الشّيعة الإماميّة بين النقد والتأويل
(مقاربات تحليليّة نقديّة لبحوث في الإمامة والمهدويّة)
د. حوراء حمدان*
مقدّمة
إن مسائِل النقد والتأويل في النظر العلمي الحديث يرتكز في أسسه على قضية المنهج، بما يعني أن اكتساب البحث الصفة العلمية يتصل بطبيعة المنهج المستخدم والأدوات اللازمة التي يقتضيها الحقل المعرفي. بيد أن النظر في مسائل التراث المتصل بالفكر الديني يكتنفه صعوبات عدة تستلزم من الباحث الدقة والجدّة العلميّة، حتى لا يضحى البحث وسيلة للفتنة سيّما في وقتنا الراهن.
اضطلع أ.د الشيخ محمد شقير في كتابه الموسوم “الشيعة الإمامية بين النقد والتأويل” بالاهتمام بالبعد المنهجي من جهة والبعد الحضاري من جهة أخرى في معاينة النص التاريخي. وتطلّع في ذلك إلى تقديم مقاربات نقدية لبعض المحاولات التي تهدف إلى نقض الفكر الشيعيّ من قبيل كتاب الشّيعة الإماميّة بين النصّ والتاريخ ([1]) . يدور رحى البحث في الكتاب حول طبيعة الدلالة في نص الغدير باعتباره أحد الأعمدة الأساسيّة لنشوء التشيع من جهة والمسائل المتصلة بمبحث الإمامة عامة والمهدوية خاصة. وتتجلى أهمية هذا القراءة في البعد الاجتماعي الديني ضمن أدوات المنهج الحضاري الذي يعتني بالأبعاد العالمية لحركة الدين وأهدافه.
تتّصل الإشكاليّات التي عالجها الدكتور شقير بمسألتي الإمامة والمهدويّة في الفكر الشيعيّ، وتحديدًا في موضوع نصّ الغدير، ودلالته، وقضيّة وجود الإمام المهديّ وأدلّتها، يضاف إليها إشكاليّة الحيرة التي أصابت الاجتماع الشيعيّ بعد الإمام العسكريّ. ومعتمده المنهجيّ في هذه المقاربة النقديّة على النظر المنهجيّ في النصوص، ومحاولة فهم دلالاتها متموضعة في بيئتها التاريخيّة، وفي الاجتماع الدينيّ، والسياسيّ الذي كان قائمًا آنذاك، وعلى ضوء مجريات التاريخ الإسلاميّ وحركته.
فما هي طبيعة الدلالة اللفظية لنص الغدير؟ وما هي المنطلقات التي ارتكز عليها الكاتب في نقده للقراءات التأويلية لهذا النص؟ هل من الصحيح منهجيًّا الاستعانة بسرديات دينية مشكوك بها لممارسة تأويل للتاريخ أم الاستعانة بالتاريخ لبحث تلك السرديات والنظر في مسألة توافقها مع السياقات التاريخية الواقعيّة؟ ما هي مستلزمات منهج المعقولية التاريخية وهل من المعقول منهجيًّا قراءة الواقع التاريخي بذهنية معاصرة دون لحاظ لمختلف الفوارق الزمكانية؟ وما هو المنهج الأمثل المتبع لإثبات حدث ولادة الإمام المهدي؟ وهل يمكن توظيف ظاهرة الحيرة لنقض القضية المهدوية؟ سنحاول في هذه المقالة الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها من الإشكاليات التي عالجها كتاب” الشيعة الامامية بين النقد والتأويل”.
بحث في دلالة نصّ الغدير على ضوء الاجتماع الدينيّ والسياسيّ وفلسفة التاريخ
تُذكر العديد من الاحتمالات حول دلالة نصّ الغدير([2]) الذي يُعدُّ من أهمّ النصّوص التي يستند إليها المسلمون الشيعة في إثبات خلافة الإمام عليّ(عليه السلام) لرسول الله. من هذه الاحتمالات: الدّلالة على الإمامة السياسيّة، الدّلالة على الإمامتين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* دكتوراه في الفلسفة من الجامعة اللبنانيّة.
الدينيّة والسياسيّة بلحاظ الحيثيّة اللفظيّة، الدّلالة على الإمامة الدينيّة فقط، والدّلالة على معان أخرى دون الإمامة سواءً الدينيّة، أو السياسيّة.
إنّ النظر في مشهديّة النصّ بشكل مكتمل، واستيعاب جميع عناصره يسهم في توضيح دلالته. وأوّل هذه المتعلّقات هي شخصيّة المتكلّم، وموضوع النصّ، فالمتكلّم هو الرسول محمّد(ص) الذي كان قائدًا للأمّة وحاكمًا للدولة، أمّا شخصيّة موضوع النصّ فهو الإمام عليّ الذي أعدّه الرسول إعدادًا خاصًّا، قياديًّا وعلميًّا، بشهادة الواقع العمليّ لسياسات الرسول.
لقد أتى النصّ محاكيًا للظروف الاجتماعيّة والسياسيّة، وفي إطار أخطر حدث مقبل على الأمّة وهو وفاة الرسول. وكانت بيئة المجتمع الإسلاميّ قريبة عهد بالجاهليّة، مختزنة العديد من التيّارات المتعدّدة، والانقسامات التي قد تجد ترجمتها إذا ما سنحت الفرصة. وكان نصّ الغدير ساعيًا لتقديم البلاغ الذي يَعمل على الحيلولة دون تفجر التناقضات الكامنة في
هذا المجتمع، هذه التناقضات كانت حاضرة في رؤية الرسول كما تبيّنها، وتدلّ عليه الشواهد والنصّوص. حيث يمكن القول إنّ نصّ الغدير لم يكن غافلًا عن خطورة هذه المسائل، ومسألة استمرار النّموذج الإسلاميّ، وموضوع انتقال السلطة، وجميع ما يتّصل به.
تبيّن كلّ الحيثيات المتعلّقة بهذه الواقعة أنّ الأمر الذي كان يُعمل عليه غاية في الأهمّيّة، من حيث إنّه أتى بعد موسم الحج مباشرة، وكان اللقاء الأخير بالرسول بالإضافة إلى الوقت الزمنيّ الذي حصلت فيه وانتظار الرسول الحشود التي بلغت مائة وعشرين ألفًا كما ذكرت بعض النصّوص التاريخيّة؛ وكذلك الترتيبات التي قام بها الرّسول التي تشكل قرائن تدل على أن موضوع البلاغ يتصل فقط بقضيّة الخلافة([3]).
بناء على ما تقدّم، ما الذي كان يريده النبيّ وماذا يمكن أن يفهم من النصّ؟ هل يمكن لمنصف أن يتصوّر أن النبيّ قد أراد معنى آخر غير الخلافة أو قصد شيئًا غير أمرة المؤمنين. إنّ نصّ الغدير يدل على كلّ من الإمامتين الدينيّة و السياسيّة بدلالة النصّ اللفظيّة، وتعين عليها جميع القرائن التاريخيّة بالإضافة التي الدّلالة الالتزاميّة من حيث إنّه لم يكن من فصل آنذاك بين الإمامة الدينيّة والسياسيّة. كما أنّ المبرّرات التي تقتضي التعيين في الإمامة الدينيّة هي نفسها تقتضي التعيين في السياسة.
v مقاربات نقديّة لحصريّة الدّلالة على الإمامة الدينيّة
سيكون التركيز في هذا المبحث على نقد ما ذُكر في كتاب الشيعة الإماميّة بين النصّ، والتاريخ في تناوله لنصّ الغدير، وذلك من خلال قسمين. أوّلًا: مناقشة مجمل الأسس والقرائن التي استند إليها ونقدها، والاستنتاج الذي أفضى إليه. وثانيًا: مجمل النتائج التي تترتّب على القول بحصريّة الإمامة الدينيّة.
لقد بنى الكتاب مجمل فكرته على اعتقاده بأنّ النبوّة تخلو من البعد السياسيّ، بالارتكاز إلى رواية “أنتم أعلم بشؤون دنياكم“([4]) وقراءته لها. وهذا الأساس متهافت لجملة أسباب منها: أنّ بناء المرتكز الفكريّ يجب أن يتقوّم من خلال دراسة شاملة للنصوص ذات الصلة، واستخدام الأدوات المنهجيّة فيها، وليس الاقتصار على رواية واحدة من دون دراسة نقديّة لها. وعلى الرغم من رفضه الاعتماد على مجمل الروايات، وعلى المنهج النقليّ، إلاّ أنّ الكاتب يغادر منهجه، ويتمسّك بأيّ رواية تدعم المقصد الذي يرمي إلى الوصول إليه.
حسب الكاتب أنّ السلطة في الإسلام باتت بعد فتح مكّة، ووفاة النبيّ شأنًا قرشيًّا (التقليد القرشيّ)، ولم يلتفت إلى أنّ الأمر لو كان مرهونًا بالتقليد القرشيّ فلا فرق بين ما بعد فتح مكّة وما قبلها. ثمّ، هل من المعقول أن يواجه النبيّ التقليد القرشيّ في حال الضَعف، ثمّ يُسلّم له في حال القوّة؟ إنّ قريش أوغلت في محاربة النبيّ حتّى هُزمت في فتح مكّة، لكن ذلك لم يلغِ جوهر مشروعها، بل حاولت بناء مشروعها معرفيًّا من خلال توظيف سلطتها في تقديم سرديّات دينيّة تعيد الأمر إليها. وما لم تستطع أن تحقّقه في حياة النبيّ من نزع السلطة منه سعت إلى انتزاعه من أهل بيته بعد وفاته. ثمّ، إذا كان التقليد القرشيّ ساريًا في الشأن السياسيّ فلماذا لم يكن كذلك في الشأن الدينيّ، وعلى أيّ أساس هذا الفصل؟
لم يكن من الصحيح منهجيًّا الاستعانة بسرديّات دينيّة مشكوك فيها بالحدّ الأدنى لممارسة تأويل للتاريخ، بل كان من الصحيح الاستعانة بالتاريخ لبحث هذه السرديّات نفسها بشكل علميّ، وموضوعيّ، والنّظر في مسألة توافقها مع السياقات التاريخيّة الواقعيّة. إنّ ما جرى بعد وفاة النبيّ لم يكن التزامًا بالتقليد القرشيّ، وإنّما كان مخالفًا له ما يدلّ على أنّ الأمر مرتبط بحسابات المصالح، والصراع على السلطة. وهذا الأمر قد أقرّ به الكاتب ما أظهر التناقض سيّما في القول: إنّ الأمر مرهون بالتقليد القرشيّ، والتشاور، والإجماع تارة؛ وإنّ الحصول على البيعة تمّ باللجوء إلى القوّة تارة أخرى! إنّ قريش قد أدّت دورًا أساسيًّا في إقصاء الخلافة عن بني هاشم، وعن الإمام عليّ تحديدًا لدوافع متعدّدة، وقد نجحت في ذلك عندما استطاعت بعد مدّة أن تعيد تموضعها في الاجتماع الإسلاميّ لتصل بعد ذلك إلى قيادة الدولة.
من ضمن المبرّرات التي ساقها الكاتب هي رؤيته لطبيعة التّدبير السياسيّ أنّه ممارسة عقلانيّة لا يحتاج إلى معرفة غيبيّة([5])، ما يوحي بوجود تهافت بين الدينيّ والسياسيّ. وهو ما يدلّ إمّا على قلّة دراية بفلسفة الدين، وإمّا على الإفراط في الإسقاط الأيديولوجيّ. إنّ أيّ تدبير سياسيّ يتأثّر حكمًا بالمدرسة الفكريّة التي ينبثق منها، وهو ما يدلّ على أنّ العلاقةَ بين الدين كمنظومة معرفيّة وقيميّة، وبين السياسة كتدبير وممارسة علاقةٌ جوهريّةٌ. فهل كانت السياسة تقوم على أساس من تلك العقلانيّة في تلك المرحلة، وهل الشأن السياسيّ تاريخيًّا لا يحتاج إلى الوحي، وهو الذي مارس دورًا محوريًّا في بناء الاجتماع الإسلاميّ؟!
v مقتضيات منهج المعقوليّة التاريخيّة
إنّ المعقوليّة التاريخيّة هي معيار الكاتب المعتمد في الترجيح بين الروايات، ويفسّرها بأنّها قياس حدث جزئيّ على المشهد التاريخيّ الذي ترسمه الأحداث المتكثرة([6]). إلّا أنّ ذلك يقتضي وصل المعطيات بشكل كافٍ، وصحيح، وموضوعيّ، وتجميع المعطيات الشاملة، والتجرد من الخلفيّات الفكريّة، وصحّة الفهم الكلّيّ للمشهد التاريخيّ الذي ينعكس على فهم الحدث الجزئيّ إلى غيرها من الأمور ذات الصلة. ولا غنى للباحث عن أن يستنفد ما في اللغة من معانٍ ودلالات إلى أقصى حدٍّ من دون إغفال جميع القرائن التي تسهم في بناء الدلالات حتّى يعمل على بناء تلك الشخصيّة الدلاليّة للحدث الجزئيّ الذي قد يكون له أثره على المشهد الكلّيّ، واختيار أحد احتمالاته.
لقد مارس الكاتب في هذا الشأن انتقائيّة فاضحة في بنائه للمرتكزات الفكريّة التي تستند إليها مجمل استنتاجاته، فعلى الرغم من ذكره لروايات عديدة تدلّ على أنّ السياسة كانت في صلب النبوّة إلاّ أنّه يهمل دلالاتها فلم يسعَ إلى الاستفادة منها، بل حاول الالتفاف عليها. فيما نراه يتمسّك في روايات أخرى من دون هوادة، ويبني عليها من دون بحث، لأنّها تتوافق مع ميله الأيديولوجيّ. وكذلك الأمر في مسألة التنصيب السياسيّ، حيث برر عدم الوصية لعليّ بطبيعة الذهنيّات القَبليّة التي كانت موجودة وعدم استجابتها([7])، ثمّ يفسّر إرادة النبيّ بكتابة الوصية بأنّها تتعلّق بوضعيّة سياسيّة، أو ترتيب سياسيّ خطير من دون أن يسأل عن طبيعة هذا الترتيب. ويقوم بالاستدلال على مسألة تراجع النبيّ عن ذلك بعدم ارتباط المسألة بالدين، ولم يجد في إرادته بيان ذلك الترتيب دلالة على ارتباطها بالدين! والوقائع التاريخيّة تفيد أنّ تراجع النبيّ لم يكن بمحض اختياره، بل هو أُرغم على ذلك.
إنّ جوهر القضيّة يكمن في أنّ مشروع استعادة السلطة التي فقدتها قريش قد أصبحت ظروفها مؤاتية في أيّام النبيّ الأخيرة وبعد وفاته، وكان الصراع صراعًا معرفيًّا دينيًّا بين المشروع النبويّ، والمشروع القرشيّ. وما ذكره الكاتب من مقولات هي ضمن سرديّات عديدة أُريد لها أن تُقدّم مبرّرات معرفيّة للالتفاف على وصية النبيّ لعليّ، وقد نقلها من دون أن يُعمِلَ فيها منهجه التاريخيّ. جملة المبرّرات الأخرى التي استند إليها الكاتب نوجزها بما يلي: الربط بين مسألة إعلان التولية والمكان السياسيّ، وذلك بأنّ الإعلان ليس مناسبًا إلاّ أن يصدر في العاصمة بمحاولة منه لفهم الواقع السياسيّ التاريخيّ بالقياس على الحاضر وتقاليده السياسيّة. كما استدلال الكاتب على عدم التنصيب السياسيّ للإمام عليّ في موضوع عدم وجود ترتيبات نقل السلطة على الرغم من حدوثها بالفعل، واعتناء النبيّ بتحضير مكان المراسم، وحفل التنصيب. هذا بالإضافة إلى وقوع الكاتب في العديد في الأخطاء، والمغالطات من قبيل استغناء عليّ عن دعوة الناس إلى مبايعته بعد وفاة الرسول، فلم يلتفت إلى أنّ البيعة لا تنشئ المشروعيّة وإنّما تنشئ إظهار الالتزام. وكذلك ادّعاؤه بغياب حدث التنصيب السياسيّ عن محاججات الإمام مستنتجًا عدم الدّلالة السياسيّة لذلك النصّ. وفي هذا وقع الكاتب في خلل منهجيّ مفاده أنّ الدليل أعم من المدّعى، بحيث كان عليه أن يستوعب بحثه جميع الفرضيّات التاريخيّة لا أن يتقوقع بحثيًّا داخل إحداها.
v لوازم القول بحصريّة الإمامة الدينيّة
إنّ القول بحصريّة دلالة واقعة الغدير على الإمامة الدينيّة يترتّب عليه جملة من اللوازم، من ذلك: وجوب أن تلتف الأمّة حول مرجعيّتهم الدينيّة، إذ إنّ الأمّة لم تتعامل مع الإمام على هذا الأساس، كان من الأولى بحسب منهجيّة الكاتب أن يستدلّ على عدم الدّلالة على الإمامة الدينيّة كما استدلّ على عدم إقبال مكوّنات الاجتماع الإسلاميّ على الإمام عليّ على عدم الدّلالة السياسيّة لحديث الغدير.
إنّ هذه المنهجيّة التي يتمّ فيها الانتقال من المجتمعيّ إلى الدينيّ أمر خطأ لأنّه لا يمكن أن نعرف ما جاء به الدين من خلال ما يفعله الاجتماع الدينيّ، كما أنّ حصريّة الدّلالة تتقوّم من خلال الفصل بين الإمامتين، وهو ما لم يكن قائمًا بهذا المعنى في تلك المرحلة التاريخيّة. إنّ معنى القول بالإمامة الدينيّة يقتضي الغوص في المنظومة المعرفيّة، والدينيّة التي تُعنى بالتراث الروائيّ، وعلومه، وأدواته المنهجيّة، لا أن نقوم بتعطيل هذه الإمامة من خلال نسف جميع المنظومة كما فعل الكاتب.
v في المهدويّة
لمّا كانت قضيّة إثبات ولادة الإمام المهديّ قضيّة غاية في الأهمّيّة لما يترتّب عليها في الفكر أو الاجتماع الشيعيّ من نتائج، وكانت هذه المعالجة تدفع باتّجاه جعل البحث أكثر منهجيّة ووضوحًا كان من المبرّر علميًّا، ومنهجيًّا اختيار هذا الموضوع، وكشف العديد من أبعاده وجوانبه.
يُلاحظ من مجمل الأدلّة التي اعتمدت في إثبات الولادة (إثبات كبرى الحجّة، وحدث الولادة، والموقع النَسبيّ، إثبات الغيبة والإمامة في الأعقاب) أنّها تستند إلى الدليل العقليّ، الذي يفيد أن وجود الحجّة لطف وضرورة دائميّة، والدليل النقليّ، أي الروايات الواردة عن أهل البيت وأئمتهم، عدا عن الدليل التاريخيّ. يتكفّل الدليل العقليّ بإثبات كبرى الحجّة، وهي تستلزم وجود صغراها في الزّمن اللاحق لوفاة الإمام العسكريّ، وقد تكفّل الدّليل النّقليّ بإثبات كلّ من الكبرى والصغرى بحيث يتكامل مع الدليل العقليّ. إنّ ما دوّنه علماؤنا، ومحدّثونا في مصنّفاتهم الروائيّة قد بلغ الآلاف، وكلّها تتقاطع حول قضيّة ضرورة ولادة الإمام المهديّ من أبيه الإمام العسكريّ. وعليه، لا يمكن لباحث موضوعيّ أن يتجاوز بذرائع غير علميّة مجمل تلك المصادر، والقفز فوق ذلك التراث، وانتقاء بعض القضايا، والنصّوص التاريخيّة – محلّ النقاش – ليسهّل ممارسة أكثر من إسقاط أيديولوجيّ على التاريخ. ومن تلك القضايا قضيّة الحَيرة التي أصابت الاجتماع الشيعيّ العامّ بعد وفاة الإمام العسكريّ كما تفيد مجمل المصادر التاريخيّة ذات الصلة، حيث حاول البعض أن يبني على هذه القضيّة بناءات هائلة في معالجة مجانِبة لشروط البحث العلميّ الذي يقتضي النّظر في كلّ المعطيات، والأسباب التي أدّت إلى إنتاج هذه الظاهرة، والبحث في معناها ومداها الاجتماعيّ ومآلاتها.
v ظاهرة الحَيرة: الدّلالة والمآل
الحَيرة في الأمر هو عدم الوضوح فيه، أو التردّد، ولا يستنج منه عدم الإيمان بالمطلق، أو الموقف تجاه أمر ما. إنّ ما يستفاد من مجمل النصّوص ذات الصلة بموضوع الحَيرة، ومرحلة ما بعد وفاة الإمام العسكريّ هو أنّ العديد من الشّيعة، أو ربما الكثير – بمعنى الكثرة الموضعيّة – قد أصابته تلك الحَيرة، ولكنّها لم تشمل أولئك الخُلَّص والثُّقات من أصحاب الإمام العسكريّ كما يُستفاد من أكثر من دليل. بل إنّ أكثر الأصحاب وأغلبهم كانوا يعلمون، ويعتقدون بولادة الإمام، وإمامته، وهم الذين كانوا مُعدّين لمواجهة تلك الحَيرة، واستطاعوا بعد برهة من الزمن أن ينجحوا في مواجهة مجمل حملات التشكيك بوجود الإمام وولادته. وثمّة فرق بين أن يقال إنّ الحّيرة قد شملت الدائرة المحيطة بالعسكريّ من خواصه والرواة المستأمنين، وبين القول إنّ هؤلاء قد أجمعوا على القول بإمامته وولادته.
دامت الحّيرة سنوات، أو عقودًا عديدة، وهذا أمر طبيعيّ بالنّظر إلى الأسباب التي أدّت إليها. ومن تلك الأسباب جدّة الحدث (الغيبة) أي كونه حدثًا لا سابق له في التاريخ الإسلاميّ، كما أنّ الظروف الموضوعيّة القائمة آنذاك كانت تتطلّب مستوى متشدّدًا من التستّر، والتكتّم على أمر الإمام وولادته. وهذه الظروف لا بدّ أثّرت سلبًا في عمليّة الإعداد المجتمعيّ، والثقافيّ للتعامل مع هذا الحدث، وتداعياته بالإضافة إلى محاولات الاستفادة من الظروف، وتشكيل سيل من الشبهات وسياسات السلطان، كلّ ذلك ساهم بشكل، أو بآخر في تعزيز الحَيرة.
إنّ طبيعة حدث الغيبة وما يختزنه من اختبار إيمانيّ راقٍ، وعالي المستوى قد تفضي على نحو الاقتضاء إلى حالة من الشّكّ، والحَيرة لدى الكثير ممّن يتعرّض لذاك الاختبار، وهذا ما حصل في تلك المرحلة التاريخيّة، وما تضمّنته من ظروف استثنائيّة، وتحوّلات مفصليّة. وفهم حدث الحَيرة يرتبط منهجيًّا، وجوهريًّا بتلك الأسباب التي أدّت إليها، فلن يكون من الصحيح الخوض في بحث الحَيرة من دون التطرّق إلى هذه الأسباب.
والسؤال المطروح تاليًا هو كيف انتهت تلك الحَيرة، وما هو مآلها، ودلالاته؟ لقد عمل العدول الثقات من خواص العسكريّ، بل وجمهور أصحابه ولاحقًا الفقهاء والعلماء بآثار أهل البيت، على تطويق تلك الحَيرة، ومعالجتها، وجميع تداعياتها خلال سنوات، أو عقود حتّى لم يبق منها إلّا مجرّد حكايا عمّن سلف. وهو ما يدلّ على جملة أمور منها أنّ حالة الحَيرة حالة عابرة لم تكن متأصّلة في الوعي الجمعيّ آنذاك، ولم تكن تعبّر عن مخاض فكريّ معرفيّ خطير بمقدار ما كانت تعبّر عن إلحاح مجتمعيّ على مجموعة من الإجابات والردود. والاجتماع الشيعيّ كان يمتلك مجمل العناصر، والأسس التي ساعدته على تخطّي الأزمة الظرفيّة بحيث لم تكن تشكّل ذلك التهديد الوجوديّ للكِيان الشيعيّ – كما يُهوّل البعض- وفي نتائج تلك الحَيرة اجتماع المجتمعات الشيعيّة على الاعتقاد بوجود الإمام المهديّ، وإمامته، وتعزيز وعيها بالمهدويّة، وتنمية البعد الإيمانيّ لديها.
v في نقد العديد من المقاربات غير العلميّة للحَيرة
لقد عمد أكثر من باحث إلى محاولة الاستفادة من قضيّة الحَيرة، وغيرها من أجل توظيفها للقول ببطلان المعتقد الشيعيّ في الإمام المهديّ، بل في العديد من القضايا الدينيّة الأخرى. وسوف نعرض أهمّ الملاحظات النقديّة على جملة تلك المقاربات وما يتّصل بها.
إنّ إهمال العديد من الموضوعات التي تتصل جوهريًا بإشكاليّة الحيرة يدل على أن البحث يستجيب ويخدم أفكارًا مسبقة وفرضيات محسومة. فلم يُعمل في الكتاب، مورد النقد، على إشباع بعض موضوعات القضيّة، بل الاقتصار على ما ينسجم مع ما يروم إليه الكاتب([8]). فهل يصحّ الاكتفاء بنصّ واحد، ومصدر واحد للوصول إلى بناءات هائلة، ونتائج كبيرة على المستوى الدينيّ والفكريّ؟ هذا بالإضافة إلى اجتزاء النصوص، والتغافل عمّا لا يخدم النتيجة التي يراد الوصول إليها وممارسة تعسّف في التفسير، والاسقاط المعرفيّ في كثير من المواطن والأمثلة، من قبيل تأويل الكاتب لنصّ القمّيّ حول الفرق الإماميّة([9]) مستنتجًا من تعبير القمّيّ عن الإمام، وتشبيه أصل ظهوره بظهور من مضى من آبائه بأنّ مدّة احتجابه قصيرة، ذلك على الرغم من أنّ نصّ القمّيّ ليس في الغيبة، ومحدّداتها، ومدّتها.
وفي أكثر من موضع من كتابه، نجد الكاتب يتنقّل من أكثر من معطى مجتمعيّ ليثبت معطى دينيًّا من قبيل انتقاله بشكل غير منهجيّ ممّا تضمّنه نصّ القمّيّ حول افتراق أصحاب العسكريّ بعد وفاته إلى النتيجة التالية: “بأنّ ذلك يدلّ على عدم وجود إجراءات داخل الجماعة الشيعيّة، أو ضابطة مرجعيّة من النصّ…”([10]) فهل أنّ مجرّد حدوث الاختلاف دليل على عدم وجود النصّ، أو الدليل؟
ادّعى الكاتب اتّباعه منهج المعقوليّة التاريخيّة في التعامل مع الروايات في قبال منهج وثاقة الرواية، ووظف ذلك ليلغي دفعة واحدة مجمل تلك المنظومة الروائيّة لأهل البيت. ولنا ملاحظات عدّة حول هذا الموضوع.
أوّلًا: لا يوجد تنافٍ بين منهج الوثاقة للرواية، وبين معقوليّتها التاريخيّة، ودرجة احتمال فعليّتها.
ثانيًّا: إنّ منهج المعقوليّة يستلزم أن يستجمع الكاتب جميع المعطيات ذات الصلة بالرواية ويقوم بعمله في الروايات حتّى تمكّنه الحكم عليها، وعلى دلالاتها، فهل التزم الكاتب بلوازم هذا المنهج؟ وهل استوعب جميع المعطيات ذات الصلة بموضوع بحثه، ووقف على مجمل الآراء المخالفة لرأيه؟ لقد نظّر الكاتب لذاك المنهج، لكنّه انقلب عليه في ميدان البحث ومسألة الحَيرة مثال على ذلك، وكيفيّة تعامله مع رواية تأبير النحل([11]) الذي استند إليها ليصل إلى نتيجة مؤدّاها أنّ النبيّ بحسب كلامه “قد يخطئ… وأنّه كان واضحًا منذ بداية النبوّة أنّ السياسة كانت دومًا خارج صلب الدين الذي يدعو إليه…”([12]) إنّ التسليم بمقولة أنتم أعلم بأمور دنياكم تعني فصل الدين عن البعد الدنيويّ، كما يُفهم أنّ الوحي لم يأذن للنبيّ أن يتدخّل في أمور الدنيا. والسؤال المطروح: هل يجوز على النبيّ أن يتجاوز الوحي، ويخالف ما رسمه الله له من حدود؟ فكيف إذًا يمكن تفسير الموارد التي تدخّل فيها النبيّ في أمور سياسيّة غاية في الأهمّيّة؟
الخلاصة
إنّ ما ينبغي قوله هو أنّه يوجد فارق بين كاتب يبحث في الفكرة من خلال بحثه، وبين كاتب يسعى إلى إثبات فكرة محسومة مسبقًا لديه. إنّ البحوث العلميّة التي تلتزم شروط البحث العلميّ وضوابطه المنهجيّة هي بحوث – بمعزل عن نتائجها – تملك مستوى من الحصانة من أن تُستخدم في تعزيز مبرّرات التكفير وحركاته في قبال البحوث التي تسعى إلى غايات محدّدة، وتعاني كمًّا أكبر من الاختلالات والسّقطات.
إنّ المشكلة الأساس تكمن في التطبيق غير العلميّ، وغير المنهجيّ للمناهج الغربيّة ومقولاته، واستعارتها من دون ملاحظة شروط إعمالها، والمخاض الفكريّ الذي أنتجها، وهو ما قاد إلى تلك السياقات، والنتائج مورد البحث. إنّ مشكلة الكاتب في الكتاب مورد النقد أنّه تطرّف في تطبيق منهجه التاريخيّ، ومارس تعسّفًا غالى في إعماله عندما وظّف هذا المنهج لتبرير أفكار مسبقة يعتقد بها، فكان المنهج قناعًا علميًّا ليفضي بما لديه من معتقد في الدين والتاريخ. لقد فشل الكاتب في تطبيق منهجه التاريخيّ، وفشل في توظيف هذا المنهج لاكتشاف التشيُّع، فجاء كتابه تعبيرًا عن تشيُّع موجود في مخياله هو، وليس في التاريخ.
لذا، ندعو هؤلاء الكتّاب، الذين يجهدون أنفسهم لنقض الفكر الشيعيّ، ويعلنون لائحة اتّهام لعقائده، ونصّه الدينيّ، إلى إعادة قراءة الفكر الشيعيّ قراءة علميّة تلتزم شروط البحث العلميّ، وضوابطه المنهجيّة، والاحتراز من ممارسة الإسقاطات الفكريّة، وأن يسعوا إلى الاستفادة بروح علميّة من الردود النقديّة التي تناولت ما كتبوا، وذلك بهدف مراجعة كتاباتهم، وإعادة تصويبها، وتخليصها من الهنات التي وقعت فيها بما ينسجم مع مكانتهم العلميّة، ومقتضيات البحث عن الحقيقة.
– [1] وجيه قانصو. الشيعة الإماميّة بين النصّالنصّ والتاريخ. ط1، دار الفارابيّ. بيروت 2016.
[2]– يتّفق المسلمون السنة والشيعة على حدوث واقعة الغدير وعلى أصل النصّ، لكنّهم يختلفون في بعض ألفاظه ودلالته. انظر جعفر السبحانيّ. الإلهيّات. ط3، المجلّد 4. قم، المركز العالميّ للدراسات الإسلاميّة. ص: 82 – 85.
[3] – في مجمل هذه النقاط انظر مرتضى العسكريّ. معالم المدرستين. ط5، المُجلّد1. الدار العالميّة. بيروت 1993. ص: 490 – 501؛ الشيخ جعفر السبحانيّ، بحوث في الملل والنحل. ط2، المجلّد 6، مؤسّسة النشر الإسلاميّ. قم 1415ه ص: 46 – 54.
[4]– الشيعة الإماميّة بين النصّ والتاريخ. م. ن. ص: 123.
[5] – م. س. ص: 116.
[6] – م. س. ص: 112.
[7] – م. س. ص: 118.
[9] – م. س. ص: 369.
[10] – م. س. ص: 359.
-[11] صحيح مسلم، ج7، دار الفكر. بيروت ص: 95.
-[12] انظر الشيعة الإماميّة بين النصّ والتاريخ. م.ن. ص: 85 – 89.