القلق الوجوديّ بين عبثيّة الحياة وحتميّة الموت
دراسة تحليليّة نفسيّة للقلق الوجوديّ، مدعّمة بحالة نفسيّة وجوديّة كنّا قد التمسناها عياديًّا،
ووثّقناها منذ ما يقارب الخمسة عشر عامًا
د. مالك العنبكيّ*
- المقدّمة
إنّ الإنسان هو الكائن الحيّ الوحيد، القادر على إدراك الزمان مع أبعاده المعروفة، الماضي، الحاضر، والمستقبل، وإنّه الوحيد الذي يستخدم عقله لإدراك التغيّرات التي تحصل في الزمان والمكان خاصّته. إنّ العقل والإنسان سمة واحدة يجب ألاّ يفترقا، وهما الكمال الإنسانيّ المطلق، لأنّهما جذر الخصب والعطاء، في مقابل الجذب والقحط. لهذا، فإنّ الحضارة التي نعيشها، وبكلّ صنوفها مدينة لعقل الإنسان وحده، الذي يترجم سلوكًا إنسانيًّا يتسامى به الفرد وكذلك الجماعة.
نحن معشرُ النفسانيّين، وزملاؤنا من الاختصاصات المعرفيّة الأخرى، لا يجب أن نعزل العقل عن الإنسان الفرد، ولا حتّى عن المجموعة، لأنّه بالعقل سيطر الإنسان على ذاته، وأصبح سيّد المخلوقات الحيّة، وأخضع الأشياء، والأحياء، والكواكب لمشيئته المعرفيّة. بالعقل وملكاته التي لا تحدّ، ولا تهِن، أصبح الإنسان ذو بعد كونيّ، بعد أن تجاوز البعد الأرضيّ، أي إنّ قوى العقل لا يحدّها شيء في الأرض، ولا في فلك الأكوان. إنّه العقل المقتحم المقدام، هو المبتدأ وهو الخبر، وهو الأعلى رتبة في الوجود الإنسانيّ.
إذًا في العقل النيّر الذي تحدّثنا عنه أعلاه، تكمن سعادة الإنسان، ولكن في الحقيقة قد تتسلّل إلى العقل تعاسة الإنسان ومأساته الوجوديّة في هذا الكون. والسبب في ذلك، لأنّه يفكّر، وفي التفكير أحيانًا شقاء. لذا، يمكننا القول إنّ الإنسان من أكثر الكائنات الحيّة شقاءً وألمًا. هذا الأمر حتمًا، لا ينطبق على ذوي الجهل، والعقول المُحشّاة بالأفكار الأسطوريّة المتسرّبة عن أساطير الأوّلين، وكذلك لا ينطبق على البعض من ذوي الاحتياجات الخاصّة.
إنّ تفسيرنا للشقاء الإنسانيّ، هو في أنّ العقل الإنسانيّ يستجيب إلى الأحداث الخاصّة، والصادمة في مسيرة حياة البشريّة بالإدراك، ويحلّلها، ويرمّزها، ويعطي لها معنى يخزّنه في ذاكرته، يستحضره من حين إلى حين، وهذا ما لا ينطبق على الكائنات الحيّة الأخرى. لهذا، فهو (أي الإنسان) أشقى المخلوقات على الأرض، وأكثرها إبداعًا، وإنتاجًا معرفيًّا. من هنا، من فكرة الشقاء، والألم، والإبداع، ندخل إلى المعنى الوجوديّ الذي هو محور بحثنا هذا.
الوجوديّة Existentialism مذهب فلسفيّ يؤمن بالإنسان، وبعقله، وبحرّيّته، وبفرادته في هذا الكون. والمتتبّع لتاريخ الفلسفة، يجد أنّ الإرهاصات الأوّليّة للوجوديّة نجدها عند الفلاسفة اليونانيّين في محاوراتهم، وفي المسائل التي كانوا يطرحونها، ويتناقشون فيها أمام الجمهور (Morino, Gordon, 2004)، إلى أن وصلت وتطوّرت بعد الميلاد، وفي القرن الخامس عشر، والقرن العشرين، على يد فلاسفة، ومفكريّن، وعلماء نفس.
كذلك، فإنّ الوجوديّة قامت على فكرة أنّ الإنسان موجود، لأنّه يفكّر بما يفعل، وبما سوف يفعل، أي إنّه موجود وجودًا حرًّا، يمتلك خِياراته التي من المفترض أن تغيّر من أنماط سلوكيّاته نحو الأفضل، رغم إدراكه بأنّه في هذا الكون سرّ عجيب، وعظيم يحفّزه على طرح تساؤلات يجد حاله باحثًا، ويجهد في الإجابة عنها، ومن هذه التساؤلات، من أين جئنا؟ ومَن أوجدنا؟ وما هي الغاية من وجودنا؟ (هنا البعض من تساؤلات الحالة قيد الدرس)، لماذا جئنا ولماذا نموت؟
نعم، هذه التساؤلات الوجوديّة، وغيرها هي التي أسّست للفكر الفلسفيّ الوجوديّ عبر التاريخ (Patrick Baert, 2015) وهي التي جعلت من بعضهِ مسارًا إنسانيًّا راقيًا، وذلك لأنّه استند إلى أهمّ الاستراتيجيّات التربويّة المعرفيّة ألا وهي استراتيجيّة العصف الذهنيّ Brain Storming، واستراتيجيّة المناقشة والتحليل، أمام مسائل مصيريّة يحاول الإنسان من إيجاد تفسير مقنع لها يقارب المنطق، ومنها أسئلة المعنى في الحياة، والعبثيّة والعدم. بالإضافة إلى ما ذكرناه أعلاه. (Richard, Polt, 1999)
من خلال تلك الأسئلة، ورغبة بعض البشر في الخلود، وما تشكّله فكرة الموت، والعدميّة، والصراع الداخليّ المحموم أمام سيل من التجاذب الوجدانيّ، يتسلّل القلق، وتحديدًا القلق الوجوديّ Existential Anxiety إلى فكر الإنسان وعقله، عندها تظهر عليه أعراض القلق ببعديها الجسديّ والنفسيّ، وأعراض الوسواس القهريّ OCD، وكذلك شيء من أعراض الاكتئاب، خصوصًا في جزئيّة المعنى واللامعنى للحياة. إذًا انزلاق الأفكار نحو العدميّة Emptiness واللامعنى Meaningless، تؤدّي بالبعض إلى ما يمكن أن أسمّيه هاوية الغربة (مصطلح خاصّ بنا)، وهنا في خبرتنا العياديّة، يعدّ مؤشّرًا للقلق الوجوديّ (نجد ذلك في البعض ممّا كتبه سورين في كتابه رهبة واضطراب). (Wortenberg, T, 2008)
حاولت في هذه المقدّمة، أن أحتوي موضوع البحث هذا، من خلال مسار فلسفيّ مختصر وتتبّعيّ، من الوجوديّة كفكر إلى الوجوديّة كمأزم، إلى القلق الوجوديّ. مستندين إلى فكرتنا التي تقول بأنّ الإنسان بالمطلق الذي يأتي إلى هذه الدنيا، قد فرضت عليه الحياة، لذا عليه أن يمضي بها، وإلاّ سيُهلَك، عليه أن يُحكّم العقل لكي يصل إلى المعنى من هذه الحياة، ولكن ليس كلّ فردٍ بقادرٍ على اكتساب ذلك لسببٍ أو لآخر، ومنهم ذوي القلق الوجوديّ.
- أهمّيّة وأهداف البحث
تكمن أهمّيّة البحث، في إدراك القارئ أنّ القلق موجود حينما أدرك الإنسان وجوده في هذه الحياة. وهو ملازم للإنسان، خصوصًا في عصرنا الحاليّ المعقّد، وتحديدًا القلق لازمة في حياة الإنسان العربيّ، والسبب هو في تلك الفوضى التي يجد بها ذاته، التي تتّسم بالتلوّث الفكريّ، والعقائديّ، والاجتماعيّ، والتربويّ، والاقتصاديّ، الذي أنتج الفوضى الهدّامة، والعبثيّة في السلوك. كما أنّ الأهمّيّة في إدراك القارئ أنّ القلق الوجوديّ من الممكن أن يكون إيجابيًّا، ويعدّ حافزًا لإبداع الإنسان. نرى ذلك عند الشعراء المبدعين أمثال شاعر البداهة والارتجال، أبا الطيّب المتنبّي عندما قال في قصيدة على وزن بحر الوافر بيتًا من الشعر نصّه:
على قلقِ كأنّ الريح تحتي أوجّهها جنوبًا أو شمالا
حيث إنّ الأنا لديه تعطي سمات جمّة، جعلته يلامس الوجود والغاية من هذا الكون. (راجع في ذلك، الليث، 2007، والسرور، 2002).
كذلك، فإنّ الوجوديّة الإبداعيّة تجلّت في شعر الشاعر العربيّ اللبنانيّ إيليا أبي ماضي، وتحديدًا في قصيدته العصماء، الطلاسم حيث اخترتها يومًا، موضوعًا لبحث في مادّة اللغة العربيّة كان عنوانه الوجوديّة وقلق الإبداع، حيث حلّلت المقطعين الأوّلين من القصيدة مستشهدًا بهذا القسم منها:
“أجديد أم قديم أنا في هذا الوجود؟
هل أنا حرّ طليق أم أسير في قيود؟
هل أنا قائد نفسيّ في حياتي أم مقود؟
أتمنى أنني أدري ولكن لست أدري”
إنّ البارع في علم النفس الوجوديّ يكتشف في النصّ التساؤلات الوجوديّة الكبرى والمقلقة. وهي من أين جئنا؟ وهل كنا موجوديّن؟ وهل الكون أزليّ؟ وهل وجودنا جبريّ أم حرّ؟ (بحث خاصّ، الإعداديّة المركزيّة، بغداد).
كذلك الباحث في شعر بدر شاكر السيّاب، يجد الوجود والقلق، وكيف أنّهما يولدان الإبداع.
نعم، إنّ القلق الوجوديّ عند ذوي العقل النيّر، ناتجهُ إبداع من صلصال الأزمات التي مرّوا بها، وكلّنا يعرف كبرياء المتنبّي وويلاته، وغربة أبي ماضي وألمها، ومرض السيّاب والاضطهاد السياسيّ الذي عانى منه، والغربة في أشعاره.
إنّ من أهداف بحثنا هو تمكين الطالب الباحث، من معرفة كيفيّة التماس حالة القلق الوجوديّ، وما هي متطلّبات ذلك. كذلك تمكين الطلاّب الباحثين من معرفة ذلك التداخل بين أعراض القلق الوجوديّ، وأعراض الوسواس القهريّ، وكذلك أعراض الاكتئاب. وهنا نمكّنه من إدراك التصنيف الفارقيّ للقلق الوجوديّ، وهذا مهمّ. وأخيرًا، تبيان تَقنيّات المقاربة المعرفيّة العياديّة خاصّتنا، أمام الحالة الوجوديّة.
- المنهج المتّبع
يرتكز منهجنا على الالتماس العياديّ (دراسة حالة)، المستند على القواعد المعرفيّة لعلم النفس الوجوديّ، ومنهم سارتر المتأثّر بفلسفة هيدجر ونيتشه وياسبرز الذي زاوج بين الأفكار الدينيّة والأفكار الوجوديّة.
أمّا في مسألة التشخيص، فلا شكّ في أنّ منهجنا استند إلى خبرة الباحث في التماس هذا النوع من الاضطراب متسلّحًا بوسيلة المقابلة العياديّة مع مخزون معرفيّ في النظريّات الوجوديّة المعاصرة، مع شيء من الأبحاث المعاصرة. إنّ منهجيّ، هو في عرض للحالة، وتبيان أعراضها الأساسيّة، ومحاولة ربط الأعراض بالتاريخ الوجوديّ الذي مرّ به هذا الإنسان.
- التعريف بالحالة
شابّ في ربيع العمر الخامس والعشرين من العمر، التقيته في عيادتي سنة 2004، ينتمي إلى أسرة قرويّة تتكوّن من أب وثلاث فتيات يكبرنه سنًّا. كان قد فقد الأمّ بحادثٍ عندما كان يبلغ من العمر تسع سنوات، فتكفّل الوالد بتربيتهم من دون أن يفكّر بالزواج مرّة ثانيةَ، وبمعاونة أسرة الوالد الأوسع (أخوات الوالد وأخوته). الوضع الاقتصاديّ والمادّيّ ينطبق عليه سمة العوز، حيث يعمل الوالد بأجرٍ بسيطٍ، يكاد يكفي قوتهم الشهريّ. اجتاز الشابّ المرحلة الابتدائيّة والمتوسّطة بصعوبة، في مدرسة الضيعة المجاورة، وكذلك اجتاز الثانويّة العامّة بعد أن أعاد سنته الأخيرة (نقلًا عن الشابّ ذاته).
المجتمع الذي ينتمي إليه يتّسم بالعشائريّة، وبالمعتقدات الدينيّة المُحافظة. ونقلًا عن الوالد، كانت ولادة الطفل طبيعيّة، واستقبله الأهل بفرحٍ كبيرٍ لأنّه سيحمل اسم العائلة بعدّه الذكر الوحيد والأصغر للعائلة. يقول الوالد “صحيّح أنّني لم أتمكّن من تلبية كلّ الحاجات المتعلّقة بأولادي، ولكنّني حاولت أن أُلبّي الأساس من هذه الحاجات”. علاقة الشابّ بأبيه طبيعيّة، ولم يشوبها أيّ توتّر، وعلاقته بأمّه كانت قويّة جدًّا، وكان لا يُفضّل مفارقتها، وهي تبادله الحبّ والاهتمام.
حاولت استبار الوضع الصحّيّ لهذا الشابّ، حيث لم يتبيّن أنّه قد مرّ بمرضٍ عضويّ هدّد حياته، أو ما شابه ذلك، ولقد دقّقت كثيرًا في ذلك، لأنّ بعض الدراسات عن الأمراض التي تصيب الإنسان، والتي تهدّد وجوده، تؤكّد أنّها تؤدّي إلى القلق الوجوديّ، أي إنّ سلسلة الأزمات العضويّة المرضيّة تشعر المبتلى بها بحتميّة الموت.
مثلًا، إنّ دراسة (Woodgate & Tailor, 2006) التي تحدّثت عن كيفيّة التمريض في الجامعة الملكيّة الكنديّة، والتي حاولت التحقّق من القلق الوجوديّ لدى الأطفال، والمراهقين المصابين بالسرطان، والتي اتّخذت المنهج الوصفيّ الكمّيّ على عيّنة تتراوح أعمارهم بين ثماني سنوات وسبع عشرة سنة، والذين هم قيد العلاج، حيث استخدمت هذه الدراسة تَقَنيّة المقابلة المفتوحة والمغلقة، أضف إلى الطلب من الأطفال رسم نماذج كومبيوتريّة لخبراتهم مع هذا المرض.
اكتشفت الدراسة أنّ العيّنة لديها مؤشّرات الهمّ الوجوديّ، والميل نحو العزلة، وأنّ التطوّر في إدراك حياتهم الوجوديّة فيه مؤشّرات اضطراب، وأنّ الأطفال يتحرّكون بين القلق الوجوديّ، والتطوّر الوجوديّ، وأنّ معاني التعبير، من خلال الرسم بواسطة الكومبيوتر، قد أعطتهم مساحة، أو فسحة علاجيّة.
أمّا في ما يخصّ الأحداث الخاصّة، والصادمة في الحياة، استفسرت عنها من الشابّ نفسه، ووالده وأخته الكبرى، حيث تقاطعت رواياتهم أنّ صدمة فقدان الأمّ بعمر التاسعة كانت قاسية عليه، حيث غيّرت الكثير من طباعه وسلوكيّاته، فأصبح يخاف على أبيه كثيرًا، ولا يريده أن يخرج من المنزل، وكذلك يحاول أن يبقى أكبر فترة ممكنة مع أخواته. وبالفترة العمريّة ما بين العشر سنوات حتّى الأربع عشرة سنة، كان يستيقظ من النوم لتفقّد أخواته، يسأل عنهنّ حتّى عندما يكون على معرفة مسبقة أين يتواجدن. أصابه القلق وقلّة النوم، كان يذهب إلى المدرسة، والنعاس بائن عليه، بدأ سلوكه يميل إلى العزلة، وأسئلته عن الموت والحياة بدأت تكثر، وكان يوجّهها إلى الأب والأقارب فيجيبونه عليها وفق فلسفة الأقدار وحكمة الله سبحانه وتعالى، ولكنّه لم يكن يقتنع بذلك.
اطّلعت على تقارير مدرسته، خصوصًا في المرحلة الثانويّة قبل الجامعيّة، لفتني تقرير لأستاذ مادّة الفلسفة، يقول في فيه: “إنّ الطالب شغوف، ومجتهد في هذه المادّة، حيث يتبيّن يومًا بعد يوم أنّه متعلّق كثيرًا بالفلاسفة الوجوديّين، وخصوصًا العالم سارتر، حيث يتتبّع جذور أفكاره، ونظريّاته في الوجود، والمعنى، والعدم، وأنّ الطالب يُبيّن لأستاذه قراءاته في الفلسفة الوجوديّة، ويطرح تساؤلات متعبة بالنسبة إلى عمره. وأخيرًا، فإنّ الحدث الصادم الثاني في حياته الذي أعاقه عن التقدّم إلى جامعة ذات طابع دينيّ، هو في الوصم الذي ألصق به على أنّه وجوديّ مُلحد، حيث كان رفاقه في الثانويّة يلقبّونه بسارتر المُلحد. هذه مختصر مسيرة حياة هذا الشابّ، أمّا الآن فنأتي إلى الأعراض الملتمسة من قبلنا.
- الأعراض
- عندما سألته عن اسمه قال ما نصّه: “أنا الذي تراني الآن، لست أنا، لأنّي أنا في اللامكان واللازمان”، أنا موجود في العدم، أنا منذ أن أتيت، أتيت من العدم، وأنا ذاهب حتمًا إلى العدم”.
- عندما سألته عمّن أتى بك إلى هنا، أجاب ما نصّه: “أنا حرّ، وحرّيّتي كاملة، لأنّي أنا لا أُشبه المسيّرين”.
- وجّه سؤالًا لي نصّه: “ما هو الصفر؟”، أجبته: “هو الحدّ الفاصل بين المحور السينيّ (س = X) والمحور الصاديّ (ص = Y) أفقيًّا وعموديًّا”. ثمّ أتْبعه بسؤال: “ما هي النقطة؟” أجبته: “إنّها بداية كلّ شيء، وقد يكون الكون قد بدأ من نقطةٍ ما”. أتبعناه بمناقشة فلسفيّة علميّة عن ذلك، وقد ارتاح لوجوديّ عندما علم أنّي خريج القسم العلميّ ومتمكّن من مادّة الفيزياء إلى أن دعاني إلى أن أنتمي إلى مجموعة الصفر. وبعد البحث والتدقيق، وجدت أنّها مجموعة غامضة لديها مركز في جبل لبنان، لم أهتمّ في معرفته آنذاك.
- يقول ما نصّه: “ليس لديّ هدف في الحياة، لأننّها بلا معنى، ولا معنى لأيّ شيء طالما هو فانٍ، أنا أنعي حياتي”.
- يشعر أنّه غريب في هذه الدنيا وأفكاره غريبة.
- أعراض قلق وخوف بادية على مظهره، وعندما سألته: “ما بك؟”، أجاب: “أنا غير مرتاح، ما في أمان بهالدني”.
- أعطاني قصاصة ورقيّة مكتوب عليها بخطّ يده “أنا وجدت حالي مُلقى على رصيف هذا العالم”.
- أعطاني قصاصة ورقيّة أخرى مكتوب عليها بخطّ يده “أينما تكونوا يدرككم الموت، ولو كنتم في بروجٍ مشيّدةٍ، هذه آية قرآنيّة من سورة النساء، آية 78.
- هذه خلاصة الأعراض التي حصلت عليها خلال متابعتنا لهذه الحالة على مدى شهرين متواصلين.
- تصنيف وتوصيف وتحليل الأعراض
لا شكّ في أنّها أعراض القلق الوجوديّ، حيث انطبقت عليها كل المؤشّرات المستخلصة من المصنّفات العالمية للأمراض، وتحديدًا الاضطرابات العقلية والنفسيّة وبالأخص اضطرابات القلق. كذلك، انطباق مؤشّرات علم النفس الوجوديّ لهذا النواع من الاضطراب.
وَجُب الانتباه إلى أنّنا لا ندّعي بأنّنا أوّل من صنّف أعراض القلق الوجوديّ، بل سبقنا إلى ذلك وصفًا علماء نفسيّون وتحليليّون في هذا المجال، كانوا قد بحثوا به مثل Kazimierz Dabrowski وIrvin Yalom منذ العام 1929، ولكن كانت المشكلة لديهم في ذلك التداخل في المفاهيم بين القلق الوجوديّ والاكتئاب، أضف إلى ما جاء به سارتر وكومز من أفكار Rainville, G, and Loura Mechegan, 2018. لذا فالتصنيف كالآتي:
أوّلًًا: الأعراض التي تشكّل أزمة الحرّيّة والمسؤوليّة
لا شكّ في أنّ النقطة الثانية من الأعراض، تُصنّف تحت لائحة هذه الأزمة، إلاّ أنّ الإنسان من المفترض أن يمتلك حرّيّته وخِياراته التي من المفترض أن تُغيّر في نمط حياته نحو الأفضل (عند معظم الناس الأسوياء)، أو نحو الأسوأ (عند القليل من الناس غير الأسوياء، ومنهم الذين يعانون من القلق الوجوديّ).
إنّ الإنسان الراشد والعاقل، يُفضّل حتمًا خِيار الحرّيّة لكي لا يسمح لأحد من أن يتّخّذ عنه خِياره. ونحن نعلم كنفسانيّين، أنّ الحرّيّة تترافق حتمًا مع المسؤوليّة لكي تجتمع في ذهن الإنسان على هيئة الحرّيّة المسؤولة. المشكلة لدى الوجوديّين القلقين أنّ حضور المسؤوليّة بجوار الحرّيّة، هو بحدّ ذاته، مصدرًا للقلق، لأنّه بحسب مفهومهم للحرّيّة هو في التحرّر من كلّ شيء، لأنّهم عدميّون، ينفون الماضي، ولا يؤمنون في المستقبل وحاضرهم بلا معنى. إنّ الغاية من الوجود عند سارتر (Jean- Paul Sartre, 2003)، هو في أن يمتلك الإنسان كامل حرّيّته، وكامل تفكيره، دون قمع، أو تنمّر. لهذا، فهو يقول في كتابه “الوجود والعدم” أنّ الإنسان محكوم عليه أن يكون حرًّا، ويجب أن يكون مسؤولًا عن كلّ أعماله.
السؤال هنا: كيف تشكّلت المسؤوليّة والحرّيّة في ذهن الشابّ موضوع دراستنا؟ الجواب هو بالرجوع إلى ما استبرناه في تاريخ حياته. الكلّ يعلم أنّ موت الأمّ يشكّل صدمةً للأطفال خصوصًا تحت سنّ العشر سنوات، إنّ هذه الصدمة لها شرح في مكانٍ آخر، وتحديدًا في محور المعنى من الحياة. ولكن في مسألة المسؤوليّة، فالكلّ من عائلته أخبرنا بأنّ هذه الصدمة قد غيّرت الكثير من طباعه، حيث أصبح يخاف على كلّ أفراد عائلته. من هنا، تسلّلت المسؤوليّة المُغلّفة بالخوف، والقلق من فقدان آخر، حيث يستيقظ في منتصف الليل لكي يتفقّد والده وأخواته. إنّ هذا الفتى كان يمتلك حرّيّته السويّة عندما كانت والدته على قيد الحياة (يذهب ويجيء، يلعب ويتأخّر مع أقرانه دون محاسبة، هو طفل خليه ياخذ حرّيّته، على حدّ قول أبيه)، ولكنّ هذه الحرّيّة تحجّمت مع الصدمة، واستولت عليها المسؤوليّة المُغلّفة بالخوف والقلق.
بالرجوع إلى عرض “ب” يقول: “أنا لا أُشبه المسيّرين”. هنا دخلنا في مسألة فلسفيّة مضمونها السؤال الجدليّ: هل الإنسان مُسيّر أم مُخيّر؟ بالاختصار والتكثيف، أقول إنّ هذا السؤال التمسته عند الكثير من الحالات العياديّة ذوات المنحى الوجوديّ القلقيّ، ما جعلني أفتّش عن جذور الأفكار هذه في بطون التيّارات الفلسفيّة الغربيّة والشرقيّة على مدى خمسة وعشرين عامًا من العمل النفسيّ العياديّ، حيث وجدت أنّ هذا السؤال أرعبَ الكثير من التيّارات الإسلاميّة، وجعلها عاجزة، وإذا أرادت أن تجيب عن السائل الذي يستخدم عقله تجيب بالتكفير أو بالإلحاد. وهذا الجواب، هو بمنتهى الهزيمة والبؤس الفكريّ (راجع الشهرستانيّ، الملل والنحل، 1402ه).
هذا ما واجهه الشابّ موضوع الحالة، فعندما كان يجيب زملاءه في المدرسة بأنّه ليس مسيّرًا، أي إنّه يستخدم عقله قبل السلوك، كانوا لا يفهون ذلك، وهذا الأمر سبّب له ميل نحو العزلة، لأنّهم لا يفهمونه، وهم يقولون عنه إنّه صاحب أفكار غريبة. هنا بداية سوء التكيّف، والمؤشّر الأوّل للاضطراب القلقيّ.
إذا أراد القارئ أن يفهم أكثر من ذلك، فليذهب في قراءة فلسفة ابن رشد، والغزّاليّ، والمعتزلة، وبعض التيّارات الإسلاميّة، والفلسفة اليونانيّة، حيث سيجد كيف تأثر ابن رشد بأرسطو، وشرح أغلب كتبه (ابن رشد، تهافت التهافت)، هو يؤمن بقِدم العالم، لكنّه ينكر حدوثه بقوّة فاعل، أي ينكر أنّ الله خلق العالم. وهنا، اتُّهم بالإلحاد من قبل الخلفاء الأندلسيّين، بعد أن كان مُقرّبًا منهم. والفكر نفسه الذي اتّهم هذا الشابّ بالإلحاد. إنّ فكر العقل بدل النقل (مصطلح خاصّ بنا)، أربك الماورائيّون حيث جاء الوجوديّون بمسألة اللازمن باللاحركة، أي إنّ كلّ شيء لا يتحرّك، لا زمن له (راجع ابن رشد، فصل المقال)، حيث قال: بأنّ لكلّ ظاهرة سبب، فلولاها لما كانت، ومن ينكر الأسباب ينكر العقل، وهذا أهمّ وصف لحال بعض التيّارات الإسلاميّة البائسة لأنّ مسألة نكران العقل، هي مسألة نكران العلم، لأنّ الأخير هو الابن الشرعيّ لحركة العقل.
المعتزلة انتقدوا المذهب الإسلاميّ الجبريّ (الذي يقول سلوك الإنسان مكتوب عليه قبل مجيئه إلى هذه الدنيا)، لأنّهم رأوا فيه إلصاق صفات سيّئة بالذات الإلهيّة، أي إنّ الإنسان القاتل، والسارق، والزاني، والمغتصب، والفاسق، والفاجر، والمنحرف، إنّما تمّ ذلك بأمر من الله قبل أن يولد هذا الإنسان. هذه معضلة البعض وهوانهم وبؤسهم من الفكر الإسلاميّ، حاول المعتزلة إدخال التفويض على الجبر لكي يحافظوا على نظريّة العدل الإلهيّ، ولكن تيّارات التكفير البائسة في العالم العربيّ والإسلاميّ والسائدة حدّت من ذلك، ومن أيّ فعل تنويريّ (راجع في ذلك، محمّد عبده، رسالة التوحيد، 1421ه).
أمام الذي تقدّم، نفهم معاناة الوجوديّين، ونفهم القلق الذي يشعرون به، والناتج عن قلق الفكرة بحدّ ذاتها، فكرة الوجود، وقلق ردود الأفعال عن هذه الأفكار.
ثانيًا: الأعراض التي تمثّل المعنى واللامعنى في هذه الحياة
بالرجوع إلى لائحة الأعراض، نجد البند “د”، الذي يقول به بأنّه ليس لديه هدف في الحياة، لأنّها بلا معنى، ويُفسّر ذلك عندما يربط الحياة بالفناء (لا معنى لأيّ شيء طالما هو فانٍ)، وهنا أزمة ذوي القلق الوجوديّ (راجع Viktor, E, 2006). إنّ معضلة الوجوديّة هي في المعنى، وبالتالي يمكنني القول إنّها أزمة الأزمات لدى الوجوديّين، ولم يتمكّنوا من إيجاد الحلّ لها، لذا فإنّ سلوكهم اتّسم بالتشاؤم، والحزن، والميل نحو الاكتئاب (هنا يلتقي القلق الوجوديّ بالبعض من أعراض الاكتئاب فيصبح هناك خلط بالتشخيص، وبالعلاج لدى البعض من الاختصاصيّين).
لفهم ذلك، نرجع إلى جذور الفلسفة الوجوديّة، حيث إنّها وجدت على يد كيرجارد، وياسبر، وهيدجر (Richard, Polt, 1999) وأصبحت مذهبًا على يد سارتر والبيركامو (Stanford Encyclopedia of Philosophy). وقالت هذه الفلسفة، بأنّه إذا كانت الحلول كلها مستحيلة بالنسبة إلى الموت، فالوجود في هذا العالم مستحيل، وبلا معنى (راجع سارتر 1996). وقال البيرت كامو، بأنّ الوجود هو حالة الذات، وأنّ الإنسان هو حالة عبثيّة في مواقف عبثيّة تافهة. العبثيّة عند سارتر ترتبط بالحروب، حيث عاش ويلات الحرب العالميّة الأولى (كان عمره ثماني سنوات)، وعاش ويلات الحرب العالميّة الثانية (كان عمره 35 سنة)، صور الدمار، والقتل، والخوف من فقدان الأهل، كوّنت لديه هذه الأفكار باللامعنى للحياة، وكذلك البير كامو الذي تطرّق إلى جرائم الحروب.
أذهب أبعد من ذلك، فتحليليّ النفسيّ للاتّجاهات الإلحاديّة عند البعض من الفلاسفة الوجوديّين، من ناحية إنكارهم لوجود الله (سبحانه وتعالى)، أمثال نيتشه وغيره. إنّ ذلك كان رد فعل قويّ على جرائم الكنيسة في العصر الوسيط، وإعدامها للعلماء خصوصًا العلماء الذين تحدّثوا بكُرويّة الأرض. إذًا موقف متطرّف أمام تاريخ متطرّف. وهذا ما نعيشه الآن في الشرق.
هذا الفتى فقد أمّه بحادث (حاولت جاهدًا معرفة نوع الحادث، ولكن لم أتمكّن، وسمعت إنّها قُتلت، ولكن لم أتمكّن من إثبات ذلك)، وعاش جزء من الحرب اللبنانيّة وعبثيّتها. إنّ فقدان الأمّ هو فقدان للذات، وأزمة تجعل من الشخصيّة في حالة من الخوَر التي تجعل من الفكر في مهب العدم. (أمّي مش موجودة، أنا مش موجود)، إذًا تلاطم الوجود بالعدم عند هذا الشابّ، مزعج ومقلق، ولكي نفهم ذلك، من المفترض أن نفهم جيّدًا فلسفة هيجل، ولا مجال للإبحار فيها.
إنّ تفسيرنا لأزمة المعنى واللامعنى، هو أنّ الإنسان الذي يريد أن يعطي معنى للحياة هو ذاته من المفترض أن يمتلك منظومة من الأهداف لهذه الحياة. وفي خبرتي النفسيّة، إنّ المعنى وليد الهدف، وليس العكس. مشكلة الوجوديّين، هو في إيمانهم بالعدم (يقولون جئنا من العدم، وذاهبون إلى العدم)، وبالتالي هم في الحقيقة أماتوا الأهداف في مشاعرهم. لهذا، فمسألة الأمل هو الحياة، والعكس صحيح لا يؤمنون بها (راجع ما كتبه المعالج النفسيّ الوجوديّ Spinelli في اللامعنى، حيث قال: “إنّ الحياة مغامرة حمقاء”). إنّ المبتلين بالقلق الوجوديّ، يلتفتون في لحظة ما ومكانٍ ما صوب حياتهم حيث يدركون أنّها بلا هدف وبلا معنى، وهذا الأمر قد يكون له مسبّبات، إمّا لأنّه بالأساس لم يمتلك أهدافًا محدّدة، أو لصدمة ما من قساوة الحياة، أو لأنّه لم يحقّق فارقًا بينه وبين الآخرين الذين هم أدنى منه رتبة علميّة، أو معرفيّة. رورو
إنّ الإنسان السوي، هو ذلك الشخص الذي يحيى الحياة بفيض من الأمل حتّى ولو كان في ظروف حالكة. لهذا، فإنّ الصدمات الباكرة، وعدم التّفهم، والصدّ الذي عاشه هذا الشابّ جعلته يحسّ بأنّ الحياة بلا معنى، ولو تمكّن هذا الشابّ من إدراك الحاجة إلى أن يكتشف المعنى من هذه الحياة ويعيشه، لكان وضعه النفسيّ أفضل.
يمكننا الاستفادة من آراء (Carl, F, Paul, 2004)، في تفسيره للقلق الوجوديّ، من خلال دراسته التي صدرت عن قسم علم النفس في جامعة أولينز الأمريكيّة.
ثالثًا: مسألة العدم والموت
بالنظر إلى لائحة الأعراض في البند “أ”، الذي قال صراحةً إنّه ليس هو، وأنّه في العدم، والبند “ج”، الفرضيّة الصفريّة، فإنّ الوجوديّين تكلّموا بالعدم والفناء، ولم أجد في تاريخيّة الحالات الوجوديّة التي التمستها في هذا النوع من التعبير (الصفر والنقطة). ولم أجد في منظومة أعراض القلق الوجوديّ ذلك. نعم، هناك العدم، والموت، والعبث. أثناء الحوار الالتماسيّ، وجّهت له السؤال نفسه، وعكسته عليه: “ما هو الصفر بالنسبة إليك؟” أجابني: “لا شيء”، فأجبته: “ولكنّ الصفر قد يزيد الرقم أضعاف أضعاف، فالواحد يصبح عشرة إذا أضفت إليه الصفر، سكت لثلاث دقائق، ثم قال: “صفري على اليسار”، يعني هنا أنّ صفره هو اللاقيمة، بلا قيمة، هنا أيقنت أنّه يعني اللاشيء والعدم.
إنّ أفكار العدميّة لدى الوجوديّين، سابقة في الزمان، لذا فإنّهم يؤمنون بأنّه قبل وجود الإنسان كان العدم وبعده العدم. إذًا الفكرة أصلها وجوديّ فلسفيّ تتعلّق تحديدًا بالفكر. فالإنسان بلا تفكير، غير موجود. لأنّ الفكر يمكّن الإنسان من إدراك ذاته، أي يمكّنه من الوعي. سارتر يقول: “إنّ العدم متأخّر. متأخّر عن الوجود، تابع له، فلا معنى له من دون الوجود. أي إنّ كلّ وجود عدم، ولكن هيدجر يرى أنّ العدم يتجلّى بالحضور تارةً، وبالغياب تارةً أخرى.
إذا أردنا أن نفهم الموت وفق فلسفة الوجود، فهو فعل يقضي على فعل، أي وفق تحليلنا فإنّ الوجوديّين تتعاظم في ذاتهم أوّاليّة المحو والإلغاء، أي إنّ الموت فعل محا، وألغى فعل الحياة، أي إنّنا محكومون بفعل الموت. ومشكلة الوجوديّين القلقين، أنّهم يجهلون ولا يعرفون ما بعد الموت، لهذا قالوا بالعدم. وهذا أمر مقلق لهم، ومصدره في هذه الحالة التي بين أيدينا، تلك الكثافة من مشاعر الذنب التي لفحت شخصيّته ووجدانه، لأنّه لم يتمكّن من الحفاظ على أعزّ مخلوق لديه، ألا وهي أمّه. لهذا، أصبحت الحياة بلا معنى، أي عدم، أي الموت. سارتر يقول: “أنا أختلف عن نفسيّ بين الماضي، والحاضر، والمستقبل، أنا موجود، خلفي عدم، وأمامي عدم، أنا موجود بين عدمين. من هنا، فإنّ الوجوديّة اهتمّت بالإنسان على أنّه محور الكون، ولا شيء غير الإنسان”. (Sartre, J, 2003).
إنّ علاقة الوجود بالفناء، علاقة تشابكيّة واشتباكيّة (مصطلح خاصّ بنا)، لا تنتهي إلاّ بانضمام أحدهم إلى الآخر في ما يُسمّى وحدة الوجود والعدم، وهنا معضلة الوجوديّين عندما تعصف هذه الأفكار، وتتلاطم في ذهن القلقيّ. فهو غير قادر على عزل الوجود من العدم (تشابك)، ولا قادر على منع الصدام بينهما (اشتباك)، ما يجعل المُبتلى بهذا النوع من القلق، خائر القوى، منهك الذهن، ومتوجّس فاقد القيمة ومحبط. كلّ ذلك ينتهي به إلى العزلة الناتجة عن الخوف من الموت في فكرة الفناء.
وأخيرًا، في مسألة الموت، فبالإضافة إلى العرض الصفريّ والنقطيّ في بند “ج”، فهو قد عبّر عن ذلك في بند “ح”، في حتميّة الموت أينما كنّا، ولكن نحن نقول إنّ الوجوديّين القلقين لديهم رغبات دفينة في الخلود، ولما كان ذلك مستحيلًا، حيث إنّ الخلود ليس بالتمنّي، يقعون في ما أُسمّيه حالة من النزاع والتنازع، وهو صراع قائم على القاعدة النفسيّة التي نسمّيها التجاذب الوجدانيّ في موضوع الخلود والموت.
هذا الصراع كان ولا يزال، فهو سرمديّ وأزليّ، منذ أن أدرك الإنسان ذاته، ووعى مصيره، وأيقن بحتميّة الموت. إنّ هذه المعضلة بحثت من قبل الفلاسفة والمناطقة (أهل المنطق)، وذوي الفكر الدينيّ والوجوديّين، وكلّ اجتهد في ذلك. لكنّ الموت لا زال، وما الخلود والرغبة به، إلاّ أملًا يتستّر به الإنسان من عورة الموت.
وأخيرًا، فإنّ الفلسفة الدينيّة، عالجت فكرة الموت، والخلود، والعدم، أفضل من الفلسفة الوجوديّة، بالنسبة إلى الإنسان المؤمن.
رابعًا: مسألة العزلة واللاتوازن النفسيّ
يمكن عدّ حصيلة الأعراض السابقة، هي من أعراض العزلة، والقلق التي تجتاح المنظومة الفكريّة، والوجدانيّة للّذين لديهم مأزم وجوديّ، أذهانهم مستنفرة في فهم الوجود، والعدم، والحرّيّة، والمسؤوليّة، التي رنّما لا تكلّف هذه المفردات الكثير من الوقت لدى الإنسان السوي، فهو يمرّ عليها بفكرة مرورًا هادئًا، وليس عاصفًا يقِظ المضاجع.
إنّ أعراض العزلة، وعدم التوازن النفسيّ لدى هذه الحالة، نجدها في البند “ه”، حيث يشعر بأنّه غريب في هذه الدنيا، وتداهمه أفكار غريبة، وهذا الأمر يجعل من انكفائه وعزلته تحصيلًا حاصلًا. وما الأفكار الغريبة إلاّ تلك التي لا يمكن قياسها منطقيًّا (أحيانًا تكون على هيئة وساوس قهريّة، تؤثّر على علاقته مع الناس لأنّها متعبة للبعض، والسؤال المطروح: لماذا وجدنا؟ ولماذا نموت؟). وهنا إشارة إلى قلق وجوديّ فيه، الخوف من الضياع أي العدم، وهنا إشارة إلى اللاتوازن النفسيّ. نجد مسألة اللاتوازن أيضًا في البند “و”، حيث أعراض القلق، والخوف بادية على مظهره، عبّر عنها “بأنه غير مرتاح، وما في أمان بهالدني (في هذه الدنيا)”.
كلّنا يعرف أعراض القلق الجسديّة، من ارتجاف، وارتخاء عضليّ، واصفرار، وشحوب في الوجه، ونشفان في الفمّ، ودقّات قلب متسارعة… إلخ. وكذلك أعراض نفسيّة للقلق، كفقدان التركيز، واضطرابات في النوم. هذه الأعراض التمسناها لدى هذه الحالة، وهي السبب الظاهر في إدخاله إلى المستشفى.
كذلك فإنّ مسألة القلق عند الوجوديّين، تأتي عندما يُداهم الفكر من قِبل منظومة الحياة العبثيّة، وهي منظومة انفصاليّة تزيح الشخص عن واقعه، أو تشكّكه به.
هناك الكثير من النظريّات، فسّرت القلق الوجوديّ، ومنها نظريّة Park (راجع الكعبيّ، 2011). حيث ربطه بردّة فعل الإنسان حيال الموت، وفسّر ذلك بثلاث: الأولى عندما يرى، ويسمع بموت الآخرين، حيث ينتابه خوف حقيقيّ موضوعيّ، والثانية عندما يعي بأنّه أصبح قريبًا من النهاية (برأيي نجد ذلك عند المبتلين بالأمراض المستعصية)، والثالثة عندما يقترن الخوف بالعدم (المجهوليّة، والغموض ما بعد الموت)، والأخير تحديدًا هو في صميم القلق الوجوديّ. كذلك نجد مسألة العزلة واللاتوازن في البند “ز”، حيث وجد حاله مُلقى على رصيف هذا العالم. هذه العبارة فيها كلّ إرهاصات الاغتراب Alienation النفسيّة. صحّيّح أنّها ليست خاصّة بالوجوديّين، ربّما الكثير من الناس يشعرون بهذا، ولكنّ الفرق في مفعولها عند الوجوديّ، حيث تصبح المسألة الاغترابيّة مسألة انعزاليّة، لا تُمكّن المبتلى بها من إقامة علاقات دافئة مع الآخرين.
السؤال: هل هذا ناتج من عدم الثقة بهؤلاء الناس؟ الجواب نجده في نصّ ما يقوله هذا الشابّ (عشت أشكّ بنيّة الآخرين نحوي، نيّتهم غير مريحة)، وبتحليل آخر العبارة هنا تدخّل في مسألة أنّ هذه الحالة عاشت ردحًا من الزمن بمشاعر اللاأمان Insecurity، ونحن نعلم كنفسانيّين أنّ الشعور بالأمان من أهمّ مقوّمات الشخصيّة المتوازنة والمتكيّفة. وعكس ذلك، يعني أنّ الإنسان، ومنه حالتنا هذه، سيعيش تهديدًا وجوديًّا مقلقًا. إنّ هذا الأمر متعب لهذه الحالة.
خامسًا: المسألة الوجوديّة والهُويّة الذاتيّة
بالنظر إلى البند “أ” من الأعراض، يمكن استنتاج التالي:
يعكس أعراض وجوديّة واضحة تمامًا، فهو ليس هو، وجوابه على ذلك أنّه في اللامكان واللازمان. إنّ أعراض اضطراب الآنيّة لدى المبتلى بالأزمة الوجوديّة واضحة، وهذه الأعراض ربّما تؤدّي بهم إلى الضياع، لأنّ إدراك الزمان والمكان مهمّ للتكيّف. وإذا ما وصل إلى ذلك فنحن أمام حالة ذهانيّة ربّما. كذلك هو يقول: “أنا موجود في العدم، أتيت منه وذاهب إليه”، هذا يعني أنّه ربّما يتّجه إلى فقدان هُويّيته الذاتيّة، وهذا رافد من روافد الضياع، واللاتوازن النفسيّ، ويشكّل سوء تكيّف لهذه الحالة في محيطها. وبما أنّ الإنسان لا يمكنه أن يستمرّ، ويتحمّل مسألة ضياع الهُويّة، إذًا كان عليه التفتيش عن مثال الأنا، لكي يمسك ببقايا هُويّته، لهذا ذهب إلى سارتر الوجوديّ لكي يدرك الوجود من خلاله، وهذا ما أكّد عليه أستاذ الفلسفة عندما قال إنّ هذا الطالب شغوف بمادّة الفلسفة، وبفكر سارتر تحديدًا، ولم يكن يعلم أنّ هذا الطالب يبحث عن مثال الأنا أمام انهيار الذات.
- الخلاصة والتوصيات
يتّضح ممّا تقدّم، أن الأفكار الوجوديّة مهمة، ولكن المشكلة عند البعض من الناس، هي في اجتيافها وإدخالها في المنظومة الفكريّة من عقولهم. والأسباب في ذلك عديدة ومنها البحث عن السعادة في حياة ربما صادمة ومعقّدة، وتحمل في جوانبها شيء من الشقاء.
لهذا، نحن نرى ذلك التداخل ما بين أعراض القلق الوجوديّ وأعراض الاكتئاب، ولكن التساؤل: هل الحزن مسببًا للقلق الوجوديّ أم نتيجة له. الجواب غير محسوم، ففي هذه الحالة نجد البعض من أعراض الاكتئاب قد سبقت أزمته الوجوديّة بسنين، وربّما سهّلت انزلاق الحالة نحو القلق الوجوديّ من نافذة معنى الحياة. أمّا مسألة الوسواس القهريّ، فنجد البعض من أعراضه لدى هذه الحالة حيث كان يقوم ليلًا لكي يتكّد من أنّ بقية أهله أحياء، وهذا كان متعبًا للحالة وللأهل.
فنحن، على االرغم من ذلك، في حاجة إلى دراسات معمّقة لدراسة التداخل بين القلق الوجوديّ، والبعض من الاضطرابات النفسيّة.
أمّا في مسألة التوصيات، فيمكننا القول إنّ الإنسان من الممكن أن يعبّر من فوق شقائه، وألمه لكي يصنع دربه في الحياة، ومن الممكن أن يتسامى على ألمه لكي يبرع في الحياة. وأنّ العلاج النفسيّ الوجوديّ مهمّ، ولكنّه في بحاجة إلى الإلمام بالفلسفة الوجوديّة، والفلسفة الدينيّة على حدّ سواء. كما نوصي بالوعي، ووجوب التركيز عليه، لأنّ الخلاص به، حيث من الممكن أن ينقذ الإنسان من مآزمه الوجوديّة التي قد تؤدّي به إلى الاكتئاب والانتحار.
كذلك يجب أن نعلّم أبناءنا وطلاّبنا، بأنّه لا توجد حرّيّة مطلقة، بل حرّيّة مسؤولة لكي لا تسمح بسلوك الإنسان الغرائزيّ من الانفلات والانحلال عن منظومة القيم الخيّرة، لأنّ في ذلك ارتياب وهو محفّز القلق الوجوديّ.
وأخيرًا، نحن معشر النفسانيّين يجب أن نجد منافذ تصالحيّة انفتاحيّة بين الفلسفة الوجوديّة، والفلسفة الدينيّة، لأنّي أرى، ومن خلال خبرتي العياديّة، أنّ كلّ واحد منهما يهذّب، ويشذّب الآخر، ويمنع انزلاقه نحو المجهول.
المصادر والمراجع
- الديب، محمّد (2007): “القلق الوجوديّ في الشعر الأندلسيّ”، رسالة ماستر، جامعة البعث، دمشق.
- السرور، ناديا (2002): “مقدّمة في الإبداع”، دار وائل للطباعة والنشر، عمّان، الأردن.
- الشهرستانيّ، محمّد بن عبد الكريم (1402ه): “المَلَل والنَّحل”، دار المعرفة، بيروت.
- محمّد، عيدة (1421ه): “رسالة التوحيد”، دار بن حزم، بيروت.
- Albert, Camur (1988): “The Stranger”, trans Mathew Ward, world Publishing Company.
- Carol, F (2004): “Theory of Existential Anxiety”, Anxiety Stress Coping, December, 17 (4).
- Gordon, Marino (2004): “Basic Writings of Existentialism”, Modern Library.
- Jean Paul Sartre (2003): “Being and Nothingness”, trans Hazel Barnes, Routledge Edition Classics, London.
- Kaufman, Walter (1989): “Existentialism: from Dostoyevsky to Sartre”, Meridian Publishing Company.
- Patrick Baert (2015): “The Existentialist Moment”, Polity Press, Cambridge.
- Rainville, G, and Lavra Mehegan (2018): “God Purpose in Life and Mental”, Journal for the Scientific Study of Religion, 58,1.
- Richard, Polt (1999): “Heidegger: An Introduction and the Emergency of Being”, Cornell University Press.
- Viktor, E, Franki (2006): “Man Search for Meaning”, Beacon Press, Boston.
- Wartenberg, T, (2008): “Existentialism: A Beginners guide”, Oxford and world.