عنوان البحث: تيمة الحقيقة في رواية "ضمير الغائب الشاهد الأخير على اغتيال مدن البحر" مقاربة ريتشارية
اسم الكاتب: أ. د انشراح سعدي
تاريخ النشر: 19/03/2025
اسم المجلة: مجلة أوراق ثقافية
عدد المجلة: 36
تحميل البحث بصيغة PDFتيمة الحقيقة في رواية “ضمير الغائب الشاهد الأخير على اغتيال مدن البحر” مقاربة ريتشارية
The Theme of Truth in the Novel” The Conscience of the Last Absent Witness to the Assassination of Cities by the Sea”, a Richarist Approach
Dr. Inchirah Saadi أ. د انشراح سعدي)[1](
تاريخ الإرسال: 2-3-2025 تاريخ القبول: 11-3-2025
ملخص tunitin: 9%
يروم بحثنا الموسوم تيمة الحقيقة في رواية ” ضمير الغائب الشّاهد الأخير على اغتيال مدن البحر” إلى رصد تيمة الحقيقة من خلال تمفصلات السّرد الروائي، وسنستعين في ذلك بالمقاربة الموضوعاتيّة وطروحات أبرز أعلامها جون بيار ريشار الذي يبحث في كل عمل عن معنى بسيط وآخر مضمر، وعن لغة ظاهرة وأخرى تحتية، ولعل هذه المقاربة تمكننا من فكّ مغاليق الرّوايّة التي تظهر معنى بسيطًا في ظهرها ومعاني عميقة في مضمراتها، من خلال مباغتة الوعي بالحقيقة المطموسة بكل الأشكال في ضمير الغائب. إذ لا يسعى التّحليل الموضوعاتي إلى وصف حمولة الفكر فقط، ولكن إلى إيجاد مبدأ يوحده، انطلاقا من المادة اللاوعية محاولا ربطها بالعناصر اللغوية في النص.
الكلمات المفتاحية: الموضوعاتية – ضمير الغائب- جان بير ريشار- الحقيقة -التيمة.
Abstract
Our research entitled the theme of truth in the novel The Conscience of the Last Absent Witness to the Assassination of Cities by the Sea aims to monitor the truth through the articulation of the narrative, and we use the thematic approach and the proposals of the most eminent figure Jean Pierre Richard, who searches for a simple meaning and an implicit one , and for an apparent language and an underlying one.perhaps this approach will enable us to unlock the mysteries of the novel, which shows a simple meaning on the surface and deep meaning in its implications by surprising the consciousness with the obscured truth in all its forms in the third person Conscience. Thematic analysis doesn’t only seek to describe the burden of thought that unifies it, starting from the unconscious material, trying to link it with the linguistic elements in the text
Keywords: Objectivity – Absent Witness Pronoun – Jean-Pierre Richard – Truth – Theme.
مقدمة
قامت رواية واسيني الأعرج([1]) ضمير الغائب الشّاهد الأخير على اغتيال مدن البحر على فكرة البحث عن الحقيقة، ليس عن حقيقة واحدة، وإنّما عن حقائق وسط عالم روائي أثث له واسيني تأثيثًا بديعًا يدخل القارئ عوالم خفيّة، بل عوالم شائكة ترسم مصائر من يلجها مسبقًا في مجتمعات لم تعبّد بعد طرقها الموصلة إلى الحرية والشفافية وحق المعرفة والفهم.
إنّ رواية واسيني الأعرج المنشورة أولًا في جريدة المساء سنة 1986، والمطبوعة عدة طبعات بعدها، هي نص استشرافي كتبه لا ليستشرف به ما آلت إليه الجزائر سنة 1988، وإنّما هو نص استشرافي يمكن أن يصلح لعدة أزمنة مادامت الشّعوب لا تملك حقّ المساءلة وحق الفهم وحق المعرفة ، وهذا ما حملني على اختيار هذه المدونة بالذّات على تنوع التّجربة الإبداعّية وثرائها واستمراريتها، واعتمدت على المقاربة الموضوعاتيّة من أجل فكّ مغاليق النّص والوقوف على مضمرات خطابه، وعلى وجه التّحديد موضوعاتيّة جان بيار ريشار في محاولة لكشف النوّاة المشكلة لهذا العمل الأدبي من خلال القرابة السّريّة والقراءة المجهرية والتكرار والتمفصل وحرية المدخل.
تروم الموضوعاتيّة الوصول إلى النقاط الأساسيّة التي يتكون منها العمل الأدبي من أجل ملامسة تحولاتها، وإدراك روابطها في انتقالها من مستوى تجربة معينة إلى أخرى شاسعة.”([2]) فهذا البحث الدّقيق في النص يساعد على إظهار بناء النص والوصول إلى مكوناته، “ويضيء البحث الموضوعاتي بنتائجه التي تسمح ببلوغ مفهوم البنية ذات الاستعمال التّقني الدّقيق، إذ يكشف في بنيات عمل فني ما عن الفضاءات الأساسية التي يتكشف عبرها المعنى في مباغتته لنقاط الحساسية والروابط القادرة على إدراك التشاكل والعبور من مستوى إلى آخر نحو الواقعي.”([3])
يقول جان بيار ريشار([4]) إن:” النّقد الموضوعاتي تجوال في النّص؛ وليس إلقاء نظرة أو صياغة موقف.”([5]) فقد وجد كل من جورج بولي وجان ستاروبنسكي وجان بيار ريشار في الرواية مستودعًا لمختلف الأفكار والتيمات التي تتشكل منها التجربة الإبداعيّة، ففي الدراسة الموضوعاتيّة للنص لا بدّ من التّقصي حول موضوعات الوعي وما يختبئ وراء اللاشعور من أجل كشف القضايا التي تشكل شخصية الكاتب([6])، وكذا الاهتمام بالكلمات والمفاهيم التي تكشف بدورها ما يجول في خاطر الكاتب، وعليه ومن أجل الوصول إلى النتائج التي لا بدّ من الحصول عليها فإنّ التّحليل الموضوعاتي للنصوص يقوم على: “حصر التّضاريس الموضوعاتيّة للنّص موضوع الدّراسة، وكشف الموقع المهيمن الذي تحتله بعض التيمات ، وهي تشكل مفتاحًا لفهم النص، والولوج إلى عالمه الخاص. كشف التنظيم النّصي والدّعامة الموضوعاتيّة التي تسنده وتمنحه خصوصيته وتفرده. تحديد العلاقة التي تقيمها الموضوعاتيّة عبر النص المدروس مع التاريخ الثّقافي، ومحاولة تحديد العلاقات بين المراحل التّاريخيّة والتّيمات وفق الوظيفة التّمييزية (pertinence) والتّوليديّة الموضوعاتيّة الأدبيّة.”([7])
ولأنّ المقاربة الموضوعاتيّة تمنحنا حرية المدخل سنتتبع تيمة الحقيقة من خلال العتبة الأولى بوصف العناوين فاتحة الكتب.
- ضمير الغائب من الوهم إلى وعي الحقيقة :
اختار واسيني الأعرج عنوانًا مركبًا لروايته وهي خاصية واسينيّة في العنونة منذ تجاربه الأولى في كتابة الرواية وعلى سبيل المثال لا الحصر:
*البوابة الزرقاء واقع من أوجاع رجل.
*الليلة السّابعة بعد الألف رمل الماية.
*مصرع مريم الوديعة.
*شرفات بحر الشمال.
* سوناتا لأشباح القدس.
والكثير من العناوين الأخرى، فجاء العنوان ضمير الغائب، الشّاهد الأخير على اغتيال مدن البحر عنوانًا مركبًا مكتوبًا بلونين، الأحمر والأسود في طبعة منشورات الجمل الصادرة سنة 2007، ضمير الغائب بالأحمر وبالرّسم العريض وبقية العنوان باللون الرّمادي وبرسم أقل حجمًا، ليثر في القارئ سؤالًا يجعله يبحث عن الحقيقة ، فتكون الرّحلة الأولى للقارئ رحلة بحث عن حقيقة الغائب الذي ترك وراءه ضميرًا يشهد اغتيال مدن البحر. من الغائب؟ ومن ضميره؟ وأي مدن البحر التي اغتيلت؟
إنّ البحث عن التّيمة المهيمنة في الرواية؛ لا تحتاج إلى مجهود كبير في رصدها بل إلى مجهود في فهم مضمراتها ووظائفها في النّص ، لأنّ من سيمات التّيمة هي الإطرادية، والمتجليّة في نصنا الروائي من عتبته الأولى وصولًا إلى خاتمته.
لا يتمكن القارئ من الإجابة عن الأسئلة إلّا وهو يتقدم في السّرد؛ ولكن القراءة الأولى لضمير الغائب المكتوبة بالأحمر؛ تجعلنا نتوقع أن هذا الغائب شخص تحوم حوله الشّكوك لارتباط هذا الضمير بالغياب، فولا أنّ الروائي أردف عنوانًا فرعيًّا للعمل لتصورنا لوهلة أنّ الضمير غائب في قراءة بسيطة مفادها انعدام الضمير، وإن جاءت اللفظة معرفة، ولكن وظيفة العنوان التّفسيريّة تضعنا أمام حقيقة أن للغائب ضمير شاهد.
انبنى العنوان على المفارقات ووضعنا كقراء أمام نص إشكالي منذ عتبته الأولى؛ فالضمير عرّف إلى أنّه مجموعة من المبادئ الأخلاقيّة التي تسيطر أو تتحكم في أعمال الشخص وأفكاره، وهو يشمل الإحساس الداخلي بكل ما هو صحيح أو خاطئ في سلوك الشّخص أو دوافعه، وهو ما يدفعه للقيام بالعمل الصّحيح، وهو إحساس أخلاقي داخلي عند الإنسان، تُبنى عليه تصرفاته، ويحدد الضّمير درجة نزاهة وأمانة الإنسان، وشعوره بالسّلام الدّاخلي نتيجة نقاء ضميره.
والغائب هو البعيد الذي لا يرى. وهو من غادر مكان إقامته الاعتيادي؛؛ أو بلده ولم يعرف له مقام فيه مدة من الزمن. فكيف يكون لهذا الغائب ضمير وكيف سيشهد على اغتيال مدن البحر؟ وكيف تتحدّد نزاهة ضمير شخص غائب.
نفهم ونحن نتقدم في القراءة أنّ الضّمير هو الحسين والغائب هو المهدي (الابن والأب)، رحلة الابن في البحث عن الحقيقة، حقيقة أبيه، في الصفحات الأولى من السّرد إذ يقول “أنا أصر على المهدي، أريد أن أعرف هذه الحقيقة الغريبة التي يتغامز بها النّاس،إذا كان خائنًا سأكون أول من يمحوه من الذّاكرة وإذا كان شهيدًا على هذه الدّولة أن تقول الحقيقة في ظروف اغتياله وان تكف عن الكذب والزيف”([8])
إنّ هذه المتتالية الحواريّة بين الحسين بن المهدي؛ ومسؤوله في العمل السي بلقاسم تفجر قنبلة في وجه القارئ خصوصًا في زمن صدور الرّواية، الحقيقة مرتبطة بالذّاكرة والتّاريخ ، وحين يتعلق الأمر بهما تزداد الأسوار ارتفاعًا، فواسيني نبش في الممنوع والمسكوت عنه، إذ تُعدُّ الأحكام التي أطلقت أثناء الثّورة في زمن قديم أحكامًا لا جدال فيها؛ وإن ورثت العار لأُسر لم يسمح لها حتى بطرح سؤال كيف؟ والمتتالية الحواريّة أعلاه تبيّن أنّ الحسين على استعداد لقبول هذه التهمة، شريطة التّأسيس لها ولكنه يقابل بكل أنواع الرفض ـ وهنا نتذكر مقولة الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه الحقيقة من الأمور المستحيلة، إذ عدَّ نيتشه أنّ ما في هذا العالم ما هو إلّا تفسيرات ووجهات نظر منبثقة من إرادة الإنسان الطامحة لنيل القدرة والقوّة، ومن مصالحه الشّخصيّة، وتاريخ أبيه لا بدّ أنّه عارض الكثير من المصالح الشّخصيّة؛ وهذا ما ستبوح به الرّواية في رحلة على الرّغم من مأساويتها؛ إلّا أنّها ماتعة في البناء والحبك والتّعدد الصوتي واللّغوي داخل النّص، الذي جعلنا نعيش أجواء دخول الجزائر في النفق المظلم بداية ثمانينيات القرن الماضي، ونقف على استشرافات الروائي لذلك أشرنا منذ البدء أن لهذه الرواية بعدا إنسانيًّا.
تضمنت الرواية ثلاثة عناوين فرعيّة جاءت كالآتي:
- العلامات الأولى
- بداية الرحلة
- انهيار المدينة
جاءت كلها متعلقة بالعنوان الأصلي، وبالشّخصيّة الأساسيّة في العمل الحسين ضمير أبيه الباحث عن حقيقة اغتياله بتهمة الخيانة؛ يقول في حوار متخيل مع أبيه المهدي “وحكيت له في تلك الليلة عن كلّ الأشياء التي كانت تؤلمني ، فأنا منذ عشر سنوات أو أكثر وأنا أقوم بتحقيقات عن شهداء لا أعرفهم إلّا من الكتب ومن أفواه النّاس ومن آلامهم وأتصور أنّه أصبح من حقي أن أمارس هذه الشّرعية الممنوعة، إجراء تحقيق عنك وعن الملابسات الغامضة التي أحاطت بوفاتك.. استشهادك.. قتلك إنّي أتألم كثيرًا يا بابا المهدي في عينيك حنين القرى البعيدة وحياء مريم”([9]).
نتأكد هنا أن تيمة الحقيقة تجلت في النّص من عتبته الأولى ومن عناوينه الفرعيّة أيضًا؛ فالعلامات الأولى حملت الشّخصيّة الأساسية على الانطلاق في رحلة البحث عن الحقيقة بوصفها لا تتخذ شكلًا ثابتًا؛ ولا تُكتَشف مرة واحدة ولا تُضِل على شكلها للأبد، واختار واسيني أن يجعل الحسين يحاور والده، كل ليلة عند عودته إلى البيت “الله المهدي بن محمد يتحرك؟ تلمسته اهتزت يداي حقا محمد يتحرك… قرصت نفسي حتى أخرج من الحلم لكن حركة المهدي لم تتوقف”([10]). ويمارس واسيني على القارئ لعبة الوهم ليبين تعسف السلطة في تلك الفترة وهيمنتها حتى على الخيال، وهو مفهوم أرسطي، فمن بين مفاهيم الوهم عند أرسطو إنّه يحمل معنى الخيال “إنّ التّخيل شيء متميز عن الإحساس والتفكير؛ ولو أنّه لايمكن أن يوجد من دون الإحساس؛ وإنّه من دون التّخيّل لا يحصل الاعتقاد، وأما أنّ التّخيّل ليس تفكيرًا ولا اعتقادا فهذا واضح، ذلك أنّ التفكير متوقف علينا لا نريد لأنّنا لا نستطيع أن نتخيل شيئًا أمامنا، يفعل أولئك الذين يرتبون الأفكار في مواضع معيّنة للذاكرة ويكونون منها صورًا، على أنّ الظّن لا يتوقف علينا، لأنّ الظن الذي يحدث عندنا،إمّا أن يكون صادقًا وإمّا أن يكون كاذبًا”([11])، وكأني بالمواطن لا يعرف حقوقه حتى تلتبس الحقيقة بالوهم ،هل سيتغير شيء بوعيه إنّه عضو في مجتمع سياسي يتمتع بحقوق؛ ويلتزم بواجبات العضويّة([12]) والسّلطة كما أوردها قاموس المصطلحات السياسيّة والاقتصاديّة، بمعنى الحكم Autorité ثم بمعنى القدرة والقوة Pouvoir وبمعناها السياسي le pouvoir politique، ويهمنا في هذا المقام المعنى الثاني، لارتباط المعنى في الأول والثالث بالتّصور السياسي. فالسّلطة بمعنى القدرة هي ممارسة عمل قادر على توجيه أو إرغام الآخرين، والسّلطة بمعناها السوسيولوجي يركز على كونها قائمة على علاقات غير متساوية بين واقعين غير متشابهين يمارس أحدهما تأثيرا أو نفوذا على الآخر([13]).
جاء في الرّواية في متتالية حواريّة بين الحسين والشرطيّ”قلت لك أنّك مازلت صغيرًا عن ممارسة هذه اللعبة القذرة، لكنك تركب رأسك لا تسمع إلّا نفسك، النّفس أمّارة بالسّوء يا الحسين… في المرة الماضية كنت أعرف جيدًا أنّك كنت قادمًا من مهمة في البلديات البعيدة لفائدة رجل يزورك ليلًا يسمي نفسه تمويها المهدي بن محمد”([14])
كيف يمكن للشرطة أن تسمع حديث النفس، الوهم المصنوع من البطل ليصل إلى حقيقة أبيه، عائد من ذاكرة أبيه لينصفه تاريخيًّا ليرفع العار الذي التصق به وبأسرته، في زمن العسس على الخيال.
لذلك يشهد الحسين على اغتيال المدينة وانهيارها، والحقيقة في النّص هي الواقع الذي استشرفه واسيني وعاشته الجزائر لسنوات طوال، إنّه وعي الوعي، وعي بالواقع ووعي بتأثيره على المستقبل، وتجلى ذلك في العبارة التي المستعملة في المتن الروائي الكسوف القادم، وهي دخول الجزائر في نفق خرجت منه بإرث اجتماعي ونفسي ثقيل جدًا.
- تيمة القهر والرغبة في الانعتاق من زيف الذاكرة
وضعنا واسيني في ضمير الغائب أمام أحداث شكلت ملامح الشّخصيات المقهورة في العمل ، بدءًا من الشّخصية المحورية الحسين بن المهدي بن محمد الذي لا يعرف إنّ كان ابن شهيد، أو خائن لا يعرف حتى مكان دفنه، ولكنّه على يقين أنّه ابن عيشة المنورة التي أفقدتها حرقة فقد زوجها بصرها وبعضًا من سمعها ، فالقهر مزدوج بالنسبة إلى الشّخصيّة الأساسية، وقهر المهدي الذي اتهم زورًا، وقهر الأم التي أصيبت بالعمى، وهي تبكي مصير زوجها وقهر مريم المقتولة في حادث دبر لوضع نهاية لحياتها وللكثير من الشخصيات لا يسمح المقام بذكرها، فالقهر مثلث محيط بالحسين أضلاعه أب مغدور وأم عمياء وحبيبة مغتالة، لذلك لم يتأخر السّارد في إخبارنا أنّ الحسين يرى كل من حوله مجانين كما سماهم في النّص “وإذا صدّقتمونا فسيكون ذلك بصعوبة كبيرة، لأنّكم تفكرون بمنطق والمدينة التي بدأ الكسوف يمحوها تفكر بمنطق آخر”([15])
في كل هذه المدينة كان الحسين يرى أنّ حموّ الرجل المجنون هو العاقل الوحيد “حمامة المدينة المذبوحة لم يتوقف عن ترتيل نشيده اليومي وأغنيته القديمة التي لم تتآكل بفعل الزّمن الردئ أو برودة الطقس والعيون الغامضة”([16])، مدينة المجانين التي بني فيها مستشفى تجميلي أثار ضجة كبيرة؛ دفعت بالحسين إلى طلب التحقيق حوله والذي قوبل برفض قاطع من السي بلقاسم دفه إلى الاستقالة من الجريدة من دون التخلي عن فكرته”تذكّرت أبي كنت قد طلبت قبل هذا التّاريخ أن أقوم بتحقيق حول المستشقى التجميلي الذي بني فجأة في عمق المدينة، لكنّهم رفضوا وبرفضهم زادوا من فضولي”([17]).
لم يكن الدّخول إلى المستشفى أمرًا سهلًا في مدينة الكسوف، ولكن ساسافيندا أو شهرزاد كما يسميها الحسين صديقته الحميمة؛ هي من تساعده على ذلك وتوهمه أنّه دخل عن طريق وثيقة المهمة المزيفة، مازال الوهم يتشكل تمفصلات السرد لأن الحقيقة في رواية واسيني الأعرج لا يقابلها الكذب فقط بل الوهم.
يضعنا واسيني أمام الوصف الخارجي للمستشفى والذي يشبه في بنائه المساجد الأمويّة؛ ولكنّه يختلف تمامًا في بنائه الداخلي ، فهو مستشفى مجهز بكل الآليات التي تسمح بتغير الخلق منهم من يغيرون أنوفهم ومنهم من يغير آذانهم بآذان عصريّة ومنهم من تنزع أمخاخهم، وتبعث للخارج “يقولون إنّ الأمخاخ ترسل للبحث فقط وتعاد من جديد لكن الذين يعرفون المدينة جيدًا يؤكدون أنّ ولا مخّ من الأمخاخ التي أرسلت أعيدت إلى المستشفى”([18])، في ظل السواد الذي تعيشه المدينة والتّخلف جاء هذا المستشفى المتطور جدًا “أنتم لم ترو شيئًا المسألة تتجاوز قدراتكم العقلية واكثر عمقا وتعقيدا مما تتصورون، هذه التكنولوجيات هدية للعالم الثالث إنّه الواجب الحضاري”([19]).
يخرج الشخص المعالج في هذا المستشفى مختلفًا كليًّا عمّا كان عليه؛ لا يرى مثلما كان لا يسمع مثلما كان ولا يتكلم مثلما كان والأكثر أهمّيّة من كل هذا أنّه لا يتذكر، كيف يمكن أن يكون للحقيقة عنوان في ظل محاربة الذّاكرة التي تتعب بعض التابعين لأذناب فرنسا، إنّ الجسر الوحيد للعبور إلى الحقيقة هو الذاكرة؛ والذّاكرة تغتال في المستشفى الهبة التي تنزع الأنوف وتغيّرها؛ ولا يخفى على أحد منّا دلالة الأنف في المجتمع الجزائري، رمز للرجولة والنّخوة، هنا واسيني يستشرف ما ستؤول له هذه المدينة في كسوفها الأخير.
في متتالية حواريّة بين الحسين والمهدي يؤكد الأب لابنه أنّه لم يخن وطنه؛ ويطلب منه أن يحقق في الأمر”قلت لك لم أكن خائنًا وليس لدي ما أخاف عليه، وطني كان العينين، لكن فهمي لحركة هذه الثورة ربما هو المخطئ، إنّما الخيانة هذا كلام لم يقله حتى أعدائي”([20]).
ليضعنا واسيني أمام حقيقة أن الاختلاف مرفوض؛ وأنّ المواقف في زمن الحرب وإن تغيرت تبقى هي المسطرة الوحيدة التي يقاس بها صدق ومصداقيّة البشر، ولأنّ لا سبيل للوصول إلى الحقيقية إلّا بالاعتراف؛ والتّصالح مع الذّاكرة أعاد المهدي بناء السياقات القديمة إذ قال “لقد طالبنا بالحلّ الديمقراطي للمسألة وباحترام مصالح سكان البلاد كلها من المسلمين العرب ومن الفرنسيين واليهود والمسيحين أو على الأقل الذي فهمته من أناس اكبر مني”([21])، قاده فهمه الخاطئ لمبادئ الثورة أو بالأحرى التيار الذي تبعه إلى دفع فاتورة ثقيلة بعد عشرين سنة، فَقَد شرعيته وثقة الثورة فيه التي حاسبته بتهمة التقصير؛ والتّهاون والخيانة ولم تغفر له خطأه بل جمعت له من الأسباب الوّهميّة ما جعلته يحفر قبره بيده؛ ويدفن فيه بتهمة الزّنا بامرأة متزوجة تهمة باطلة زجت فيها مجاهدة أخرى لتكتمل صورة الغدر؛ ليقول واسيني على لسان إحدى الشخصيات في العمل “إنّ الثّورة لم تكن ورقة بيضاء كما كانت دائما تتصورها”([22]).
الثورة لا تغفر الأخطاء ولا تقبل بازدواجيّة الأيديولوجيّة قال المهدي في حوار متخيل مع ابنه الحسين: “نحن اخطأنا وصححنا موثقنا في الوقت المناسب وغيرنا الخطأ، وأنا متأكد أنّه ما يزال يحوم في خطئه ولا أحد يتحدث عنه”([23])، المهم ألّا تخالف أيديولوجيّة الثورة، وبذلك ستبرر لك كل الأفعال، أمّا أنّ تعترض وتعود سيكون مصيرك الغدر كيما الأمر مع المهدي الذي ذبح بعد عودته من عملية فدائيّة ناجحة، ببراعة سردية يجعلنا الروائي نعيش بين عالمين الحقيقة والوهم، أو الوهم الذي ينطق بالحقيقة ويجعل المهدي المذبوح يعطي قائمة بالأسماء لابنه توصله للحقيقة، ولكن مدينة الكسوف لا تقبل بذلك ليشرب الحسين من كأس أبيه نفسه، ويمضي في لحظة اعتقاله في مركز الشّرطة على محضر يقرُّ فيه أنه يصاحب امرأة متزوجة؛ فوداعة الكوميسار كمال قال النّاص فرضت على الحسن أن يوقع ليقع بدوره” من الصّعب تصديق كل ما يقوله، لكن وداعته فرضت نفيها علي”([24]).
كان مصير الباحث عن حقيقة أبيه المحاكمة، والغريب أنّ هذه المحاكمة قرر قاضيها أنّها لن تتم حتى يستأصل الورم في مخّ المتهم في المستشفى التّجميلي، تستأصل الذاكرة وتضيع الحقيقة، وبلعبة سرديّة بارعة يختلط الحلم باليقظة ليظهر المهدي بن محمد أمام المحكمة مواجها القاضي الذي يعرفه حقّ المعرفة، ارتعب القاضي، فكيف له أن ينساه وهو من نحره من الوريد إلى الوريد، ليتعرى وجه القاضي الحركي (في العاميّة الجزائريّة بمعنى الخائن لوطنه) الذي عمل لصالح الاستعمار فالفرنسي؛ وها هو اليوم يعتلي عرش القضاء “أتصور أنك عرفتني يا سي الجيلالي، ياقاضي قضاة هذا الزمن..اسمك الحركي السي حميدو”([25]).
يعود الشهيد ليواجه الجميع بشموخ، وكبرياء ويعري كل الذين ساهموا في تشويه التاريخ ، ليخرج المدي من النافذة ويراه ابنه نجمة عالية في السماء ويخرج الجميع في هلع يبحثون عن أنوفهم التي بدلت، ولأنّ المدينة مدينة الكسوف، ولأنّ ضمير الغائب شاهد الأخير على اغتيال مدن البحر زجّ به لاستئصال ورمه واحتفوا بعيد الاستقلال في ظلامهم الدّامس “هاهو السواد يعمي المدينة، الشّمس تحولت الى قرص أسود وأقسك برأسكم أني شاهدت في تلك اللحظة الكسوف، وهو ينزل نهائيا على وجه المدينة في وضح النهر ويغيّب ما تبقى من قسماتها الرائعة”([26]).
عمل الروائي على استطاق شخصية ميّتة في العمل لتقول الحقيقة التي يعجر الأحياء عن قولها فهيمنت تيمة الحقيقة على كل تمفصلات العمل الروائي، وحين لا تظهر الروابط جليّة بين هذه الحقائق، توصلنا بالقراءة الدّقيقة بين السّطور إلى القرابة السّريّة بين هذه الحقائق التي نفهم في الأخير أنّ عتبتها الأولى المكتوبة بالرسم العريض وبالأحمر لم تكن بريئة، بل محمّلة بأيديولوجيّة حكمت مصير البطل الأب تنفك مغاليقها بجمله لعمي البوحفصي “المهدي بينه وبين الله عداوة تقليدية ، من الذين ادخلوا الوباء الأحمر إلى هذه الأرض الطيبة ، لا تنزعج يا الحسين المهدي كان حبيبي”([27]).
هكذا شاء النّاص أن يجمع الحقائق المتفرقة في حقيقة واحدة هي أن لا حقيقة بلا ذاكرة ولا تاريخ بلا اعتراف.
النتائج
- انبنى عمل واسيني الأعرج ضمير الغائب الشاهد الأخير على اغتيال مدن البحر على تيمة أساسية وهي الحقيقة.
- تلازمت التّيمة الكبرى الحقيقة بتيمة صغرى، وهي تيمة الوهم فكثيرًا ما ظهرت الحقيقة في العمل على شكل وهم ، كما هو الأمر مع الحقائق التي جاءت على لسان ميت.
- تنوعت التّيمات الصغرى في العمل بين القهر، والذّاكرة والوهم والتاريخ.
- تضافرت التّيمات لتخدم التيمة الكبرى فكانت جسرًا للوصول إلى الحقيقة في ضمير الغائب.
- عانى بطل الرواية من الإقصاء والتّهميش، ما يصعب على القارئ تصنيف البطل في بداية العمل وتشكيل ملامح هُويته.
- الرواية عمل اشكالي انطلاقًا من عتبته التي تخدم التّيمة الكبرى؛ وهي الحقيقة كما فصلنا أعلاه.
- تجلت تيمة الحقيقة في النّص من عتبته الأولى ومن عناوينه الفرعيّة.
- استعان الروائي بالحلم وبالوهم لاستنطاق الذّاكرة بل ومساءلتها، إذ لامس واسيني حين صدرت روايته في الثّمانينيات للمرة الأولى خطوطًا حمراء لم يجرؤ إلّا القلّة من الكتاب على اختراقها.
- مارس واسيني على القارئ لعبة الوهم ليبين تعسف السلطة في تلك الحقبة، وهيمنتها حتى على الخيال.
- كل الأفعال الشّنيعة في العمل تصنع لها حقيقة على المقاس لإيهام الجميع بالعدالة، كما هو الأمر مع والد البطل الذي حفر قبره بنفسه واقنع الجميع بخيانته.
- تيمة التاريخ في ثمانينيات القرن الماضي تيمة محفوفة بالجمر لذلك لجأ واسيني إلى استنطاق ميت.
- يعد عمل الروائي عملًا استشرافيًّا، فمنظر المستشفى الذي يشبه المسجد الأموي يفتح الباب لتأويلات عديدة ومختلفة.
- يبدو العمل في بدايته أنّه محاولة للبحث عن حقيقة خاصة جدًا بالبطل وأبيه، ولكنّها في الواقع بحث عن حقيقة كبرى ترتبط بالوطن.
المصادر
- واسيني الأعرج :ضمير الغائب الشاهد الأخير على اغتيال مدن البحر، منشورات الجمل، ط1، ألمانيا،2007.
- سامي ذبيان و آخرون: قاموس المصطلحات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية ـ رياض الريس للكتب والنشر ـ الطبعة الأولى، 1990.
- Encyclopedie ou Dictionnaire raisonne’ des sciences, des arts et des métiers. Tom 3.
المراجع
- أرسطو طاليس: النفس: تر: أحمد فؤاد الأهواني، دار احياء الكتب العربية ،1949.
- الطاهر رواينية: القراءة الموضوعاتية للنص الأدبي مع قراءة في فاتحة رواية ضمير الغائب، مجلة اللغة والأدب، العدد 11، ص 75.
- سعيد علوش: النقد الموضوعاتي.
الهوامش
[1]– أستاذ محاضر في جامعة الجزائر 2 أبو القاسم سعد الله- قسم اللغة العربيّة
Lecturer at the University of Algiers 2 Abu Al-Qasim Saadallah – Department of Arabic Language.Email: Inchirah78@gmail.com
[1] – واسيني الأعرج من مواليد 8 أغسطس 1954 بقرية سيدي بوجنان الحدودية – تلمسان جامعي وروائي جزائري. شغل منصب أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس. يعدًّ أحد الأصوات الروائية المهمّة في الوطن العربي، حاز على العديد من الجوائز الإبداعيّة، في سنة 1997 اختيرت روايته حارسة الظلال ضمن أفضل خمس روايات صدرت بفرنسا، ونشرت في أكثر من خمس طبعات متتالية بما فيها طبعة الجيب الشّعبيّة ، قبل أن تنشر في طبعة خاصة ضمت الأعمال الخمسة.تحصل على الجوائز الآتية: في سنة 2001 على جائزة الرواية الجزائرية على مجمل أعماله. في سنة 2006 على جائزة المكتبيين الكبرى عن روايته: كتاب الأمير، التي تمنح عادة لأكثر الكتب رواجا واهتماما نقديا، في السنة. في سنة 2007 على جائزة الشيخ زايد للكتاب (فئة الآداب). وفي سنة 2010 على الدرع الوطني لأفضل شخصية ثقافية من اتحاد الكتاب الجزائريين وكذلك على جائزة أفضل رواية عربية عن روايته البيت الأندلسي، وفي سنة 2013 على جائزة الابداع الأدبي التي تمنحها مؤسسة الفكر العربي ببيروت عن روايته أصابع لوليتا، وفي سنة 2015 على جائزة كتارا للرواية العربية عن روايته مملكة الفراشة، وفي سنة 2023 بجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في دورتها العاشرة ( في مجال الرواية).فاز في سنة 2023 بجائزة نوابغ العرب عن فئة الآداب والفنون.فاز في سنة 2024 بجائزة بجائزة كردستان الذهبية ،ضمن فعاليات مهرجان كلاويز الثقافي الدولي في دورته الـ27.
تُرجمت أعماله إلى العديد من اللغات الأجنبية من بينها: الفرنسية، الألمانية، الإيطالية، السويدية، الدانمركية، العبرية، الإنجليزية والإسبانية، ومن أعماله :البوابة الزرقاء (وقائع من أوجاع رجل). طوق الياسمين، ما تبقى من سيرة لخضر حمروش. نوار اللوز، مصرع أحلام مريم الوديعةضمير الغائب.الليلة السابعة بعد الألف، الكتاب الأول: رمل الماية.الليلة السابعة بعد الألف، الكتاب الثاني: المخطوطة الشرقية. سيدة المقام، حارسة الظلال، ذاكرة الماء،مرايا الضرير.شرفات بحر الشمال، مضيق المعطوبين. كتاب الأمير. مي ليالي إيزيس كوبيا ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفوريّة. الغجر يحبون أيضًا، ليليات رمادة، الجزء الأول: تراتيل ملائكة كوفيلاند.ليليات رمادة، الجزء الثاني: رقصة شياطين كوفيلاند، عازفة البيكاديللي، حيزيا- زفرة الغزالة الذبيحة، كما روتها لالّة ميرا،كتاب الأمير /غريب الديار، والعديد من الروايات الأخرى والمجاميع القصصية والدراسات النقدية.
[2] – سعيد علوش: النقد الموضوعاتي ، ص 7.
[3] – المرجع نفسه، ص 29.
[4]– جان بيار ريشار ،ناقد فرنسي ولد في 01 يويليو 1922في مارسيليا الفرنسية ، وتوفي 15مارس2013 في بارس،من ابرز اعلام النقد الموضوعاتي.
[5] – الطاهر رواينية: القراءة الموضوعاتية للنص الأدبي مع قراءة في فاتحة رواية ضمير الغائب، مجلة اللغة و الأدب، العدد 11، ص 75.
[6] – ينظر، المرجع نفسه، ص 72.
[7] – الطاهر رواينية: القراءة الموضوعاتية للنص الأدبي مع قراءة في فاتحة رواية ضمير الغائب، ص 76-77.
[8] – واسيني الأعرج :ضمير الغائب الشاهد الأخير على اغتيال مدن البحر، منشورات الجمل، ط1، ألمانيا،2007،ص22.
[9] – المصدر نفسه،ص50.
[10]– واسيني الأعرج: ضمير الغائب الشاهد الأخير على اغتيال مدن البحر ،ص47.
[11] – أرسطو طاليس: النفس: تر:أحمد فؤاد الأهواني،دار احياء الكتب العربية ،1949.
[12]– Citoyen”, 1753,Encyclopedie ou Dictionnaire raisonne’ des sciences, des arts et des métiers. Tom 3, D. Diderot, D’Alembert, J. Le Rond (eds), Paris: chez Briasson [et al], 488 – 489. http://www.lib.uchicago.edu /efts/ARTFL/projects/encyc/
[13] – سامي ذبيان و آخرون: قاموس المصطلحات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية ـ رياض الريس للكتب و النشر ـ الطبعة الأولى، 1990،ص260،ص261.
واسيني الأعرج: ضمير الغائب الشاهد الأخير على اغتيال مدن البحر،ص185،ص189. – [14]
[16] -المصدر نفسه،ص14.
[17] – نفسه،ص15.
[18] – نفسه، ص171.
[19] – نفسه،ص165.
[20] – نفسه،ص57.
[21] – نفسه،ص7.
[22] – نفسه،ص78.
[23] – نفسه،ص73.
[24] – نفسه،ص118.
[25] – نفسه،ص231.
[26] – نفسه،ص263.
[27] – نفسه، ص130.