الإجابة عن سؤال فيما إذا كان وجود الأطفال يعزّز السعادة الزوجيّة، وهي دراسة مسحيّة تتبعيّة اجتماعيّة، على مجموعة من الدراسات التي بحثت العلاقة بين إنجاب الأطفال والسعادة الزوجيّة، وتحديدًا الدراسات بين العام 1972 م. إلى العام 2016 ميلاديّ، التي أجريت في المجتمع الأمريكيّ على عيّنات من اللاتين، ومن الأميركيّين من أصل أفريقيّ، تتراوح أعمار العيّنة من 50 إلى 70عامًا، وشملت أُسر لديها أطفال وأخرى بلا أطفال. هذا، وأنّ السبب في اختيار راشدين فوق الخمسين سنة، هو لافتراض الباحث أنّ 95% من أفراد العيّنة يكون لديهم أطفال، أو أولاد بهذا العمر.
عند النظر إلى الجداول التي أفرزتها هذه الدراسات، نجد أنّ الأسر بلا أولاد هم أكثر سعادة بقليل من الأسر مع الأولاد، وبفارق ثلاث درجات لدى عيّنة الرجال مثلًا. إنّ قراءتنا للجداول، نجد أنّ مؤشّر السعادة بالأساس متدنٍّ عند الأسر بلا أولاد، وقدرة 34% عند الرجال الذين ليس لديهم أطفال و31% عند الرجال الذين لديهم أطفال.
أمّا قراءتنا للجداول الإحصائيّة لدى السيّدات من النساء نجد أنّ مؤشّر السعادة هو 35% للّواتي ليس لديهنّ أطفال، و30% للّواتي لديهنّ أطفال، أي بفارق وقدره خمس درجات.
هناك جداول بهذه الدراسة تربط عدد الأولاد بمستوى السعادة، لا مجال لذكرها في هذا البحث.
إنّ الجديد في هذه الدراسة هو الشموليّة، ولكن لم تفسّر المتغيّرات الوسطيّة التي تؤثّر على مستوى السعادة الزوجيّة، كذلك فإنّ العيّنة بالأساس شملت أُسر من أصول متعدّدة ثقافيًّا (لاتين وأفارقة). وهذا حتمًا سيؤثّر على مستوى السعادة المتدنّي أصلًا. ونحن متأكّدون من أنّه لو كان عمر العيّنة ما بين 20 – 40 سنة، لوجدنا مؤشّر السعادة يتّجه نحو الارتفاع.
كذلك فإنّ أغلب الزيجات في أمريكا هي زيجات عابرة ناتجة عن المساكنة، حيث إنّ أغلب الأطفال يعيشون إمّا مع الأمّ بكنف زوجها الثاني، أو الثالث، وما ينتج عن ذلك من قهر للأولاد، أو أنّهم يعيشون مع الأب وزوجته الثانية أو الثالثة، وما ينتج عن ذلك من قهر.
إنّ عيّنتنا تختلف ثقافيًّا وعقائديًّا عن العيّنات الأمريكيّة المدروسة.
- عوامل أخرى للسعادة الزوجيّة
إنّ هذه العوامل تحمل نسب قليلة، ولكنّها مُهِمّة في ديناميّة الحياة الزوجيّة، البعض من أفراد العيّنة ذكر بأنّ للمشاكل الزوجيّة، والحياتيّة تأثير على مستوى السعادة الزوجيّة، خصوصًا إذا ظلّت تتكرّر. نحن نؤيّد ذلك ونقول إنّ المشاكل غير امعالجة، ولأيّ نوع انتمت، ربّما تصبح جزءًا من النسق السلوكيّ الأسريّ، وتحديدًا نسق سلوك الأب، أو نسق سلوك الأم، ربّما تولّد تصادم يوميّ، بحكم عيش الزوجين تحت سقفٍ واحد، حيث يتشاركان المساحة المكانيّة، والزمنيّة ذاتها، ولكن أحدهم يحمّل نسق الفشل، أو الغيرة، أو العجز للآخر إلخ… لذا فحتميّة التصادم واردة جدًّا، لأنّ المشكلة تصبح جزءًا من شخصيّة الزوج، أو الزوجة، أو كليهما، وهذا حتمًا يؤثّر في ديناميّة الحياة الأسريّة وفي مستوى السعادة.
والبعض الآخر ربط السعادة بالإيمان، خصوصًا إذا كان الزوجان يؤدّيان واجباتهما الدينيّة، الذهاب إلى الأماكن الدينيّة بصحبة الأطفال، وتبريرهنّ لذلك أنّ الإيمان (يصفّي ما في القلوب) ويحمي الزوجين من المعصية، كما جاء في نصّي سيّدتين من العيّنة.
أنا أقول إنّ الإيمان الذي يمكّن الزوجين من أن ينفتحا على بعضهما البعض، بقلوب صافية ونيّات حسنة، يعزّز من تماسك الأسرة ويزيد مؤشّر السعادة، وأنّ الإيمان الذي يدخل في المنظومة العلائقيّة السلوكيّة هو الأصدق، لأنّه يتحوّل إلى نظام سلوك.
وأخيرًا، هناك إشارات في تحليل مضمون النصوص يربط السعادة بالحرّيّة المسؤولة، أي المُغلّفة بالثقة. حيث وجدت أنّ السعادة في كتابات البعض من السيّدات هو في أنّ أزواجهنّ يتركون لهنّ حرّيّة الذهاب، والمجيء، والانتماء السياسيّ، والمشاركة في البعض من الجمعيّات الاجتماعيّة. ونحن نؤكّد ذلك ونقول إنّه مُهِمّ في تعزيز أواصر الثقة بين الزوجين، وهذا مُهِمّ في تماسك الأسرة وتعزيز الثقة بالنفس لدى الزوجة. وإنّ الزوجة الواثقة منتجة أكثر مقارنةً بغيرها من الزوجات المقموعات لأنّ في الحرّيّة عطاء وتكامل إنسانيّ.
- الخلاصة والإجابة على الإشكالية المطروحة
إنّ تحليل المضمون لإجابات السيّدات أكّد على أنّ مفهوم السعادة هو مفهوم نسبيّ يتداخل به الخاصّ من المشاعر والحاجات، مع مما هو متعارف عليه. أي إنّ في جزءٍ منها ما يحقّق غايات خاصّة لدى هذه السيّدة، أو تلك، مع غايات عامّة تحقّق التقدير الاجتماعيّ.
وبما أنّ العيّنة من النخب المثقّفة، فلقد كان مفهوم السعادة لديهنّ مرتبط بالقيمة الأسريّة، ومدى ارتباطها بالشخصيّة المعنويّة للأسرة في وسطها الأقرب (الأعمام والأخوال)، وفي وسطها الأوسع (الرفاق وزملاء العمل).
إنّ ذلك جعلني أستنتج أنّ السعادة لدى الزوجة في هذين الحيّين البيروتيّين، تستند في عمقها إلى القناعة في خطوة الزواج بحدّ ذاتها، وما يترتّب عليها من مسؤوليّات، وحاجات تعمل الأسرة جاهدة على إشباعها، وفي مسيرة العمل هذه تكمن السعادة. إنّ القناعة في المحافظة على تماسك الأسرة، وعدم ضياع أفرادها، أي إنّ الزوجة تعي جيّدًا أهمّيّة المحافظة على هذا التماسك، لذا وضعت له أولويّات نراها واقعيّة على االرغم من المفاجأة التي تحملها في بعض الأحيان. لهذا قالت بما معناه: إنّ السعادة الزوجيّة التي تحقّق تماسك الأسرة، والحيلولة دون تفكّكها هي كالآتي:
أن تكون الأسرة لديها الاكتفاء المادّيّ، كمنظومة حاجات أوّليّة، وأساسيّة، إذا ما تمّ إشباعها، فهي المؤشّر الأوّل للسعادة الزوجيّة. وللصدق الأكاديميّ البحثيّ، نحن قبل البحث كنا نعتقد بأنّ عامل الإشباع، والرضى العاطفيّ هو الذي سيتقدّم كمؤثّر أوّل للسعادة الزوجيّة، ولكن الباحث الصادق عليه أنّ يحتكّم إلى النتائج. صحيح أنّ عامل الإشباع نال نسبة 67.5 %، ولكن هناك تراتبيّة لمفهوم السيّدات لهذا الإشباع العاطفيّ حيث كان مضمون اللغة بين الزوجين، وفحوى التخاطب الذي اتّسم بالاحترام، ومراعاة مشاعر بعضهما البعض أوّل مؤشّرات الإشباع العاطفيّ، يليه إذا كان زوجها هو حبّها الأوّل. إلى أنّ تأتي العلاقة الجسديّة الحميميّة في المرتبة الثالثة من مؤشّر الإشباع العاطفيّ، ويعدّ ذلك بمنتهى الرقيّ الثقافيّ لمفهوم السعادة الزوجيّة، من خلال عامل الإشباع، والرضى العاطفيّ (لقد فسّرنا ذلك في متن النصّ السابق).
أمّا فيما يخصّ عامل الإنجاب كمؤشّر لتماسك الأسرة وسعادتها، فقد جاء في المرتبة الثالثة من سلم أولويّات السعادة الزوجيّة، والتماسك الأسريّ، أي إنّ العيّنة أكّدت أنّ هناك نسبة مُهِمَّة من الوعي لدى الزوجين في تأمين متطلّبات أولادهم المستقبليّين، وأنّهم صرحوا بأنّهم يكتفون بولدين أو ثلاثة كحدّ أقصى من الذكور والإناث، وذلك كي يتمكّنا من تلبية حاجاتهم الأساسيّة. وهنا منتهى الوعي، والإحساس بالمسؤوليّة الأسريّة. أمّا في العوامل الأخرى فقد شرحناها سابقًا.
- التوصيات وآفاق البحث
نحن بدورنا نوصي بدراسات أكثر شموليّة لمؤشّر السعادة الزوجيّة، والتماسك الأسريّ، أي أن تكون العيّنة أكبر وشاملة لمناطق كبيرة في لبنان.
كذلك نوصي بدراسة مؤشّر السعادة لدى الزوجين، وفقًا للتقدّم في العمر، وهذا مُهِمّ لكي يفهم الشريكان بأنّ جذوة الحبّ تتغيّر حتمًا بتقدّم العمر.
كذلك نوصي بالاهتمام بمراكز الإرشاد الأسريّ، ووجوب تذخيرها بكوادر نفسيّة متدرّبة في تأهيل وصيانة العلاقات الزوجيّة.
كما أنّنا نوصي بإجراء دراسات مقارنة على مؤشّر السعادة بين النساء المتزوّجات والأخريات غير المتزوّجات.
وأخيرًا، يمكننا القول بخلاصة هذا البحث، إنّه لا يوجد تعريف شامل ومانع للسعادة الزوجيّة، لأنّ العوامل الذاتيّة وطباع الشخصيّة، وفرادة الحاجات الفرديّة، والعوامل الاجتماعيّة والتربويّة تتدخّل لتحديد هذا المفهوم، الذي يتغيّر عند الشخص ذاته من عقد إلى عقد، ومن حول إلى حول. لذا لا يمكن تفسير المتغيّر بمفهوم ثابت حفاظًا على المنحى الأكاديميّ للبحث.
مصادر البحث
- مكّيّ، عبّاس، (2007): ديناميّة الأسرة في عصر العولمة، المؤسّسة الجامعيّة للدراسات والنشر والتوزيع – بيروت.
- أبو زيد، أحمد (2005): هل سيموت الأب وتختفي الأسرة البيولوجيّة؟، مجلّة العربيّ، العدد558، حزيران.
- إنجلس، فريدريك: أصل العائلة والملكيّة الخاصّة والدولة، ترجمة أحمد عزّ العرب، دار الفارابيّ.
- أرجايل، مايكل (1993): سيكولوجيّة السعادة، المجلس الوطنيّ للثقافة والفنون، ترجمة د. فيصل عبد القادر، الكويت.
- Amado, P, (2006): Happiness Satisfaction, Journal of Socio – Economics.35.
- David, B, & Lynn, K, (1978): Marital Satisfaction in an Economically Marginal Population, Journal of Marriage and Family, Vol, 40. No.2, May.
- Diener, E, & Lucus, RE, Oishi,S, (2003): Emotional and Cognitive Evaluation of Life, Annual Review of Psychology, 54.
- Fredrickson, B.L, (2009): Positive Emotions Broaden and Build, Advances in Experimental Social Psychology, Vol, 47.
- Hooghe, M, (2002): Is Sexual Well- Being Part of Subjective Well- Being, Journal of Sexual research, 49.
- Johnson, W, & Kreuger, R, (2006): How Money Bari Happiness, Journal of Personality and Social Psychology, Vol, 90, No, 4.
- Kristen, Lee, and Hireshi One: Marriage, Cohabitation, Across National Analysis of 27 Countries, Texas University Press.
- Martin, Seligman, (2007): Authentic Happiness States, Free Press, New York.
- Malstrom, J, and Etaugh, G, (1981): Positivity, Grown, New York.
- Myers, D.G, & Diener, E, (1995): Who Is Happy? Psychological Sciences,6
- Nicholas, H, Welfinger, (2016): Soul Mates, Oxford University Press, London.
- Robak, W, & Griffin, W,(2000):Purpose in Life, Journal of Psychology,2 (1).
- Siamak Khodarahim, (2015): The Role of Marital Status in Emotional Intelligence, Happiness, Optimism and Hope, Journal of Comparative Family Studies, Vol, 46, No.3, Summer.
- Tayton, D, Niluter L, Zehra, G (2013): The Relationship Between Sexual Quality of Life, Happiness, and Satisfaction with Life in Married Turkish Women, Journal of Sexuality and Disability, Vol, 31, September.
- Trach, C, & Lyubomirsky, S (2006): How do People Pursue Happier? Journal of Happiness Studies, Vol, 7, June.
- Veenhoven, R, (1994): Is Happiness a Trait? Social Indications Research, 32 (2).