مسرح النقد الجديد، أهمّيّة الألسنة في الكشف عن مكنونات السيميائيّة، وتحرّرها من خطاب الأيديولوجيّة للدخول في الإبداع
مسرح النقد الجديد، أهمّيّة الألسنة في الكشف عن مكنونات السيميائيّة،
وتحرّرها من خطاب الأيديولوجيّة للدخول في الإبداع
د. إكرام عليّ قاسم*
ملخّص البحث
يضيء محتوى البحث على النقد الجديد عبر الدراسات اللغويّة الألسنيّة والسيميائيّة، كما أشرنا إلى تحوّل النقد الاجتماعيّ، والنقد النفسيّ إلى نقد سوسيونصّيّ، ونقد سيكونصّيّ حتّى صار النقد الموضوعاتيّ نقدًا سيميائيًّا تأويليًّا.
ومن ثَمَّ عرّفنا بروّاد المنهج الألسنيّ الذي تمّ من خلاله الكشف عن مكنونات السيميائيّة. كما أضأنا على كيفيّة اشتغال الأنساق الدلاليّة وما تحمل من تأويل وتعريفات وتصوّرات تأسيسيّة حتّى شكّلت أنموذجًا للسيميائيّة التي أصبحت حقلًا موسوعًا جديدًا على غرار الحقول المعرفيّة الشموليّة التي عرفها الفكر الإنسانيّ قديمًا، وحديثًا مع علماء لغويّين، وفلاسفة عرب، وأعاجم، ثمّ ذكرنا دور المنطق والرياضيّات إلى جانب الألسنيّة لإنجاز بناء صرح السيميائيّة الحديثة المتحرّرة من الأيديولوجيّة المقيّدة وانطلاقتها في رحاب الإبداع.
المقدّمة
تطوّرت الدراسات اللغويّة في الغرب وشهدت توسّعًا ونضجًا، مع محاضرات “علم اللغة العام” أو الألسنيّة ، والمؤسّس للألسنيّة هو العالم اللغويّ السويسريّ فردينان دو سوسير فكانت الانطلاقة لثورة اللغة الشعريّة في البحث السيميائيّ الذي فرض حضور تيّارات البحث اللسانيّ منذ الستينات حتّى اليوم.
فظهرت المغامرة النقديّة في أوروبا منذ الخمسينيّات حتّى اليوم، بوصفها جواز مرور لأدباء سعوا إلى احتلال مقاعد العصر الأماميّة. لأنّ الهزّة البنيويّة التي أحدثها منعطف الحرب العالميّة الثانية في العقل الغربيّ دفعت طليعي الشعر والرواية والفلسفة إلى مساءلة “فعل” الكتابة ومحاولة تصنيفها وتنظير خصوصيّتها وعلاقاتها بالحقول المعرفيّة الأخرى.
فزمن التحوّلات في العلوم الإنسانيّة حفّز “مغامرين” على تخوم الجديد لفتح نوافذ تتّصل بالنقد وتتجاوز إشكاليّاته في آن، باتجاه أفق الأسئلة حول التاريخ، والسوسيولوجيا، والتحليل النفسيّ، واللسانيّات وصولًا إلى الكشف عن مكنونات السيميائيّة بشقيها القديم، والحديث، فيجرنا هذا إلى تصوّرات عميقة حول العلاقات اللغويّة التي تبيّن نظريّات سيميائيّة في غاية النضج.
I– ماهيّة النقد الجديد والألسنيّة:
إنّ أوّل انعطافات “النقد الجديد” تمثّل ردّ الاعتبار إلى اللغة. فهي ليست بنية جامدة إنّما مخلوق حيّ، له ماهيّة، وخصائص، ومفردات، تتزاوج بطريقة معيّنة.
لأنّ وظيفة الألسنيّة، أداة نطق، في تحليل “الحدث اللغويّ” والتأريخ له، ثمّ ربطه بوقائع اجتماعيّة – أيديولوجيّة من خلاله يتمّ العبور إلى بسيكولوجية العصر والنفاذ إلى طقوسه العاطفية، والفكرية، والدينية.
“فآدم” الألسنيّة هو العالم اللغويّ السويسريّ فردينان دوسوسير (1857 – 1913). بلور قواعد هذا العلم في كتابه “دروس في الألسنيّة العامّة” (صدر عام 1916)، وصاغ تصنيفات شكّلت إطارًا متكاملًا “النقد الجديد” في أوروبا والعالم.
انطلق في مفهوم مفاده أنّ اللغة ليست مجموعًا حسابيًّا للعبارات التي تفوّه بها قسم من الناس – إنّها شيء آخر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
** أستاذة مساعدة في الجامعة اللبنانيّة وأستاذة في ملاك التعليم الثانويّ، لها أبحاث منشورة في مجلاّت عدّة لها مؤلّفات عدّة منها: بناء الفضاء الروائيّ ودلالته في روايات ليلى عسيران، وروض البيان ومنتزه الإنسان.
يرضيهم جميعًا. فكان سوسير سباقًا في الحديث عن بنية اللغة والتمييز بين “اللغة” بوصفها نظامًا اجتماعيًّا و”الكلام بوصفه ممارسة فرديّة، والقدرة اللغويّة عند البشر([1]).
فموضوع البحث اللغويّ بالنسبة إلى سوسير لا يتركز على الاستخدام الفرديّ للغة، بل على النظام العامّ الذي يؤسّسها. فثمّة منهجان لتحليل “الحدث اللغويّ”.
المنهج الوضعيّ، والمنهج التاريخيّ فيطرح:
Linguistique Diachronique, Linguistique synchronique
فالمقاربة الأولى تبحث عن النظام اللغويّ في مرحلة محدّدة، والثانية تعنى بالنظام ذاته عبر التاريخ([2]).
والألسنيّ الدانماركيّ لوي هلمسليف (1899 – 1965) تابع خطّ فردينان دوسوسير، ومن مؤلَّفاته “محاولات ألسنيّة”. انطلق من محاور الكلام الذي هو “كيان علائقيّ قائم على استقلال داخليّ بين عناصره.
كما نسج “طنيير” على منوال سوسير، وحاول صياغة نظريّة عامّة للكلام يعتمد على لغات متعدّدة، استبقى منها ملاحظات تتعلّق بالنحو والتركيب، وتكمن أهمّيّة “طنيير” بوصفه رافدًا من روافد “النقد الجديد” فدعم نظريّته بأمثلة متعدّدة لكي تثبت من صلابتها، ويفصل بين الكلام والمنطق، مُرَكِزًا على تماسك المصطلحات.
وأدّى هذا إلى اعتقاد بعض الباحثين أنّ العالم اللغويّ “طنيير” يتّفق مع الألسنيّ الأميركيّ “نوام شومسكي” بالنسبة إلى بعض تفاصيل تحويليّة وتوليديّة.
ومن الذين أطلقوا ثورة الألسنيّة في النصف الثاني من القرن العشرين العالم “جاكوبسون” وتقع مؤلَّفاته في حدود ثلاثة آلاف صفحة كتبت بأربع لغات تتوزّع على الألسنيّة، والنقد الأدبيّ، وعلم النفس، والتاريخ. كما تميّز مساره بحركة تصاعديّة باتّجاه العلاقة الطبيعيّة بين الأشياء والكلمات. وهذه الديناميّة بالذات، حدّدت موقعه في العلوم السيميائيّة، خصوصًا في معركته ضدّ سوسير كما يحوّلها بدراسته “في البحث عن جوهر اللغة” (1966)([3]).
فالسيمياء بصفتها علمًا شاملًا يدرس كيفيّة اشتغال الأنساق الدلاليّة التي يستعملها الإنسان، التي تطبع وجوده وفكره. لأنّ حياة الإنسان قائمة على الدلالة، إذ في إطارها بنى قيمه الأخلاقيّة، والمعرفيّة، والجماليّة، وبها ومن خلالها طوّر تجربته بشقيها المادّيّ (المدنيّة) وشقّها الفكريّ والروحيّ (الثقافة).
ولقد كان همّ الإنسان ولا يزال هو أن يعطي دلالات لنفسه ولسلوكه وللعالم من حوله، وأن يتواصل مع الآخر بتلك الدلالات ومن خلالها، مستنفرًا لذلك طاقاته التعبيرية، والتفسيرية، والتأويليّة من جهة، وساعيًا من جهة أخرى إلى تأمل تلك الطاقات وتطويرها، وهذا ما يجعله كائنًا سيميائيًّا بالدرجة الأولى.
لذا فالتفكير السيميائيّ عبّر عن نفسه من خلال تصوّرات ومفاهيم نظريّة ناضجة، منها ما جاء ضمن الخطاب الفلسفيّ اليونانيّ، وتجلّى في ثنايا الفكر العربيّ القديم، وفلسفات القرون الوسطى الأوروبيّة. كما أضاء على عصر النهضة والأنوار، فيرتبط ظهورها بأربعة مصادر تأسيسيّة هي كالآتي([4]):
- الفلسفة التداوليّة التي بلورها الفيلسوف الأميركيّ شارل بيرس (Pierce)، حين وضع بداية القرن العشرين الأرضيّة الإبستمولوجيّة (المنهجيّة والمفاهيميّة) لعلم عامّ يدرس جميع أنواع العلاقات.
- اللسانيّات البنيويّة التي شيّدها عالم اللغة السويسريّ فيردينان دوسوسير ( de Saussure)، حين وضع نظريّة مستحدثة لدراسة العلاقات اللغويّة، متصوّرًا إمكانيّة تأسيس علم عامّ يدرس جميع أنواع العلاقات (اللغويّة وغير اللغويّة)، وتمثّل اللسانيّات أحد فروعه المعرفيّة.
- فلسفة الأشكال الرمزيّة التي بلورها الفيلسوف الألمانيّ (كاسيرر) (Cassirer)، الذي وضع تصوّرات عميقة وغنيّة حول الأنساق الرمزيّة التي يستعملها الإنسان ويعيش داخلها، والتي تحدّده بصفته حيوانًا رامزًا (Animal symbolicum).
- أبحاث فلسفة اللغة والمنطق، التي سادت في التقاليد الأكاديميّة الأميركيّة في منتصف القرن العشرين، التي كانت قد تبلورت انطلاقًا من تصوّرات “المنطق الرمزيّ” لمدرسة فيينا، مع فريج (Frege)، وكارناب (carnap)، وروسل (Russel)، وغيرهم.
فقد تمخّضت هذه التقاليد عن نظريّات لسانيّة تداوليّة (pragmatiques)، وسرعان ما تقاطعت مع مفاهيم بْيَرس، وتوسّعت مع شارل موريس (ch. Morris) لتفضي إلى مبحث تداوليّ للعلاقات عامّ وشامل.
وقد فتحت هذه التصوّرات التأسيسيّة الطريق أمام اجتهادات علميّة أخرى مسّت ميادين ومجالات متنوّعة ومتباينة، وأدّت إلى تشكّل اتّجاهات، ومدارس سيميائيّة عديدة ومختلفة، غير أنّ العنصر القاعديّ للدراسة السيميائيّة ظلّ هو “العلامة” (Lesigne)، التي قد يختلف مفهومها باختلاف النظريّات والاتّجاهات السيميائيّة، لكنّها تظلّ تتحدّد – عمومًا – بصفتها شيئًا يدلّ على شيء آخر بموجب علاقة رابطة هي الدلالة (signification)([5]).
وقد شكّلت اللسانيّات نموذجًا للنظريّات السيميائيّة: فقد انطلقت التصوّرات الأولى للسيمياء الحديثة من لسانيّات سوسير، أمّا التصوّرات التأسيسيّة التي قدّمها بيرس، فهي لم تتبلور إلاّ على طاولة الدرس اللسانيّ، وتحديدًا في إطار اللسانيّات التداوليّة([6]).
كما أنّ “كاسيرر” ركّز على الخاصّيّة الرمزيّة للغة، التي تميّز الإنسان من الحيوان، قبل أن يشير إلى أنساق رمزيّة كالأسطورة، والدين، والفنّ، والعلم، والتاريخ وغير ذلك. وكذلك كان الأمر بالنسبة إلى التصوّرات السيميائيّة التي قدّمها فريج، وروسل، وكارناب، وموريس، وغيرهم. فهي لم تخرج من إطار التأمّل الفلسفيّ إلى مجال العلوم الإنسانيّة، ومن ثَمَّ لم تأخذ أبعادها التطبيقيّة إلاّ في مجال اللسانيّات التداوليّة هكذا ظلّت اللسانيّات هي المحدّد الأساسيّ للسيمياء، وأصبحت اللغة كما قال بنفيست “أداة الوصف والاكتشاف السيميائيّين”([7]). أمّا استعمال سيمياء (semiotic) يعود إلى الفيلسوف الإنكليزيّ جون لوك (J. Locke) بعد اليونان، لقد شرّع بابًا واسعًا للسيمياء.
فأصبحت حقلًا موسوعًا جديدًا، على غرار الحقول المعرفيّة الشموليّة التي عرفها الفكر الإنسانيّ قديمًا (الفلسفة) وحديثًا (التاريخ)، وأضحى مفهوم “العلاقة السيميائيّة” مِفتاحًا معرفيًّا لولوج كلّ مجالات الدراسة، والبحث، والاستقصاء، وذلك لما يتوفّر عليه هذا المفهوم من قدرة على الوصف، والتفسير، والتجريد، وما يوفّره من إمكانات للفهم والتحليل.
فالمقاربة السيميائيّة أحدثت تحوّلات كبرى في الاتّجاهات التي عرفها النقد الحديث: فالنقد البلاغيّ سرعان ما تحوّل إلى نقد بنيويّ سيميائيّ، وتحوّل كلّ من النقد الاجتماعيّ، والنقد النفسيّ إلى نقد سوسيونصّيّ ونقد سيكونصّيّ، وصار النقد الموضوعاتيّ نقدًا سيميائيًّا تأويليًّا.
فتطوّرت اتّجاهات النقد الحديث واندمجت كلّها في الإطار الشامل لسيمياء الأدب، فشكّلت مسارات منهجيّة متنوّعة داخل هذا الإطار، وكما قال تودوروف، فإنّ “المقاربة السيميائيّة للأدب تطلّبت مراجعة مفهوم الأدب نفسه ووضعه في إطار جديد”([8]).
ومثل هذا ما ذهب إليه جرار جينت حين قال: “لم يقم النقد ربّما بأيّ شيء، ولا يمكنه أن يقوم بأيّ شيء، ما دام لم يقرّر أنّ النتاج الأدبيّ هو نصّ لغويّ أوّلًا وقبل كلّ شيء”([9]).
فالسيمياء الأدبيّة إذًا تدرس الأدب بصفته استعمالًا نوعيًّا للغة، ومن خلال ذلك تبحث في بنياته الشكليّة، أو في أنساقه الدلاليّة، أو في آلياته التأويليّة، وذلك بحسب تنوّع المسارات المنهجيّة لهذه السيمياء، لكن الموضوع ينطلق من السيمياء العامّة حتّى يصل إلى السيمياء الأدبيّة.
فالسيمياء العامّة تداخلت مع العلوم والمعارف العديدة حتّى لكأنّها ذابت وانمحت داخل تلك العلوم، أو لكأن تلك العلوم ذابت داخل السيمياء. فهي تجاوزت كلّ الإطارات والمعايير الإبستمولوجيّة التي ترسم للعلوم عادّة. فحقل السيمياء من أوسع الحقول المعرفيّة في الفكر المعاصر، ولذلك فهي تجسّد ما يطبع هذا الفكر من ميل إلى التركيب والموسوعيّة والتقاطع المعرفيّ (inter diciplinarite).
ووجدت نفسها خارج صف العلوم العاديّة ذات التخصّصات المحدودة، والميادين المحصورة، إذا صارت عبارة عن “أورغانون” (organon) ناظم لهذه العلوم ولأدواتها المنهجيّة، أو منهاجيّة (Méthodologie) عامّة تعيد تنظيم العلوم وفق منظور إبستمولوجيّ جديد.
وبناء على ما سبق، فإنّ القول بإنشاء السيمياء لا يعود إلى اللسانيّات وحدها، بل إلى المنطق والرياضيّات([10]).
وتألّقت السيميائيّة الحديثة مع العالم اللغويّ السويسريّ فيردنان دوسوسير، والفيلسوف الأميركيّ شارل سندرس بيرس، ومع بعض المناطقة وفلاسفة مدرسة فيينا أمثال فريج، وفيغنشتاين، ورول، وكارناب في بدايات القرن العشرين([11]).
والحقيقة أنّه لا يخلو التراث الفكريّ لأيّ شعب متحضّر من تصوّرات سيميائيّة، ولعلّ ذلك يتّضح أكثر عندما يتعلّق الأمر بالتراث العربيّ، القائم في الأساس على تفكير لغويّ بلاغيّ. فقد خاض اللغويّون العرب في محض الظاهرة اللغويّة من حيث نشأتها، وتكوينها، وخصائصها البينويّة، والدلاليّة، والتداوليّة.
كما حفلت كتب المنطق، وعلوم المناظرة وأصول الفقه والتفسير، والبلاغة، والنقد بتصوّرات عميقة حول العلاقات اللغويّة وغير اللغويّة، ما يسمح بتبيّن نظريّات سيميائيّة في غاية النضج([12]).
فتوصّل العرب إلى تعميم مجال أبحاث الدلالة على كلّ أصناف العلامات، فاستخلص “عادل فاخوري” في بحثه المهمّ حول التصوّرات “السيميائيّة عند الفارابيّ، وابن سينا، والجرجانيّ وغيرهم، ومبارك حنون حول التفكير السيميائيّ العربيّ القديم([13]). إلى أنّ العرب القدامى – مناطقة وبيانيّين – “أبدعوا أفكارًا أصيلة تتقاطع مع عدد غير يسير من أفكار أنتجتها الثقافات السيمائيّة الحديثة”، ومن ذلك ما قاموا به من تصنيف للعلامات (يسمّيها الدلائل)، سواء أمن حيث مكوّناتها والعلامات في ما بينها، أم من حيث المجالات الاجتماعيّة، والمعرفيّة التي توظّف فيها، أم أيضًا من حيث مُنتجوها، ومُستهلكوها، ومُمارسوها، ومُروجوها([14]).
هذا ما يجعلنا نميّز بين التصوّرات السيميائيّة القديمة بأنّها متفرّقة ومشتّته في المباحث الفلسفيّة المتعدّدة، والمنطقيّة، واللغويّة، والدينيّة، بينما التصوّرات السيميائيّة الحديثة ميلها إلى تركيز الاهتمام بالعلامات المتعدّدة في إطار مجالها الخاصّ، وضمن العلم الذي يدرس هذا المجال، بمعزل عن العلامات الأخرى في المجالات الأخرى، أصبح ممكنًا، مع السيمياء الحديثة، استجماع العلامات المتعدّدة في مجالات متنوّعة ضمن مبحث واحد عامّ يركّز على الخصائص المشتركة بينها.
نخلص إلى القول إنّ السيمياء الحديثة ترتصد الجوانب الشكليّة العامّة بجميع العلامات، ومن ثَمَّ يرتسم طابعها الموسوعيّ الذي حوّلها فتكتسح جميع المجالات والعلوم([15]).
وهذا ما أدّى إلى انطلاقة سوسير من اللسانيّات ليدعو إلى علم عامّ “يدرس حياة العلاقات داخل الحياة الاجتماعيّة ويعرّفنا طبيعة هذه العلامات والقوانين التي تتحكّم فيها فرأى هذا العلم “له الحقّ في الوجود” وأنّ “موقعه محدّد سلفًا”. بما أنّه قدّم نتائج باهرة في دراسة العلامات اللسانيّة([16]).
كما انطلق بيرس من الفلسفة الظاهراتيّة ليؤسّس “علمًا شكليًّا للعلامات يكون عبارة عن “منطق قائم عن الملاحظة التجريديّة لخاصّيّات العلامة (…)، ليصل إلى ما ينبغي أن تكون عليه جميع العلامات التي يستعملها العقل العلميّ.
فاعتمد كلّ من سوسير وبْيَرس على الأصل اليونانيّ (seme ion) كما أشرنا من قبل، غير أنّ الأوّل اقترح مصطلح “السيميولوجيا” (sémiologie) بينما استعمل الثاني مصطلح “السيميوطيقا” (semiotic) (الذي يرسم في الفرنسيّة sémiotique)… وإذا كان سوسير قد وسّع السيمياء انطلاقًا من اللسانيّات، ودفع بها نحو دراسة علامات الحياة الاجتماعيّة، أي جميع الوقائع الدالّة في المجتمع، فإنّ بَيْرس ذهب إلى أبعد من ذلك فجعلها علمًا لكلّ شيء يحمل معنى، سواء أكان هذا الشيء محسوسًا أم مجرّدًا (مثل الأفكار، والعواطف، والأحاسيس) ([17]). ولا ننسى دور جوليا كريستينا القائلة إنّ السيمياء هي الرافعة التي توجّه العلوم نحو النظريّة العامّة للمعرفة (Gnoséologie)([18]). بينما رولان بارط قلّص السيمياء، وضيّق مجالها حين جعلها فرعًا على اللسانيّات، على عكس ما فعل بها سوسير. وقد ركّزت على ذلك معظم المداخل التي تعرف بمشروع بارط السيميائيّ. ونسج على منوال بارط لويس هيلمسليف حيث عدّ السيمياء لسانيّات عامّة تدرّس جميع أنساق العلامات، وذلك لما لاحظه من تشاكل بين الأنساق اللسانيّة، والأنساق غير اللسانيّة.
لذا فقد كان اللسانيّون كلّهم على وعي تامّ بأنّ العلامة اللسانيّة لا تشكّل إلاّ نوعًا من العلامات السيميائيّة، لذلك دفعوا باللسانيّات لأنّ تشكّل أرضيّة انطلاق لمباحث سيميائيّة أخرى تدرس العلامات غير اللسانيّة. أمّا سيمياء الأدب فكانت أكثر تلك المباحث التصاقًا باللسانيّات([19]).
الخاتمة
كلمة أخيرة إنّ التيّارات الفكريّة لا تقاس مشروعيّتها بعدد الإنجازات التي تحقّقها، إنّما بنوعيّة الأسئلة التي تطرحها. فالفكر النقديّ الجديد لن يكون حصيلة محاولات منفردة متفرّدة إنّما حركة شاملة تواكب تطوّر البنى السياسيّة، وتتعلّق بنوعييّة تركيب الذهنيّة.
فالسيمياء تستوعب البنيات المعرفيّة الكبرى التي عرفها الفكر الإنسانيّ وتوظفها توظيفًا جديدًا. فتعمل اليوم على رسم خارطة هذا الوجود بدل البحث عن مفتاح الوجود وسره، وبدل اعتماد مبدأ الزمنيّة “Temporalité” تعتمد السيمياء مبدأ “الفضائيّة” (spalialité)([20])، وعوض مفهوم “التقدّم” نجد مفهومي “العلامة والنسق”.
إنّها في زمن التحرّر من خطاب الأيديولوجيّة للدخول في مرحلة الإبداع([21]).
قائمة المصادر والمراجع العربيّة
- أبو منصور، فؤاد، النقد البنيويّ الحديث، بين لبنان وأوروبا، دار الجيل – بيروت.
- المرابط، عبد الواحد، السيمياء العامّة وسيمياء الأدب من أجل تصوّر شامل، منشورات الاختلاف، دار الأمان، ط 1، 2010.
- المسدي، عبد السلام، التفكير اللسانيّ في الحضارة العربيّة، دار العربيّة للكتاب، تونس، 1986.
- فاخوري، عادل، علم الدلالة عند العرب، دراسة مقارنة مع السيمياء الحديثة، دار الطليعة، بيروت، 1985.
- حنون، مبارك، في السيمياء العربيّة (قراءة في نصوص قديمة)، منشورات سليكيّ إخوان، طبخة، ط 1، 2001.
- تامر، فاضل، اللغة الثانية، “إمبراطوريّة العلامة”، المركز الثقافيّ العربيّ، بيروت – البيضاء، 1994.
- وليم كيلي رايت: تاريخ الفلسفة الحديثة، ترجمة محمود سيّد أحمد.
قائمة المصادر الأجنبيّة
- Dictionnaire encyclopédique des Sciences du languages oswal Ducrotet Tzveton Todorv, Ed, Seuil, Coll. Points, Paris 1972.
- Calvet louis-Jean: pour et contre saussure, petit bibliotéque pagot 1974.
- Françoise Argmengand: La progmatique Ed, P.U.F., Paris, 1985.
- Emile Benveniste: problèmes de linguistique général, Ed, Gallimard, Paris 1970.
- Gerard Genette: Figures, Ed, Seuil, Paris 1969.
- Louis Hjelmslev, prolégomènes à une théorie du langage (op. cité).
- Julia Kristeva: Semiotiké Recherche pour une semanalyse, Ed, Seuil, Paris 1969.
- Charles Senders Pierce: Ecrits sur lesigne Rassembles, Traduits et commentés par Gerard Deledalle, Ed, Seuil, Paris 1978.
- Calvet Louis-Jean: Pour et contre Saussure, petite bibliotéque, pagot, 1974, p. 35 -37.
- فؤاد أبو منصور، النقد البنيويّ الحديث، بين لبنان وأوروبا، دار الجيل – بيروت، ص 45 – 46.
- المصدر نفسه، ص 49 – 50 – 52 – 54.
- Dictionnaire encyclopédique des sciences du languages oswal Ducrotet tzyten Todorv. Ed. Seuil, coll. points, paris 1972, p. 113 – 117.
- وليم كيلي رايت: تاريخ الفلسفة الحديثة، ترجمة محمود سيّد أحمد، (المرجع السابق)، ص 160 – 161.
- عبد السلام المسدي، التفكير اللسانيّ في الحضارة العربية، الدار العربيّة للكتاب، تونس، 1986، ص 180.
- عادل فاخوري: علم الدلالة عند العرب، دراسة مقارنة مع السيمياء الحديثة، دار الطليعة – بيروت، 1985، ص 70.
- انظر التعريفات التي أوردها ديكرووتودوروف حول “العلامة”، في المرجع السابق، ص 131 –
- Gerard Genette: Figures II, Ed, Seuil, Paris, 1969, p. 53.
- عبد الواحد المرابط، السيمياء العامّة وسيمياء الأدب من أجل تصوّر شامل، الدار العربيّة للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف دار الأمان، ط 1، 2010، ص 10 – 11.
- Emile Benveniste: problèmes de linguistique général, Ed, Gallimard – Paris, 1970, p. 2 98.
- المرجع السابق، ص 31.
- مبارك حنون: في السماء العربيّة (قراءة في نصوص قديمة)، منشورات سليكي إخوان طبخة، ط 1، 2001، ص 116.
- قدم هؤلاء الفلاسفة المناطقة تصوّرات متباينة، لكنّها جميعها تدخل في إطار “المنطق الرمز” الذي حاولوا تطويره انطلاقًا من مشروع مؤسّسة ليبنيز (Lebniz)، وقد شكّلت هذه التصوّرات بدورها منطلقًا للسانيّات التداوليّة.
- عبد الواحد المرابط، السيمياء العامّة وسيمياء الأدب من أجل تصوّر شامل، الدار العربيّة للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف دار الأمان، ط 1، 2010، ص 31 – 32.
- Ferdinand de Saussure: cours de linguistique général (op. cité), p. 53.
- المرجع السابق، ص 19.
- Julia Kristena: Semotike Recherche pour une semanalyse, Ed, Seuil, Paris (1969), p. 20.
- Louis Hjehmslev, prolégomenes à une théorie du langage, op. cité, p. 146.
- عبد الواحد المرابط، “السيمياء العامّة وسيمياء الأدب”، ص 36.
- فاضل تامر، اللغة الثانية، “إمبراطوريّة العلامة”، المركز الثقافيّ العرب، بيروت – البيضاء، 1994، ص 7 – 12.