تطبيق الواقع الافتراضيّ في التصميم الفنّيّ: مقاربة جديدة
لينا حسون*
في عصر أصبحت فيه التكنولوجيا جزءًا لا يتجزّأ من حياتنا، عصر يتسارع فيه تطوّر التطبيقات والتقنيّات، فمن الطبيعيّ أن يتأثّر الفنّ بذلك، لأنّ الفنّان قد استخدم التكنولوجيا الأكثر تقدّمًا دائمًا عبر التاريخ. كما أنّ الاتّجاهات الحديثة في الرسم، والتصوير بنيت على أساس التفاعل التكنولوجيّ بين المتلقّي، والعمل الفنّيّ، نتج عنه نماذج تفاعليّة غنيّة بالإمكانات، والمفاهيم الحديثة، واستحدثت مجموعة من الأفكار والتكنولوجيات الجديدة التي فتحت مجالات جديدة للاتّصال مع المشاهد، وأصبح المفهوم الجديد للأعمال الفنّيّة يقوم على تفاعل المتلقّي مع العمل الفنّيّ بواسطة توليد مجموعة من الأشكال الحركيّة، والمرئيّة، والصوتيّة. مثل هذه التجارب “تحفّز على تغيير النموذج التفاعليّ بين الإنسان والآلة، وتصنع سلسلة من الأفكار الجديدة”[1] التي يمكن استخدامها من أجل صياغة نهج ومقترحات جديدة. يرى ميرلو بونتي (Merlo Ponte) ضرورة تطوّر النشاط الفنّيّ ليواكب عصره فيعبّر عن وجهة نظره بقوله: “إذا كان من الضروريّ للفنّ أن يتطوّر فذلك لأنّ من شأن هذا الفعل التعبيريّ أن يتغيّر، ولكن دون أن ينفصل تمامًا عن الأصل، ومعنى هذا أنّ الفعل التعبيريّ بطبيعته فعل قابل للنموّ، والترقّي، فهو يستلزم ضربًا من ضروب التطوّر”[2]. أبرز هذه الاتّجاهات هو الواقع الافتراضيّ، أوVR (Virtual Reality) في الفنّ التشكيليّ الذي يعدّ جزءًا من الفنّ الرقميّ، لديه الإمكانيّة على تصميم منظور آخر في الفنّ الذي لا يمكن القيام به في الحياة الحقيقيّة. تُعدّ هذه التقنيّة من أبرز ما تمّ الوصول إليه في الآونة الأخيرة، وهي في حقيقة الأمر وسيلة تعبيريّة ستنقل البيئة الفنّيّة لمستوى متقدّم. فيه يتمّ إيهام المستخدم بأنّه موجود فعلاً في بيئة العالم الافتراضيّ التي اخترعها الفنّان “ويقوم المستخدم بمشاهدتها والتحرك فيها والإحساس الكلّيّ بكلّ ما يدور فيها”[3].
هذا البحث يتحدّث عن كيفيّة تمرير فكرة فنّيّة بواسطة تقنيّة الواقع الافتراضيّ، فما هي أبرز عناصرها، وأدواتها في إنشاء فضاء وتصميمات ثلاثيّة الأبعاد.
من هذا المنطلق جاءت فكرة البحث في الوقوف على إشكاليّة العلاقة بين الواقع الافتراضيّ، وأساليب دمجه في مجال الفنّ التشكيليّ، والتحدّيات المستجدّة. تكمن مشكلة البحث الرئيسة في الكشف عن الأبعاد الفكريّة والتكنولوجيّة للواقع الافتراضيّ، وفاعليّته في تطوير مجال الفنّ ليواكب بها الفنّان تحدّيات عصره سواء من ناحية الرؤية الإبداعيّة، أو التقنيّة. يستند هذا البحث إلى مزيج من الفنّ والتكنولوجيا، وبين جماليّات الواقع والفضاء الافتراضيّ. يشرح أيضًا مبدأ التصميم، وتكنولوجيا التطبيقات، ومحتوى التصميم، ويوضح بالتحديد مدلوله الفنّيّ، وخصائصه الفنّيّة.
يتناول البحث مفهوم الواقع الافتراضيّ وتاريخه، وأهمّ الأجهزة المستخدمة في هذه التكنولوجيا، بالإضافة إلى القضايا المتعلّقة بتحديد التقنيّات الملائمة لدمجها بالتصميم الفنّيّ. يهدف أيضًا إلى عرض بعض الأعمال الفنّيّة الافتراضيّة (VR) كنماذج وتحديد أساليب استخدامها لاستنتاج أهمّ فوائد هذه التقنيّة بالنسبة إلى الفنّ التشكيليّ.
تعريف للواقع الافتراضيّ
“يعرّف الواقع الافتراضيّ بأنّه تقنيّة حاسوبيّة تتضمّن بيئة مصطنعة تظهر أنّها ثلاثيّة الأبعاد تعمل على نقل الوعي الإنساني إلى تلك البيئة ليشعر بأنّه يعيش فيها”[4] (الشكل 1)، “وقد تسمح له أحيانًا بالتفاعل معها”[5]. وأبرز الأمثلة على هذه التقنيّة هي مشاهد الفيديو المصوّر بتقنيّة 360 درجة “التي تضع المستخدم افتراضيًّا في عين المكان ليختبره من الزوايا كافّة، وكأنّه موجود هناك”[6]. يمكن لهذه التقنيّة أن تترواح بين بيئات بسيطة تعرض على كمبيوتر إلى بيئات مرتبطة بجميع الحواسّ (multisensory) غامرة بالخبرات من خلال قبّعات، وملابس، وأجهزة تكنولوجية خاصّة. اليوم هي تطبّق في المجالات كافّة منها: الهندسة، الطبّ، التعليم…
الشكل (1) أدوات الواقع الافتراضيّ
تاريخ المصطلح
يعود أصل تسمية الواقع الافتراضيّ إلى عام 1935 حيث ورد المصطلح في قصّة خيال علميّ قصيرة للمؤلّف ستانلي ج. وينبون (Stanley G. Weinbaum) تحمل اسم “نظّارات بجماليّون” (Pygmalion’s Spectacles)يصف فيها نظامَ واقعٍ افتراضيّ يستند إلى نظّارات مع ميزة التسجيل الهولوغرافيّ للتجارب الخياليّة، واستخدام حاستي الشمّ واللمس.
ابتكر العالم موتون هيليغ(Morton Heilig) في العام 1962 نموذجًا أوّليًّا من آلة “سنسوراما” (Sensorama)، وهي آلة ميكانيكيّة ضخمة بحجم ماكينات ألعاب الفيديو في مراكز الترفيه، وقد صنع لها خمسة أفلام قصيرة، وظّف فيها حواسّ متعدّدة، مثل: البصر، والسمع، والرائحة، واللمس.
لكنّ الجهاز الذي ابتكره إيفان سوذرلاند(Ivan Sutherland) عام 1966 ” يُعدّ على نطاق واسع أوّل جهاز واقع افتراضيّ”[7] وواقع معزّز يُرتدى على الرأس، لكنّه كان بدائيًّا من حيث واجهة المستخدم والواقعيّة، وكان ثقيلاً جدًّا.
أمّا المعنى العصريّ للواقع الافتراضيّ شاع بفضل العالم جارون لانير(Jaron Lanier) من خلال بحثه VPL في شركته عام 1989، وقد طوّرت هذه الشركة العديد من أجهزة VR، وكان بينها أوّل جهاز عرض حقيقيّ يُرتدى على الرأس يحمل اسم “آيفون” (Eye phone). حتّى أوائل القرن 21، ظلّت أغلب الأفكار بشأن هذه التقنيّة نظريّة بسبب محدوديّة القوّة الحاسوبيّة.
تُعدّ غوغل (Google) رائدة في مجال تقنيّات هذا الاختراع، ويعود ذلك إلى العام 2007 عندما طرحت الشركة خدمة “ستريت فيو”(Street View) الشهيرة التي تظهر مشاهد بانوراميّة لمواقع عالميّة، وتتيح للمستخدم التجوّل في شوارع العديد من المناطق السياحية حول العالم. لكن إقلاع هذه التقنيّة بدأ عام 2014 عندما استحوذت شركة فيسبوك (Facebook) على “أوكولوس في آر” (Oculus VR)، وتوسّع الانتشار مع إطلاق غوغل نظّارة “غوغل كاردبورد” (Google Cardboard) للهواتف الذكيّة. “بعد ذلك بعام عقدت شركة “أتش تي سي”(HTC) التايوانيّة شراكة مع شركة فالف (Valve) وطرحتا معًا نظّارة “أتش تي سي فايف” (HTC Vive) التي تستعمل بشكل واسع في المجالات كافّة”[8]. يتشكّل الواقع الافتراضيّ من عناصر عدّة نذكر منها أربعة:
العنصر الأوّل: العالم الافتراضيّ
هو مضمون وسط معين، قد يكون موجودا في العالم الواقعيّ أو يكون موجودا في خيال الفنّان الذي ابدعه، ويمكن تصميمه بطريقة تجعل الآخرين يشاركون فيه.
العنصر الثاني: الانغماس
من أهمّ العناصر الواجب توافرها لإنجاح تجربة الواقع الافتراضيّ هو الانغماس أو الغوص في واقع بديل أو في وجهة نظر معينة. هذا العنصر يؤكد إمكانيّة إدراك شيء ما بالإضافة إلى العالم الذي يعيش فيه الإنسان في لحظة معينة وبطريقتين: إما أن يقوم بإدراك عالم بديل علما بأنّه يعيش واقع مختلف، أو أن يدرك عالمه الذي يعيش فيه تلك اللحظات من وجهة نظر أخرى مغايرة لوجهة نظره.
العنصر الثالث: الملاحظات الحسّيّة (ردّة الفعل الحسّيّة)
حيث تكون تجربة الواقع الافتراضيّ هي وسيلة نستطيع من خلالها أن نجرّب حقيقة متخيّلة بواسطة العديد من حواسّنا المادّيّة (البصر، السمع، اللمس) ولا يلزم فيها استخدام قدرتنا التخيّليّة.
العنصر الرابع: التفاعل
لكي يبدو الواقع الافتراضيّ حقيقيًّا يجب عليه أن يستجيب لحركات المستخدم، أي يجب عليه أن يتفاعل معها وبالتالي مع المستخدم نفسه. لا شكّ أن وجود الحاسوب ضمن هذه المنظومة يجعل من تحقيق التفاعل المطلوب أمرًا سهلاً، وبالتالي يصبح المستخدم متفاعلاً أيضًا مع الأجسام، الشخصيّات، والأماكن في العالم الافتراضيّ الخياليّ.
أدوات الواقع الافتراضيّ
تتعدّد الأدوات المستعملة لتظهير الواقع الافتراضيّ.
1- وسيلة العرض البيانيّ، أو النظّارات (Stereographic devices) التي تغمس المستخدم في هذا الواقع:
هي شاشة العرض المجسّمة (Display)على عيني المراقب والمحمولة على الرأس، يمكن تقسيم نظّارات الواقع الافتراضيّ إلى ثلاثة أقسام: نظّارات تعتمد على وصلها بالحاسوب الشخصيّ مثل نظّارتي “أكولوس في آر” (Oculus VR) و”أتش تي سي فايف” (HTC Vive)، ونظّارات تعتمد على وصلها بمنصة ألعاب الفيديو، مثل نظّارة “سوني بلايستيشن في آر”(Sony Playstation VR) ، ونظّارات تستخدم الهواتف الذكيّة، وهي الأكثر شيوعًا مثل نظّارة “سامسونغ” (SAMSUNG).
2- الأداة الإبداعيّة (3D motion control device)أو (Cyberpuck)
تتميّز أداة التحكّم بمجموعة واسعة من الفراشي(Brushes) والخصائص، وهي تشمل أدوات محاكاة الألوان المائية، أقلام الرصاص، لوحات زيتيّة، وأكثر من ذلك. قد تحتوي الأداة على أكثر من 30 فرشاة، حيث تقدّم الفراشي القياسيّة شعورًا تقليديًّا، في حين تمكّن الفراشي الديناميكيّة الرسّامين من إنشاء تصميمات بتأثيرات فريدة. تتميّز هذه الأداة أيضًا بإمكانيّة استخراج الأعمال على هيئة لقطات عالية الدقّة، صور بنطاق 360 درجة، مقاطع فيديو وصور متحرّكة، ويمكن للفنّانين أيضًا إضافة الملفّات الصوتيّة والصور على أعمالهم، ويمكن لأيّ مبرمج أو مطوّر (Developer) أن يساهم في تعديل الكود البرمجيّ الخاصّ بالأداة. تتميّز هذه الأداة أيضًا بواجهة بسيطة تسهل عمليّة الرسم وابتكار تصميمات فريدة من نوعها. بإمكان هذه الأداة أن تكون تطبيقًا عبر الإنترنت أي لا تحتاج إلى تثبيت أيّ برامج لكي تعمل. هناك ميزة أخرى مثيرة لاهتمام في هذه الأداة، وهي القدرة على ربط الناس في الوقت نفسه، حيث يمكن للفنّانين دعوة أصدقائهم للاتّصال، والتعاون في العمل معًا. لا تزال هذه الأداة قيد التطوير، وهناك العديد من المميّزات التي لم تضف بعد. مع ذلك، يبدو المستقبل واعدًا لهذا التطبيق الإبداعيّ. هناك الكثير من الأدوات الإبداعيّة التي تدعم الواقع الافتراضيّ، ومن المستحيل بالطبع عرض الأدوات، والتطبيقات، وخصائصها جميعًا، نذكر البعض منها: “غوغل تيلت برشّ” Google (Tilt Brush)، “موزيلا أي- بينتر” Mozilla (A-Painter)، “أكولوس مينيوم” Oculus Medium، ستوري ستوديو كيل” Story Studio (Quill)…
3- نظام التتبع (Tracking System):
يرصد باستمرار موقع رأس المستخدم واتّجاهه، وحركة ذراعه، وهي الكاميرا التي تراقب حركة المستخدم. “نظام قاعدة المعطيات التي تبني العالم الافتراضيّ من خلال الصوت، المغناطيسيّ، والكهرومغناطيسيّ والبصر”[9] للإبلاغ عن الموضع، والاتّجاه ثلاثي الأبعاد، وهو برنامج المعالجة.
تتنوّع الأجهزة في هذا المجال لأسباب عدّة، بشكلها، أو دقّة صورتها، أو طريقة عملها. أمّا القاسم المشترك في طريقة عملها، هو أنّها جميعها تعمل على تتبع حركة الرأس، وحركة حدقة العين، لتقدم جودة أفضل في التجربة.
يستخدم الفنّان هذه التقنيّة ويدمج الصور، والصوت، والرسوم المتحرّكة، والفيديو، ووسائل أخرى لإنشاء أشكال، وفضاء افتراضيًّا، حيث يعرض فكرته بطريقة جديدة، ويجعل المشاهد يتفاعل مع هذا الفضاء الجديد لكي يفهم فكرة الفنّان بشكل أوضح. كلّما يتفهّم الناس تدريجيًّا لهذا النوع من الفنّ، كلّما تطوّر استخدام هذه التقنيّة أكثر وأكثر. لكي تعمل تقنيّة الواقع الافتراضيّ بشكل صحيح، فيحتاج الفنّان إلى حاسوب متطوّر ونظّارة واقع افتراضيّ، حيث يقوم الحاسوب بمعالجة البيانات الخاصّة بالفضاء الفنّيّ، أو مقطع الفيديو بشكل سريع، ويقوم بإرسال تلك البيانات إلى نظّارة الواقع الافتراضيّ: لكي تظهر الصورة للمشاهد بشكل سلس. في حال ضعف المكوّنات الداخليّة للحاسوب، نجد أنّ معالجة البيانات تتمّ بشكل بطيء وبالتبعيّة نجد تقطيع، وتأخير في عرض الصور من خلال النظّارة مع وجود زغللة عند التحرّك بالنظّارة في أيّ اتّجاه، وهو ما يجعل التجربة غير مريحة. لهذا السبب قد تكون هذه التقنيّة باهظة الثمن من حيث التأليف والموادّ.
يستند هذا الفنّ إلى تجسيم ثلاثيّ الأبعاد (3D modeling) عبر التصميم الهندسيّ. ويتمّ إجراء المشهد الثلاثيّ الأبعاد، والتركيب، والملمس بمساعدة برامج متخصّصة بالثلاثيّ الأبعاد (مثل 3DsMax وMAYA إلخ). “هذا النوع من الفنّ يمكن أيضًا أن يولّد الرسوم المتحرّكة التي تجعل VR وسيلة تفاعليّة غنيّة وقويّة”[10].
عندما يستنتج برنامج VR لمعلومات برنامج ثلاثيّ الأبعاد، تبدأ عمليّة انغماس في الفضاء الافتراضيّ، ويتفاعل المشاهد مع عالم الإخراج الفنّي،ّ ومن هنا تأتي أهمّيّة براعة الفنّان على تصميم هذا الفضاء.
الشكل (2). معالجة الواقع الافتراضيّ المرتكز على التصميم الفنّيّ المجسّد بطريقة ثلاثيّة الأبعاد.
يظهر الشكل (2) علاقات فنّيّة، وتقنيّة انطلاقًا من تجويد الصورة الافتراضيّة التفاعليّة. تجسيم ثلاثيّ الأبعاد للواقع الافتراضيّ، وتصميم فنّيّ بحاجة إلى روابط متعدّدة من التصميم والإنتاج لتحقيق عمليّة محدّدة، وعادة ما يكون مؤلّفًا من الخطوات التالية.
1- تجسيم ثلاثيّ الأبعاد: المصمم يتّفق على عرض غايات التصميم، باستخدام برامج CAD، 3DsMax، MAYA، VRML، والعديد من البرامج الأخرى لتصميم أبعاد عدة مثل نموذج رقميّ وتحسينات ذات الصلة.
2- صنع الملمس (texture): تصميم مادّة الملمس لمجسم ثلاثيّ الأبعاد، مع الإضاءة، وتعيين المشهد، وفقًا لمستلزمات البيانات المتعدّدة.
3- الرسوم المتحرّكة(animation) : تعيين اتّجاه الكاميرا لمشاهد الرسوم المتحرّكة.
4- التفاعل: الانتهاء من التصميم أعلاه، إرساله لبرنامج VR لتعديله، ومن ثَمَّ تحقيق عمليّة ربط التصميم بالمعلومات ملتيميديا المتعدّدة.
5- إصدار الإخراج: اكتمال العمل لتصميم الافتراضيّ، واختيار نوع الإخراج لإنتاجه في تطبيق عمليّ.
أمثلة وتطبيقات للواقع الافتراضيّ في الفنّ التشكيليّ
الشكل (3) يمثل “ارتفاع” (Rising) 2017، هو عمل فنّيّ تفاعليّ فيزيائيّ افتراضيّ للفنّانة الصربيّة مارينا إبراموفيتش(Marina Abramovic) . من المعروف أنّ هذه الفنّانة الأدائيّة (Performance artist) غير خائفة من كسر الحدود الفنّيّة. يواجه هذا العمل الفنّيّ الجمهور مع أزمة المُناخ، إنّها دعوة تفاعليّة قويّة بينها وبين المشاهد لتوعيته على هذه المشكلة، حيث يأتي المشاهد وجهه لوجه الفنّانة في فضاء الواقع الافتراضيّ. صورة رمزيّة لها تدعوه نحو خزّان الزجاج الذي تقع فيه، والذي يُملأ ببطء بالماء. ثُمَّ تأخذه في جميع أنحاء العالم لرؤية ذوبان الجليد. إذا قام المشاهد بمساعدتها، فإنّ مستوى المياه في الخزّان سينخفض، إذا لم يتفاعل، ويعمل شيئًا، فإنّها ستغرق في هذا الخزّان.
يستمرّ التفاعل بعد العرض، عن طريق تحميل التطبيق الذي سيذكّر المشاهد بشكل دوريّ بحركة الفنّانة داخل الخزّان، وتطلب منه “إنقاذها”، وبالتالي كوكب الأرض. هو عمل يدمج الوسائط الديناميكيّة مع الفنّ وتكنولوجيا فضاء ثلاثيّ الأبعاد مع الصور التفاعليّة، ويحقّق جماليّات جديدة للبيانات، ويهيّئ للمشاهد رحلة لصور تمكّنه من الانتقال من الواقع الحقيقيّ إلى الواقع الافتراضيّ، ترفع الفنّانة من خلاله وعي الشعب نحو مشاكل البيئة. وهي تقول: “هذا العمل الفنّيّ الجديد في الواقع الافتراضيّ يثير تساؤلات حول تأثير التكنولوجيا على التعاطف البشريّ من خلال التفاعل مع قضيّة تواجه عالمنا: تغيّر المُناخ”[11]. تضيف الفنّانة: “إنّ التغيّرات في المُناخ العالميّ تهدّد سبل العيش القائمة. سيتيح المشروع للناس فرصة التعاطف، والاستجابة لاحتياجات الآخرين المتضرّرين من هذه الأزمة. وأنا مهتمّة بكيفيّة تأثّر وعي الجمهور وطاقته بتجربة افتراضيّة لمساعدة الآخرين”[12].
أمّا أنيش كابور(Anish Kapoor) في عمله (الشكل 4) “الدخول إلى نفسك، والسقوط”[13]، الذي عرضه في أرت بازل هونغ كونغ 2018 (Art Basel Hong Kong)، للمشاهدين بتجربة رحلة عبر جسم بشريّ، والقيام بذلك بالتجريد منها إلى عالم غير مألوف، وبشكل غير مريح. يتطوّر العمل فجأة، من تصوير مشهد ريفيّ في غابة إلى عمليّة تنظير في جسم الإنسان، ثمّ إلى الحدود المتناهية، بذلك يخضع المشاهد إلى رحلة بفضاءات عدّة، حيث يبعد تدريجيًّا عن الواقع الحقيقيّ.
الشكل (3)
مارينا إبراموفيتش كصورة رمزيّة، في لقطة من “ارتفاع”، )2017(Rising ©Acute Art
يقول كابور “إنّه يقترح مساحة بين الجسد والخيال”[14] في هذا العمل. يزيد “إنّه كان دائمًا مُهتمٌّ في الطريقة التي تتغيّر التكنولوجيا، والفتحات والتصوّر. هو شيء قد يؤدّي إلى طرق جديدة للرؤية، والشعور، والتفكير”[15].
الشكل (4)
أنيش كابور، في لقطة من “الدخول إلى نفسك، والسقوط”، 2018 (Into yourself, fall) ©Acute Art
الفنّان الدانماركيّ الأيسلنديّ أولافور ألياسون(Olafur Eliasson) يستخدم الفضاء الافتراضيّ لمشروعه “قوس قزح”(Rainbow) (الشكل 5)، لاستكشاف ظاهرة طبيعيّة. قد صنع بيئة افتراضيّة لدراسة ردود الفعل في البيئات المتعدّدة، واكتساب شعور “الوعي المكانيّ للبيانات”. يصوّر الفنّان الأنظمة الطبيعيّة، ويحوّلها إلى أشكال جماليّة في عمله، لا يمكن للمشاهد أن يرى قوس قزح إلاّ إذا تحرّك بشكل صحيح، لأنّ ستار من المطر يخفيه. يستخدم المشاهدون وحدات تحكّم متعدّدة في الوقت نفسه للكشف عن قوس القزح، فجعل الفنّان من هذا العمل وحدة للمشاركة الاجتماعيّة. إنّه يعرض في هذا العمل موضوع الذات الذي يعمل عليه طويلاً، ويعالج كيفيّة تقاطع المحيط مع مفهوم الذات.
الشكل (5)
أولافور إلياسون، في لقطة من “قوس قزح”، 2017 (Raindow) ©Acute Art
يشرح إلياسون: “لقد كنت مهتمًّا بشكل خاصّ في تطوير قوس قزح بحيث يستضيف العديد من الناس في الوقت نفسه. بالنسبة إليّ، هذا جانب اجتماعيّ حاسم، فإنّه يظهر من خلال الاعتراف بوجود الآخرين، من خلال تجربة تأثير الآخرين على الفضاء… هو يعتمد على معرفتنا العميقة بالحركة، والحسّيّة، والإحساس بالفضاء للجمع بين الناس عبر الحدود الجغرافيّة”[16].
أعمال هؤلاء الفنّانين هي غير أعمالهم السابقة، من حيث التقنيّة المستعملة التي أنجزت بالتعاون مع شركة برمجة تسمّى “أكيوت أرت” (Acute Art)، ولكن هي تترجم المبادئ نفسها، ولكن بطريقة مختلفة، وهي غير متنبأة مثل العمل الفنّيّ التقليديّ، حيث يضع المستخدم النظّارات، ولا يعرف ما الذي سينتظره داخل العمل الفنّيّ.
هكذا نجد أنّ الأساليب المستخدمة في تطبيقات الواقع الافتراضيّ في الفنون تتعدّد، وتختلف باختلاف المعالجات الفنّيّة والتقنيّة المرغوبة في إطار العمليّة الإبداعيّة، وفوائدها:
1- تمكّن هذه التكنولوجيا من القيام بجولة افتراضيّة من مكان لآخر، والقوّة الرئيسية لهذا الأسلوب هو أنّه يسمح للمستخدمين برؤية هذا المكان عبر 360 درجة، واستكشاف عناصره، وأبعاده الثلاثيّة بشكل يسمح بالتفاعل مع المشهد من خلال النقاط الساخنة، وهذا يختلف عن مجرد المشاركة في عرض فيديو على شاشة.
2- يمكن نقل الفكرة الفنّيّة إلى الأذهان بشكل جذّاب، وأكثر تفاعلاً من خلال خبرة ديناميكيّة حيويّة للمشاهد. حيث يمكّن المشارك من التحرّك، والتجوّل داخل المشهد ما يساعده على تنمية قدراته على تصوّر فكرة الفنّان المعقّدة وفهمها، وإدراكها، والتي لا يمكنه فهمها بالأبعاد الثنائيّة، أو في مجسّم.
3- يتعدّد المنظور الفنّيّ عند استعمال الواقع الافتراضيّ، فبإمكان المشاهد أن يفعل الأشياء التي لا يمكن القيام بها في الحياة الحقيقيّة.
4– يوفّر إمكانيّة جذب المستخدمين لرؤية بعض المشاهد التي توفّر فكرة، أو عاطفة فنّيّة معيّنة والتي لا يمكن التعبير عنها مع آداة تقليديّة.
5- أصبح بالإمكان إنشاء أعمال فنّيّة، ومعارض افتراضيّة لأعمال فنّيّة يشترك فيه فنّانو العالم عن بعد حيث تعرض أعمالهم بشكل يتيح لجميع العالم ارتياده دون السفر أو الانتقال.
6- يخلق تكاملا بين الأشكال الفنّيّة المتباينة مثل اللوحات، والموسيقى، والصور المتحرّكة، كما أنّه يلغي القوانين الفيزيائيّة، فإنّ فنّه يسمح لمستخدميه بالعيش في الخيال، وعالم الأحلام، وتحقيق الخيال العلميّ، وتوسيع حواسّ الواقع المادّيّ.
7- يفيد بتوفير إخراج المكان للأعمال الفنّيّة مثل: الحوائط، أو الواجهات المعماريّة، وظروف الإضاءة سواء الطبيعيّة، أو غير الطبيعيّة.
8- يمكن أن يتحوّل العمل الفنّيّ إلى مادّة رقميّة تحتفظ بالهواتف الجوّالة، أو على الحاسوب عن طريق تطبيق أو برنامج، فبذلك ليس بالضرورة زيارة متحف لمشاهدة العمل الفنّيّ. بالإضافة يمكن أن يستنسخ العمل الفنّيّ إلى نسخ عدّة، ويحفظه على شكل بيانات (Data).
خاتمة
بفضل الواقع الافتراضيّ يندمج الخيال بالواقع وتلتقي التكنولوجيا الذكية مع العالم الواقعيّ. لكن تظلّ تقنيّات الواقع الافتراضيّ VR تحت التجربة بشكل كبير بالرغم من صدور العديد من الأفلام والألعاب التي تدعمها، إلّا أنّها ما زالت محدودة وينقصها الدعم الكامل. رورو
ليس هذا فقط، ولكن أيضًا تحتاج إلى حاسوب قويّ وبرامج باهظة الثمن. لا شك أننا في القريب سوف نشهد تطوّرات كبيرة في هذا العالم المهم والذي سيكون باب جديد للتطوّر. تكنولوجيا الواقع الافتراضيّ هي تكنولوجيا جديدة بالنسبة إلى الفنّ، استخدامها مكلف جدًّا، وصعب حيث يتطلّب دعمًا من المهندسين والإخصائيّين في هذا المجال.
هذه التقنيّة ما زالت جديدة، وبحاجة إلى تكثيف الدراسات حولها، وإلى ضرورة تدريسها في المراكز الفنّيّة ليصبح الفنّانون قادرين على التعامل معها بسهولة. ما يبقى أن نرى كيف لفنّ الواقع الافتراضيّ أن يدوم، وكيف سيكون الخبيرون في هذا الفنّ مستقبلاً؟ هل ستظهر هذه الخبرات في معارض، أو متاحف كسينما متعدّدة الأحاسيس؟ أو سيتمّ شراء العمل الفنّيّ بهذه التقنيّة على الإنترنت لاستعماله في المنزل، أو على الهاتف؟ ولا أحد قادر على التنبؤ بالطريقة التي سيتفاعل بها سوق الفنّ، الذي قاد الكثير من الطفرة الفنّيّة المعاصرة في العقدين الماضيين.
* طالبة في الجامعة اللبنانيّة، المعهد العالي للدكتوراه، الآداب والعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة.
[1]( GRAU, Oliver, Virtual art: From illusion to Immersion, the MIT Press, London, 2004, p.4
[2]) إبراهيم، زكريا، فلسفة الفن الفنّ في الفكر المعاصر، دار مصر للطباعة، مصر، ص. 52.
[3]) BALAGUE, R. F., MANGILI, A., «New Trends in Animation and Visualization», in Virtual Environments, John Wiley & Sons Inc., New Jersey, 1991, pp. 91-105.
[4]) Van DAM, A., FORSBERG, A., LAIDLAW, D., LAVIOLA, J., and SIMPSON, R., «Immersive VR for scientific visualization: A progress report», in IEEE Computer Graphics and Applications, Vol.20, Issue 6, California, November/ December 2000, pp.26 – 52.
[5]) MAHDJOUB, M., MONTICOLO, D., GOMES, S., et al. «A collaborative design for usability approach supported by virtual reality and a multi-agent system embedded in a PLM environment», in Computer-Aided design, 2010, Vol.42, Issue 5, pp. 402 – 413.
[6]) du PONT, Pierre, « Building complex virtual worlds without programming», in EUROGRAPHICS’95 State of The Art Reports, Remo C. Veltkamp, Ed., Maastricht, August 1995, pp. 61 – 70.
[7]) CRAIG, A., SHERMAN, W., Understanding Virtual Reality, Morgan Kaufmann Publisher, Massachusetts, 2002, p.32.
[8]) الواقع الافتراضيّ:عندما نعيش الخيال واقعًا، الجزيرة، في 2016/09/01،
https://www.aljazeera.net/home/print/4747cd0f-a6e2-4d5d-9e36-95d31bbdd07b/00f266f3-af2a-4d8b-b1a4-d2d2354e9ba3, consulted 31/01/2019.
[9]) MEYER, K., APPLEWHITE, H., and BIOCCA, F., «A survey of position trackers», in Presence, Vol.1, No.2, MIT Press, Massachusetts, 1992, pp. 173 – 200.
[10]) WEIDLICH, D., CESER, L., POLZIN, T., et al. «Virtual reality approaches for immersive design», in International Journal on Interactive Design and Manufacturing (IJIDeM), 3(2), 2009, pp. 103-108.
[11]) ABRAMOVIC, Marina, in CAFOLLA, Anna, «Marina Abramovic & Jeff Koons front new online VR Gallery», in Dazed, 11/06/2017, http://www.dazeddigital.com/artsandculture/article/36302/1/marina-abramovic-jeff-koons-front-first-online-vr-gallery?utm_source=Link&utm_medium=Link&utm_campaign=RSSFeed&utm_term=marina-abramovic-jeff-koons-front-first-online-vr-gallery&fbclid=IwAR1guY3_ALYJPLCf-Nzc1tmj2DO3Z2giNmfNF81t440T4Kh6i1ApeHQl4O4, Consulted 05/02/2019.
[12]) المرجع ذاته
[13]) Anish Kapoor, Into yourself fall, http://anishkapoor.com/5113/into-yourself-fall, consulted 05/02/2019.
[14]) ASPDEN, Peter, «Virtual reality: Marina Abramovic and Anish Kapoor», in Financial Times, 23/03/2018, https://www.ft.com/content/7f9d89d2-2c66-11e8-97ec-4bd3494d5f14, consulted 05/02/2019.
[15]) المرجع ذاته
[16]) CAFOLLA, Anna, «Marina Abramovic & Jeff Koons front new online VR Gallery», op.cit.