الأسلوبيّة مبادئ واتّجاهات
د. سهام عليّ طالب*
تمهيد
عرف النقد الغربيّ المعاصر، في مسيرته المعرفيّة النظريّة والتطبيقيّة، مراحل أساسيّة عدّة، يمكن حصرها في: مرحلة المرجع مع التيّار الواقعي، ومرحلة التماثل مع البنيويّة التكوينية، ومرحلة البنية مع التيّار البنيويّ اللسانيّ والشكلانيّة الروسيّة، ومرحلة العلامة مع التيّار السيميوطيقي، ومرحلة التفكيك مع التيّار التفكيكيّ، ومرحلة التأويل مع التيّار الهرمينوطيقيّ والتيّار الفينومونولوجيّ، ومرحلة الأسلوب مع الأسلوبيّة والبلاغة الجديدة. ولم تظهر الأسلوبيّة إلا في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين لوصف الأسلوب في مختلف تجلّياته الصوتيّة، والإيقاعيّة، والصرفيّة، والتركيبيّة، والدلاليّة، والبلاغيّة، والتداوليّة؛ مع تبيان مكوّناته الثابتة، واستكشاف سماته النوعيّة، واستجلاء فنّيّاته وجماليّاته المتعدّدة والمتنوعة. وذلك كلّه في علاقة بالمتلقّي، أو المستقبِل من جهة، ومراعاة المقصديّة من جهة ثانية. ومن باب العلم، فقد قامت الأسلوبيّة على أنقاض البلاغة التقليديّة المعياريّة والتعليميّة التي بقيت – لأمد طويل – حبيسة الصور البيانيّة، والمحسّنات البديعيّة، وعلم المعاني.
ومن هنا، فإنّ الأسلوبيّة تصوّر نقديّ، وأدبيّ جديد، استفادت كثيرًا من اللسانيّات، والشكلانيّة الروسيّة، والشعريّة، والبلاغة الجديدة، ونظريّات الحجاج المعاصرة، والنقد الجديد، والتداوليّات، والسيميائيّات.
إذاً، ما الأسلوبيّة؟ وما تاريخها؟ وما اتّجاهاتها خطواتها المنهجيّة؟ ومن هم روّادها في العالميّن: الغربيّ والعربيّ؟ وما هي أهمّ الانتقادات التي يمكن توجيهها إلى الأسلوبيّة؟
- مفهوم الأسلوبيّة بين القديم والحديث
تباينت التعريفات الخاصّة بمفهوم الأسلوبيّة من حيث المصطلح بين القديم والحديث.
مصطلح الأسلوب في المعجم العربيّ يعني: السطر من النخيل، وكلّ طريق ممتدّ، والأسلوب هو الطريق والمذهب، والجمع أساليب[1].
وقد استخدم علماء العربيّة هذا اللفظ في دلالات اصطلاحيّة متعدّدة، فقد ذكر ابن قتيبة مصطلح الأسلوب في قوله: “إنّما يعرف فضل القرآن من كثر نظره واتّسع علمه، وفهم مذاهب العرب، وافتنانها في الأساليب”.
كما ذكره الخطابيّ في معرض حديثه عن إعجاز القرآن “وهنا نوع من الموازنة وهو أن يجري أحد الشاعرين في أسلوب من أساليب الكلام وواد من أوديته، ويقول الباقلانيّ في حديثه عن الإعجاز أيضًا: “وقد بيّنا في الجملة مباينة أسلوب نظم القرآن جميع الأساليب، ومزيّته عليها في النظم والترتيب”[2].
الذي يظهر من سياق كلامهم أنّهم لا يستخدمون مصطلح الأسلوب بالمعنى المستخدم الآن، وإنّما يعنون به الطريقة الخاصّة في النظم، والسمة المميّزة لكلام عن كلام آخر، وهذا يفيدنا أنّ أصل اللفظ وشيء من المعنى كان موجودًا عند علمائنا الأوائل قديمًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أستاذ مساعد، الجامعة اللبنانيّة، كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، الفرع الرابع، قسم اللغة العربيّة وآدابها.
في النظم والسمة المميزة لكلام عن كلام آخر وهذا يفيدنا أن أصل اللفظ وشيء من المعنى كان موجودا عند علمائنا الأوائل قديما.
وقد تطرق عبد القاهر الجرجانيّ للأسلوب فقال في تعريفه: فقال هو”الضرب من النظم والطريق فيه”[3] كما تعرّض له الحازم القرطاجنّيّ وابن خلدون، وهذا كلّه يؤكّد وجود أصل هذا المصطلح قديمًا.
أمّا عن الأسلوب عند الأوروبيّين قديمًا فقد كان من عهد أرسطو، ومن بعده وكانت تستخدم أصلاً للقلم والريشة، ثمّ استخدمت لفنّ النحت العمارة، ثمّ دخلت في مجال الدراسات الأدبيّة, حيث صارت تعني أي طريق خاصّ لاستعمال اللغة بحيث تكون هذه الطريقة صفة مميّزة للكاتب، أو الخطيب[4].
أمّا تعريفات الأسلوب في العصر الحديث فتعدّدت بتعدّد الاعتبارات، وهي على النحو الآتي[5]:
- باعتبار المرسل أو المخاطِب: هو التعبير الكاشف لنمط التفكير عند صاحبه، ولذلك قالوا الأسلوب هو الرجل.
- باعتبار المتلقّي والمخاطب: هو سمات النصّ التي تترك أثرها على المتلقّي أيًّا كان هذا الأثر.
- باعتبار الخطاب: هو مجموعة الظواهر اللغويّة المختارة الموظفة المشكلة عدولاً, وما يتّصل به من إيحاءات ودلالات.
أمّا عن الأسلوبيّة في العصر الحديث: فهي كما يقول مؤسّسها الأوّل شارل بالي: علم يعنى بدراسة وقائع التعبير في اللغة المشحونة بالعاطفة المعبّرة عن الحساسيّة.[6]
ويقول عبد السلام المسديّ عن هذا المصطلح أنّه مركب من جذر “أسلوب” ولاحقته “ـته” فالأسلوب ذو مدلول إنسانيّ ذاتيّ، واللاحقة تختصّ بالبعد العلمانيّ العقليّ الموضوعيّ[7].
وعرفها جاكبسون[8]: بأنّها بحث عمّا يتميّز به الكلام الفنّيّ عن بقيّة مستويات الخطاب أوّلاً عن سائر أصناف الفنون الإنسانيّة ثانيًّا[9].
وقد حاول أحد الباحثين أن يجمع هذه التعريفات في تعريف واحد فقال: هي جملة الصيغ اللغويّة التي تعمل على إثراء القول وتكثيف الخطاب، وما يستتبع ذلك من بسط لذات المتكلّم، وبيان التأثير على السامع.
ومن هنا يتّضح لنا الفرق بين الأسلوب والأسلوبيّة (علم الأسلوب) وهي كما يلي[10]:
- الأسلوب وصف للكلام، أمّا الأسلوبيّة فإنّها علم له أسّس وقواعد ومجال.
- الأسلوب إنزال للقيمة التأثريّة منزلة خاصّة في السياق، أم الأسلوبيّة فهي الكشف عن هذه القيمة التأثّريّة من ناحية جماليّة، ونفسيّة وعاطفيّة.
- الأسلوب هو التعبير اللسانيّ والأسلوبيّة دراسة التعبير اللسانيّ.
ملحوظة: من العلماء من قال بأنّ مصطلح “علم الأسلوب” مرادف للأسلوبيّة، ومنهم من فرّق فقال بأنّ علم الأسلوب يقف عند تحليل النصّ بناء على مستويات التحليل وصولاً إلى علم بأساليبه.
أمّا الأسلوبيّة فهي تتجاوز النصّ المحلّل المعلومة أساليبه إلى نقد تلك الأساليب بناء على منهج من مناهج النقد المعروفة[11]، ولكن الذي يظهر أنّ الفرق بينهما ضئيل جدًّا وأنّهما يلتقيان في كثير من الجوانب.
نشأة الأسلوبيّة
كانت البداية للأسلوبيّة قديمًا عند العالم السويسريّ فرديناند دي سوسير[12]، الذي أسّس علم اللغة الحديث، وفتح المجال أمام أحد تلاميذه ليؤسّس هذا المنهج، وهو شارل بالي[13] 1865 – 19477م فوضع علم الأسلوبيّة كجزء من المدرسة الألسنيّة، وأصبحت الأسلوبيّة هي الأداة الجامعة بين علم اللغة والأدب[14]، وبذلك فقد ارتبطت نشأة الأسلوبيّة من الناحية التاريخيّة ارتباطًا واضحًا بنشأة علوم اللغة الحديثة.
كادت الأسلوبيّة أن تتلاشى لأنّ الذين تبنّوا وصايا بالي في التحليل الأسلوبيّ سرعان ما نبذوا العلمانيّة الإنسانيّة ووظفوا العمل الأسلوبيّ بشحنات التيّار الوضعيّ فقتلوا وليد بالي في مهده، ومن أبرز هؤلاء في المدرسة الفرنسيّة ج. ماروزو[15]، ولكن الحياة عادت إلى الأسلوبيّة بعد عام 1960م حيث انعقدت ندوة عالميّة بجامعة آنديانا بأمريكا عن(الأسلوب) ألقى فيها ر. جاكبسون محاضرته حول الألسنيّة والإنشائيّة فبشّر يومها بسلامة بناء الجسر الواصل بين الألسنيّة والأدب[16].
وازداد الألسنيّون اطمئنانًا في سنة 1965م إلى ثراء البحوث الألسنيّة واقتناعًا بمستقبل حصيلتها الموضوعيّة عندما أصدر ت.تودوروف أعمال الشكليّين الروسيّين مترجمة إلى الفرنسيّة[17].
- مبادئ الأسلوبيّة
- الاختيّار
وهو من أهمّ مبادئ علم الأسلوب لأنّه يقوم عليه تحليل الأسلوب عند المبدع، ويقصد بها العمليّة التي يقوم بها المبدع عندما يستخدم لفظة من بين العديد من البدائل الموجودة في معجمه فاستخدام هذه اللفظة من بين سائر الألفاظ هو ما يسمى “اختيّار”، وقد يسمّى “استبدال” أي إنّه استبدل بالكلمة القريبة منه غيرها لمناسبتها للمقام والموقف[18].
ويتّصل بهذا المبدأ شيء آخر هو ما يسمّى بـ”محور التوزيع” أو “العلاقات الركنيّة”، ويقصد بها تنظيم، وتوزيع الألفاظ المختارة وفق قوانين اللغة، وما تسمح به من تصرّف، وهذه العمليّة هي التي يسمّيها جاكبسون: إسقاط محور الاختيار على محور التوزيع.[19]
- العدول
ويسمّى “الانزياح”، أو “الانحراف” كما سمّاه ابن جنّيّ قديمًا، أو كما سمّاه جاكبسون “خيبة الانتظار”[20]، ولهذا المبدأ أهمّيّة خاصّة في علم الأسلوب حتّى سمّاه بعضهم “علم الانحرافات”[21].
وهذا المبدأ ينطلق من تصنيف اللغة إلى نوعين:[22]
- لغة مثاليّة معياريّة نمطيّة متعارف عليها.
- ولغة إبداعيّة مخالفة للنمط المعياريّ السابق.
فالعدول هو: مخالفة النمط المعيار المتعارف عليه إلى أسلوب جديد غير مألوف عن طريق استغلال إمكانات اللغة وطاقاتها الكامنة.
ويتّضح في هذا التعبير شرط يضبط هذا العدول حتّى لا يخرج عن الحدّ المقبول وهو أن يكون العدول في حدود ما تسمح به قواعد اللغة، وكذلك يجب أن يكون هذا العدول ذا فائدة فليس العدول غاية في ذاته إنّما المقصود منه إثارة السامع وحفّزه على التقبل[23].
ج – اتّجاهات الأسلوبيّة ومناهجها
– الأسلوبيّة التعبيريّة
ويقصد بها طاقة الكلام الذي يحمل عواطف المتكلّم وأحاسيسه حيث إنّ المتكلّم يحاول أن يشحن كلماته بكمّ كبير من الدلالات التي يظهر أثرها على المتلقّي، وهي ظاهرة تكثيف الدوالّ خدمة للمدلولات كما يسمّيها البعض، ويعدّ بالي رائدًا لهذا الاتّجاه[24].
– الأسلوبيّة البنائيّة
وهي امتداد لآراء سوسير في التفريق بين “اللغة”، و”الكلام” كما تعدّ امتدادًا لمذهب بالي في الأسلوبيّة التعبيريّة الوصفيّة، وفقد طور البنائيّون في بعض الجوانب، وتلافوا بعض جوانب النقص عند سابقيهم حيث عايشوا الحركة الأدبيّة[25]، وهنا يكون التحليل الأسلوبيّ خاضعًا لتفسير العمل الفنّيّ باعتباره كائنًا عضويًّا شعوريًّا[26].
– الأسلوبيّة الإحصائيّة
وهذا الاتّجاه يعنى بالكمّ، وإحصاء الظواهر اللغويّة في النصّ، ويبني أحكامه بناء على نتائج هذا الإحصاء. ولكنّ هذا الاتّجاه إذا تفرّد فإنّه لا يفي الجانب الأدبيّ حقّه لأنّه لا يستطيع وصف الطابع الخاصّ، والتفرّد في العمل الأدبيّ، وإنّما يحسن هذا الاتّجاه إذا كان مكمّلاً للمناهج الأسلوبيّة الأخرى[27].
ويبقى أنّ المنهج الإحصائيّ أسهل طريق لمن يتحرّى الدقّة العلميّة، ويتحاشى الذاتيّة في النقد[28]، فيجب أن يستخدم هذا المنهج كوسيلة للإثبات، والاستدلال على موضوعيّة الناقد أي بعد أن نتعامل مع النصّ بالمناهج الأخرى التي تبرز جوانب التميّز في النصّ.
– منهج الدائرة الفيلوجيّة
وهو منهج يقوم بدراسة العمل الأدبيّ على ثلاث مراحل هي:
الأولى: أن يقرأ الناقد النصّ مرّة بعد مرّة حتّى يعثر على سمة معيّنة في الأسلوب تتكرّر بصفة مستمرّة.
الثانية: يحاول الناقد أن يكتشف الخاصّيّة السيكلوجيّة التي تفسّر هذه السمة.
الثالثة: يعود مرّة أخرى إلى النصّ لينقّب عن مظاهر أخرى لبعض الخصائص العقليّة.
فهذه المراحل الثلاث تشكّل في هيئتها الدوران حول النصّ مرّة بعد مرّة ويعدّ سبتزر[29] أوّل من طبّق هذا المنهج على أعمال ديدرو ورواية شارل لويس[30].
– أسلوبيّة الانزياح
وهي تقوم على مبدأ انزياح اللغة الأسلوبيّة عن اللغة العاديّة، ويعرّف الأسلوب على أنّه انزياح عن المعيار المتعارف عليه، فهم يعتقدون أنّ الأسلوب الجيّد هو الذي ينحرف عن اللغة الأصليّة، وطريقتها الاعتياديّة على اختلافهم في مدى هذا الانحراف، والانزياح فمنهم من يدعو إلى الخروج عن كلّ قواعد اللغة، وهذا ما طبّقه أهل الحداثة في أدبهم، والمعتدل منهم يقول: إنّ الانزياح يكون في حدود قواعد اللغة حيث يكون الإبداع بسلوك طرق جديدة غفل عنها الآخرون، لكنّها لا تخالف قواعد اللغة أي النحو.[31]، ويسمّيها كوهمين “الانتهاك” حيث إنّ المبدع يعتمد في إبداعه على اختراق المستوى المثاليّ في اللغة وانتهاكه.[32]
– الأسلوبيّة الأدبيّة
وهي تعنى بدراسة الأسلوب الأدبيّ بجانبيه الشكليّ، والمضمونيّ، ويسعى أصحاب هذا الاتّجاه إلى اكتشاف الوظيفة الفنّيّة للغة النصّ الأدبيّ، وذلك عن طريق التكامل بين الجانب الأدبيّ الجماليّ الذي يهتمّ به الناقد، والجانب الوصفيّ اللغويّ اللسانيّ. وهذا هو الذي يميّز هذا الاتّجاه عن الاتّجاه اللغويّ الذي لا يهتمّ بالمعنى، وإنّما بالشكل والصياغة[33].
- الأسلوبيّة التأثريّة
وينصبّ اهتمام هذا الاتّجاه على المتلقّي، وقياس تأثيرات النصّ عليه من خلال استجابته، وردود فعله، حيث إنّ المتلقّي له الحقّ في توسيع دلالات النصّ من خلال تجربته هو.[34]
د – الأسلوبيّة والبلاغة
هناك أوجه اتّفاق كثيرة بين علم الأسلوب، وعلم البلاغة كما توجد أوجه اختلاف، ولعلّ الوقوف على هذه الفروق يوضح لنا ويجلي مدى العلاقة، والاتّصال بين علم الأسلوب والبلاغة. فأمّا أوجه الاتّفاق فهي كما يأتي[35]:
- إنّ كلاًّ منهما نشأ منبثقًا من علم اللغة وارتبط به.
- إنّ مجالهما واحد وهو اللغة والأدب.
- علم الأسلوب استفاد كثيرًا من مباحث البلاغة مثل علم المعاني، والمجاز، والبديع، وما يتّصل بالموازنات بين الشعراء وأساليبهم الفرديّة.
- كما أنّهما يلتقيان في أهمّ مبدأين في الأسلوبيّة هما: العدول والاختيار.
- يرى بعض النقّاد أنّ الأسلوبيّة وريثة البلاغة، وهي أصل لها.
- تلتقي الأسلوبيّة مع البلاغة مع نظريّة النظم، حيث لا فصل بين الشكل، والمضمون كما أنّ النصّ لا يتجزّأ.
- البلاغة تقوم على “مراعاة مقتضى الحال”، والأسلوبيّة تعتمد على “الموقف”، وواضح ما بين المصطلحين من تقارب.
أمّا أوجه الاختلاف فهي على النحو الآتي[36]:
- علم البلاغة علم لغويّ قديم، أمّا علم الأسلوب فحديث.
- البلاغة تدرس مسائلها بعيدًا عن الزمن والبيئة، أمّا الأسلوبيّة فإنّها تدرس مسائلها بطريقتين:
- طريقة أفقيّة: أي علاقات الظواهر بعضها ببعض في زمن واحد.
- طريقة رأسيّة: أي تطوّر الظاهرة الواحدة على مرّ العصور.
- عندما تدرس البلاغة قيمة النصّ الفنّيّة فإنّها تحاول أن تكشف مدى نجاح النصّ المدروس في تحقيق القيمة المنشودة، وترمي إلى إيجاد الإبداع بوصاياها التقييميّة.
أمّا الأسلوبيّة فإنّها تعلّل الظاهرة الإبداعيّة بعد إثبات وجودها وإبراز خواصّ النصّ المميّزة له.
- من حيث المادّة المدروسة فالبلاغة توقّفت عند الجملتين كحدّ أقصى في دراستها للنصوص، كما أنّها تنتقي الشواهد الجيّدة وتجزّئها. أمّا الأسلوبيّة فتنظر إلى الوحدة الجزئيّة مرتبطة بالنصّ الكلّيّ، وتحلّل النصّ كاملاً.
- البلاغة غايتها تعليميّة ترتكز على التقويم، أمّا الأسلوبيّة فغايتها التشخيص، والوصف للظواهر الفنّيّة.
وبعد هذه المقارنة بين البلاغة والأسلوبيّة يتّضح لنا أنّه لا تعارض بينهما، وأنّ الأسلوبيّة استفادت من البلاغة كثيرًا، بل إنّ الأسلوبيّة لم تنهض إلاّ على أكتاف البلاغة، ولكنّها تقدّمت عليها في مجال علم اللغة الحديث، ولو أنّ هذا التقدّم لا يصعب على البلاغة أن تحوزه إذا ما استفادت من مبادئ، وإجراءات علم اللغة الحديث، وعلم الأسلوب، والمناهج الألسنيّة عمومًا، بل إنّ البلاغة، وبما تملكه من إمكانات علميّة ثابتة، وقواعد راسخة، وما بذله لها علماء البلاغة قديمًا وحديثا قادرة على خلق نظريّة حديثة متطوّرة تفوق كلّ النظريّات السابقة إذ ما التزمت بأساسها، واستفادت من التطوّر العلميّ الحديث، ويظهر هذا في ما قدّمه عبد القاهر الجرجانيّ للبلاغة من تطوّر بنظريّته المشهورة التي قفزت بالبلاغة إلى درجات لم تصل إليها اللغات الأخرى إلاّ في هذا العصر، فلو وجدت البلاغة من يكمل المسير الذي سار عليه عبد القاهر لما تأخّرت في هذا العصر، وبقيت تحت مرمى سهام الحاقدين على العربيّة وأهلها. وإنّ أيّ علم يتخلّف عن مواكبة تطوّر العلوم، وتقدّمها فإنّه يتقادم، ويذبل أمام بهرجة الحديث، وإغرائه خصوصًا إذا وجد من يتبنّاه من الباحثين، والعلماء المتمكّنين.
ه – تقويم الأسلوبيّة
لا غرو أن يكون لكلّ منهج نقديّ إيجابيّات وسلبيّات، وهذا ينطبق أيضًا على الأسلوبيّة، باعتبارها مقاربة منهجيّة شكليّة وبنيويّة، يمكن استثمارها في دراسة النصّ الأدبيّ قراءة واستكشافًا واستجلاءً. ومن ثَمَّ، فمن إيجابيّات الأسلوبيّة أنّها بلاغة جديدة، تمتح مفاهيمها النظريّة، وتستعير آليّاتها التطبيقيّة، من اللسانيّات، والشعريّة، والتداوليّات، والبلاغة، والنقد الأدبيّ كما تعدّ الأسلوبيّة منهجيّة نقديّة لسانيّة، تتّسم بطابعها الشكليّ والبنيويّ.
ومن ثَمّ، فهي تميل إلى العلميّة الموضوعيّة بشكل من الأشكال. وأهمّ ما تتّسم به الأسلوبيّة بالمقارنة مع المناهج النقديّة الأخرى أنّها تدرس الأسلوب بنية، ودلالة، ووظيفة، وتعنى بأدبيّة النصّ، وتهتمّ بآليّات التجنيس الأدبيّ، وتصف الأساليب اللغويّة والإبداعيّة بتنوّعها. كما تصف الظواهر الأسلوبيّة البارزة، سواء أكانت صوتيّة، أم صرفيّة، أم تركيبيّة، أم دلاليّة، أم تداوليّة. ولا تقتصر الأسلوبيّة في مقاربتها المنهجيّة على الأسلوب فقط، بل تهتمّ بالكاتب، والنصّ، والقارئ على حدّ سواء. ومن هنا، فإنّ الأسلوبيّة هي الوصف اللسانيّ للنصّ الأدبيّ، في ضوء معطيات بنيويّة، ولسانيّة، وشكليّة. أضف إلى ذلك، أنّ الأسلوبيّة، في مسارها التاريخيّ، قد انتقلت من التركيز على المؤلِّف، والمبدع إلى دراسة النصّ الأدبيّ في فرادته واستقلاليّته، وانسجامه، واتّساقه. أي: انتقلت من الذاتيّة (المؤلِّف( إلى الموضوعيّة (النصّ(، ومن الطابع النفسيّ، والتعبيريّ إلى الطابع العلميّ بخصوصيّاته اللسانيّة، والإحصائيّة، والسيميائيّة، والبنيويّة.
بَيْدَ أنّ من أهمّ سلبيّات الأسلوبيّة أنّ موضوعها لم يتحدّد بدقّة، ولم يتوضّح مجالها التخصّصيّ بشكل كافٍ؛ نظرًا إلى تداخل الأسلوبيّة مع مجموعة من المعارف، مثل: اللسانيّات، والبلاغة، والتداوليّات، والشعريّة، والسيميائيّات، والنقد الأدبيّ… ويعني هذا أنّ الأسلوبيّة لم تحدّد بدقّة موضوعها، ومجال اكتمالها، ومنهجيّتها الخاصّة في التعامل مع الظواهر الأسلوبيّة. ويضاف إلى هذا، أنّ المفاهيم التي تشتغل عليها، والمواضيع التي تؤرّقها، هي المواضيع نفسها التي تناولتها العلوم والتخصّصات الأخرى.
وإذا أخذنا، مثلاً، قضيّة الأدبيّة، وتقعيد الأجناس الأدبيّة، وقضيّة الانزياح، والحقيقة والمجاز، والصور البلاغيّة، فهي الاهتمامات نفسها التي اهتمّت بها الشعريّة، والبنيويّة اللسانيّة، والسيميائيّات، والتداوليّات… علاوة على هذا، فالتركيز كثيرًا على الأسلوب لسانيًّا وإحصائيًّا يحوّل الدراسة إلى وثيقة علميّة، وكمّيّة، وشكليّة، تخلو من المتعة الانطباعيّة، وتفتقر إلى الجماليّة الذوقيّة. ومن جهة أخرى، تعطي الأولويّة للأسلوب على حساب الدلالة والمرجع.
مقاربة الأسلوبيّة
أنّ الأسلوبيّة نظريّة وتطبيق، والهدف منها هو البحث عمّا يميّز النصّ أسلوبيًّا، ويخصّصه فنّيّا وجماليًّا. بمعنى أنّ لأسلوبيّة تهتمّ باستكشاف خصائص النصّ الأسلوبيّة، وتبيان طبيعة الأساليب الموظفة في النصّ، وتحديد مكوّنات هذه الأساليب فهمًا، وتفسيرًا، وتأويلاً. أي: ربط الأسلوب بآثاره في المتلقّي نفسيًّا، وفكريًّا، وجماليًّا، مع تحديد رؤية الكاتب إلى العالم في ضوء أسلوبه. ويضاف إلى هذا أنّ المقاربة الأسلوبيّة تسعى إلى دراسة مكوّنات الكلام من: أصوات، ومقاطع، وكلمات، وجمل، وعبارات، وربطها بمجموعة من المقصديات المباكرة وغير المباكرة. كما أنّ الهدف منها هو ربط أسلوب النصّ بالكاتب نفسه طبق مقولة بوفون: “الأسلوب هو الكاتب نفسه”. وفي هذا الصدد، يمكن الاستعانة باللسانيّات، والبلاغة، والشعريّة، والسيميائيّات، والتداوليّات، وجماليّة التلقّي، في مقاربة النصّ الأدبيّ أسلوبيًّا.
ويعني هذا كلّه أنّ النصّ الأدبيّ يمتلك أساليبه الخاصّة، وآليّاته التقنيّة المتميّزة التي تخصّصه عن النصوص الأخرى. ومن ثَمَّ، فهناك حاجة ماسة إلى تبيان تلك الأساليب الموظفة، وتحديد خصوصياتها، واستكشاف جماليّاتها الفنّيّة. علاوة على ذلك، يمكن دراسة المكوّنات الاستبداليّة في النصّ كما يرى ذلك رومان جاكبسون، ولا يقتصر الأمر على دراسة المكوّنات التركيبيّة كما يرى ريفاتير دراسة المكوّنات الدلاليّة والتركيبيّة فقط، بل لا بدّ من دراسة البعد الوجدانيّ الذي يحمله الأسلوب، أو استخلاص الآثار الأسلوبيّة التي يحدثها النصّ في المتلقّي أو القارئ.
وعليه، تعتمد الأسلوبيّة على مجموعة من الخطوات المنهجيّة التي تتمثّل في قراءة النصّ بنية، ودلالة، وسياقًا، مع استكشاف الوظيفة الجماليّة، أو الشعريّة التي تنبني على محوري الاستبدال )الدلالة)، والمجاورة )التركيب، أو النحو(، وجرد العديد من الأساليب التي يوظّفها المبدع، أو الكاتب بنية، وتركيبًا، ودلالة، ومقصديّة، والبحث عن الأساليب الخاصّة التي ميّز الكاتب عن باقي الكتّاب الآخرين، مع الاستعانة باللسانيّات تارة، والإحصاء تارة أخرى، ثمّ وصف النصّ، أو المؤلّف الأدبيّ في كشف خصوصياته الأسلوبيّة، والبحث عن بنياته الاستبدالية والتركيبيّة، وتبيان مختلف وظائفها اللسانيّة والدلاليّة والتداوليّة. كما تتخطى الأسلوبيّة الاستقراء البنيويّ الداخلي للنص أو المؤلف الأدبيّ إلى استكشاف النفس، والحياة، والعالم، والإيديولوجيا. بمعنى أنّ الأسلوبيّة قد تنتقل من الداخل البنيويّ، واللسانيّ إلى الخارج النفسيّ، والاجتماعيّ، ضمن ما يسمّى بالأسلوبيّة السيكولوجيّة، أو الاجتماعيّة.
وعلى العموم، حينما نريد تحليل النصّ أسلوبيًّا نقوم بجرد المعجم اللغويّ، وتحديد حقوله الأسلوبيّة، واستكشاف كلماته الموضوعاتيّة المتواترة عبر عمليّات الإحصاء، ثمّ دراسة أنواع الأساليب المستخدمة )أسلوب شاعريّ – أسلوب سرديّ – أسلوب دراميّ – أسلوب حواريّ – المنولوج – الأسلوب غير المباشر الحرّ – البوليفونيّة – السخريّة – التهجين – التنضيد)، ثمّ تبيان طبيعة اللغة ومستوياتها) الفصحى – الدارجة – اللغة الثالثة – اللهجات الشعبيّة)، وجرد أنواع الصور البلاغيّة ) صورة المشابهة – صورة المجاورة – صورة الرؤيا – صورة العلامة – صورة التآلف – صورة الاختلاف)، مع رصد الانزياحات، والانحرافات الصوتيّة، والصرفيّة، والدلاليّة، والتركيبيّة ،والإيقاعيّة، ثمّ دراسة الوصف بكلّ مكوّناته، وأنواعه، ووظائفه، وبنياته الزمنيّة، والصرفيّة، والنحويّة، والتركيبيّة… وبعد عمليّة التحليل الأسلوبيّ، نصل إلى مرحلة استخلاص النتائج المتعلّقة بخصوصيّات الأسلوب، وفرادته، وأبعاده الدلاليّة والمرجعيّة. أي: نحلل الأسلوب في ضوء محطات ثلاث: البنية، والدلالة، والمقصديّة.
هذا، وقبل ذلك، نوزّع النصّ، أو العمل الأدبيّ إلى فقرات، أو مقاطع، أو متواليات، أو محاور للقراءة، فندرسها بشكل كلّيّ، من خلال التوقّف عند مستويات معيّنة. فحينما ندرس الشعر، مثلاً، نركّز على الصوت، والإيقاع، والتنغيم، فالمقاطع الصرفيّة، ثمّ التركيب النحويّ، والبلاغيّ، والتداوليّ، ثمّ الدلالة المعجميّة، ويمكن التوقّف أيضًا عند عمليّات التلفّظ، والبناء المعماريّ للنصّ، أو العمل. وحينما ندرس السرد، فلا بدّ من الإشارة إلى تعدّد الأساليب السرديّة الموظفة، مثل :الأسلوب المباشر، والأسلوب غير المباشر، والأسلوب غير المباشر الحرّ. وبعد ذلك، ننتقل إلى تحديد طبيعة اللغة، لرصد أنواع سجلاّتها، وتعداد وظائفها.
ويمكن دراسة بنية الزمن ترتيبًا، ومدّة، وتواترًا. ونرصد أيضًا وجهات النظر المتعدّدة في علاقتها بوظائف الراوي، مع تحديد مكوّنات الوصف من خلال التوقّف عند مجموعة من الصور السرديّة.
وعلى مستوى المسرح، ندرس الأساليب المتعدّدة الموظّفة في النصّ، أو العمل الدراميّ، مع تحديد طبيعة اللغة، وذكر أنواع سجلاّتها تنضيدًا، وتهجينًا، وأسلبة، دون أن ننسى عمليّات التلفّظ، والإشارات الإخراجيّة، أو الرشحيّة، والبنية العامليّة، والنظام التواصليّ، وطبيعة التركيب المسرحيّ، والصور البلاغيّة والحجاجيّة…
ويتبيّن لنا من هذا كلّه أنّ الأسلوبيّة هي دراسة كلّيّة من جهة، ودراسة هيرومنطقيّة )الشرح، والتفسير، والتأويل) من جهة أخرى، تبحث عن المعنى. أي: إنّ الأسلوبيّة مقاربة شكليّة، ودلاليّة.
وبصفة عامّة، تستثمر الأسلوبيّة مفاهيم مجموعة من التخصّصات، كمفاهيم اللسانيّات )الصوت – الصرف – المعجم _ التركيب(، ومفاهيم الشعريّة )أدبيّة النصّ – التجنيس)، ومفاهيم التداوليّات) نظريّة أفعال الكلام(، ومفاهيم النصّ الموازي )عتبات الداخل والخارج(، ومفاهيم البلاغة )الصور البلاغيّة، والمحسّنات البديعيّة(….
وفي هذا السياق المنهجيّ، يقول صلاح فضل: “أحسب أنّ أهمّ مجال للدراسة الأسلوبيّة، عندما تنصب على تحليل خواص اللغة الأدبيّة، لا بدّ من أن يتعلّق ببناء شبكة المتخيّل الأدبيّ، عبر تحليل أشكال المجاز، وأنساق الصور، وتكوينهما للبنى التخييليّة المستغرقة للنصوص بأكملها، فمثل هذا التحليل النوعيّ لتَقنيّات التعبير، وتوليدها للأبنية التصوّريّة الكلّيّة للأعمال الأدبيّة، هو الكفيل بتجاوز الخواص الجزئيّة في النصوص الأدبيّة، ومحاولة الإمساك بالطوابع المميّزة لأساليبها الكلّيّة، وعندئذٍ تصبح عمليّات التقاط الظواهر الأسلوبيّة المتعدّدة مجرّد خطوة إجرائيّة، لا تكتمل إلاّ بالتحليل النقديّ الكفيل بالربط بين مستويات التعبير المتعدّدة، وسنرى فيما بعد أنّ الدراسة النصّيّة التداوليّة التي وضعت تصوّرًا كلّيًّا لما يطلق عليه بمكعب البنية النصّيّة، تفسح مجالاً واضحًا للبحوث الأسلوبيّة في نسق التحليل الكلّيّ للنصوص الأدبيّة.”[ 37]. وعليه، تستند المقاربة الأسلوبيّة إلى دراسة النصوص، والخطابات، والأعمال الأدبيّة بالتوقّف عند ثلاث محطّات رئيسة هي: البنية، والدلالة، والمقصديّة، مع استثمار مجموعة من المستويات التحليليّة، كالمستوى الصوتيّ، والإيقاعيّ، والمستوى الصرفيّ، والمستوى التركيبيّ، والمستوى الدلاليّ، والمستوى التداوليّ، والمستوى التناصّيّ، والمستوى المناصّيّ، والمستوى الوصفيّ، والمستوى المعماريّ، والمستوى المرجعيّ…
خلاصة
تبيّن لنا، ممّا سبق ذكره، أنّ الأسلوبيّة قد ظهرت في الثقافة الغربيّة منذ أواخر القرن التاسع عشر، قبل ظهور اللسانيّات بتعدّد مدارسها وفروعها، والهدف من ذلك هو وصف الخصائص الأسلوبيّة داخل الأثر الأدبيّ، أو النصّ الإبداعيّ، باستكشاف مميّزاته الفنّيّة، والجماليّة، وتبيان أثر ذلك في المتلقّي ذهنيًّا، ووجدانيًّا. ومن ثَمَّ، فقد خرجت الأسلوبيّة من معطف البلاغة المعياريّة لتتشابك منهجيًّا مع اللسانيّات، والشعريّة، والتداوليّات، والسيميائيّات… ومن ثَمَّ، فقد مرّت الأسلوبيّة الغربيّة بمراحل أربع:
مرحلة الكاتب، ومرحلة النصّ، ومرحلة القارئ، ومرحلة السياق. في حين، مرّت الأسلوبيّة العربيّة بمجموعة من المراحل المتداخلة، والمتشابكة التي يمكن تحديدها في مرحلة البيان، ومرحلة المعاني، ومرحلة البديع، ومرحلة النظم، ومرحلة المحاكاة والتخييل… ومن هنا، فالأسلوبيّة لا تقتصر على الشكل فقط، بل تتعّداه إلى الفهم، والتفسير الهيرمونيطيقيّ. أي: تجمع بين الشكل والمعنى.
هذ%
التعليقات مغلقة.