عنوان البحث: دور الإعلام الجديد في التّثقيف السياسي لدى الأحزاب في لبنان
اسم الكاتب: عبّاس الحاج ضاهر
تاريخ النشر: 19/03/2025
اسم المجلة: مجلة أوراق ثقافية
عدد المجلة: 36
تحميل البحث بصيغة PDFدور الإعلام الجديد في التّثقيف السياسي لدى الأحزاب في لبنان
The Role of New Media in political Culture among Parties in lebanon
Abbas Hajj Daher عبّاس الحاج ضاهر)[1] (
تاريخ الإرسال:24-2-2025 تاريخ القبول:3-3-2025
ملخّص turnitin:11%

تكشف الدّراسة تحوّلًا جذريًّا في المشهد الإعلامي اللبناني، إذ تراجع دور الإعلام التقليدي (مثل الصّحف والإذاعات) لصالح الإعلام الجديد الذي يوفّر منصّات تفاعليّة تناسب تطلّعات الأجيال الصّاعدة. أصبح الإعلام الرّقمي مساحة رئيسة للنقاش السياسي والاجتماعي، وبرزت منصّات مستقلة كـ”ميغافون” و”درج” لتقديم سرديّات مغايرة عن الخطاب الطائفي المسيطر. هذا التحوّل عزز وعيًا سياسيًّا أكثر انفتاحًا على القيم المدنيّة، لكنّه في المقابل خلق بيئة إعلاميّة أكثر استقطابًا في بعض الأحيان.
وعلى الرغم من أنّ الأحزاب اللبنانيّة؛ استطاعت توظيف الإعلام الجديد لإعادة تقديم أيديولوجياتها وخطابها السياسي، فإنّ نجاحها كان محدودًا بغياب التّجديد الفكري. ركّزت الحملات الرّقميّة على إعادة تدوير سرديات قديمة بوسائل عصريّة، ما جعلها أداة لاستقطاب جمهورها التّقليدي أكثر من كونها وسيلة لجذب جمهور جديد. تُظهر نتائج الدّراسة أنّ بعض الأحزاب أظهرت قدرة نسبيّة على الاستفادة من الإعلام الرقمي، بينما ظلت أخرى متأخرة في هذا المجال.
يتراجع الاهتمام بالخطاب الحزبي التّقليدي عند الأجيال الصّاعدة في لبنان، إذ تفضّل النّقاشات المفتوحة في القضايا الوطنيّة التي تُطرَح في الإعلام المُستقل. يُظهر الشّباب نزوعًا متزايدًا نحو قضايا العدالة الاجتماعية، والبيئة، والشّفافيّة، وهي قضايا لا تتناولها الأحزاب بجدّية كافية في خطابها. لكن في الوقت نفسه، يبقى هناك جمهور رقمي حزبي ملتزم يتفاعل مع المحتوى الموجه من الأحزاب التقليدية، وإن كان محدودًا مقارنة بالحراك الشّبابي المستقل.
الكلمات المفاتيح: الإعلام؛ المنصات الإلكترونيّة؛ التفاعل؛ الأحراب؛ الرّقمي.
Summary
The study reveals a radical shift in the Lebanese media landscape, where the role of traditional media (such as newspapers and radio) has declined in favor of new media providing interactive platforms that suit the ambitions of rising generations. Digital media has become a major space for political and social debates.
Independent platforms such as “Megaphone” and “Daraj” have emerged to present narratives that differ from the prevailing sectarian discourse. This shift has enhanced political awareness that is more open to civil values, but in return, it has created a more polarizing media environment sometimes.
Although Lebanese parties have been able to take advantage of new media to re-present their ideologies and political discourse, their success has been limited by the absence of intellectual restitution. Digital campaigns have focused on reprocessing old narratives through modern means, making them a tool to attract their traditional audience rather than a means to attract a new audience. The results of the study show that some parties have shown a relative ability to benefit from digital media, while others have remained late in this field.
In addition, rising generations in Lebanon show less interest in traditional party discourse and prefer open discussions and national issues that are raised in independent media. Young people show a high tendency towards issues of social justice, environment and transparency. Issues that parties do not address seriously enough in their discourse. At the same time, however, there remains a committed digital party audience that interacts with content directed by traditional parties, although limited compared to the independent youth movement.
Keywords: Media; electronic platforms; interaction; forums; digital
المقدمة: يتميّز المشهد السياسي اللبناني بتعقيداته الطائفيّة وتداخله العميق مع البنى الاجتماعية، ما خلق نظامًا سياسيًّ متجذّرًا في المحاصصة الطائفيّة. منذ استقلال لبنان العام 1943، أدّت التوازنات الطائفيّة دورًا محوريًّا في تشكيل الحياة السياسيّة، مع بروز أحزاب سياسيّة تمثل الطوائف الدّينيّة المختلفة.
في الجانب الإعلامي، كان لبنان يُعرف تاريخيًا أنّه مركز للصحافة الحرة في العالم العربي، وقد انتشرت فيه الصّحف والمجلات المستقلة في منتصف القرن العشرين، أضف إلى دور الإذاعات والتّلفزيونات التي ارتبط بعضها بأجندات حزبيّة أو طائفيّة. ومع بروز الإنترنت في أواخر التّسعينيات وأوائل الألفيّة الجديدة، شهد الإعلام اللبناني تحوّلًا ملحوظًا مع دخول منصات التواصل الاجتماعي والمواقع الرقمية، مما أتاح مساحة جديدة للتعبير عن الرأي، بعيدًا من القيود التي فرضها الإعلام التقليدي.
مفاهيم الإعلام التقليدي والإعلام الجديد
- الإعلام التقليدي: يشمل الصّحف الورقيّة، الإذاعات، والتّلفزيونات التي تعتمد على قنوات بثّ أحاديّة الاتجاه من مصدر واحد إلى الجمهور. يُعرف الإعلام التقليدي بهيكليته المؤسسيّة وارتباطه غالبًا بالسلطات أو رأس المال السياسي.
- الإعلام الجديد: يشمل المنصات الرّقميّة، مثل مواقع الأخبار الإلكترونيّة؛ ومنصات التّواصل الاجتماعي (فيسبوك، تويتر، إنستغرام، تيك توك) التي تتميز بطابعها التّفاعلي وإتاحة الفرصة للمستخدمين للمشاركة في إنتاج المحتوى. وهو يتيح حرية أوسع، لكنه يواجه تحديات تتعلق بالمصداقيّة والتنظيم.
أهمية الدّراسة وأسباب اختيار الموضوع: تشكّل هذه الدّراسة محاولة لفهم كيفيّة تأثير التحوّل من الإعلام التقليدي إلى الإعلام الجديد على المشهد السياسي في لبنان. مع تراجع ثقة الجمهور بالإعلام التقليدي وظهور منصات إعلاميّة مستقلة ورقميّة، أصبح من الضروري دراسة كيفيّة تعامل الأحزاب اللبنانيّة مع هذا التّحول، وتأثيره على الشّباب اللبناني الذي يشكّل القوّة المحرّكة في المجال الرّقمي. تعكس الدّراسة أهمّيّة الربط بين الإعلام والسياسة لفهم الدّيناميّات التي تعيد تشكيل الوعي الوطني والسّياسي في لبنان.
إشكاليّة الدّراسة
- كيف أثّر التحوّل من الإعلام التّقليدي إلى الإعلام الجديد على قدرة الأحزاب اللبنانيّة على إيصال خطابها واستقطاب الجمهور؟
- هل نجحت الأحزاب السياسيّة اللبنانيّة في مواكبة التّغيير الرّقمي، وتوظيف الإعلام الجديد بفعاليّة؟
- إلى أيّ مدى يتفاعل الشّباب اللبناني مع المضامين السياسيّة الحزبيّة عبر المنصات الرّقميّة؟
- هل يشكّل الإعلام الجديد أداة لإعادة تشكيل الخطاب السياسي اللبناني نحو نموذج أكثر مواطَنة وعدالة؟
تحديد الأهداف البحثيّة
- تحليل التحوّل من الإعلام التّقليدي إلى الإعلام الجديد وتأثيره على الأحزاب السياسيّة اللبنانيّة.
- تقييم مدى نجاح الأحزاب اللبنانيّة في استخدام الإعلام الجديد في التّثقيف السياسي واستقطاب الشّباب.
- دراسة تفاعل الأجيال الصّاعدة مع الخطاب السياسي الرّقمي.
- تقديم توصيات لتحسين الأداء الإعلامي الحزبي وتعزيز دور الإعلام في بناء وعي وطني شامل.
فرضيات
- قد يكون الإعلام الجديد خلَق مساحات تفاعليّة أوسع للشّباب اللبناني، لكنه لم يتمكن بالكامل من كسر الهيمنة الحزبية التّقليديّة.
- لعل الأحزاب اللبنانيّة تعتمد على تقنيات الإعلام الجديد لتسويق خطابها القديم، بدلًا من تقديم محتوى متجدّد.
- قد يقدّم الإعلام البديل سرديات مغايرة، لكنّه يواجه تحدّيات في الوصول إلى الفئات الرّيفيّة أو الأقل انخراطًا رقميًّا.
- الشّباب اللبناني أكثر انجذابًا للمحتوى الرّقمي المستقل، مقارنة بالمحتوى الحزبي الرّقمي، ما يشير إلى وجود فجوة بين الأجيال والخطاب السياسي التقليدي.
منهجية الدّراسة: المنهج المستخدم هو المنهج الوصفي التّحليلي في رصد التحوّل من الإعلام التّقليدي إلى الإعلام الجديد، وتأثيره على الأحزاب السياسيّة والجمهور، مستفيدًا من دراسة منصّات إعلاميّة مستقلة وصفحات حزبيّة رقميّة على وسائل التواصل الاجتماعي.
تقدّم الدّراسة قاعدة لفهم التحوّل في العلاقة بين الإعلام والسياسة في لبنان، مع التّركيز على الأدوار الجديدة التي يؤدّيها الإعلام الرّقمي في تشكيل الخطاب السياسي واستقطاب الجمهور. إنّ اعتماد المنهج الوصفي والتّحليلي، يوفّر أساسًا علميًّا لتحليل الظواهر المختلفة المرتبطة بهذا التحوّل، بما يعكس عمق التّحديات والفرص التي يقدّمها الإعلام الجديد في السياق اللبناني.
التطوّر التاريخي لوسائل التثقيف الحزبي: إنّ تتبّع نشأة الأحزاب العقائديّة والأيديولوجيّة في لبنان يكشف تاريخًا سياسيًّا مركّبًا، يبدأ من التأثر بالأفكار القوميّة واليساريّة، ولا ينتهي عند البنية الاجتماعيّة الطائفيّة التي رسّخت بدورها أحزابًا تحمل هويّات فرعيّة متمحورة حول المرجعيّات الدّينيّة والمذهبيّة. في ظلّ تداخل هذه العوامل، يشهد لبنان ثوبًا حزبيًّا متنوّعًا إلّا أنّه متنافر الانسجام في الغالب، تتجاور فيه الأحزاب القوميّة والإسلاميّة واليساريّة إلى جانب أحزاب ذات صبغة طائفّية صريحة أو ضمنيّة.
هذا المزيج الفريد في شكل الأحزاب ودورها، جعل الصراع على هُويّة الدولة اللبنانيّة ومستقبلها السياسي يستمر حتى اليوم، وسط تحديات إقليميّة ودوليّة متواصلة. وعلى الرّغم من المحاولات المتكرّرة في مسار تاريخي طويل لتجاوز الطائفيّة، فإنّ الدّور الكبير الذي تؤدّيه الأحزاب المبنيّة على أساس طائفي ما زال يشكّل العصب الأكثر أهمّيّة للحياة السياسية اللبنانيّة.
وفي لمحة تاريخية موجزة عن بدايات تشكّل الأحزاب اللبنانيّة، نجد أن الحياة الحزبيّة تبلورت في لبنان خلال حقبة الانتداب الفرنسي (1920–1943) وما بعدها، فقد أخذت الجماعات السياسيّة في التكوّن على أسس متعددة: قوميّة، طائفيّة، عقائديّة، ويساريّة. وقد أسهم التّفاعل مع الأفكار القوميّة العربيّة والأوروبيّة في صياغة الرؤى الأولى لبعض هذه الأحزاب، بينما كانت الانتماءات الطائفيّة في لبنان تؤدي دورًا بارزًا في تحديد مواقع الأحزاب ونفوذها. لذلك، فإنّ “التّاريخ السياسي للبنان يتشابك مع نسيج طائفي معقّد، ما جعل تكوين الأحزاب يتأثر بهياكل اجتماعيّة ودينيّة متوارثة، فالثقافة السياسيّة تعكس القوى التّقليديّة والصّراعات السياسيّة، النّاجمة عن الاختلافات الصارخة في المعتقدات الدّينيّة والولاءات الطائفيّة؛ والمذهبيّة التي تستمر في تقسيم المجتمع وتعزيز طابعه الفئوي”([1]).
في مرحلة ما بعد الاستقلال (1943)، برزت أحزاب ذات توجه قومي عربي أو قومي سوري، مستلهمةً حركات التحرّر من الاستعمار واليقظة القوميّة. من أمثلتها: الحزب السّوري القومي الاجتماعي (تأسس العام 1932) الذي حمل فكرًا قوميًّا عابرًا للحدود اللبنانيّة، مركّزًا على “سورية الكبرى” أو “سورية الطبيعيّة”، وتبنّى رؤية تتجاوز التركيبة الطائفيّة التقليديّة. وحزب البعث العربي الاشتراكي (في سوريا ولبنان) الذي انتشر فكره القومي الاشتراكي في الأوساط المتعاطفة مع التيار العروبي، وسعى لتوحيد الأمّة العربيّة تحت شعار “أمّة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”.
كما ظهر عدد من الأحزاب ذات المنطلقات المسيحيّة المارونيّة تحديدًا، وكان لها دور كبير في الحياة السياسيّة خلال النّصف الثاني من القرن العشرين، من أقدمها حزب الكتائب اللبنانيّة الذي أسّسه بيار الجميل سنة 1936، مستلهمًا بعض التّجارب الأوروبيّة ذات الطابع القومي المحافظ، وقد ركّز الحزب في بداياته على هُويّة لبنانيّة مستقلّة، وعلى تعبئة الجمهور المسيحي في المدن والرّيف. ثم ظهرت لاحقًا أحزابًا أخرى انشطرت عن حزب الكتائب أو تفرعت عنه مثل حزب القوات اللبنانيّة.
ولم تغب الأحزاب اليساريّة والشيوعيّة بدورها عن المشهد اللبناني؛ فقد تجلّى الفكر اليساري من خلال الحزب الشيوعي اللبناني (أسّس رسميًّا العام 1924) الذي حمل أيديولوجيا ماركسيّة-لينينيّة، واحتضن كوادر عماليّة ونقابيّة من مختلف الطوائف، وسعى إلى اختراق البنى الطائفيّة عبر خطاب أممي وعلماني.
ثم في مراحل لاحقة، وبشكل أكثر وضوحًا بعد سبعينيات القرن العشرين، برزت أحزاب عقائديّة ذات خلفيّة إسلاميّة، أبرزها: الجماعة الإسلاميّة، وحركة التوحيد الإسلامي في البيئة السنيّة، وحركة أمل وحزب الله في البيئة الشّيعيّة.
بعد اتفاق الطائف، ساد الوئام السياسي نسبيًّا، لكن القوى السياسية في لبنان انقسمت بشكل حاد، منذ العام 2005، بين “تحالف 8 آذار” و”تحالف 14 آذار”، مع وجود قوى سياسيّة حاولت العمل ككتلة وسطيّة أو مستقلة. ثمَّ حلّ الحراك الشعبي العام 2019، لينبثق عنه قوى أطلقت على نفسها اسم “القوى التّغييريّة” التي وُلدت من رحم منظّمات المجتمع المدني.
لفهم خارطة هذه الأحزاب واهتماماتها وطبيعة تحالفاتها، لا بدّ من فهم السّياقات التّاريخيّة والاجتماعيّة والسياسيّة التي مرّ بها لبنان نتيجة تأثره بالواقعين الإقليمي والدّولي. إذ يُعدّ النّظام السياسي اللبناني توافقيًّا؛ يرتكز على توزيع المناصب الرئيسة وفق المحاصصة الطائفيّة (رئاسة الجمهوريّة لمسيحي ماروني، رئاسة الحكومة لمسلم سنّي، رئاسة البرلمان لمسلم شيعي)، إضافة إلى أعراف قضت بتوزيع مناصب رفيعة في الجمهورية اللبنانيّة لطوائف محددة([2]). أدّى هذا الواقع إلى ظهور أحزاب يرتبط قسم كبير منها بـ”جماعات مذهبية” معيّنة، فتعبّر عن مصالحها الاجتماعيّة والسياسيّة. ويسمّي الباحث مايكل هدسون هذا النمط بـ”السياسة المجزأة”([3]) (Segmented Politics)، إذ تنخرط الطوائف في السياسة وفق شبكات ولاء حزبيّة أو زعاماتيّة.
في الحرب الأهليّة (1975–1990)، اتخذت معظم الأحزاب شكل ميليشيات طائفيّة أو عقائديّة مسلّحة، وحظيت بدعم إقليمي ودولي. أدّى ذلك إلى مأسسة الطائفيّة التي تثبّتت من خلال اتفاق الطائف (1989) وقد أعاد توزيع السلطة بين الطوائف، بطريقة هي أشبه بتسويةٍ تاريخيّة لاجتراح السّلم الأهلي، إنما أبقى النّظام الطائفي محور السياسة والحزبيّة.
وعلى الرغم من امتلاك بعض الأحزاب خطابًا سياسيًّا عابرًا للطوائف، فإنّ الواقع الاجتماعي-التاريخي للبنان جعل الطائفة عنصرًا أساسيًّا في تكوين الهُويّة السياسية([4]). ونشأت معظم الأحزاب اللبنانيّة في صراع دائم حول ماهيّة لبنان: هل هو “مسيحي التوجه” يرتبط حضاريًّا بالغرب؟ أم “عربي” جذوره في المحيط الإقليمي الأكبر؟ أم يجب أن يكون دولة علمانيّة حديثة تعلو على القوميّات والطوائف؟ هذا التّباين في الرؤى عقّد المشهد الحزبي، وصعّب بناء هُويّة جامعة حتى غدا المشهد الحزبي اللبناني محكومًا بتحالفات طائفيّة متحركة، ما زال يشكّل معضلة في بناء دولة حديثة أو اعتماد معايير مدنية للتمثيل السياسي([5]).
أساليب التثقيف السياسي في عصر ما قبل التلفزيون: قبل أن يهيمن التّلفزيون على المشهد الإعلامي في لبنان، كانت الأحزاب السياسيّة تعتمد على أساليب تقليديّة، تجمع بين التّواصل المباشر مع الجمهور والنشر الورقي كسبيل لترسيخ أيديولوجياتها وتجنيد الأنصار. فقد اعتادت معظم هذه الأحزاب على تنظيم ندوات ومحاضرات تُعقد في مقار حزبيّة أو قاعات عامة، حيث يتجمع المؤيدون والمهتمون للاستماع إلى خطب القياديين أو المفكرين الحزبيين، ثم الدّخول في نقاشات وجلسات أسئلة تجري أحيانًا في أجواء حماسيّة. كان لهذه النّدوات أهمّيّة خاصة، إذ أتاحت للأحزاب فرصة اختبار صلابة خطاباتها، وقياس مدى تجاوب الحاضرين مع الأفكار المطروحة، وصقل مهارات الخطباء والكوادر الحزبيّة في مخاطبة الجمهور. وقد لاحظ عالم الاجتماع سمير خلف في إحدى دراساته أنّ اللقاءات المباشرة بين القادة؛ والمناصرين أكسبت الأحزاب في لبنان نوعًا من الحضور الحيوي بين الناس، وغالبًا ما ساعدت في تعزيز الولاء والانتماء، إذ تخلق ما يشبه المجتمع المصغّر داخل تلك القاعات.
وفي موازاة ذلك، اعتمدت الأحزاب على نشر الكراسات والمجلات الورقيّة كأدوات تثقيفيّة أساسيّة، فكانت تصدر دوريات ومطبوعات متخصصة تحمل عناوين دالّة على هُويّة الحزب ورسالته، وتتناول في الوقت ذاته الموضوعات العقائديّة والفكريّة والشّؤون السياسيّة الراهنة. بعض الأحزاب الكبرى، خصوصًا تلك ذات التّوجه اليساري أو القومي، حرصت على أن تكون هذه المطبوعات بمستوى لافت من العمق والتحليل لتؤدي دورًا تعبويًّا لدى القواعد الحزبيّة؛ وتحفّز القرّاء على الانخراط في النّقاش الفكري. وكان من الشّائع أن تتضمّن المجلات مقالات تحليليّة عن القضايا الإقليميّة، والدّوليّة إلى جانب افتتاحيّات تبرّر مواقف الحزب من المسائل اللبنانيّة الداخلية، أضف إلى زاوية مخصّصة للخطاب العقائدي أو تفسير النصوص الأيديولوجية المؤسِّسة.
أمّا الصحف والإذاعة، فقد أدّت دورًا محوريًّا في تعبئة الجماهير، قبل انتشار التّلفزيون على نطاق واسع. كانت الصحافة المكتوبة تشكّل واجهة رئيسة يتواجه عبرها السياسيون، فتُنشَر المقالات والردود والبيانات في صفحاتها، وتتحوّل إلى منابر للتّراشق الفكري أو التنافس الدعائي. أحيانًا، كانت بعض الأحزاب تمتلك صُحف ناطقة باسمها أو تموّلها من خلف الستار، لتكون مهمتها الدّفاع عن خط الحزب ومهاجمة الخصوم، أو التعليق على الأحداث بما يخدم رؤيتها. وقد رصد مايكل هدسون مظاهر هذا التّنازع الصحافي، معتبرًا إياه مؤشرًا لبروز “جمهور سياسي” مهيَّأ لخوض الجدل العام بمفردات حزبية. ومن جهتها، وفّرت الإذاعة وسيلة تواصليّة حيويّة مع المستمعين، خاصة في مرحلة ما بعد الاستقلال حين كانت نسبة الأمية لا تزال مرتفعة نسبيًّا، وكانت الراديوهات تُعدّ مصدرًا سريعًا لاستقبال الأخبار والتوجيه السياسي. اعتمدت بعض القوى السياسيّة على البث الإذاعي لسرد خطابات الزعماء أو لنشر التعليقات التّحريضيّة والتّعبويّة، وهو ما منح تلك القوى إمكانيّة توسيع رقعة تأثيرها لتطال فئات ليست بالضرورة مهتمة بالقراءة المطوّلة.
وبين النّدوات الورقيّة والإذاعات، ظلّت الأحزاب اللبنانيّة حريصة على خلق صلة مباشرة بين القيادة والقاعدة، فكانت تطبّق استراتيجيّة تزاوج فيها بين الطرح الفكري عبر المطبوعات، والتّركيز على الحضور الجماهيري في لقاءات وجهًا لوجه. وبهذه الطريقة، نجحت تلك التنظيمات في تثقيف شرائح واسعة بما يتوافق مع رؤيتها السياسيّة، وتمكّنت من بناء “مخزون تعبوي” قوي ساعدها على الصّمود على مرّ الأحداث والاضطرابات. وعند النّظر إلى تلك المرحلة من زاوية المقارنة مع زمن التلفزيون وما تلاه من ثورة رقمية، يبدو واضحًا أن أدوات ما قبل التلفزيون كانت ترتكز بشدة على عنصر “الاحتكاك الشّخصي” وإنشاء “جماعات حاضنة” تتبنّى مبادئ الحزب بحماسة تنبع من تفاعل جماعي مباشر. كذلك، فإن اعتماد الكرّاسات، والمجلات شكّل خطوة أساسيّة في تشذيب الفكر الحزبي؛ وتطوير خطاب نظري يبرر أيديولوجياته، ما ساهم في تجذير هذه الأحزاب في مشهد سياسي كان يمرّ بتحولات مفصليّة خلال تلك الفترة من تاريخ لبنان المعاصر.
تحوّل الاهتمام نحو التلفزيون والإعلام الفضائي: حين بدأ التّلفزيون يشقّ طريقه إلى البيوت اللبنانيّة، وجدته الأحزاب السياسيّة فرصة جديدة لتوسيع دائرة تأثيرها وتنويع أساليب التثقيف والتعبئة. لم يعد اللقاء البصري بين القادة والناس مقتصرًا على الندوات أو المهرجانات الشّعبيّة وحسب، بل صار بوسعهم مخاطبة جمهور أوسع ومتعدّد الانتماءات الطائفيّة والمناطقيّة عبر الشاشة. وقد ساعدت التّطورات التّقنيّة في البث الفضائي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي على اتساع نطاق المشاهدة، وإن كان المشهد اللبناني تأثر في البداية بالظروف السياسيّة التي أخّرت تأسيس محطات تلفزيونيّة وطنية متخصّصة. لكنّ تلك المرحلة، التي رافقت أيضًا سنوات الحرب الأهليّة (1975–1990)، سرعان ما كشفت كيف سيتحوّل التلفزيون إلى سلاح في خدمة الأحزاب، فتتنافس على اجتذاب المشاهدين داخل البلاد وخارجها، مستندة إلى توفير وجبات مكثفة من الخطابات والبرامج التّحليليّة التي تنطق باسم الحزب أو تعبّر عن توجهاته.
مع مرور الوقت، غدا التلفزيون في لبنان أداة رئيسة لتشكيل الوعي العام والتأثير في الميول السياسية، وصار مصدرًا مهمًا لاستقاء الأخبار، متفوقًا في كثير من الأحيان على الصّحف والإذاعات التي بدأت تشهد تراجعًا نسبيًّا. وعلى الرّغم من أن نسبة الأميّة في لبنان كانت تتقلّص تدريجيًّا، كانت بعض الأرياف والمناطق النائية تفتقر إلى مكتبات أو منشورات ثقافية متاحة، فوفّر التلفزيون بديلًا يستطيع اختراق الحدود الجغرافيّة والاجتماعيّة.
في هذا السّياق، ظهرت محطات تلفزيونيّة في لبنان برعاية حزبيّة مباشرة أو غير مباشرة، لتؤدي دورًا محوريًّا في عمليّة التّثقيف والتّجنيد. من بين المحطات المهمّة التي تأسّست خلال الحرب الأهليّة أو بعدها بدعم حزبي، تلفزيون المؤسسة اللبنانيّة للإرسال (LBC) الذي ارتبط تاريخيًّا بحزب القوات اللبنانيّة وانطلق في الثمانينيات، ليشكّل منبرًا يعكس تطلعات شريحة من المسيحيين، قبل أن يتراجع لاحقًا في خطه التحريري المُلتزم سياسيًّا، ويحل مكانه تلفزيون (MTV) الذي يبدو أكثر وضوحًا في التعبير عن الخط السياسي للأحزاب المسيحيّة اليمينيّة تاريخيًّا، أو التي تسمى نفسها حاليًّا بالأحزاب “السياديّة”. كذلك كان هناك تلفزيون المستقبل (Future TV) الذي حمل بصمة تيار المستقبل وزعيمه رفيق الحريري، مركّزًا على خطاب سياسي ذات صبغة علمانيّة بعيدًا نسبيًّا عن التّشبّع الدّيني أو الطائفي وذي انفتاح واسع على الشّأن العربي، ولا سيما السّعودي منه، وموجّهًا نحو شريحة واسعة من المسلمين السُّنة وجمهور بيروت والشّتات اللبناني في الخليج. بدوره، تأسس تلفزيون المنار ليكون الذراع الإعلاميّة لحزب الله، فنقل خطابات قيادته وبرنامجه العقائدي والسياسي، خصوصًا في قضايا المقاومة ضد إسرائيل. وأيضًا وُجدت قناة إن بي إن (NBN) التي تمثل أفق حركة أمل أو محسوبة عليها، مع برامج تروّج لخطاب الحركة وموقفها السياسي من القضايا الدّاخليّة والإقليميّة. وفي مرحلة لاحقة، ظهر أو تي في (OTV) ليعكس وجهة نظر التّيار الوطني الحر، مركّزًا على القضايا التي تمسّ الطائفة المسيحيّة المارونية عمومًا، إضافة إلى برنامج سياسي يبرز سياسات التّيار ورؤية زعيمه. أمّا تلفزيون “الجديد” فهو وإنّ كان ذا خلفية يساريّة في تشكيله، إلّا أنّه مملوك لرجال أعمال، تمايز من غيره، وكان لهذه التّمايزات تأثيرات واضحة في خطّه التّحريري.
من هنا، يمكن القول إنّ التلفزيون في لبنان تحوّل من مجرد منصة ترفيهيّة أو إخباريّة إلى ساحة صراع تخوض الأحزاب غمارها، مستعينةً بأساليب الإعلانات الموجّهة والبرامج الحواريّة التي تترك مساحة واسعة لتبادل الاتهامات وتعبئة الجمهور. تدريجيًّا، صار التلفزيون أكثر من وسيلة تواصل، بل بات أحد العناصر الرئيسة في صياغة هُويّة كل حزب على المستوى الشّعبي، وربط اسمه بأسلوب معيّن في الطرح والأولويات السياسية. في الوقت نفسه.
الإعلام الجديد وخصائصه في البيئة اللبنانيّة: يتيح الإعلام الجديد تفاعليّة عالية -على عكس وسائل الإعلام التقليديّة مثل الصحف، والتلفزيون التي تتّسم بكونها أحاديّة الاتجاه (من القناة إلى الجمهور) – فيستطيع الجمهور أن يعلّق ويشارك ويتفاعل، ويعيد إنتاج المادة الإعلاميّة وفق منظوره الخاص. هذا التحوّل من متلقٍّ سلبي إلى مساهم ناشط حوّل البيئة الإعلاميّة رأسًا على عقب، مفسحًا المجال أمام أصوات جديدة لتعبّر عن نفسها خارج الأطر المؤسّسية المعتادة.
تتجلّى أبرز نماذج الإعلام الجديد في وسائل التواصل الاجتماعي، وقد برزت منصّات مثل فيسبوك وتويتر وإنستغرام وتيك توك بوصفها ساحات كبرى يتلاقى فيها الأفراد؛ ويتبادلون الآراء والأخبار والمواد السمعيّة البصريّة. تتميّز هذه المنصّات بالمرونة والتّنوّع في طبيعة المحتوى الذي يُشارك، إذ أصبح بالإمكان نشر التّدوينات القصيرة والتّعليقات المصوّرة والمقاطع المرئيّة في آنٍ واحد. أما في لبنان، “فقد فاقت نسبة مستخدمي الإنترنت 90% من السكان، مع اعتماد واسع على تطبيقات التّراسل الفوري ومنصّات التواصل الاجتماعي كمصدر رئيس للأخبار”([6]). هذا الواقع منح الأحزاب السياسيّة والناشطين المستقلّين مساحة جديدة للوصول إلى الجمهور، وفي الوقت نفسه أتاح للنّاس حرية أكبر في التعبير والمشاركة في القضايا العامة. وإلى جانب وسائل التّواصل الاجتماعي، ظهرت المواقع الإخباريّة والمنصّات الرقميّة المستقلة كوجه آخر للإعلام الجديد. إذ تجاوز بعضها الدور الإخباري التّقليدي عبر إفساح المجال لمحتوى تفاعلي يضم تعليقات القرّاء ونقاشاتهم، ويعتمد نماذج تمويل مختلفة بعيدًا من الإعلانات التّجاريّة الصريحة أو الدّعم السياسي المباشر، مثل نظام الاشتراكات أو التّبرعات الفرديّة. وقد أسهمت هذه المنصّات المستقلة نسبيًا في تعزيز التعدّدية الإعلاميّة ونشر روايات مضادة لسرديات السّلطة. أما المدوّنات والبودكاست، فتمثّل بدورها مساحة أكثر تخصصًا ومرونة، وقد يختار المدوّن أو “البودكاستر” موضوعًا محدّدًا أو نمطًا تحليليًّا معيّنًا ويتناوله بشيء من التفصيل والهدوء، غالبًا بعيدًا من الإيقاع الصّاخب لمنصّات التّواصل. تشهد بعض المدوّنات السياسيّة أو الحقوقيّة في لبنان تفاعلًا لا بأس به من شريحة من القرّاء الذين يرغبون في قراءة متعمّقة للأحداث، بدلًا من متابعة التّعليقات المقتضبة على الشبكات الاجتماعيّة. كذلك الأمر بالنسبة إلى البودكاست الذي يتميّز بإمكانيّة الاستماع أثناء التنقل أو أداء الأعمال اليوميّة، ما يخلق علاقة أكثر استدامة بين المنتج والمستهلك، ويفسح المجال أمام محتوى تحليلي بعيدًا من ضغط العناوين الإخباريّة العاجلة. ويشير تقرير Arab Social Media Report الذي تصدره كلية محمد بن راشد للإدارة الحكوميّة إلى أنّ “نموّ المحتوى العربي في المدوّنات والبودكاست يزداد بوتيرة مطردة، وهو ما يتيح لمواهب وطاقات شبابيّة جديدة التّعبير عن نفسها، والتّحاور مع جمهورها بطريقة مباشرة وشخصيّة”.
انتشار الإنترنت وخصائص الجمهور: يصنّف لبنان من بين الدّول الشّرق أوسطيّة الأكثر استخدامًا للإنترنت في التّواصل والاتصالات وذلك مع الوصول المنتظم إلى الإنترنت، سواء عبر الشبكات الثابتة أو عبر شبكات الهاتف النقّال. وتظهر الأرقام الصادرة عن منصة DataReportal حول استخدام المنصّات والخدمات والأجهزة الرقمية في لبنان، أن عدد مستخدمي الإنترنت بلغ 4.76 ملايين فرد في لبنان في كانون الثاني 2024، بما مثل معدل اختراق الإنترنت بنسبة 90.1% في ذلك الوقت.
ووفق نتائج المسح الذي ورد في تقرير اقتصادي لمجموعة بنك بيبلوس Lebanon This Week، بلغ عدد المستخدمين النّشطاء لوسائل التواصل الاجتماعي في لبنان 4.52 ملايين مستخدم، وهو ما يمثل معدل انتشار بنسبة 85.6% من إجمالي السّكان في كانون الثاني/ ديسمبر 2024، مقارنة بـ4.91 ملايين مستخدم لوسائل التواصل الاجتماعي ومعدل انتشار بنسبة 90.5% في كانون الثاني/ يناير 2023.
وتتفاوت أنماط الاستهلاك الرقمي تبعًا لعدّة متغيّرات اجتماعيّة وثقافيّة واقتصاديّة([7]). فالطلبة الجامعيون، على سبيل المثال، يقبلون على منصّات التواصل الاجتماعي، والمواقع الإخباريّة الرّقميّة بشكل أكبر من الأجيال الأكبر سنًا، مستفيدين من كونهم أكثر دراية بالأدوات التقنيّة وأقدر على التأقلم مع المحتوى الرقمي. من جهتها، تتكثّف فئة الموظفين في القطاعين العام والخاص حول استخدام الإنترنت لأغراض مهنيّة واستعلاميّة، وخاصة عبر البريد الإلكتروني وتطبيقات التّواصل الفوري، بينما تظلّ نسبة من كبار السن تفضّل الوسائل التقليديّة في تلقي الأخبار، وإن كانت أعداد متزايدة منهم تسجّل حضورًا ملحوظًا في المنصّات الرّقميّة.
هكذا، تحوّل الإنترنت من وسيلة كماليّة في العقد الأول من الألفيّة الثالثة إلى بنية تحتيّة أساسيّة، يعتمد عليها اللبنانيون من مختلف الفئات في تحصيل المعلومات والتّفاعل الاجتماعي والمهني. ويكتسب هذا الواقع أهمّية مضاعفة حين نعلم أنّ لبنان يعاني منذ سنوات من أزمات اقتصاديّة، وسياسيّة تجعل من إمكانيّة التواصل الرّقمي حاجة ملحّة، سواء للاطلاع على أخبار الدّاخل أو للتواصل مع المغتربين المنتشرين في أنحاء العالم. ولعل هذا الانتشار الواسع للإنترنت وتنوّع مستخدميه هو الذي سمح للإعلام الجديد بأن يصبح لاعبًا قويًّا في تشكيل الرأي العام، وتحدّي الوسائل التقليديّة على مستويات عدة، من حيث السرعة وطريقة العرض وجاذبية المحتوى.
التغيّرات المجتمعية والاقتصادية وانعكاسها على الاستهلاك الإعلامي: خلال الأزمة الماليّة التي عصفت بلبنان العام 2019 برزت سلسلةً من التحوّلات المجتمعيّة والاقتصادية العميقة، تزامنًا مع التدهور الحاد في سعر صرف العملة الوطنيّة وانخفاض القدرة الشرائيّة لمعظم الأسر، فبات المواطنون يميلون أكثر إلى الوسائل المجانيّة أو منخفضة الكلفة، سواء في مجال التواصل أو الحصول على الأخبار. بحسب دراسة علميّة([8]) فإنّ معظم اللبنانيين؛ أصبحوا يعتمدون على وسائل الإعلام البديلة للوصول إلى الأخبار والمعلومات. وقد ساهم هذا التغيّر في إعادة رسم المشهد الإعلامي، إذ زاد الإقبال على المواقع الإلكترونيّة التي تُقدّم خدماتها بالمجان، مثل بعض الصّحف الرّقميّة أو المنصّات الإخباريّة المستقلّة، أضف إلى منصّات التّواصل الاجتماعي التي باتت بدورها مصدرًا رئيسًا للاطّلاع على التطوّرات السياسيّة والأمنيّة. وبذلك أصبح المحتوى السّريع والمباشر، كالمنشورات الإخباريّة المقتضبة أو مقاطع الفيديو القصيرة، أكثر جاذبيّة لشريحة واسعة من اللبنانيين، خاصةً في صفوف الشّباب الذين يستخدمون الهواتف الذّكيّة بشكل مكثّف. أحد أبرز المؤشرات([9]) على هذا التّحول هو زيادة عدد المتابعين لمنصّات الإعلام الرّقمي مثل “ميغافون” و”درج” و”رصيف 22″ والتي أصبحت توفر تقارير وتحليلات سياسيّة واجتماعيّة من دون فرض رسوم على المستخدمين. على الجانب الآخر، عانت – ولا تزال – الصّحف التّقليديّة والتلفزيونات المدفوعة من انخفاض نسبة المشاهدين، ما أدّى إلى تراجع عائداتها الإعلانيّة وتأثر استمراريتها. واضطر بعضها إلى تقليص نفقات التّشغيل، واندثرت صحف عريقة بسبب عجزها عن مواصلة تغطية الأكلاف التّشغيليّة في زمن شحّ الإعلانات وتدهور قيمة العملة. وقد أجبرت الظروف الاقتصاديّة بعض المؤسّسات الإعلاميّة إلى البحث عن التمويل السياسي أو الحزبي لتعويض خسائرها الماديّة، ما عرّض خطابها لخطر التسييس والارتهان، ودفع نسبةً من القرّاء والمشاهدين إلى فقدان الثقة بها، والبحث عن بدائل أخرى أقل ارتباكًا وتلوّنًا.
على صعيد موازٍ، أدّى صعود المنصّات المجانيّة إلى تعزيز حضور الإعلام الجديد، وتحفيز روّاد الأعمال والمبادرات الشّبابيّة على إطلاق مواقع إخباريّة رقميّة أو مدوّنات أو قنوات بودكاست، بعضها يحظى بمصادر تمويل بديلة كالمنح الدّوليّة أو تبرّعات المستخدمين. وبذلك، أخذت هذه المنصّات المستقلّة تكتسب شرائح إضافيّة من الجمهور، مستفيدةً من السّهولة الكبيرة في الوصول إلى المحتوى عبر الإنترنت. ومع أنّ هذه المبادرات لا تزال تواجه تحديات بخصوص الاستدامة الماليّة والحفاظ على الموضوعيّة، إلّا أنّها أضحت وجهة مفضّلة لمن يسعى إلى أخبارٍ سريعة ومحدّثة باستمرار بعيدًا من تشعبّات السياسة وقيود الوضع الاقتصادي.
توظيف الأحزاب اللبنانيّة للإعلام الجديد: عملت الأحزاب السياسية مع تصاعد الاعتماد على الإنترنت؛ وانتشار الهواتف الذّكية في لبنان، على استثمار الإعلام الجديد في تثقيف مناصريها والتّرويج لبرامجها الأيديولوجيّة. حلّت النشرات الإلكترونيّة، والمجموعات المغلقة على تطبيقات واتساب وتيليغرام، والندوات الافتراضيّة عبر منصّات البث المباشر، مكان الندوات التّقليديّة إلى حدّ كبير. هذه الأدوات الرّقميّة مكّنت الأحزاب من الوصول إلى شرائح سكانيّة متنوّعة ضمن مناطق جغرافيّة متباعدة، مع توفير إمكانات متابعة وتنسيق آنيَّين بدرجة كانت مستحيلة في السابق. تُعَدّ النشرات الإلكترونيّة والتّطبيقات الحزبية الخاصة وجهًا بارزًا لهذا التوجّه الجديد. فبدلًا من الاعتماد على الكتيّبات الورقيّة التي قد تصل متأخرة إلى بعض المناطق، أو تتطلب تكاليف طباعة وتوزيع مرتفعة، باتت الأحزاب ترسل رسائل دوريّة عبر البريد الإلكتروني، أو عبر تطبيقات مصمّمة خصيصًا للأعضاء والأنصار. تحوي هذه الرّسائل مقالات تشرح مواقف الحزب من الأحداث الراهنة، وملخّصات عن خطاب القادة، وخطط نشاطات ميدانيّة قادمة. وفي بعض الحالات، توفّر التّطبيقات أدوات تفاعليّة تتيح للأعضاء طرح الأسئلة أو المشاركة في استطلاعات داخليّة تساعد القيادة على قياس توجّهات القاعدة وتفضيلاتها. أمّا المجموعات المغلقة على واتساب وتيليغرام، فشكّلت بديلًا متطوّرًا لاجتماعات الخلايا الحزبيّة المصغّرة التي كانت تجري بشكل حضوري في السّابق. إذ بات بالإمكان إنشاء عشرات المجموعات، كلٌّ منها تجمع فئة معيّنة من أعضاء الحزب في منطقة معيّنة، أو على مستوى قطاع تخصصي (طلاب جامعة، موظفي قطاع معيّن، إلخ). في هذه المجموعات، يجري تبادل المعلومات والأخبار العاجلة والتّحليلات، كما تُطلق حملات رقميّة منسّقة، مثل اعتماد وسم (هاشتاغ) محدّد لاستهداف الرأي العام على تويتر أو فيسبوك. وعلى الرّغم من أنّ الإنغلاق الرقمي قد يحدّ أحيانًا من انفتاح الأعضاء على الآراء المعارضة، فإنّه يضفي قدرًا أكبر من الانضباط في التوجّه الحزبي، ويسهّل تعبئة المناصرين في وقت قياسي .
كما برزت النّدوات الافتراضيّة (ويبينار) والبثّ المباشر عبر منصّات التواصل الاجتماعي كوسيلة تفاعليّة فاعلة؛ تدمج ما بين الراحة التي يمنحها التعلُّم من بُعد، والحيويّة التي تصاحب النقاشات المباشرة مع القيادات والناشطين البارزين. ومع تقييدات جائحة كورونا (2020–2021)، تسارعت وتيرة تنظيم هذه النّدوات الرّقميّة في لبنان فتستضيف أحزابًا متعدّدة لقاءات تحمل طابعًا تثقيفيًّا أو تحليليًّا بشأن الأحداث المحليّة والإقليميّة، ويُمنح المشاركون فرصة طرح الأسئلة كتابيًّا أو صوتيًّا، فتتبلور مساحات حواريّة أشبه بالصالونات الفكريّة، إنّما من دون تكبّد عناء الحضور الشّخصي. مع انخراط اللبنانيين المتزايد في العالم الرّقمي، وجدت الأحزاب السياسيّة بيئة خصبة لترويج خطابها وجذب فئات شبابيّة؛ قد تكون بعيدة نسبيًّا من أساليب التّعبئة التّقليديّة. من بين أكثر الأساليب فاعليّة في استقطاب الشّباب، تعتمد الأحزاب اللبنانيّة على البث المباشر (Live Streaming) على منصات مثل فيسبوك ويوتيوب، إذ يتيح ذلك للمرشحين التّفاعل المباشر مع الجمهور، والإجابة عن استفساراتهم في الوقت الفعلي.
وفاقًا لنتائج دراسة([10]) فإنّ بعض الأحزاب تبنّت تقنية “جلسات الأسئلة والأجوبة” عبر إنستغرام وفيسبوك، والتي تتيح للشّباب طرح أسئلتهم حول البرامج السياسيّة للمرشحين، ما يعزز من تفاعلهم مع العمليّة الانتخابيّة. كما أن استخدام الرّموز التّعبيريّة، التّصاميم الجذابة، والمحتوى الترفيهي ساهم في جعل الخطاب السياسي أكثر جاذبيّة لهذه الفئة العمرية.
لجأت بعض الأحزاب إلى جانب ذلك، إلى الاعتماد على المؤثّرين وصنّاع المحتوى (Influencers) من أجل إيصال رسائلها بطرق غير رسميّة أو أقلّ وضوحًا للجمهور.
أمّا الحملات التّرويجيّة بالصور والفيديوات القصيرة، فقد أدّت دورًا أساسيًّا في اجتذاب انتباه المستخدمين. ففي العصر الرّقمي الحالي، فيميل الأفراد إلى المحتوى البصري السّريع، من النادر أن يستغرق المستخدم وقتًا طويلًا لقراءة بيان حزبي مطوّل أو الاستماع لخطب تقليديّة. من هنا، برزت منشورات مصمّمة باحترافيّة على إنستغرام، وفيديوات قصيرة على يوتيوب وتيك توك، تعرض ملخّصات البرامج السياسيّة أو مواقف الحزب بطريقة مختصرة ومتداولة. وتستند هذه الحملة المرئيّة عادة إلى أشكال جذابة من الغرافيك وتوليفات سريعة للمشاهد، مترافقة مع شعارات أو “هاشتاغات” محددة تكرّس صورة إيجابيّة عن الحزب.
المصاعب والتّحدّيات: على الرّغم من اتّساع دائرة الحضور الرّقمي للأحزاب اللبنانيّة؛ وسعيها لاستثمار أدوات الإعلام الجديد في نشر أيديولوجياتها وبرامجها، تبقى مصداقيتها في هذا الفضاء أمام تحدّيات جمّة، وتعترضها عقبات متشابكة تتعلق بالأخبار المضلّلة وصعوبة ضبطها، أضف إلى تزاحمها مع منصّات مستقلة، وأصوات معارضة قد تتفوق في استقطاب الجمهور أو تقديم السّرديات البديلة.
ترتبط أولى هذه التحديات بـمصداقيّة الأحزاب في الفضاء الرّقمي. فمن الناحية النّظريّة، تتيح المنصّات الإلكترونيّة والوسائل الاجتماعيّة فرصة للتواصل المباشر مع الجمهور، وتجاوز وصاية الإعلام التقليدي الذي قد يكون منحازًا لطرف من دون آخر. بيد أنّ هذه الميزة يمكن أن تنقلب إلى ما يشبه سلاحًا ذا حدّين، إذ غالبًا ما يشكّك كثيرون في صدقيّة الأحزاب ونزاهتها، نظرًا إلى تاريخ الانقسامات السياسيّة والطائفيّة في لبنان، إضافة إلى تراث من الشّعارات التّعبويّة التي قد تبدو متجدّدة في الشكل لكّنها تحفظ الجوهر نفسه. من هنا يأتي الخطر الثاني، المتمثّل في الأخبار المضلّلة وصعوبة ضبطها. ففي بيئة يطغى عليها الاستقطاب السياسي والحزبي، يسهل على الجهات المختلفة تداول معلومات غير موثوقة، أو ترويج إشاعات موجّهة ضدّ الخصوم، وهو ما تُعرّفه بعض التّقارير الدّوليّة بـ”التضليل المتعمّد”. وفي بلد كلبنان يتفاوت مستوى الثقافة الرّقميّة بين فئات السكان، يجد كثيرون صعوبة في تمييز المصادر ذات المصداقيّة من تلك المشبوهة، ولا سيّما أنّ بعض الأحزاب تدعم مواقع وصفحات تنشط تحت أسماء غامضة وتنشر محتوى يصعب التحقق من صحته، و”أجمع معظم الصحافيين على أنّ تغييرًا قد طرأ مع الزّمن، بالتأكيد، على مفهوم الصيغة المصدريّة، ولا سيما خلال السنوات العشر الأخيرة، بعدما أدخل الدّفق المعلوماتي والاتصالي، الناس في هستيريا النشر الإلكتروني، فأصبح بمقدور أي إنسان الولوج إلى الإنترنت والتأثير على صناعة ونشر الخبر”([11]). كما تشير دراسة([12]) إلى أنّ انعدام الثقة بالقنوات الإعلاميّة جعل المواطنين أكثر حذرًا في تلقيهم للمحتوى السياسي، إذ أفاد المشاركون أنّ الوسائل الإعلامية اللبنانيّة جميعها؛ تروّج لأجندات سياسيّة معينة، ما يحدّ من تأثير الدّعاية الحزبيّة عبر الإعلام الجديد. وتزداد وطأة هذه المشكلات عندما تحتدم المنافسة مع منصّات مستقلة وأصوات معارضة تقارع الأحزاب على الأرضيّة الرّقمية ذاتها. فقد نجحت منصّات إعلاميّة ناشئة في كسب ثقة شرائح شبابيّة واسعة عبر تقديم أسلوب صحافي يزعم الحياد؛ أو يُعلي من المبادرات المواطِنة المبتكرة، كما حرصت على كسر هالة الأحزاب التقليديّة؛ بتسليط الضوء على إخفاقاتها في إدارة الشّأن العام. يُضاف إلى ذلك النّشاط الشّبابي الفاعل الذي برز أثناء الاحتجاجات في 17 تشرين الأول 2019، إذ شاهدنا آلاف اللبنانيين ينقلون مباشرةً وقائع المظاهرات ويطرحون عبر حساباتهم الشّخصيّة مطالب؛ وأفكار تتعارض مع أجندة بعض الأحزاب. وبفضل الميزات التّفاعليّة التي يوفّرها الإعلام الجديد، نجحت هذه الأصوات في الوصول إلى الجمهور من دون أن تمرّ عبر القنوات الحزبيّة، الأمر الذي جعل الأحزاب تواجه مسألة الحفاظ على قاعدتها من جهة، ومحاولة احتواء الأصوات المغايرة من جهة أخرى.
مواكبة الأحزاب السياسيّة للتقدّم التكنولوجي: على الرّغم من تباين انتماءاتها الطائفيّة واختلاف توجهاتها السياسية، وجدت الأحزاب اللبنانيّة الكبرى نفسها مضطرة إلى تبنّي استراتيجيّات جديدة في العصر الرقمي، سعيًا للحفاظ على قاعدة جماهيريّة واسعة والتّأثير في الأجيال الصاعدة، لكن لا زالت هذه الاحزاب من خلال أدائها الرّقمي، تواصل بثّ خطابها الإيديولوجي الموروث. في ظل التّحولات الرّقميّة المتسارعة، باتت وسائل التواصل الاجتماعي ساحة رئيسة للصراع السياسي في لبنان، فتعتمد الأحزاب الكبرى على استراتيجيّات مختلفة لاستغلال هذه المنصات في الترويج لأفكارها وحشد الدّعم. وعلى الرّغم من استمرار هيمنة التلفزيون كمصدر أساسي للأخبار، فإنّ انتشار مجموعات واتساب وصفحات فيسبوك المحليّة، قد عزّز مكانة الإعلام الرّقمي كأداة أساسيّة في تشكيل الرأي العام. ومع ذلك، فإنّ هذا التحوّل لم يكن خاليًا من التحدّيات، إذ بات الجيل الشّاب الأكثر تأثرًا بالمعلومات المضللة، نتيجة التّلاعب المستمر بالخوارزميات التي تحدّد ما يظهر لهم على منصات التّواصل الاجتماعي. وقد انعكس ذلك على الاستراتيجيات الحزبيّة، إذ لجأت الأحزاب إلى استغلال هذه المنصات للترويج لخطابها، بينما واجهت القوى السياسيّة الناشئة صعوبة في اختراق المشهد الرّقمي المزدحم. وتحول المشهد الرّقمي اللبناني إلى ساحة تنافس مفتوحة بين مختلف الأحزاب، لكلٍّ منها مواقع إلكترونيّة وصفحات تواصل اجتماعي رسميّة؛ أو شبه رسمية تُدار من لجان مختصّة أو شبّان متطوعين. ويمكن ملاحظة ثلاثة محاور أساسيّة تلخّص “الدّراسات الحقليّة” في هذا السياق: أمثلة عن المواقع والصفحات الحزبية، ظاهرة “الجيوش الإلكترونيّة” والحملات المنظّمة، وسبل تصدير الخطاب الحزبي إلى المنصّات الاجتماعية.
أولًا: نماذج من مواقع إلكترونية وصفحات تواصل تابعة للأحزاب اللبنانيّة: شهدت السنوات القليلة الماضية إطلاق حزمة من المنصّات الرقميّة التابعة مباشرةً لهيئات حزبيّة؛ أو تابعة لجهات مقرّبة من الأحزاب: يمتلك التّيار الوطني الحر موقع tayyar.org وصفحات ناشطة على فيسبوك وإنستغرام وتويتر، تنشر التّصريحات والبيانات الرّسميّة إلى جانب محتوى مصوّر؛ يعرض فعاليّات الحزب وخطاب قياديّيه. بدوره، يدير حزب الله مواقع عدّة أبرزها موقع “العهد الإخباري” و”المنار”، بالإضافة إلى صفحات متفرقة تحمل أسماء لجان متخصصة وتتيح تفاعلًا واسعًا مع الجمهور. أمّا حركة أمل فلها موقع رسمي وصفحات متفرّعة عن قيادات مناطقيّة، تروّج لأخبار التّحركات والخطب الصادرة عن رئيس مجلس النواب نبيه برّي ونشاطات قيادات الحركة. وبالنسبة إلى حزب القوات اللبنانيّة، يكاد موقع Lebanese-Forces.com يكون المنصّة الإلكترونيّة المركزيّة التي تواكب أنشطة الحزب، وتنشر مقابلات لرئيس الحزب وأركانه. كذلك يمتلك تيار المستقبل صفحات رسميّة، إلى جانب Future TV الذي يستمرّ بنشاط إلكتروني محدود على الرّغم من توقّف البثّ التلفزيوني، لينقل تصريحات قيادته؛ ويعرض أبرز المستجدات. أمّا الحزب التقدّمي الاشتراكي فيعتمد على موقع anbaaonline.com الذي يؤدّي دورًا إخباريًّا وتحليليًّا قريبًا من رؤيته وزعيمه وليد جنبلاط، إضافةً إلى صفحات تستعرض نشاطاته بالمناطق الجبليّة. هذه المواقع جميعها غالبًا ما تنشر نشاطات الحزب، وتحيط بها بتغطية إعلاميّة منحازة أو تبريريّة، وتتسم معظمها بتصميم ديناميكي يسعى إلى شدّ القارئ عبر عناوين لافتة وأحيانًا مثيرة للجدل.
ثانيًا: استخدام “الجيوش الإلكترونية” والحملات المنظّمة في لبنان: تُشير تقارير مؤسسة سمير قصير (SKeyes) ومؤسسة مهارات، إلى بروز ما يُعرف بـ”الجيوش الإلكترونيّة” في الفضاء اللبناني، إذ يشرف كل حزب أو تيار على مجموعات تواصل وتنسيق سرّية أو علنيّة، هدفها شنّ حملاتٍ منظّمة للتأثير في مسار النقاش الرّقمي. تتبلور أبرز الأنشطة فيما يلي:
- إطلاق وسوم (Hashtags) متزامن، فيجتمع عشرات أو مئات المغرّدين في توقيت واحد لرفع تصنيف وسمٍ بعينه يخدم خطاب الحزب أو يهاجم الخصوم.
- الدفاع والهجوم، فما إن يطلق خصم سياسي تصريحًا أو مقالًا ناقدًا، حتى تتدفق ردود ممنهجة من حسابات تنطق بلسان هذا الحزب أو ذاك، بعضها حسابات شخصيّة واقعيّة، وبعضها الآخر وهمي.
- تسريب الشائعات والأخبار فيُعمَّم على مجموعات معيّنة تبادل أخبار؛ أو صور غير محقّقة بهدف تشويه صورة الخصم؛ أو تعزيز سرديّة الحزب حول مسألة ما. هذا النّمط المنظّم غالبًا ما ينجح في خلق رأي عام افتراضي يتماشى مع مصلحة الحزب، ولو لمدّة قصيرة، ما يترك تأثيرًا غير بسيط على الشرائح الشّابة التي قد تستهلك الأخبار عبر فيسبوك أو تويتر بلا تدقيق عميق.
ثالثًا: طرق تصدير “الخطاب الحزبي” إلى المنصّات الاجتماعيّة: يتنوّع أسلوب تصدير الخطاب الحزبي وفاق طبيعة كل حزب والأدوات الرّقميّة التي يعتمدها:
- المحتوى البصري القصير عبر نشر فيديوات تمزج بين التصريحات السياسيّة؛ ومشاهد من اجتماعات أو مسيرات حزبيّة، وتُضاف إليها موسيقى أو شعارات حماسيّة، ثم تُنشَر على المنصّات كإنستغرام وتيك توك، مستهدفةً فئة الشّباب.
- البثّ المباشر في أوقات الأزمات أو خلال المؤتمرات الصحفيّة، فقد أصبح من المعتاد أن يبثّ الحزب خطابًا لقائده أو لوزيره عبر فيسبوك أو يوتيوب، ما يخلق تواصلًا لحظيًّا مع الجمهور يسمح لهم بالتعليق والمناقشة، وإن بقدر محدود من الحرية أحيانًا.
- استعراض الأحزاب انجازاتها وخدماتها على صفحاتها الرّسميّة (كافتتاح مشروع إنمائي، أو توزيع مساعدات في مناسبات اجتماعيّة) لتأكيد صلتها بالبيئة الحاضنة، مع حرصها على تصوير المشهد بطريقة تضفي هالةً إيجابيّة على عملها.
- استدراج النقاشات السّاخنة فتتحرّك بعض الأحزاب – لا سيما ذات الطابع الطائفي الواضح – لإثارة جدل متكرر حول قضايا هُويّة كاللامركزيّة أو الفيدراليّة، أو ملفات مصيريّة كالفساد أو السّلاح أو العلاقات الخارجيّة، ما يضمن اشتعال المنصّات وتحوّل الاهتمام إلى رواية الحزب.
يتّضح بذلك، كيف توظّف الأحزاب منصّاتها الرقميّة وفق “روزنامة” مدروسة، تراعي توقيت الأحداث السياسيّة ومستجدات الشّارع، وتستفيد من الإمكانات التقنية لخلق تعبئة إلكترونيّة قد تحافظ على روح الجمهور الموالي، وتوجّه خطابًا مقنّعًا إلى فئات أخرى. وتتقاطع معظم هذه الاستراتيجيّات في سعيها إلى بناء صورة متّسقة عن الحزب وإقناع المتابعين بأحقيّة روايته، سواء عبر الجيوش الإلكترونيّة أو عبر الترصّد الدّقيق للأحداث الجاريّة. ومع تكرار هذه الأنماط، تتشكّل مشهديّة حديثة لكنها ممتدة الجذور في التقاليد الحزبية اللبنانيّة، فأُعيدت صياغة سرديات موروثة في إطار “لغة رقميّة” جديدة.
انطلاقًا مما سبق، يمكن القول إنّ نجاح الأحزاب في العالم الرّقمي يتجلّى بشكل أساسي في قدرتها على جذب أعداد ملموسة من المتابعين أو تسجيل معدلات تفاعل عالية في حملات محدّدة، لكنّ هذا النجاح يتفاوت وفاقًا لعوامل تقنية واقتصاديّة وحتّى جيوسياسيّة تقيّد استمرار هذه المكاسب. أمّا في المقابل، فتشكّل التحدّيات التّمويليّة وتراجع الثقة الشّعبيّة قيدًا دائمًا يحرم الأحزاب من التحوّل العميق المطلوب لنقل خطابها إلى مستوى أكثر انخراطاً وشفافيّة. ونتيجةً لذلك، لا تزال ردود الفعل الشّعبيّة تتأرجح بين القبول الحذر والرّفض الصريح، ما يعكس تخلخلًا عامًّا في المشهد السياسي اللبناني، فيطالب الجمهور بحلول واقعيّة لعقدٍ مزمنة أكثر من شعارات رقميّة حتى لو كانت جذّابة للعين. وعلى الرّغم من إمكانات الوسائل الرّقميّة في خلق تفاعلٍ فوري مع الجمهور، إلّا أنّ هذه الحملات تركّز على استثارة العواطف وإحياء الرّموز التّاريخيّة، بدلًا من طرح رؤى سياسيّة مُبتكرة لقضايا راهنة كالبطالة والهجرة وأزمة الهُويّة. فمعظم الأحزاب تكتفي بإعادة تدوير مفاهيمها القديمة، متجنبةً إعادة النظر في مواقفها أو طرح حلولٍ تتماشى مع التحوّلات الاقتصاديّة والتكنولوجيّة، مثل قضايا التحوّل الرقمي أو اقتصاد المعرفة.
بروز إعلام بديل ومستقل في لبنان: برزت في لبنان خلال السنوات الأخيرة، منصّات إعلاميّة مستقلة شكّلت بديلًا عن الإعلام التقليدي المرتبط بالأحزاب السياسيّة والطوائف. هذه المنصّات أتت لتقديم سرديات مختلفة ونقد صريح للأحزاب التّقليديّة، وهو ما ساهم في خلق مساحة أوسع للتعبير عن القضايا الوطنية والاجتماعيّة بعيدًا من قيود الاصطفافات الطائفيّة أو التوجيه الحزبي، لكن تمويل تلك المنصّات طرح علامات استفهام حول أهداف الممولين ورعاة المنصّات، خصوصًا بعد تموضع منظمّات المجتمع المدني ضمن اللعبة السياسيّة والمصالح الاقتصاديّة في لبنان. ما جعل الاستنتاج يتمحور حول وجود غايات سياسيّة واقتصاديّة تقف خلف تلك المشاريع أيضًا. تتمثل أبرز هذه المنصات في مشاريع رقميّة؛ يقودها صحفيون وناشطون شباب يسعون إلى تسليط الضوء على قضايا أهملها الإعلام التقليدي. ومن هذه المنصات المُهمّة:
- منصة ميغافون (Megaphone) هذه المنصة الرّقميّة اشتهرت بخطابها الجريء؛ وتحليلاتها التي تنتقد بشدة الطبقة الحاكمة في لبنان. تركّز على القضايا المرتبطة بالعدالة الاجتماعيّة، والفساد، وانعدام الشّفافيّة في أداء المؤسسات الرسميّة.
- منصة درج (Daraj) تأسست كمنصة إعلاميّة مستقلة تهدف إلى تناول قضايا المنطقة العربية، بما في ذلك لبنان، من زاوية حقوقيّة واجتماعيّة. سعت إلى تقديم رؤية نقدية للسياسات العامة التي تنفّذها الأحزاب التّقليديّة. كما نشرت تقارير معمقة حول التأثير السّلبي للنظام الطائفي في لبنان، وكيف أنّه يشكّل عائقًا أمام تحقيق المساواة.
- منصات ناشئة ومبادرات شبابيّة: إلى جانب المنصّات الكبرى، ظهرت صفحات على وسائل التواصل الاجتماعي يقودها ناشطون مستقلون. تُعنى هذه الصفحات بتقديم محتوى سريع ومباشر يفضح “السياسات الفاشلة للأحزاب”، ويعزز النقاشات حول قضايا الديمقراطيّة وحقوق الإنسان.
تنقلب المنصات الرّقميّة اليوم على السّرديات التقليديّة المهيمنة، فتُعيد تركيز خطابها على حقوق المواطن الفردية بوصفه كيانًا مستقلًا عن الانتماءات الطائفيّة الضيقة، ساعيةً إلى كسر الحواجز التي فرضتها العقود الماضية من الهويات المذهبيّة المُتصلبة، إضافة إلى الدّعوة لتنفيذ إصلاحات جذريّة تطال النظام السياسي برمته، بدءًا من علمنة الدولة لتجاوز الانقسامات الطائفيّة، وصولًا إلى بناء مؤسسات قادرة على تجسيد إرادة المواطنين بعيدًا من المحاصصة والزبائنيّة.
التوصيات: للأحزاب حول تطوير أساليب التّثقيف الرّقمي
- تبنّي خطاب سياسي يعكس التحدّيات الواقعية التي تواجه الأجيال الصاعدة، مثل البطالة والهجرة والأزمات المعيشيّة، بدلًا من التركيز الحصري على السّرديات الطائفيّة.
- تعزيز التّفاعل المباشر مع الجمهور عبر المنصّات الرّقميّة، من خلال استضافة جلسات حوارية مفتوحة (Live Sessions) تتيح للمتابعين التّعبير عن آرائهم ومخاوفهم.
- الاستثمار في تدريب كوادر حزبيّة على إدارة المحتوى الرقمي باحترافيّة، وتقديم حملات تعتمد على الشّفافيّة والجودة والعلميّة والإحترام، بدلًا من الحملات الدّعائيّة التّقليديّة.
- الابتعاد من نشر الأخبار المضلّلة التي تضر بمصداقيّة الأحزاب، وتزيد من حالة الاستقطاب السياسي.
للمؤسسات الإعلاميّة والنّشطاء المستقلين حول خلق بيئة أكثر تنوّعًا
- تعزيز التّنسيق بين المنصات المستقلة لإنتاج محتوى جماعي يركّز على القضايا المشتركة بدلًا من التنافس الفردي.
- تقديم سرديات بديلة مبنية على التعمّق في القضايا الاقتصاديّة والاجتماعيّة، مع توفير تحليلات موثوقة ومحتوى متوازن بعيد من الإثارة.
- تدريب النّشطاء المستقلين على مواجهة الأخبار المضللة ومراقبة الحملات الحزبيّة الرّقميّة، مع توعية الجمهور بكيفيّة استهلاك الأخبار بشكل نقدي.
خاتمة
يشكل الإعلام الجديد ركنًا أساسيًّا في عملية جذب الجماهير، وخصوصًا أنّ الأجيال الشّابة باتت تحصر كل اهتماماتها بتلك الوسائل، على حساب الإعلام التّقليدي الذي بات في آخر اهتمامات الأجيال الصاعدة. وهو ما يحتّم على الأحزاب مجاراة التّطور السّريع، ليس فقط عبر امتلاك وسائل و مؤثرات و”جيوش إلكترونيّة”، بل عبر تسويق خطاب جديد لإستمالة أجيال تشكّل العصب الفعلي لأي حزب أو مجموعة أو مكوّن سياسي، لضمان مستقبل استمراريته. ولا يمكن تجاهل السّباق القائم على وسائل الإعلام الجديد، ما بين طروحات قديمة، وأخرى حديثة، خصوصًا أنّ الإعلام الجديد مكّن المجتمعات من التعرف إلى أفكار بعضها، والاطلاع على سياساتها وسبل النّجاحات، في ميادين الحياة كلّها. ما يفرض تعاملًا جديدًا من القيّمين على الأحزاب، على قاعدة الإعتراف بالأخطاء وتصحيح السياسات، وتطوير مساراتها. والأكثر أهمّيّة معرفة أنّ التّطور السّريع والمستمر تكنولوجيًّا ومعرفيًّا، يجرّ معه أفكارًا جديدة تنعكس على السياسات، ما يفرض على الأحزاب في لبنان مجاراته في مواكبة متواصلة، لا يصحّ معها التمهّل أو القفز فوق المتغيّرات أو الاستهتار بها، بل اعتماد سلوك سياسي جاذب، والاستفادة منه وتوظيف نتائجه في صالح المجتمع.
الهوامش
طالب في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة – قسم الإعلام والتواصل.-[1]
Student at the Higher Institute of Doctorate at the Lebanese University of Arts, Humanities and Social Sciences – Department of Media and Communication.Email: abbasmdaher@gmail.com
[1] – خلف. سمير. من وقت إلى وقت آخر. دار النهار ومؤسسة ميقاتي. بيروت، 2016. ص29.
[2] – تتولّى كلٌ من مناصب قائد الجيش اللبناني و حاكم مصرف لبنان المركزي و رئيس مجلس القضاء الأعلى شخصيات مسيحيّة مارونيّة حصرًا، بينما تتوزع مناصب رفيعة أخرى عسكريّة وإداريّة على طوائف أخرى.
[3] – Michel C. Hudson. Middle East Dilemma. The politics and economics of Arab intergration.1999.
[4] – شاهين.إميل. التكوين التاريخي لنظام لبنان السياسي الطائفي- لبنان السلطة ولبنان الشعب. دار الفارابي. بيروت، 2015.
[5] – فواز. طرابلسي. تاريخ لبنان الحديث من الإمارة إلى إتفاق الطائف. رياض الريّس للكتب والنشر. بيروت، 2007.
[6] – ثورة الإنترنت في لبنان – كم لبناني يستخدم الشبكة؟www.lebanon24.com/news/lebanon/1216909/
[7] – أجرت مهارات دراسة(2021) بعنوان”إتجاهات وسائل الإعلام والإتصال في زمن التغيير”.
[8] – أجرت مهارات دراسة(2024) من إعداد د.علي رمّال، بعنوان” كيف يمكن تحديث قوانين الإعلام اللبنانية لمواكبة المتغيرات الرقمية؟
[9] – دراسة عن منصات الإعلام البديل في لبنان، إعداد غنوة مكداشي بالتعاون مع فريق من الباحثين، نيابة عن مركز الموارد العربية للفننون الشعبية ومؤسسة مهارات وأكاديمية DW، نوفمبر 2020.
[10] – أجرت مهارات دراسة(2022) اعدها د. جورج صدقة بعنوان: “إتجاهات خطاب الاحزاب اللبنانية خلال الإنتخابات”.
[11] – أبو شقرا. وفاء. عندما تتكلم المصادر – الصحافيون ومصادر معلوماتهم. دار الفارابي. بيروت، 2018. ص147
[12] – نضال أيوب(2023). “إستهلاك الأخبار الكاذبة في لبنان”. مؤسسة سمير قصير. بيروت.
المراجع
- أبو شقرا. وفاء. عندما تتكلم المصادر – الصحافيون ومصادر معلوماتهم. دار الفارابي. بيروت، 2018.
- Michel C. Hudson. Middle East Dilemma. The politics and economics of Arab intergration.1999.
- نجم. رامي. صحافة المواطن في عيون طلاب إعلام لبنان. مؤتمر الإعلام العربي ورهانات التغيير في ظل التحولات. مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت. 2016.
- فواز. طرابلسي. تاريخ لبنان الحديث من الإمارة إلى إتفاق الطائف. رياض الريّس للكتب والنشر. بيروت، 2007.
- شاهين.إميل. التكوين التاريخي لنظام لبنان السياسي الطائفي- لبنان السلطة ولبنان الشعب. دار الفارابي. بيروت، 2015.
- خلف. سمير. من وقت إلى وقت آخر. دار النهار ومؤسسة ميقاتي. بيروت، 2016.
- دراسات “مهارات” (2020، 2021، 2022، 2024)
- دراسات مؤسسة سمير قصير(2023).