مقرّات الرئاسة وبيوت الرؤساء في لبنان: ما سياج الدار غير رجالها!
رنوة قعقور
إنّ التغيّرات المعماريّة التي شهدتها العاصمة بيروت بعد الحرب الأهليّة في العام 1975، والتي نهشت جسمها، أدّت إلى اختفاء معالم أثريّة بارزة، لتحلّ مكانها أبنية ضخمة ذات طابع تجاريّ وسكنيّ، لذلك كان لا بدّ من الوقوف أمام ما يحصل وسوف يحصل.
بيروت، العاصمة التي تميّزت بعراقتها لقرون خلت، وهي تُعرف باسم “ستّ الدنيا”، باتت تفقد، يومًا بعد يوم، رونقها التراثيّ، ومعالمها التي ميّزتها عن باقي العواصم، والمدن العربيّة، وإن صحّ التعبير، العالميّة.
المُقيم والزائر البيروتيّ، على حدّ سواء، يمكن أن يلحظ الفروقات في فنّ العمارة اللبنانيّة، الذي تحوّل من حجارة متراصفة، ومتناسقة يتوّجها القرميد الأحمر، إلى ناطحات سحاب من الباطون تتشابه فيما بينها.
إنّه من السهل رؤية التحوّل الحاصل في هيئة هذه المدينة، فهو واضح للعيان الشوارع المستجدّة، والأبنية الحديثة الطراز، والأبراج الزجاجيّة التي رسّخت صورة المدينة العاصمة. وهذا التحوّل العمرانيّ البيروتيّ يطغى على غيره من التحوّلات في باقي المناطق اللبنانيّة، لا سيّما الريفيّة منها، إذ له طابع خاصّ ينفرد به، كونه في قلب العاصمة التي تمثّل المركز اللبنانيّ.
عوامل عدّة أدّت إلى هذا التحوّل الكبير، أبرزها الحروب التي شهدتها العاصمة، وما رافقها من اقتتال داخليّ وخارجيّ، التي أدّت إلى أضرار جسيمة في العديد من المنازل، إن لم تؤدِ إلى دمارها الكلّيّ، ناهيك عن هجرة أبناء بيروت للعمل في الخارج، والعودة بأموال طائلة بهدف الاستثمار المحلّيّ وجنيْ الأرباح، أضِف إلى ذلك أموال المستثمرين العرب والأجانب للغاية ذاتها. كلّ هذا لم يمنع أصحاب البيوت القديمة، خصوصًا الورثة من أبناء السياسيّين، من مقاومة الإغراءات المادّيّة، وإقدام زمرة منهم على بيع ما ورثوه من تلك الأبنية التراثيّة، وطرحها في أسواق العقارات، التي عرفت طفرة نوعيّة، فوقعت هذه الأبنية فريسة تقديرات الرأسمال الذي لا غاية له سوى زيادة المدخول السريع، وتكديس الثروات، حيث يأتي المالك الجديد، ويهدم ما تركه السلف، ليبني، مستعينًا بالحداثة والتكنولوجيا، الأبنية الشاهقة التي تُحاكي الغيوم، وتخاطب خيوط الشمس بارتفاعها وضخامتها. وهكذا، كان مصير العدد الأكبر من البيوت التراثيّة والقصور، الزوال عن خريطة الشوارع، وبالتالي عن ذاكرة الأهالي الأبعدين وحتّى الأقربين.
إنّ جزءًا من التراث البيروتيّ يتمثّل بالغالبيّة العُظمى من بيوت الرؤساء الذين كانوا قد مكثوا مدّة زمنيّة معيّنة، أو قضوا كلّ حياتهم في بيروت، لا سيّما تلك المتعلّقة بالشقّ السياسيّ، حيث مارسوا مَهَمّاتهم من داخل المقرّات الرئاسيّة المتواجدة في العاصمة، كالسراي الحكوميّ، ومجلس النوّاب، وقصر القنطاريّ، أو من منازلهم ومكاتبهم. من هنا أتى اختيار بيوت بعض الرؤساء اللبنانيّين، (لعدم إمكانيّة تنأوّل كلّ البيوتات السياسيّة نظرًا لمحدوديّة مساحة الكتابة) الذين تولّوا زمام الحكم ما بعد الاستقلال، لما له من دلالات تاريخيّة، وثقافيّة، واجتماعيّة طبعت مرحلة زمنيّة مُهِمّة من تاريخ لبنان الحديث، كما كان ولا يزال لهذه الشخصيّات الرئاسيّة أثر وطنيّ بارز حتّى يومنا هذا.
العام 1920، أصبحت بيروت عاصمة دولة لبنان الكبير، في حسابات الترسيم والتحديد السياسيّيْن. واستقلال المدينة يعني هنا، امتيازًا جديدًا وهيئة جديدة لم تعرفها في تاريخها السابق. كما هي الهيئة الجديدة التي اكتسبتها المناطق التي أصبحت بَدءًا من مطلع أيلول العام 1920 دولة لبنان الكبير، والجمهوريّة اللبنانيّة بعد العام 1926.
لقد احتلّت بيروت مركز الصدارة من بين المدن اللبنانيّة لكي تشكّل العاصمة السياسيّة للبنان الكبير، باعتبارها كانت توفّر شروط البنى التحتيّة، والثقافيّة، والعلاقات الاجتماعيّة، والمكانة الاقتصاديّة كافّة.
لقد كانت مقرّات رئاسة الجمهوريّة فيها منذ اليوم الأوّل، من السراي الصغير حتّى قصر القنطاريّ مع نهاية عهد الرئيس كميل شمعون، حيث عرفت مرحلة الرئيس فؤاد شهاب ولأوّل مرّة انتقالًا للمقرّ الرئاسيّ، باتّجاه مدينة جونيه، تحديدًا في صربا.
وما يهمّ من ذلك القول بأنّ تبدّلًا عرفته مقرّات الرئاسة من السراي الصغير إلى القنطاريّ إلى صربا، فإلى سنّ الفيل فإلى بعبدا. أمّا سبب ذلك فيعود لاعتبارات طائفيّة، وسياسيّة حسب المقرّ الرئاسيّ الأوّل لأنّه يبتعد عن مجال طائفيّ غير مؤكّد الولاء.
واللافت أنّ التقدّم العمرانيّ لمدينة بيروت، وطغيان العامل الرأسماليّ في تحديد شكلها وتطوّرها راح يقضم وجود المقرّات، حيث غاب أكثرها في النسيان، والتدمير ليحلّ محلّه نمط معماريّ جديد يلبّي طموحات الرأسمال، حتّى ولو كانت هذه الطموحات على حساب التراث، وعلى حساب الذاكرة السياسيّة والتاريخيّة للبلد.
ولم تستثنِ الحرب الأهليّة بعض المقرّات لتترك بصماتها عليها، وما رافقها من نهب وسرقة لمحتوياتها، مخلّفة شعارات تدلّ على أنّ الحرب مرّت من هنا، وأنّ ميليشياتها قطنت تلك المساكن، وإن لفترة وجيزة، ناهيك عن تهدّم كلّيّ لبعض المنازل.
ولم يتوقّف الأمر على الأبنية، فإنّ التغيير طال شوارعَ بحالها، أسماء تبدّلت، وأخرى لم تعد تحمل في طيّاتها أيّ ملامح من الزمن الغابر، وكأنّ المدينة العاصمة تغيّر أقنعة، لتدهش الجميع يومًا بعد يوم بقدرتها على التجديد، وإن لم يكن يليق بها في بعض الأحيان.
كلّ هذه التحوّلات تولّد شعور بالحزن والأسى، لا سيّما للذين يملكون حسًّا تاريخيًّا، لكن العزاء يتمثّل ببقاء بعض الأبنية على حالها، والحفاظ عليها، فيشعر المرء بعبق الماضي، واستشعار الأحداث التاريخيّة.
الأبنية التراثيّة تنقرض يومًا بعد يوم في لبنان، تحديدًا في بيروت، حيث في معظم الأوقات لا حسيب ولا رقيب، ولا قانون يحمي ذلك التراث من الاندثار. وعلى الرغم من بعض التحرّكات المطالبة بالحفاظ على التراث، إلا أنّ لا حياة لمن تنادي في حالات كثيرة. تلك الأبنية تشكّل جزءًا من ذاكرة وطن وتراثه وتاريخه، وها هي مهدّدة بالزوال.
المقرّات الرئاسيّة
عرفت مدينة بيروت عددًا من المقرّات الرئاسيّة منذ إعلان الجمهوريّة اللبنانيّة العام 1926، عام إقرار الدستور اللبنانيّ، مع أنّ الدستور خلا من أيّ نصّ يحدّد المركز – المقرّ لرئاسة الجمهوريّة في لبنان، إلاّ أنّ المادّة 26 منه نصّت على أن تكون بيروت مركز الحكومة ومجلس النوّاب. وأبرز هذه المقرّات كانت السراي الصغير، والسراي الكبير، وقصر القنطاريّ، ومجلس النواب.
السراي الصغير
بعد إعلان لبنان الكبير، وعودة الحياة البرلمانيّة إلى لبنان، تألّفت في العام 1922 اللجنة الإداريّة الأوّلى، وكان المقرّ لها غرفة في السرايا الصغيرة في ساحة البرج، التي أضحت لاحقًا ساحة الشهداء. وفي تلك السراي، انعقد المجلس التمثيليّ الأوّل بأعضائه الثلاثين، واستمرّ يلتئم فيها حتّى العام 1934، تاريخ الانتقال إلى ساحة النجمة. وكانت سرايا البرج هذه قد دُشّنت في احتفال رسميّ في 29 كانون الأوّل 1884.
طبقاتها الثلاث خُصّصت كالتالي: العليا لمقام الوالي، والمتصرّفيّة، وبعض الدوائر، الوسطى لسائر الدوائر العدليّة، والتجاريّة وغيرها، أمّا السفليّة فتمّ تخصيصها للشرطة والسجن. وقد عاون مهندس الولاية بشارة أفندي في مَهَمَّته مهندس آخر، من بلدية بيروت يُدعى يوسف أفندي الخيّاط. كانت سرايا البرج، أو السراي الصغير، مقرًّا للسلطة في عهد الولاة الأتراك، ولما تعاقب من مجالس إداريّة، بعد تدشينها. وهي التي اقتيد إلى أقبيتها شهداء 6 أيّار قبل رفعهم على أعواد المشانق[1].
هذه السرايا التي شهدت بعد الأتراك والفرنسيّين، بداءة عهدنا بالاستقلال، لم تعش كثيرًا، إذ تمّ هدمها في 10 أيّار 1950، في حين ارتفعت أصوات مطالبة باستبقائها بناءً أثريًّا.[2] وعلى أنقاضها، أقيم بناء سينما الريفولي، الذي طاله الهدم بدوره على يد شركة سوليدير.
السراي الكبير
السراي الكبير هو المبنى الرابض فوق تلّة من تلال بيروت، يُشرف على وسطها، وأعيد بناؤه في أكبر عمليّة إعمار على مشارف نهاية القرن العشرين.[3] والتلّة ترتفع فوق سور المنجّدين (شارع المصارف اليوم)، في قلب بيروت على مقربة من طلعة الأميركان القريبة من بوّابة “يعقوب”. وأثناء الوجود المصريّ، اعتاد الناس على تسمية هذه الهضبة باسم “التكنات” (الثكنات)، لأنّها كانت المكان الذي اختاره إبراهيم باشا لتُشاد عليه الثكنات العسكريّة لإيواء قوّاته.[4]
ومع استعادة الدولة العثمانيّة سيادتها على البلاد الشاميّة، كان من الطبيعيّ أن تهتمّ السلطات بهذه الهضبة، فأقامت عليها بناءً ليكون مقرًّا لأجهزتها العسكريّة والمدنيّة. فارتفع المبنى الذي أصبح مقرًّا للحكام العثمانيّين، وأطلق عليه أهالي بيروت اسم “القشلة”، وهي كلمة تركيّة من معانيها “الثكنة”، أو مقرّ الجند.[5]
اكتمل بناء الطابق الأرضيّ من “القشلة” العام 1856، وهو طابق سفليّ ذو عقود كان أساسًا لإيواء الخيول. وميّز المبنى من الخارج وجود شرفات “بوائك” هندسيّة تحملها أعمدة من الرخام. واستتبع ذلك توسيعات بين الأعوام 1877 و1899، فأنشئ الطابق الأوّل. في العام 1899 أضيف القرميد على سطح الطابق الأوّل، وهو ما أعطى مبنى السراي الكبير شكله النهائيّ.[6]
لم يقتصر دور “القشلة” على إيواء العسكريّين في تلك الفترة، إذ إنّه ابتداءً من العام 1887، عندما أعلِنت ولاية بيروت، التي امتدّت من اللاذقيّة شمالًا حتّى نابلس جنوبًا، تحوّلت “القشلة” إلى مركز للوالي العثمانيّ. ومنذ ذلك الحين، بدأ اسم “القشلة” يتحوّل تدريجيًّا إلى “سراي الدولة”، ثمَّ أطلق على المبنى اسم “السراي الكبير”، لتمييزه عن “السراي الصغير”، حيث كان قائمًا في الناحية الشماليّة لساحة البرج.[7]
وعندما انهزمت الدولة العثمانيّة في الحرب العالميّة الأوّلى، وانسحبت من بلادنا، أنزِل العلم العثمانيّ عن السراي الكبير صبيحة يوم الأحد في 29 أيلول العام 1918، ليصبح المكان مقرًّا للحاكم الفرنسيّ الذي أعطي لقب المفوّض السامي لحكومة فرنسا في دول الشرق. وبذلك غاب اسم “السراي الكبير” ليحلّ مكانه اسم “المفوضيّة العليا”.
أدخل الفرنسيّون بعض الإضافات على الواجهة الشماليّة للبناء، في العام 1926، واستبدلوا شرفة تحوطها قناطر تعلو المدخل المزخرف بباب قنطرة المدخل الشماليّ الذي نقل إلى المدخل الجنوبيّ. وصارت الشرفة الجديدة بمثابة لوجيا يطلّ منها المفوّض السامي، أو رؤساء الحكومات لإلقاء خطبهم، وكلماتهم أمام المحتفلين، أو المتظاهرين. وفي العهد الفرنسيّ جرت احتفالات في السراي الكبير، منها إعلان الجمهوريّة اللبنانيّة العام 1926، والاحتفالات الرسميّة التي كانت تعقب تأليف الحكومات اللبنانيّة في عهد الانتداب.[8]
ظلّ السراي الكبير المقرّ الرسميّ للحاكم الفرنسيّ (المفوّض السامي) من “غورو” إلى “هللو” حتّى نيسان 1941. ففي هذا التاريخ، تسلّمت الحكومة اللبنانيّة التي كان يرأسها سامي الصلح عددًا من المصالح التي كانت بيد الفرنسييّين، ومنها السراي الكبير.
كان الشيخ بشارة الخوري، أوّل رئيس للجمهوريّة في لبنان في عهد الاستقلال، أوّل من اتّخذ السراي الكبير مقرًّا له قبل أن ينتقل إلى قصر القنطاريّ الذي أصبح مقرًّا لرئاسة الجمهوريّة. فأصبح السراي الكبير بالتالي مركزًا لحكومة رياض الصلح، ومن ثَمَّ للحكومات المتعاقبة. وفي العام 1976، وخلال الحرب اللبنانيّة، انهمرت القذائف على السراي، وشبّت فيه الحرائق، وأتت على معظم أجزائه باستثناء الطابق الأرضيّ، والجدران الخارجيّة. هذا الواقع المرير دفع الحكومة للانتقال في العام 1981 إلى مبنى الصنائع. واستُعمل السراي الكبير جزئيًّا من قِبل وزير الداخليّة.[9]
، قدّم الرئيس رفيق الحريريّ في مسيرة بناء هذه السراي إسهامًا شخصيًّا، أضيف إلى موازنة المشروع الذي سُمّي رسميًّا “تأهيل مبنى السراي الكبير”، بعدما قبلت الحكومة اللبنانيّة بتاريخ 18 – 8 – 1993 الهبة المقدّمة من شركة “أوجيه لبنان”، للقيام بالدراسات والإشراف على التنفيذ.[10] جاء التنفيذ وانتهاء الأعمال في ورشة السراي الكبير منتصف آب 1998 محقّقًا أملًا طال انتظاره عشرين عامًا ونيّف، وهو عودة الحكومة إلى مقرّها التاريخيّ، السراي الكبير العائد بدوره صرحًا متميزًا للمدينة والوطن.[11]
قصر القنطاريّ
القصر الرئاسيّ الأوّل بعد الاستقلال، يقع على زاوية في منطقة القنطاريّ[12]، بين مبنى برج المرّ، ومقرّ تلفزيون المستقبل.[13]
وتعود قصّة القصر إلى المدعو حنا حنينة الذي شيّد بيتًا تقليديًا في العام 1870، على العقار رقم 1761 – المصيطبة، على مساحة إجماليّة تبلغ 3200 مترًا مربعًا. وهذا البيت، الذي تألّف من ثلاث طبقات، يشبه بتصميمه، العديد من المنازل البيروتيّة. من حيث تقسيمه، فقد توزّعت الغرف حول الدار، كذلك الشرفات ذات القناطر من الحجر، مزنّرة بدرابزون من الحديد المشغول. وتحوطه حديقة تتوسّطها بركة مياه ونافورة، ويكلّله القرميد الأحمر. وشاءت الظروف أنّ ساءت أحوال المالك المادّيّة في العام 1929 نتيجة الأزمة الاقتصاديّة العالميّة، فعرض بيته للبيع، فاشتراه منه صهره، زوج ابنته فيكتوريا، الثريّ المعروف درويش يوسف الحدّاد. وبعد وفاة الحدّاد، انتقل البيت بالوراثة إلى ابنته الوحيدة رينيه، زوجة الشيخ فؤاد خليل الخوري، شقيق الرئيس الشيخ بشارة الخوري، الذي استأجر الطبقة الأولى منه لسكن عائلته العام 1936، وتمّ تأجير الطبقة العلويّة إلى طبيب فرنسيّ يُدعى كوتار، ثمّ إلى موظف فرنسيّ كبير اسمه نيدوليه.[14]
بعد استقلال لبنان العام 1943، استأجرت الدولة اللبنانيّة كامل المنزل، بمبلغ 15 ألف ليرة لبنانيّة، وأخليَ المستأجر الذي كان يسكن الطبقة العلويّة، التي تحوّلت إلى سكن الرئيس بشارة الخوري. وهكذا، أصبح القصر بالكامل مقرًا لرئاسة الجمهوريّة، تُعقد فيه جلسات مجلس الوزراء، وتُقام فيه الحفلات الرسميّة، ويُستقبل فيه كبار الشخصيّات العربيّة والأجنبيّة[15].
كما تعرّض القصر لبعض الطلقات الناريّة التي أصابت جدرانه، وهذه الطلقات من بنادق الجنود السنغاليّين الذين أطلقوا النار من ثكنة في جوار القصر بعد أن تظاهر الألوف أمام قصر الرئاسة على أثر نبأ اعتقال الرئيس في راشيا ليل 11 تشرين الثاني 1943.[16] ومن على شرفات هذا القصر كانت إطلالة رجال الاستقلال اللبنانيّ الأوّلى بعد إطلاقهم من قلعة راشيا في 22 تشرين الثاني العام 1943. وهي إطلالة الحرية الأوّلى في التاريخ اللبنانيّ المعاصر.
وعند انتخاب كميل شمعون رئيسًا للجمهوريّة، استأجره من آل خوري طيلة مرحلة ولايته، التي امتدت بين العامين 1952 و1958. أمّا اللواء فؤاد شهاب، الذي خلف شمعون، فضّل الانتقال إلى قصر آخر عند مدخل زوق مكايل في منطقة كسروان. ويروي الشيخ ميشال بشارة الخوري، أنّ رئيس الجمهوريّة فؤاد شهاب اتّصل به وطلب منه استرجاع قصر القنطاريّ نظرًا إلى أنّ ملكيّته تعود إلى عائلة الخوري.[17]
وعاد قصر القنطاريّ إلى مالكيه الأساسيّين، أحفاد درويش الحدّاد، ومنهم السيدة فيكتوريا، زوجة الشيخ ميشال بشارة الخوري، فسكنت الطبقة العلويّة منه مع زوجها وأولادها. وبقي ملكًا لآل الخوري إلى أن اشتراه الرئيس الراحل رفيق الحريريّ العام 1985، وأصبح ملكًا لـ”الشركة العقاريّة نرجس” المملوكة من آل الحريريّ. بقي القصر على حاله حتّى العام 2008 حين قرّر الرئيس سعد الحريريّ تأهيله وإعادة ترميمه ليستعمله مقرًّا لمكتبه الخاصّ. وسلّم المَهَمَّة إلى شركة “أوجيه لبنان”، وأوكل تصميم الديكور، والهندسة الداخليّة إلى المهندس سليم أنصاري.[18]
طاولت “النفضة” هذا البيت الكبير المبني من الحجر الرمليّ والمسقوف بالقرميد الأحمر كلّه، ولا سيّما أنّ الحرب كانت قد تركت أثارها وبصماتها القويّة في أنحائه كلّها، وأثّرت على بنيته الإنشائيّة، ما استلزم أعمال ترميم وإعادة بناء، مع المحافظة على هندسته المعماريّة الأساسيّة وطابعه التراثيّ، مع إدخال تعديلات على الهندسة الداخليّة، بما يتلاءم مع حاجات الاستعمال الجديدة ودواعيها. واستقدِمت أحجار رمليّة من بيوت قديمة مهدّمة في بيروت، لاستخدامها في تلبيس الحيطان، وتمّ تركيب زجاج مضاد للرصاص.
ومن الأحداث الراسخة في تاريخ هذا القصر وفي تاريخ لبنان، حادثتيْ الاغتيال اللتين جرتا على درج مدخل القصر، الأوّلى في عهد بشارة الخوري، حيث اغتيل ضابط في الحرس الجمهوريّ من آل البعينيّ. والثانية في عهد الرئيس كميل شمعون، حين اغتيل النائب والوزير محمّد بك العبود.”[19]
كذلك كان قصر الاستقلال هذا شاهدًا على أحداث العام 1958، فمن غرفة شرفته دافع الرئيس كميل شمعون عن نفسه بجفت الصيد، وهو الصيّاد الماهر، ضدّ الهجوم الذي شنّته عليه عناصر من حركة “المقاومة الشعبيّة” المعارضة. كذلك فإنّ معارك الفنادق والأسواق عامي 1975 و1976 وهي التي عُرفت بمعارك القنطاريّ، لم توفّر هذا القصر. فقد دخل مسلحون إلى القصر واحتجزوا الشيخ ميشال الخوري وهدّدوه بالقتل، وسعى ياسر عرفات شخصيًّا لإخراجه تحت وابل الرصاص، حين كانت منظمة التحرير الفلسطينيّة تسيطر على المنطقة. أمّا موجودات القصر، فضاعت ونُهبت وبينها أوراق الشيخ بشارة، وكتاباته، ومنها مسودّة الجزء الرابع من مذكّراته التي كتبها بخطّ يده. وفي هذا القصر احتفل الشيخ بشارة بعرس ابنه خليل إلى جاكلين ابنة الثري الكبير جورج عريضة، الذي اشترى يخت أدولف هتلر، ولهذه المناسبة تمّ تبليط الحديقة ليتمكن المدعوون من الرقص في أرجائها. وفي العام 1973، عرض الشيخ ميشال، نجل الرئيس الشيخ بشارة الخوري مقتنيات قصر القنطاريّ للبيع في مزاد علنيّ.[20]
لم تكن العاصمة بيروت وحدها مركزًا للمقرّات الرئاسيّة، إذ تعدّى ذلك حدود بيروت الإداريّة إلى صربا، وسن الفيل وبعبدا، إضافة إلى المقرّ الرئاسيّ الصيفيّ في قصر بيت الدين.
المجلس النيابيّ
وفي بيروت أيضًا، تحديدًا في ساحة النجمة، يقبع مقرّ مجلس النواب، الذي صمّمه وأشرف على تنفيذه منذ العام 1933 المهندس المعماريّ الأرمنيّ، من أصل تركيّ، مارديروس ألتونيان. كما صمّم وأشرف على مبنى مكاتب النوّاب الملاصق لمبنى البرلمان المهندس نبيل فوزي عازار، الذي أنهى عمله سنة 1997، وأعاد ساعة العبد[21] إلى مكانها قرب مجلس النوّاب في شهر تمّوز 1996.[22]
بيوت الرؤساء التراثيّة
إنّ ضمّ بيروت لهذه المقرّات الرئاسيّة، لا يقلّ عنها أهمّيّة وجود بيوت تراثيّة قطنها زعماء لبنانيّون تركوا بصمتهم السياسيّة في تاريخ لبنان. وأبرز هؤلاء الرئيس بشارة الخوري، أوّل رئيس للبنان المستقلّ، الذي بعد تنقلات سكنيّة عديدة من سِبْنَيه إلى بيت الدين وصولًا إلى فرن الشباك، استقرّ في بيروت تحديدًا في قصر دو فريج في محلّة الظريف، وذلك بعد زواجه من السيّدة لور شيحا، شقيقة ميشال شيحا، انتقل للسكن في محلّة الظريف، مقابل السفارة البريطانيّة، في قصر مُستأجر من الماركيز دو فريج. وكغيره من العقارات القديمة هُدِم المنزل فيما بعد، ليُقام مكانه بناء آخر.”[23]
بُني قصر دو فريج في العام 1870، لصاحبه السيّد جان دو فريج. صمّمه وأشرف على بنائه مهندس نمساويّ. وهو يقع في شارع أمين بيهم في محلّة الظريف – زقاق البلاط، وهو الشارع الذي كان يُسمّى فيما مضى شارع موريس بارس، مقابل مدرسة مار يوسف الظهور، ومحلاّت يموت للنظّارات حاليًا.[24]
تألّف القصر من طابقين، مساحة الطابق الواحد بلغت 1200 مترًا مربعًا، وعلو السقف سبعة أمتار. كان الطابق الأرضيّ عبارة عن جناحين شكّلا حرف L)). ومن وسط البناء ينطلق درج فخم مزدوج ينتهي في مدخل كلّ من الجناحين. فقرع الجرس في الجهة اليُمنى يعني الوصول إلى بيت ميشال شيحا، أمّا قرع جرس في الجهة اليسرى، فيعني الوصول إلى بيت الرئيس بشارة الخوري.[25]
انتقلت ملكيّة القصر، من جان إلى ابنه موسى دو فريج، الذي أورثه لبناته الثلاث. لاحقًا، ستتعرّض إحدى حفيدات موسى لحادث سير، الأمر الذي سيدفع العائلة إلى بيع العقار من أجل تغطية نفقات العلاج، وكان ذلك في العام 1958. وما هي إلا سنوات حتّى أفلس المالك الجديد، ما اضطرّه لبيع المنزل الكبير ليلقى مصيرًا يشوّه إرثه التاريخيّ.[26] فالقصر هُدم إبّان الحرب الأهليّة اللبنانيّة، لتُبنى مكانه مدرسة تحت إشراف مجلس الإنماء والإعمار. يتألّف المبنى، الذي حلّ مكان قصر دو فريج، من خمس طبقات زهريّة، ورماديّة اللون، أدّت دورًا في تغيّر معالم المحلّة بشكل واضح حيث سيطر البناء الحديث مكان التراثيّ القديم.[27]
ومن المباني التي أصبحت في طيّ صفحات الماضي، مبنى نوّاف كبّارة، في المزرعة في بيروت مقابل فلافل عكّاوي، وكان قد استأجر إحدى طبقاته حوالي العام 1943 الرئيس صبري حمادة.[28] وتألّف المبنى الزهريّ اللون، من خمس طبقات، أبوابها خضراء، ونوافذها خشبيّة، أمّا الشرفات فكانت دائريّة عند الواجهة، لتصبح مستطيلة عند الجهة الخلفيّة مع أبواب ونوافذ من الألومينيوم. وكان منزل الرئيس صبري حمادة في الطابق الرابع على مساحة قاربت المائتي مترًا مربع[29]، حتّى بداءة الخمسينيّات، وهناك رُزق بأطفاله الخمسة من زوجته الثانية السيّدة زينب أحمد الأسعد.[30]
هُدمت بناية كبارة في العام 2009 ليُشيّد مكانها مبنى جديد باسم “مرجانة بيروت”، وهو عبارة عن شقق سكنيّة، ومحلّات تجاريّة ومكاتب، من تنفيذ “شركة الحاج حسين حطيط وأولاده للبناء والتجارة”، تصميم وإشراف مكتب المهندس محمّد الحصري.[31]
بعد الانتقال من مبنى كبّارة، انتقل الرئيس صبري حمادة للعيش في منطقة الغبيريّ، في منزل بناه على قطعة أرض في مكان بعيد عن الضوضاء، فالمنطقة لم تكن مأهولة بالسكان على غرار اليوم، كما كان للبناء شروط بحيث لا يتعدّى الثلاث أو الأربع طبقات.[32] بُني المبنى، ذو الطبقات الأربع، على مراحل، وكان التأخير ناتج عن جلب الحجارة من صنين، وهي حجارة نادرة، والسبب الثاني هو عدم توفير الأموال اللازمة مع الرئيس، حيث كان يردّد دائمًا على مسامع عائلته: “عليي دَيْن 500 ألف ليرة لبنانيّة.”[33] وفي أثناء الأحداث الدامية التي عصفت بلبنان بَدءًا من العام 1975، تعرّض منزل الرئيس صبري حمادة في الغبيريّ، للمصادرة من قبل الفلسطينيّين أوّلاً (الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين)، ما أدّى إلى قصف المنزل من قبل إسرائيل، فشنّت عليه 14 غارة. وكذلك تعرّض المنزل، للنهب حين اتّخذته القوات السوريّة مقرًّا لها، فضاعت أغراض الرئيس الخاصّة من أوراق، ونياشين، ومذكرّات وكُتب. وفي أوائل التسعينيّات، قامت عائلة الرئيس حمادة ببيع المنزل لآل الخنسا أو لآل فرحات، وقد تمّ هدمه لاحقًا ليُبنى مكانه مبنى على الطراز الحديث. وعندما بيع المنزل، وأخذت كلّ من بناته حصّتها من الميراث، أصبح الناس يتكلّمن عنهن بالسوء، لأنّ العادات حينها كانت تقضي بعدم إعطاء البنات ميراثهنّ. وعلى الرغم من التغيير الهائل الذي شهدته المنطقة، ما زال حتّى اليوم، يُعرف المكان الذي قطنه الرئيس في الغبيريّ باسم “قصر حمادة”.[34]
وفي بيروت أيضًا، قطن الرئيس أحمد الأسعد، ابن بلدة الطيّبة الجنوبيّة، واتّخذ له أكثر من مقر سكنيّ، لكنّ أبرزهم، قصره الذي ابتناه في محلّة الغبيريّ في ضاحية بيروت الجنوبيّة، وذلك في أربعينيّات القرن الماضي. وعُرف هذا المبنى بـ”قصر الصنوبر”، وذلك لكثرة أحراج الصنوبر حوله. بلغت مساحة العقار نحو أربعة دونمات، وتألّف المنزل من ثلاث طبقات. الطبقة الأولى، مؤلّفة من ديوان استقبال، وغرف جلوس للضيوف، إضافة إلى مكان فسيح حوّلته زوجة الرئيس، الستّ فاطمة، إلى حسينيّة أيّام عاشوراء، حيث عُلّقت صور الأئمة الشيعة. والطبقة الثانية، فيها صالونات كبيرة، وغرفة كبيرة للطعام، إضافة إلى غرف منامة للضيوف. والطابق الأخير، خُصّص لسكن الرئيس أحمد الأسعد وعائلته، وتضمّن غرفة خاصّة بزوجة الرئيس وهي عبارة عن مصلّى.”[35]
“في بداءة سبعينيّات القرن العشرين، أجّر الرئيس أحمد الأسعد المنزل ليتحوّل إلى مدرسة، فقُسّمت إلى 32 غرفة، وعُرفت باسم “مدرسة قصر الصنوبر”، واستمرّ العمل فيها حتّى منتصف التسعينيّات. وفي العام 2008، باع نجل الرئيس أحمد الأسعد، الرئيس كامل، المنزل إلى عبد الرؤوف قاروط الذي باعه بدوره. فتمّ هدم القصر ليُبنى مكانه أربعة مباني.
ومن البيوت الأثريّة الجميلة، كان ذلك الذي استأجره الرئيس رياض الصلح في منتصف عقد الثلاثينيّات ومطلع الأربعينيّات، وذلك بعد أن أُخرِج، من مسكنه البيروتيّ في حي الناصرة لعجزه عن دفع الإيجار، وهو قد أصبح الدَين أليفه، بعدما بدّد كلّ ما ملكه في السياسة. أمام هذا الموقف، تلقّاه صديق لهّ من آل مسلّم من زحلة وأسكنه، بشروط ميسّرة، في شقة في مبنى له واقع في شارع عمر بن الخطاب، حي رأس النبع، وهي الشقّة التي بقي فيها مذ ذاك إلى حين وفاته.[36]
والمنزل عبارة عن طابقين، الأوّل سكنه كامل مزهر، فيما كان الطابق الثاني سكن الرئيس الصلح. وهو من الخارج مطليَ باللون الأبيض، مع نوافذ خشبيّة خضراء اللون، أمّا الشرفات من جهة الطريق العامّ، فهي صغيرة ومصنوعة من الحديد. واجهة المبنى في كِلا الطابقين تتألّف من قناطر مرتفعة مع زخرفات في الشرفة العليا.[37] “وتألّف من عشر غرف عبارة عن دار كبيرة وصالونات، وغرفة للطعام، وغرف للنوم مع مكتب خاصّ للرئيس. وفي العام 1961، غادرت عائلة الرئيس المنزل لتسكن في آخر.”[38] فيما بعد، تحوّل المنزل في رأس النبع إلى “ثانوية بيروت”.
رئيس حكومة آخر كان أبرز قاطني العاصمة بيروت، وهو الحاج حسين العوينيّ الذي بنى منزلًا واسعًا مع حديقة كبيرة، تحديدًا في المنطقة المشرفة على الطريق المؤدّي إلى مطار بيروت الدوليّ، وذلك بين عاميْ 1951 و1952. المنزل بُني ثلاث طبقات من الحجر الأبيض دون قرميد يعلو سطحه. تحت القسم الأرضي، خُصِص مكان للسائقين والطبّاخين، إضافة إلى مستودع ومكان خاص بأجهزة التدفئة. أما بين الطابقين الأوّل والثاني، خُصصت مساحة على هيئة مُتخّت لإقامة
الخادمات.”[39]
وقبل وفاة الرئيس حسين العوينيّ، باع المنزل للملك السعوديّ فيصل بن عبد العزيز، الذي أراد تأمين مسكن لعائلته متخوفًا من الظروف السياسيّة التي كانت من الممكن أن تبعده عن بلده. في موازاة ذلك فقد عرض الحاج حسين هذا المنزل على الملك فيصل موضحًا أنّه يقبل بالسعر الذي يحدّده هو. ولكي يثبت أنّه لا يسعى إلى استغلال الفرصة، طلب من مهندس محلّف، يدعى محمود الموصلّي، تقدير قيمة العقار، وقد حصل البيع على أساس الرقم المحدّد من قبل هذا الأخير. وفي رسالة مؤرّخة في 5/ 10/ 1382 هجريّة (أيلول 1963)، أبلغ الملك فيصل إلى الرئيس العوينيّ ما يلي: “لأنّه قد يتعذّر علينا تسديد المبلغ المذكور جملة واحدة، فسوف نقوم إن شاء الله بتسديده لكم على أربعة أقساط في مدى سنتين. فعندما يُدفع لكم آخر قسط من المبلغ، يتمّ عمل الإفراغ، والتسجيل، وغير ذلك من الإجراءات الأخرى.” فاشترى المنزل وسجلّه باسم زوجته الملكة عفّت بعد وفاة العوينيّ، وكان قد دفع المبلغ كاملًا للرئيس لكنّ على دفعات، ولم يتمّ تسجيل المنزل إلا بعد وفاة الرئيس، الذي ذكر في وصيّته ضرورة نقل الملكيّة قبل دفنه، وهكذا كان. فطار أقرباؤه إلى المملكة العربيّة السعوديّة متّجهين إلى الملك الذي رفض استلام المنزل، طالبًا من عائلة الرئيس العوينيّ إقامة مراسيم الدفن، وتقبّل التعازي في القصر حتّى مرور الأربعين. وهذه مبادرة أخلاقيّة من الملك.
كان بيت حسين العوينيّ على طريق المطار المقرّ الرئيسيّ للشخصيّات السياسيّة التي كانت مشاركة في أحداث 1958، وكان ملتقى المسلمين والمسيحيّين على حدّ سواء.
آنذاك، لم يحاول الرئيس كميل شمعون إزعاجهم، أو مهاجمتهم هناك. فأصبح هذا البيت هو المقرّ السياسيّ، ولم يكن فيه أسلحة تُذكر، بالوقت الذي كان منزل صائب سلام مزدوج الاستعمال، منه مقرّ عسكريّ ومنه سياسيّ”.[40]
لقد شاءت سخرية القدر أن تتعرّض الدارة الواقعة على جادّة المطار، والتي كان يعدّها الملك فيصل مكانًا آمنًا قد يلجأ إليه في حال وقوع اضطرابات في المملكة، للاحتلال، والنهب، والتخريب خلال “حرب لبنان”، ولم يكن الأمراء السعوديّون هم الذين لجأوا إلى لبنان، بل بالعكس، فإنّ العديد من اللبنانيّين اضطروا إلى الهجرة هربًا من العنف الذي اجتاح بلادهم.[41]
واليوم، يحلّ مكان قصر العوينيّ أربعة مبانٍ متشابهة، وحديثة الطراز، مبنية من الحجر الأبيض مع شرفات، ونوافذ من الألومينيوم مع قرميد فوق الأسقف، وهي عبارة عن محلّات تجاريّة، ومصرف، وشقق سكنيّة تعود ملكيّتها للبنانيّين.[42]
مبنى تراثيّ آخر لقيَ مصير الهدم، وهو مبنى آل حلوانيّ الواقع مقابل مدخل ميدان سبق الخيل الرئيس. في هذا المكان، قطن الرئيس عبد الله اليافي ورُزق أولاده الخمسة. أمّا في وجهة استعمال المنزل، فالطابق عبارة عن دار كبيرة، صالون خارجيّ، غرفة طعام، ثلاث غرف للنوم، مطبخ، وغرفة لكيّ الملابس وحمّامين”[43].
كان سكن الرئيس تحديدًا في الطابق الثالث والأخير، فيما سكن أصحاب الملك الطابق الأوّل، وآل ثابت الطابق الثاني. ومنزل الرئيس، بلغت مساحته الإجماليّة ما بين 300 و350 مترًا مربعًا. ترك الرئيس منزل آل حلوانيّ لأنّهم أرادوا استرجاعه في العام 1976.”[44] وفي نهاية العام 2011 تمّ هدم المنزل ليحلّ مكانه مبنى حديث[45].
ودائمًا في بيروت، مسقط رأس الرئيس صائب سلام، المولود في دارة عائلته في المصيطبة كان المنزل يومها يعرف ببرج المصيطبة نسبة إلى موقعه المشرف والمطلّ من على هضبة المصيطبة. وكان يحدّ المنزل من الشمال وسط العاصمة بيروت، وحي اللجا من الجنوب، وشارع سليم سلام من الشرق، ومن الغرب شارع مار الياس. وهو يشرف على بيروت، ولا يحول بينه وبين رؤية البحر أيّ بناء حاجز، كما كان يتطلّع من بعيد إلى الجبل الممتدّ في الشرق، ولا يوجد مانع ما، يمنع تمتّعنا بمنظر سفوحه الخضراء نهارًا، وأنوار قراه المتلألئة ليلًا، أو رؤوسه المكسوة بالثلوج شتاء”.[46]
بنيت دار المصيطبة ما بين عاميْ 1853 و1854م. بنى الطابق الأوّل والد الرئيس صائب سلام المرحوم سليم عليّ سلام “أبو عليّ”. وبعد نحو تسع سنوات، بُنيَ الطابق الثالث على طراز الدوبلكس مع الطابقة الثانية.
حجارة الدار بيضاء اللون أنيقة زيّنت جهته الخلفيّة، بينما الواجهة الأماميّة للمنزل طُليت باللون الأبيض لتتناسق مع الحجارة، إضافة إلى نوافذه الزرقاء المصنوعة من خشب الأباجور ليكتمل التناسق. تزيّن القناطر المتعدّدة الأحجام قصر آل سلام مع الخشب الأبيض والزجاج. المدخل الخارجيّ يتألّف من بوابة سوداء عريضة، وفسيفساء، ثمّ درج يؤدّي إلى المدخل الرئيس. واللافت في البناء، بلاطة بيضاء حُفر عليها تاريخ بناء المنزل “1297” والمقصود هجريّ.[47]
أجبر أبو عليّ سلام على بيع البيت بيعًا استرداديًّا، بعد الصعوبات الماليّة التي عرفها مع مشروع تجفيف مستنقعات الحولة. فاشتراه تاجر[48] من أفاضل التجّار السوريّين العصاميّين في بيروت، وقد أتى مع عائلته، وسكن الطابق الأعلى، وكانوا لآل سلام خير الجيران والأصدقاء.[49]
المنزل على طراز يشبه الطراز الإيطاليّ الإفرنسيّ، وهو، مثل الكثير من بيوت بيروت القديمة، في سقوفه المتناهية العلو تحيط بدوائرها نقوش من الجصّ رسمت في زواياها صور من الأزهار الملوّنة. ثمّ في أبهائه الواسعة، ذات الأعمدة الرخاميّة القائمة في أنحائها، وفي قاعات الاستقبال المتعدّدة التي تأخذ القسم الأكبر من مساحته، فتقلّل من عدد غرف النوم فيه. كما تتصدّره واجهات زجاجيّة، بُنيت على شكل قناطر طويلة تنتهي بشرفات ضيقة.[50]
يتألّف الطابق الأرضيّ في دارة المصيطبة من مدخل، وصالون كبير لاستقبال الوفود الشعبيّة، مع ملحقاته (مطبخ + حمام)، مكتب لاستقبال المراجعين، غرفتين للنوم خاصّتين بمرافقي النائب تمّام سلام، وغرفتين للمحاسبين”.[51] وفيما بعد، قام الرئيس تمّام سلام، نجل الرئيس صائب سلام، بتحويل الطابق الأرضيّ إلى صالونات لاستقبال الضيوف، وهو مبنيّ على هيئة عقد. وحاليًا يسكن الرئيس تمّام سلام مع عائلته.[52] “يتشابه المنزل بطابقيه الأوّل والثاني مع اختلاف بسيط في التصميم. كلّ طابق مؤلّف من 12 غرفة موزّعة بين ثلاثة صالونات مفتوحة على بعضها البعض، غرفة للطعام، ستّ غرف للنوم، حيث تمّ تحويل بعضها إلى مكاتب، أو ما شابه، إضافة إلى غرفة للكيّ والغسيل مع منتفعاتهما. أمّا الطبقة الثانية من دار آل سلام، حلّ فيها صائب بك مكان شقيقيه، اللذين انتقلا، ليسكن واحد منهما في المنزل القديم الذي استأجره الرئيس سلام في شارع السادات، أمّا الثاني فانتقل لكنّه بقي في المصيطبة.[53]
مقرّ آخر يعدّ من تحف بيروت التراثيّة، ومازال يزيّنها حتّى يومنا هذا، وهو قصر آل الداعوق، الواقع في ميناء الحصن، تحديدًا في شارع عمر الداعوق، المسكن الوحيد الذي اختاره الرئيس أحمد الداعوق لقضاء سنين حياته المليئة بالأحداث السياسيّة والاجتماعيّة”.[54]
أوّل ما يلفت نظرك عندما تلتفت إلى منزل الرئيس أحمد الداعوق هو لونه الأحمر المائل إلى اللون القرميديّ مع نوافذ خشبيّة يتناسب لونها مع لون القصر. القصر ذو اللون المميّز يتألّف من ثلاث طبقات تتراوح مساحة الواحدة منها نحو 500 مترًا مربعًا. وكلّ طبقة تتألّف من دار، غرفة للطعام، صالون وأربع غرف للمنامة مع مطبخ وحمامات، إضافة إلى شرفات تزيّن كلّ واحدة منها ثلاث قناطر مع درابزين مزخرف بالرسوم.
المنزل المبنيّ على الطراز القديم، يتميّز بزخرفات بلون البيج حول نوافذه، وعلى واجهته، وفوق سطحه. القناطر زيّنت واجهة طبقاته الثلاث، أمّا نوافذه فتعدّدت أشكالها وأحجامها، فمنها المصنوع من الأباجور ذي اللون الأحمر الداكن، والبعض الآخر من الحديد المزخرف والزجاج.
قبل الدخول إلى قصر الداعوق، الذي يسكنه كلّ من أبناء الرئيس عصام ونهاد إضافة إلى قريب العائلة خالد الداعوق، ينتصب عمودان مزخرفان يشكّلان مدخل القصر، من بعدها يأتي درج متوسّط الطول ليتمّ الوصول إلى المدخل الرئيس، كما تقع على الجهة اليُمنى حديقة متوسّطة الحجم غُرست بأنواع عدّة من الأشجار، لكنّ الأكثر جذبًا لعين الناظر، هما الشجرتان اللتان تفوقا الطوابق الثلاثة طولًا.[55]
وتجدر الإشارة إلى أنّ قصر آل الداعوق يقع في محيط فندق فينيسيا، وفندق هوليداي إن، وقصر جنبلاط، واتّحاد المصارف العربيّة. كما الشارع الذي يضمّ القصر يتميّز بوجود بعض المنازل التراثيّة المتبقّية التي تعانق بوجودها الأبنية الحديثة البناء والشاهقة الارتفاع.[56]
بيروت اليوم تختلف عن بيروت الأمس، لا سيّما على الصعيد العمرانيّ، إذ إنّ التغيير هائل، ولا يليق بمعظم الأوقات بعراقة هذه المدينة، وجلّ ما نملكه هو الأمل والرجاء للمحافظة على أبنيتها التراثيّة، وبيوتها التي لها قيمتين: معنويّة وماديّة، وتشريع قوانين تتعلّق بهذا الشأن، لأنّ عمران المدينة شكّل جزءًا من ذاكرة وتاريخ بيروت، ويتوجّب علينا عدم إهماله وتدميره، لأنّ بفقدانه، نفقد هُويّتنا وتاريخنا، وبالتالي أنفسنا.
الهوامش:
[1] محسن أ يميّن: لبنان الصورة ذاكرة قرن في خمسين الاستقلال، جرّوس برس، المطبعة العربيّة، بيروت، لبنان، 27 كانون الثاني 1994، ص. 89، 90.
[2] محسن أ يمّين: لبنان الصورة…، مرجع سابق، ص. 90.
[3] عبد الباسط الأنسيّ والشيخ طه الوليّ وحسّان حلاّق: السراي الكبير قصّة تاريخ وحضارة عزم وإدارة فنّ وعمارة، المعلومات المعماريّة: نزيه الحريريّ، النصّ والصور: أيمن تراويّ، مؤسسة الحريريّ، ص. 5.
[4] المرجع السابق، ص. 9.
[5] المرجع السابق، ص. 11.
[6] المرجع السابق، ص. 13.
[7] المرجع السابق، ص. 15.
[8] المرجع السابق، ص. 23.
[9] المرجع السابق، ص.25.
[10] المرجع السابق، ص. 31.
[11] المرجع السابق، ص.111.
[12] “القنطاريّ” شارع حمل اسم أقدم عائلة سكنته، وهي عائلة درزيّة من آل القنطار، جاءت إلى المنطقة من جبل لبنان، وسرعان ما سُميت المنطقة “مزرعة القنطاريّ”، لتصبح لاحقًا مع تكاثر السكان فيها “حي القنطاريّ”.
[13] جريدة السفير، 18 آب 2009.
[14] جريدة النهار، 14 أيّار 2010.
[15] نقولا ناصيف: جمهوريّة فؤاد شهاب، مقدّمة فؤاد بطرس، الطبعة الأولى، دار النهار للنشر ومؤسّسة فؤاد شهاب، بيروت، لبنان، تشرين الثاني 2008، ص. 249.
[16]بشارة الخوري: حقائق لبنانيّة، جزء 2، طبعة ثانية، الدار اللبنانيّة للنشر الجامعيّ، بيروت، 1983، ص. 58.
[17] نقولا ناصيف: جمهوريّة فؤاد شهاب، مرجع سابق، ص. 249.
[18] جريدة النهار، 14 أيّار 2010.
[19] السيّد حبيب لطَيف، ابن شقيقة الرئيس بشارة الخوري، مقابلة أجريت بتاريخ 26 أيّار 2010.
[20] جريدة النهار، 14 أيّار 2010.
[21] ساعة العبد: هي هدية قدمها المغترب اللبنانيّ ميشال العبد. نقلت من ساحة النجمة إلى طريق النهر بسبب الحرب في أوائل 1975 وأعيدت إلى مكانها سنة 1996.
[22] دولة رئيس مجلس النوّاب، يصدرها المركز العربيّ للمعلومات بالتعاون مع جريدة السفير، العدد 76، حزيران 2009، ص. 12.
[23] حبيب لطًيف، مصدر سابق.
[24] عمل مبدانيّ.
[25] شارل حلو: حياة في ذكريات، الطبعة الثانية، دار النهار للنشر، بيروت، 1995، ص. 64.
[26] السيّدة ميشال دو فريج، ابنة موسى دو فريج وشقيقة نائب بيروت نبيل دو فريج، مقابلة أجريت في أيّار 2011.
[27] عمل ميدانيّ.
[28] ميشال دو فريج، المصدر السابق.
[29] مقابلة أجريت مع السيّدة نجاح طاهر، ابنة الرئيس صبري حمادة في 17 تموز 2010.
[30] نجاح طاهر، مصدر سابق.
[31] عمل مبدانيّ.
[32] نجاح طاهر، مصدر سابق.
[33] نجاح طاهر، مصدر سابق.
[34] مقابلة أجريت مع الدكتورة نجلاء حمادة، ابنة الرئيس صبري حمادة، بتاريخ 20 نيسان و11 أيّار 2010.
[35] د. نجلاء حمادة، المصدر السابق.
[36] أحمد بيضون: رياض الصلح في زمانه، الطبعة الأولى، دار النهار للنشر، بيروت، 2011، ص. 484.
[37] عمل مبدانيّ.
[38] السيّدة بهيجة الصلح، كريمة الرئيس رياض الصلح، مقابلة هاتفيّة أجريت بتاريخ 4 نيسان 2011.
[39] مقابلة مع السيدة ندى العوينيّ، ابنة الرئيس حسين العوينيّ، في 5 كانون الثاني 2011.
[40] روجيه جهشان: حسين العوينيّ خمسون عاماً من تاريخ لبنان والشرق الأوسط (1920 ـ 1970)، تعريب: جورج أبي صالح، دار ملف العالم العربيّ، بيروت، 2000، ص. 349.
[41] المرجع سابق، ص. 415.
[42] عمل مبدانيّ.
[43] مقابلة مع الدكتورة غادة اليافي، إبنة الرئيس عبد الله اليافي، في 8 حزيران 2010.
[44] د. غادة اليافي، المصدر السابق.
[45] عمل مبدانيّ.
[46] عنبرة سلام الخالديّ: جولة في الذكريات بين لبنان وفلسطين، طبعة ثانية، دار النهار للنشر، شباط 1997، ص.24 – 25.
[47] عمل مبدانيّ.
[48] وتُروى حادثة طريفة وهي: إنّ هذا التاجر حينما جاء يافعًا إلى العمل في بيروت، واتّخذ له بسطة لبضائعه في سوق سرسق، أحضر معه والدته واستأجر لها بيتًا ذا غرفة واحدة في ناحية متواضعة من المصيطبة، ويظهر أنّها التفتت إلى ابنها معاتبة:” ألم تجد لي خيرًا من هذا المسكن؟” فأجابها بألم وحدة:” وماذا تريدين؟” هل أستأجر لك بيت أبي عليّ سلام؟” ومرّت الأيّام وازدهرت أشغال الفتى حتّى أصبح رجلًا ثريًّا تمكّن من شراء بيت أبي عليّ سلام وإسكان أمّه فيه. راجع عنبرة سلام الخالديّ: جولة في الذكريات…، مرجع سابق، ص. 133.
[49] المرجع السابق، ص. 132، 133.
[50] عنبرة سلام الخالديّ: جولة في الذكريات…، مرجع سابق، ص. 25.
[51] مقابلة أجريت مع السيّد عصام بيضون، موظف في دارة آل سلام، بتاريخ 22 آذار 2010.
[52] مقابلة أجريت مع الرئيس تمّام سلام، نجل الرئيس صائب سلام، بتاريخ 25 شباط 2010.
[53] عنبرة سلام الخالديّ: جولة في الذكريات…، مرجع سابق، ص. 25.
[54] خالد الداعوق، نسيب الرئيس أحمد الداعوق، مقابلة أجريت بتاريخ 12 تموز 2011.
[55] عمل مبدانيّ.
[56] عمل مبدانيّ.