عنوان البحث: الإنتربولوجيا الطبيّة: جسر بين الطب والثقافة
اسم الكاتب: عزّة عزّ الدّين زكريا
تاريخ النشر: 19/03/2025
اسم المجلة: مجلة أوراق ثقافية
عدد المجلة: 36
تحميل البحث بصيغة PDFالإنتربولوجيا الطبيّة: جسر بين الطب والثقافة
L’anthropologie médicale: un pont entre la médecine et la culture
عزّة عزّ الدّين زكريا[1] Azza EZ Eddine Zakaria
تاريخ الإرسال:26-2-2-2025 تاريخ القبول:5-3-2025
الملخّص turnitin:13%
يستعرض المقال الأنثروبولوجيا الطبيّة مقدمًا شرحًا واضحًا؛ ومبسطًا لها مبينا دوره وكيف يساهم في تعزيز الفهم الشّامل للصحة والمرض.
وكيف أنّ الأمراض ظلت لسنوات طويلة ساحة مفتوحة أمام العلم والطب فقط، إلى أن جاءت الأنثروبولوجيا الصحيّة، وأظهرت مدى أهمية متابعتها اجتماعيًّا وثقافيًا في سبيل فهم أفضل للمرض ومحاولةً للوقاية منه، وأنّه إذا أردنا التعرف إلى طبيعة المرض وكيفية علاجه، التخفيف منه أو الوقاية منه يجب التركيز على الجسد وآلياته، ممارساته وأساليب عيشه.
الكلمات المفاتيح: الانتروبولوجيا الطبية؛ الصّحة والمرض ؛ الثقافة والصّحة؛ النظام الصحي التقليدي؛ الطب الشعبي؛ البحث في الصّحة العامة؛ الممارسة الطبية؛ العوامل الاجتماعية والاقتصاديّة؛ التفاعل بين الثقافة والطب.
Abstract
Cet article présente l’anthropologie médicale en offrant une explication claire et simplifiée, soulignant son rôle et sa contribution à une compréhension globale de la santé et de la maladie. Les maladies ont longtemps été considérées comme un domaine réservé à la science et à la médecine, jusqu’à l’émergence de l’anthropologie de la santé, qui a démontré l’importance d’examiner les maladies d’un point de vue culturel et social pour une meilleure compréhension et découverte des maladies et pour tenter de les prévenir. Pour comprendre la nature de la maladie, son traitement, son atténuation ou sa prévention, il est essentiel de se concentrer sur le corps, ses mécanismes, ses pratiques et ses modes de vie.
Keyword: Anthropologie médicale, Santé et maladie, Culture e,t santé, Systèmes de santé traditionnels, Médecine populaire, Recherche en santé publique, Facteurs sociales et économiques, Interaction entre culture et médecine.
مقدمة
شهد القرن العشرين مراحل تكوين الأنثروبولوجيا وتطويرها، لتصبح عند كثير من العلماء والباقيين تخصصا أكاديميًّا قائما بحد ذاته على الرّغم من أنّ الفكر الأنثروبولوجي قد ظلّ خلال السنين الأولة من القرن العشرين، متأثّرًا إلى حدّ بعيد، بالنّظريات التي سادت وتبلورت في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر،” فإنّه سرعان ما تغيّر وتحوّل إلى منطلقات جديدة، نتج عنها اتّجاهات متعدّدة إزاء دراسة الإنسان وحضارته، سواء ما كان منها نظريًّا أو منهجيًّا “(فهيم، 1986، ص 149) وصارت تُعَدُّ الأنثروبولوجيا اليوم من العلوم الاجتماعيّة الغنية والمتعددة الفروع، فتشمل مجالات متنوعة مثل الأنثروبولوجيا الثقافيّة، الأنثروبولوجيا الاجتماعيّة، الأنثروبولوجيا البيو ثقافيّة، الأنثروبولوجيا اللغويّة، والأنثروبولوجيا الطبيّة…ومن بين هذه الفروع، تبرز هذه الأخيرة (أي الأنثروبولوجيا الطبيّة) كحقل حيوي يتناول العلاقة بين الثقافة والصّحة. إذ تسلط هذه الدّراسات الضوء على كيفيّة تأثير العوامل الاجتماعيّة والاقتصاديّة والدّينيّة على فهم الأفراد والمجتمعات للأمراض والعلاج. في عالم تتزايد فيه التّحديات الصحيّة، تكتسب هذه الدراسات أهميّة كبيرة، إذ تساعد في تقديم رؤى عميقة حول استجابّة المجتمعات لمشاكلها الصحيّة، ما يسهم في تطوير استراتيجيات صحيّة أكثر شموليّة وفاعليّة.
أضف الى ذلك أن البعض يعدُّ الأنثروبولوجيا، من الناحية النّظريّة، شـديدة القـرب مـن البيولوجيـا؛ فكلاهما مبني علـى نمـوذج نظـري للتنوع، وكلّ في تخصصه”(الشّماس، 2004، ص36) فهي من العلوم الإنسانيّة التي ترتبط تقاليدها البحثيّة بالبيولوجيا وعلم النّفس والثقافة، بكيفيّة مقارنة، يمكن أن تقدم مساهمة مهمة في تجديد المنظورات المفهومية للصحة والمرض، وفي بناء وتصميم الممارسات المهنية” (Tremblay, 1982, p.257)
أهداف البحث: يهدف هذا البحث إلى تقديم نظرة شاملة حول الأنثروبولوجيا الطبيّة، من خلال استعراض أسسها النظرية وتطبيقاتها العمليّة وذلك من خلال:
- توضيح مفهوم الأنثروبولوجيا الطبيّة؛ وتعريف القارئ بهذا المجال المثير؛ وبيان أهميته في فهم قضايا الصّحة والمرض من منظور ثقافي.
- توضيح الصلة بين الصّحة والثقافة؛ وكيف تؤثر العوامل الاجتماعيّة والثقافية على الطريقة التي نفهم بها الصّحة؛ وكيف نمارس الرّعاية الصحيّة في مجتمعاتنا.
- تقديم لمحة عن تاريخ هذا المجال الأنثروبولجي الطبي ؛ وكيف انتقل من مرحلة الى أخرى كما والأشخاص الذين أدُّوا دورًا بارزًا في تشكيله.
- مناقشة المنهجيّات المستخدمة: سنوضح الطرق البحثيّة التي يستخدمها علماء الأنثروبولوجيا الطبيّة، مثل الملاحظة المشاركة والسّرد الاثنوجرافي، وكيف تساعد هذه الطرق في فهم تجارب المرضى.
- إلقاء نظرة على تطبيقات الأنثروبولوجيا الطبية العمليّة: بمعنى كيف يمكن أن تُستخدم مفاهيم هذه الأنثروبولوجيا للتحسين من الرعاية الصحيّة؛ وتطوير السياسات الصحيّة بشكل يناسب احتياجات المجتمع.
المفاهيم الأساسية في الأنثروبولوجيا الطبيّة: من أبرز المفاهيم التي تتكرر في أغلب الأبحاث الأنثروبولوجيّة الطبيّة هي: الصّحة – المرض- الثقافة- البحث الصحي- الممارسات العلاجيّة.
- الصّحة: هي حالة من “الاستقرار المثالي للعمليّة الحيويّة. بالنسبة إلى الإنسان، تتجلى في كائن سليم قادر على أداء الوظائف الفسيولوجيّة المختلفة اللازمة لبقائه، وشغل مكانه في الكيان الذي ينتمي إليه. كما تتجلى أيضًا من خلال رفاهيّة عامة (Boislève 2017 p.9).
- المرض: هو حالة من “الاستقرار دون المستوى المثالي، ناتجة عن هذه الاضطرابات والتّنظيم الجديد الذي نتج عنها. يسمح للحياة بالاستمرار على المدى القصير ووظائفها الأساسيّة، لكنه لم يعد يلبي معايير الصّحة. تتعرض بعض الوظائف الحيويّة للاضطراب، وقد فقد الجسم جزءًا من قدراته، ولم يعد الفرد قادرًا على شغل مكانه في مجتمعه، أو ببساطة، يعاني أو يشعر بعدم الارتياح.” (Boislève 2017 p.9)
- الممارسات العلاجيّة: يمكن تعريف الممارسة العلاجيّة، أنّها التّطبيق المنظم والمدروس لأساليب وتقنيات تهدف إلى تحسين الصّحة العقليّة والرّفاهيّة النّفسيّة للفرد. تعتمد هذه الممارسة على علاقة من الثقة بين ممارس مدرب ومريض أو عميل، في إطار عمليّة دعم ورعاية (revue cercle-psychanalytique (.
- الثقافة: تُعرّف الثقافة، وفاقًا لعالم الاجتماع Guy Rocher، أنّها مجموعة مرتبطة من الأفكار والمشاعر وطرق التّصرف المختلفة وأساليب التعامل مع المعطيات المتغيرة التي تكون أكثر أو أقل رسميّة “والتي تُكتسب وتُشارك من مجموعة متنوعة من الأشخاص، وتساهم، بطريقة موضوعيّة ورمزيّة، في تشكيل هؤلاء الأشخاص كجماعة خاصة ومتميزة (Edward B.” Taylor, Primitive Culture, 1871).
وبالنسبة إلى علماء الأنثروبولوجيا، تشير الثقافة إلى ما يجب على النّاس تعلمه، على عكس الإرث البيولوجي. تتكون الثقافة من المعارف والقيم والمعتقدات وقواعد الحياة التي تتشاركها الأفراد، ما يمكنهم من العيش والعمل معًا والتواصل بشكل فعال .(Patricia Hudelson revue Médecine et Hygiène)
- البحث الصّحي: هو “الجمع المنهجي للبيانات، ووصفها وتحليلها وتفسيرها، إذ يمكن استعمالها في تحسين صحة الأفراد أو الجماعات.” (فتح الله، 2005)
المنهجية والتقنيات المتبعة في أبحاث الأنثروبولوجيا الطبيّة
تنطلق الأبحاث في الأنثروبولوجيا الطبيّة من الملاحظة ، والسرد الاثنوجرافي، والتّحليل لتقديم وجهة نظر أصليّة حول الصّحة وممارسات الطب (Bonneels et Minguet, revue Louvainmedical )
ذلك لأنّ متابعة أي دراسة أنثروبولوجيّة صحيّة بطريقة عملانيّة وعلى قدر من المصداقيّة؛ يجب على الباحث أن يقوم بتحديد الأمراض من التّسجيل الميداني، الأطباء أو حتى سجلات المستوصفات والمستشفيات في المجتمع الذي يرغب في دراسته كما وأنّ يجري مقابلات مع المبحوثين ويستمع لسيرهم الذّاتيّة. من هنا تأتي أهمية الملاحظة بالمشاركة مثلا التي تعدُّ ركيزة أساسية في الانثروبولوجيا الطبيّة؛ فيشارك الباحث في الحياة اليوميّة للمجتمعات التي يدرسها، ما يساعد في جمع بيانات غنيّة حول الممارسات الثقافيّة والصّحيّة.
يقوم الباحث إذا ضمن دراسة اثنوجرافيّة بإجراء دراسات طويلة الأمد في المجتمعات المستهدفة لفهم السياقات الثقافيّة؛ والاجتماعيّة التي تؤثر على المفاهيم الصحيّة؛ ومن ثمَّ يقوم بعملية تحليل المعلومات والأوراق والوثائق التي توفرت لديه سواء أكانت تاريخيّة أو أي مصدر مكتوب: كالسجلات الطبيّة، والمقالات العلميّة وذلك لفهم التطورات الصّحيّة من جوانبها كافة. كما يقوم الباحث أيضًا بتحليل البيانات النّوعيّة التي جمعها من الملاحظات و المقابلات لتحديد الأنماط والمواضيع المشتركة في تجارب الأفراد.
هذه المنهجيّة في البحث الأنثروبولوجي الطبي تساعد في بناء صورة متكاملة عن كيفية تأثير الثقافة على الصّحة والمرض، ما يسهم في تحسين السياسات الصحيّة؛ وتقديم الرعاية المناسبة وتستدعي التّعاون مع تخصصات أخرى خصوصًا مع من يعملون في القطاع الطبي كالأطباء؛ والممرضون والصّيادلة وذلك لتعزيز الفهم الشّامل للقضايا الصّحيّة.
تعريف الأنثروبولوجيا الطبيّة
تهتم الأنثروبولوجيا الطبيّة بدراسة الارتباط القائم بين المعتقدات والممارسات الخاصة بأفراد ثقافة ما وبين التّغيرات البيولوجيّة والفيزيولجية التي تحدث في جسد أفرادها سواء في حالة الصّحة أو المرض (عوض، الانثروبولوجيا الطبيّة).
كما تهتم أيضا في البحث في مبادئ التربيّة الصّحيّة التي تقوم على” القيم الاجتماعيّة المعطاة لمفاهيم الحياة؛ والمرض والموت وفي تباين التّصورات المحددة لهذه المفاهيم بتباين المجتمعات؛ والظروف التّاريخيّة التي يشهدها كل مجتمع”. (الأخرس،2001)
الأنثروبولوجيا الطبيّة كعلم يدرس التفاعلات بين الثقافة والصّحة يركز فيها اهتمام علماء الأنثروبولوجيا الطبيّة على تأثير الميراث الثقافيّ للفرد على تجربته مع الصّحة والمرض وأنظمة الرّعاية الصّحيّة. في هذا السّياق، يسعون لفهم كيف تؤثر اللقاءات الثقافيّة بين المقاربات البيوميديكاليّة الغربيّة تجاه الصّحة والرّعاية الصّحيّة، وتلك الخاصة بالفئات السّكانيّة الضعيفة مثل الأقليات والمهاجرين والسّكان الأصليين، على الصّحة والمرض والمعاناة والشّفاء. كما يستخدم علماء الأنثروبولوجيا الطبيّة رؤية حديثة للثقافة، إذ تعدُّ سائلة وهجينة (مختلطة) وعالمية (مترابطة)، بدلًا من المفاهيم القديمة التي تصفها أنّها ثابتة ومستقرة. يدركون أن الثقافة تتداخل مع السياقات الجغرافيّة والتّاريخيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، وأنّها لا يمكن فصلها عنها (Encyclopedie Canadienne).
إذا يمكننا القول إنّ الأنتروبولوجيا الطبيّة هي مجال دراسي متعدد التّخصصات يستكشف الأبعاد الحياتية المختلفة سواء كانت ثقافية اواجتماعية للأنظمة الصّحية على كافة أنواعها .(revue Louvainmedical )
تاريخ الأنثروبولوجيا الطبيّة: تعد الأنثروبولوجيا الطبيّة من فروع الأنثروبولوجيا المهمّة التي تعتني بدراسة القضايا المتعلقة بالصّحة والمرض، ولكن لم تظهر الأنثروبولوجيا الطبيّة كفرع متميز من فروع الطّب في الخمسينيات من القرن الماضي، فشهدت تطورًا ملحوظًا بعد الحرب العالميّة الثانية؛ متمثلًا في تنبه عدد متزايد من الأنثروبولوجيين إلى تلك المسائل المتعلقة بالصّحة والمرض وعلاقتها بالأنماط الاجتماعية والثقافية السّائدة، وخاصة بعد أن أدركوا أن الحالة الصّحيّة أو المرضيّة التي يعيشها الفرد في إطار الحياة الاجتماعيّة لا تشكل ظاهرة منعزلة؛ “بل هي انعكاسًا للظروف الاجتماعيّة، السياسيّة، الاقتصاديّة، والثقافيّة التي يعيشها الإنسان”.( رحاب،2008) وتعود أصول الأنثروبولوجيا الطبيّة إلى أعمال أوائل الإثنوغرافيين مثل W.H.R. Rivers (1864-1922)، الذين جمعوا معلومات حول الأنظمة الطبيّة من خلال أعمالهم الإثنوغرافيّة في الميدان على مدار القرن الماضي، ركزت الأنثروبولوجيا الطبيّة على مواضيع متنوعة، منها الإثنوطب (الطب التقليدي)؛ برامج الصّحة العامة والدّوليّة؛ علم الأوبئة البيئيّة والبيولوجيّة والاجتماعيّة الثقافيّة؛ الأنظمة الرّمزيّة والهرمينوطيقا (دراسة التفسير)؛ الأنظمة السّريريّة ورعاية المرضى؛ الاقتصاد السياسي للصحة؛ الاستعمار، وما بعد الاستعمار والصّحة؛ وكذلك الكفاءة الثقافيّة والوعي بالثقافات الأخرى. (Encyclopedie Canadienne)
دور البيولوجيا والثّقافة وأهمية دراستها في أمور الصّحة والمرض
لكل ثقافة معتقدات خاصة بها كما وأنّ لها طريقتها في تفسير المرض وكيفيّة التّعامل معه. والأمراض ظلت لسنوات طويلة ساحة مفتوحة أمام العلم والطب فقط، إلى أن جاءت الأنثروبولوجيا الصحيّة؛ وأظهرت مدى أهمّيّة متابعة الأمراض اجتماعيًّا وثقافيًّا في سبيل فهم أفضل للمرض ومحاولة الوقاية منه.
فنحن لو أردنا التعرف إلى طبيعة المرض، كيفية علاجه، التخفيف والوقاية منه يجب علينا أن نركز على الجسد وآلياته، ممارساته، وأساليب عيشه.
كما يجدر الذّكر أنّ هذا النّوع من الأبحاث يعول عليه الباحثون، الناس كما الأطباء أهميّة كبرى لما قد يعود عليهم بالفائدة والمعرف، فمفاهيم وآراء الأنثروبولوجيا الطبيّة تساعد على فهم طبيعة الثقافات والاستشارات الطبيّة؛ ومعرفة وتطبيق الطرق المناسبة لضمان متابعة طبية ملائمة، كما أنّه من المهم للأطباء أن يفهموا تأثير العوامل المختلفة سواء كانت ثقافية أو اجتماعية على العادات الصحيّة ومتطلبات المريضRevue Médicale Suisse)
“تنص الأنثروبولوجيا الطبيّة على فهم الآليات التي تكمن وراء البناء الاجتماعي والثّقافي للصّحة والمرض، كما السلوكيات المرتبطة بالمرض،” (Masse 1995)، “فالعادات والثقافات لها دور كبير في انتشار أو عدم انتشار أمراض معينة […] علاوة على الظروف السوسيو اقتصاديّة والوراثيّة- الجينيّة كذلك”. (الحوار المتمدن: العدد 1642(
تعدُّ العلاقة بين البيولوجيا والثّقافة في الصّحة والمرض موضوعًا مهمًّا ومتعدد الأبعاد، فتساهم هذه الدّراسة في فهم كيفيّة تأثير الثقافة ليس فقط على صحة الأفراد بل وعلى الحالة الصحيّة العامة للمجتمع ككل. كما يشير إلى ذلك أحد الاقتباسات المعروفة لمنظمة الصّحة العالميّة، التي تقول: “الحالة الصحية لا تعني فقط غياب المظاهر المرضية ، بل هي حالة من الرفاه الجسدي والعقلي والاجتماعي، تتأثر بالعديد من العوامل الثقافيّة والاجتماعيّة والبيئيّة.”
تتضح أهمية دراسة هذه العلاقة من خلال عدة نقاط
- فهم التنوع الصحي: تساعد هذه الدّراسات على إدراك كيفية تأثير العوامل الثقافيّة على التّصورات حول المرض والعلاج، ما يسهم في تقدير التّنوع في التّجارب الصّحيّة.
- تطوير استراتيجيات علاجيّة ملائمة: من خلال التعرف إلى كيفية تأثير الثقافة على سلوكيات الأفراد تجاه الصّحة، يمكن تصميم برامج صحيّة تتناسب مع القيم والمعتقدات الثقافيّة، ما يعزز فعاليّة العلاج.
- تحليل تأثير العوامل الاجتماعية: تتيح هذه الدراسات فهمًا أعمق لكيفية تأثير العوامل الاجتماعية، مثل الطبقات الاجتماعية والعرق والجنس، في تحديد الوصول إلى الرعاية الصحية ونتائجها.
- مواجهة التّحديات الصّحيّة العالميّة: مع ازدياد الأمراض الوبائية، يصبح فهم العلاقة بين البيولوجيا والثقافة أساسيًّا في تطوير استراتيجيات صحيّة شاملة لمواجهة هذه التّحديات، خاصة في السّياقات المتنوعة ثقافيًا.
- تعزيز الوعي الصحي: تساهم هذه الدراسات في تعريف الأفراد على مدى تأثير الثقافة على سلوكياتهم الصّحيّة وذلك من خلال زيادة الوعي حول أهمية التثقيف الصحي والعادات الغذائية.
منهجيات أخلاقيّة في أبحاث الأنثروبولوجيا الطبيّة: عندما نتحدث عن الأبحاث الأنثروبولوجيّة الطبيّة، نجد أنّ هناك عددًا من الاعتبارات الأخلاقيّة التي يجب على الباحثين الانتباه إليها لضمان أن تكون الأبحاث عادلة ومفيدة.
أوّلًا: يجب أن يكون هناك احترام كامل للمشاركين في الدراسة؛ ثانيًا: يتعين على الباحثين أن يحموا حقوق هؤلاء الأفراد، بما في ذلك حقّهم في الخصوصيّة. كذلك قبل البدء في أي بحث، من المهم الحصول على “الموافقة المستنيرة”، إذ ينبغي أن يكون المشاركون على دراية بالأهداف والعمليات؛ والمخاطر المحتملة التي قد تواجههم كما يجب المحافظة على سريّة المعلومات التي يحصل عليها الباحث من المشارك؛ كما يجب المحافظة على سريّة المعلومات التي يحصل عليها الباحث من المشارك إذا لم يوافق هذا الأخير على نشرها.
ثالثًا: يجب على الباحثين تجنب استغلال المشاركين، خاصة في المجتمعات الضعيفة أو المهمشة، فالهدف هو أن تكون الأبحاث مفيدة للمجتمع، وليس مجرد وسيلة لتحقيق أهداف الباحثين. يجب أن يتعامل الباحثون بموضوعيّة قدر المستطاع وبحساسية تجاه الثقافات المختلفة، ويتجنبوا فرض قيمهم أو مفاهيمهم الخاصة.
من المهم أيضًا أن يشارك الباحثون النتائج مع المشاركين، خاصة إذا كانت هذه النتائج قد تؤثر على حياتهم أو مجتمعاتهم. ينبغي أن تكون هناك جهود مستمرة لتجنب أي ضرر نفسي أو جسدي يمكن أن يتعرض له المشاركون بسبب البحث.
باختصار، الالتزام بهذه الاعتبارات الأخلاقيّة يسهم في ضمان أن تُجرى الأبحاث الأنثروبولوجية الطبيّة بطريقة تحترم كرامة الإنسان وتدعم حقوق الأفراد والمجتمعات.
جسر بين الطب والثقافة
في حين يهتم الطب كعلم بقضايا الصّحة والمرض، و تعنى الأنثروبولوجيا كعلم الإنسان بكل ما يخص هذا الإنسان بما في ذلك الثّقافة والعادات ونمط العيش، جاءت الأنثروبولوجيا الصّحيّة لتكون الجامع بين هذين العلمين؛ وحلقة الوصل بينهما: بين الثّقافة ونمط العيش من جهة وحالات المرض، الصّحة والأوبئة من جهة أخرى بما في ذلك طبعًا علاقتهما بباقي مجالات الحياة من النواحي المختلفة سواء كانت اقتصاديّة أو سياسيّة، اجتماعيّة أو دينيّة وشعبيّة. بمعنى أنّها تدرس التفاعل بين العوامل الاجتماعيّة والبيئيّة والبيولوجيّة التي تؤثر في الصّحة والمرض في كل من الفرد والمجتمع ككل، كما تهتم بدراسة المعتقدات الخاصة بالمرض وخصوصًا تلك المتعلقة بالطّب الشّعبي والسّحر، وتعنى بتقديم المرض، المراحل التي يمر بها، دور المعالجين وممارسة العلاج بنواحيه كافة؛ بما في ذلك طقوس الشّفاء المختلفة ولكن ضمن النّسق الثقافي الاجتماعي الذي ينتمي إليه.
وإذ يقع على عاتق الأطباء ليس فقط التّعرف إلى المرض؛ ومحاولة شفاء المريض ولكن أيضًا التعرف إلى الظروف التي أدّت إلى هذا المرض ومحاولة القضاء عليها، وهذا ما تسعى الأنثروبولوجيا الصّحيّة أن تصل إليه فهي تشكل همزة وصل بين الطبيب والطب من جهة، والمريض وثقافته للمرض من جهة أخرى، وهي تحاول تفسير العلاقة الموجودة بين الصّحة والمعتقدات والقيم والعادات.
وعند السؤال عن طبيعة العلاقة بين الأطباء وعلماء الأنثروبولجيا الطبية بشكل عام نجد أن الطبيب يصب جلّ اهتماماته على الطرق التي يحافظ من خلالها على صحة مريضه وكيفية شفائه والتخفيف من أوجاعه بينما يقوم علماء الأنثروبولجبا الطبية بالبحث عن أصل هذه الأمراض وعن الخلفية والممارسات الثقافية المختلفة التي ترافقها.
التطبيقات العملية للأنثروبولوجيا الطبيّة
1.بين النظم التقليدية والحديثة
تؤدي الأنثروبولوجيا دورا كبيرا في تحسين فهم النظم الصحية سواء التقليدية منها أو الحديثة وهذا ما أثبتته عدة دراسات وتبنته آراء عدة أنثروبولجيين لأنه برأيهم دمج العلاجات التقليدية بالطب الحديث يعمل على تحسين فعالية الرعاية الصحية ويساهم في تطوير سياسات صحية مطواعية أكثر بمعنى أنها تستطيع التكيف مع خصائص ومتطلبات أي مجتمع بما في ذلك ثقافاته المتنوعة والمختلفة. (Farmer,2004)
2.التّحديات الصّحية العالمية ودور الأنثروبولوجيا الطبيّة
يساعد البحث الأنثروبولوجي في فهم تحديات مثل انتشار الأمراض المعدية والأوبئة كما هو الحال مع فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز. وقد ساعدت الدّراسات الأنثروبولوجية في تصميم برامج تدخل صحي تأخذ بالحسبان العوامل الثقافيّة والاجتماعيّة المؤثرة على انتشار هذه الأمراض( Farmer,2004 ).
3.الأنثروبولجيا الطبية والأمراض المزمنة
تشير الدراسات المختلفة( خصوصا في بلدان كأفريقيا وآسيا) أن التكامل بين العلاجات التقليديّة والحديثة يكون أكثر فاعلية فيما يخص التعامل مع الأمراض المزمنة كأمراض القلب والشرايين والسكري…كما أشارت هذه الدراسات إلى أهمية احترام الخصوصية الثقافية في أي علاج كان لأن ذلك من شأنه إنجاح هذا الأخير بطريقة فعالة أكثر.
الخاتمة: في ختام هذا المقال، نجد أن الانتروبولوجيا الطبيّة
تمكننا من إدراك تأثير العادات والمعتقدات على تجارب الأفراد مع المرض والعلاج وذلك من خلال الجسر الذي توفره بين الممارسات الثقافية وتلك الصّحيّة و فهم العلاقة المعقدة بين الثقافة والصّحّة.
لقد أوضحنا أن الثقافة تؤدي دورًا كبيرًا في كيفيّة إدراك الناس لحالاتهم الصحيّة وكيفيّة استجابتهم للعلاج. لذا، فإنّ تعزيز الفهم الشّامل لهذه الروابط يمكن أن يُحدث فرقًا كبيرًا في جودة الرّعاية الصّحيّة التي نقدمها.
أيضًا، تُساعد الانتروبولوجيا الصحية المهنيين الصحيين على تقديم رعاية تتناسب مع احتياجات المرضى، ما يسهم في تحقيق نتائج أفضل على مستوى الأفراد والمجتمعات. الاعتراف بالتّنوع الثقافي ودمجه في ممارساتنا الصحية الاعتيادية يعد خطوة ضرورية نحو الوصول إلى العدالة الصحية والرفاهية للجميع.
وعلى أمل أن يُحفز هذا المقال التفكير في كيفية استخدام المعرفة الأنثروبولوجية لدعم الرعاية الصحية، والمشاركة في وعي صحي اكثر ، يبقى القول أن فهم الثقافة وتأثيرها على الصّحة هو ضرورة حقيقية لتحسين حياة الناس.
المراجع بالعربيّة
- الأخرس، محمد صفوح: الأنثروبولوجيا وتنمية المجتمعات المحلية – دمشق: وزارة الثقافة – 2001 (ص.110)
- الشماس، عيسى: مدخل إلى علم الإنسان (الأنثروبولوجيا) – منشورات اتحاد كتاب العرب – دمشق – 2004 – ص: 36.
- عوض، مصطفى: الأنثروبولوجيا الطبيّة: في الأنثروبولوجيا في المجالات النّظريّة والتّطبيقيّة. (تحرير: محمد عباس إبراهيم) – دار المعرفة الجامعية – الإسكندرية – ص 258.
- فهمي فتح الله، محمود ومحمد: دليل عملي للباحثين الصحيين – 2005.
- مختار، رحاب: الصّحة والمرض بين التصور التقليدي وممارسات الطب الحديث. -: دراسات في علم الاجتماع عن العالم العربي. –مطبوعات مركز البحوث القاهرة. – 2008.- ص 429.
- مكاوي، علي: الأنثروبولوجيا الطبيّة: دراسات نظرية وبحوث ميدانية – دار النصر للتوزيع والنشر. – القاهرة. – 2007ص: 15.
المراجع بالأجنبيّة
1- BOISLEVE Jacques : Santé vivante Stratégies de soins innovantes et pragmatiques pour une santé durable. – Éditions Science & Santé
2- HUDELSON Patricia : Article paru dans la revue Médecine et Hygiène n°2407 d’octobre 2002
3- HUDELSON Patricia : Revue Médicale Suisse. – Numéro : 2407
4- MASSE R.: culture et santé publique.- Ed. Gaétan Morin, Québec. -1995(p19)
5- TREMBLAY Marc-Adélard : L’anthropologie de la santé en tant que représentation.- Revue: Recherches Sociologique, Volume 23, Numéro 3, 1982, p/ 253-273.
6-https://www.louvainmedical.be/fr/article/anthropologie-medicale-et-de-la-sante
7- Farmer, P. (2004). Pathologies of Power: Health, Human Rights, and the .
.https://www.cercle-psychanalytique-paris.fr/pratique-therapeutique-un-pilier-de-la-sante
https://www.thecanadianencyclopedia.ca/fr/auteur/kristen-jacklin
New War on the Poor. University of California Press.\
1- طالبة دكتوراه في المعهد العالي للدكتوراه الآداب والعلوم الإنسانيّة والاجتماعية الجامعة اللبنانية- قسم الأنثروبولوجيا.
PhD student at the Higher Institute of Doctorate in Arts, Humanities and Social Sciences, Lebanese University –
Department of Anthropology.Email: azza_zakaria @yahoo.com