التصوُّف والعرفان في شعر الشيخ البهائيّ، العربيّ والفارسيّ
أـ د. دلال عبّاس*
تمهيد
الدولة الصفويّة والهجرة العامليّة
منذ خمسة قرون، وبالتحديد في العام 1501 الميلاديّ، وُلدت في إيران دولةٌ، رأت فيها الدّولة العثمانيّة ضرّة لها ومنافسةً على زعامة العالم الإسلاميّ، هذه الدّولة الوليدة كانت تحمل في تكوينها بوادر العداء للدولة العثمانيّة، منذ اللحظة التي أعلن فيها مؤسّسها إسماعيل بن حيدر الصفويّ – الشاب الصوفيّ الذي لم يتعدَّ الخامسة عشرة من عمره، والمحاط برفاق من الصوفيّين القُزلباش الذين كانوا يعدّونه كأبيه، وأجداده من قِبله “المرشد الكامل”، ويطيعونه طاعة عمياء – في جامع تبريز عاصمة آذربيجان، بعد أن دخلها منتصرًا، وبعد جلوسه على العرش، أن مذهب إيران الرسميّ والإجباريّ هو المذهب الشيعيّ، على الرُّغم من تحذير العلماء له من مغبّة فرض المذهب بالقوّة.
وحين تولّى السلطان سليم العثمانيّ الملك، في العام 1512م – بعد أن أجبر أباه السُلطان بايزيد الثاني على التّنازل عن العرش، وقتل مخالفيه وأخوته وأولادهم، وكان على النقيض من والده: أقلّ تديُّنًا، وأكثر تعصُّبًا وبأسًا وحُبًّا للجاه، والسيطرة – تفاقمت حدّة الصراع السياسيّ والعسكريّ بين الدّولتين، وحلّت النكبة بالشيعة في المناطق الخاضعة للحكم العثمانيّ، ومنهم شيعة جبل عامل، كما كانت قد حلّت بأهل السُّنة في إيران، فاتُّهم علماء جبل عامل بالابتداع، ولم يُنجِهم الانزواء والتخفّي والاعتدال من القتل، فاضطر عدد كبيرٌ منهم إلى الهجرة إلى النجف، أو إلى إيران التي كان قد سبقهم إليها آخرون من النّجف، والحجاز، وكرك نوح، وجبل عامل بتشجيع الملوك الصفويّين، الذين كانوا بحاجة إلى علماء ينشرون المذهب ويعلّمونه، وقد كان لهؤلاء العلماء دورٌ مهمٌّ في تعديل خطّ الصفويّة الدرويشيّ، وفي الوقت نفسه وفّرت لهم الدولة الصفويّة الظروف المناسبة للإبداع والتأليف.
كان من بين هؤلاء المهاجرين شيخٌ يدعي الحسين بن عبد الصمد (918هـــ – 984هــ)، هاجر من جبل عامل إلى العراق، ومنها إلى إيران في العام 960هــ، في زمن الشاه طهماسب الأول (921 هــ – 984هــ)، وتولّى مشيخة الإسلام فيها، ثمّ غادر إيران إلى الحجّ، ومن هناك إلى البحرين؛ حيث توفّي في العام 984هــ.
كان مع الشيخ، حين هاجر، ابنه محمّد بهاء الدين، الذي لُقّب، في ما بعد، بالبهائيّ، وهو تخلُّص للشاعر على اصطلاح شعراء الفارسيّة.
تعريف بالشيخ البهائيّ
ولد محمّد بهاء الدين العامليّ في العام 953 هــ، في قرية إيعاث الواقعة على بعد خمسة كيلو مترات من مدينة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أستاذة الأدب المقارن في الجامعة اللبنانيّة كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة الفرع الخامس أشرفت على العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه، عرّبت العديد من الكتب الفارسيّة، وانتسبت إلى العديد من الجمعيّات النسائيّة الناشطة في المستوى الاجتماعيّ، ولها العديد من المؤلّفات منها: بهاء الدين العامليّ أديبًا وفقيهًا وعالمًا؛ المرأة في الأندلس مرآة حضارة شعت لحظة وتشظّت؛ المرأة في المجتمع الإيرانيّ وغيرها الكثير؛ وما تزال فاعلة في المنتديات الثقافيّة الجنوبيّة.
بعلبك؛ حيث كان والده يدرّس وأستاذَه الشهيد الثاني (الشيخ زين الدين بن نور الدين العامليّ الذي قتل في العام 965هــ -1557م) الفقهَ على المذاهب الخمسة، وكان في السابعة من عمره حين هاجر مع أبيه إلى إيران، حيث عاش عامّة عمره، لم يغادرْها إلاّ لمدّةٍ قصيرة في العام (991هــ – 1583) إلى الحجّ، ومن الحجاز قصد مصر للأخذ عن شيوخها، ومنها توجّه إلى القدس الشريف، ثمّ إلى دمشق فحلب، وعاد إلى إيران في رمضان من العام 992 هــ – 1585م.
تولّى الشيخ البهائيّ مشيخة الإسلام في زمن الشَّاه عبَّاس الكبير (حكم من سنة 995 هــ -1587م، حتّى العام 1038هــ – 1621م)، وقد ارتبط هذان الاسمان، إلى أن توفّي الشيخ في العام 1030هــ – 1621م، في إصفهان، ومنها نُقل إلى المشهد الرضويّ المقدَّس بحسب وصيّته، حيث دُفن قرب الحضرة المقدّسة، وقبره مشهور يزوره العامّة والخاصّة.
كان الشيخ البهائيّ متعدّد جوانب المعرفة: فيلسوفًا حكيمًا، وفقيهًا مفسّرًا، وعالمًا رياضيًّا، ومهندسًا، وأديبًا شاعرًا.
يمثّل الشيخ البهائيّ الجيل الذي نشأ في إيران – أي الجيل الثاني – الذي أبدع باللُّغتين العربيّة والفارسيّة فأغنى اللُّغتين، وخدم العربيّة خدمة عظيمة بوضعه منذ أربعة قرون ونيّف أوّل كتاب في النحو الميسّر هو “الصمديّة في النحو”، والمفارقة أنّ أوّل كتاب في نحو اللغة العربيّة، وهو “الكتاب”، وضعه عالمٌ من أصل إيرانيّ (سيبويه)عاش في بيئة عربيّة اللسان، وأوّل كتاب في النحو الميسّر وضعه عالمٌ من أصل عربيّ في بيئة فارسيّة اللسان هو البهائيّ.
والبهائيّ أوَّل من نظّم الشِّعر الفارسيّ على بحر الخبب، كما أنّه نظم كثيرًا من شعره على طريقة “الدوبيت”، أو “الرباعيّات”، وهكذا أسدى خدمة إلى الثقافتين: العربيّة والفارسيّة بتطوير النظم في كلّ منهما، باعتماده، في كلّ منهما، وزنًا من أوزان الأخرى.
وهو، بوصفه عالم رياضيّات ومهندسًا، ينسِبَ إليه المؤرّخون، والناس هندسةَ غالبيّة المباني التي شُيِّدت في زمن الشّاه عباس الكبير، وتصميمَها. واشتُهرت عنه حكايات، منها ممكن الحصول، ومنها ما هو مستبعد وملحق بالخرافات، ومؤلّفاته وصلت إلى الستين مؤلَّفًا، وبعضهم أوصلها إلى المئة، ما بين كتاب ورسالة.
إلّا أنّ شهرة بهاء الدين العامليّ أغرت بُغاة الارتزاق، فنشروا كتبًا لمؤِّفين مجهولين ونسبوها إليه، كــ“أسرار البلاغة” و”المخلاة” و”فالنامة”[1].
في هذا البحث سنُقصر حديثنا على التصوُّف والعرفان في شعر الشيخ البهائيّ.
بين التصوُّف والفقه في حياة البهائيّ وآرائه
ممّا لا بدّ منه، حين نتحدّث عن البهائيّ فقيهًا، أن نتكلّمَ على المَنْحَيين الفلسفيّ والصوفيّ عنده، لأنّهما شديدا الصّلة بالاتّجاه الفقهيّ الاجتهاديّ، وقد تطرّق البهائيّ إلى بحث قضيّة الخالق، ووحدانيّته، وصفاته، والبعث، والنشور، والكون، والإنسان، والقدر، والجوهر الفرد، هذه القضايا التي عالجها الفلاسفة المسلمون قبله، فتناولها بالحجج المنطقيّة، والأدلّة العقليّة، والوجدانيّة.
ونرى مهمًّا هنا أن نشير إلى العلاقة بين التصوُّف والفقه في حياة الشيخ البهائيّ العمليّة، وفي آرائه النظريّة؛ فهو على الرغم من عشرات الكتب التي ألّفها، ومن ممارسته التعليم طوال حياته، ومن نشاطه البارز والفعّال، كان أميَل إلى الزهد في الدنيا والتزام الصّمت، والبعد عن التماس العطاء من غير الله عزّ وجلّ، هذا الزّهد في الحياة الذي يظهر واضحًا جليًّا، في تشجيعه النفوس على التخلّص من ربقة المادّة، كما يتّضّح من نَفَسِهِ العرفانيّ الذي ظهر في سوانحه، وفي شعره العرفانيّ بالفارسيّة، وفي إكثاره من الحديث عن المتصوُّفة وأخبارهم في كتابه: “الكشكول”، كما أنّه يكثر، في هذا الكتاب، وفي مثنوياته الشعريّة، وفي “قِصّته النثريّة” “موش وگربه” (القط والفأر)، من التحذير من الدنيا والإقبال عليها، كما يُكثر من الترغيب بالآخرة والميل إليها، وينصح الإنسان بأن لا يطلب الدنيا للتمتّع بلذاتها، بل أن يطلبها لصالح يرجو إعانته، أو طالح يخاف إهانته[2].
لم يبتعد بهاء الدين العامليّ، في تصوُّفه، عن الأساس النظريّ للتصوُّف، بوصفه حركة نفسيّة أو روحيّة، فهو يبدأ من فكرة الوصول إلى المعرفة، من طريق “الكشف”، أو “الإشراق”، أو “الحدس”، والوسيلة العمليّة لذلك هي “مجاهدة النفس” وكبح شهواتها. والعارف، في نظر البهائيّ، هو الذي يصل إلى منبع الحقيقة بالمجاهدة، من طريق تصفية الباطن للوصول إلى الحقيقة المطلقة (السّر الأزليّ)، و”الشيخ هو الإنسان الكامل في علوم الشريعة، والطريقة، والحقيقة، البالغ إلى حدّ التكتّم فيها لعلمه بآفات النفوس، وأمراضها، وأدوائها، ومعرفته بدوائها، وقدرته على شفائها… والعامّة هم الذين اقتصر علمهم على الشّريعة، ويُسمّى علماؤهم علماء الرسوم”[3]، ويقول: “إنّ علماء الرسوم، والعوام لا يفهمون أسرار الحقيقة على ما ينبغي فتضرّهم أو تهلكهم”[4].
وقد دعا البهائيّ إلى التوفيق بين “الطّريقة” والشّريعة، في وقت أخذ التطرّف والغلّو من الفقهاء القشريّين والمتصوُّفة خطًّا تصاعديًّا ناميًا، وحكم كلّ فريق على الآخر بالخروج على الجادّة. ويجمل موقف البهائيّ من الفقهاء والمتصوُّفة العنوان الذي جعله في بداية مثنويّ: “نان وپنير” (الخبز والجبن)، وهو: “فصل في ذمّ المنتقدين للحكمة، ومن ينكرون لطفائها، وسرائرها من الغفلة والظلمة، وفي تفسير من تفقّه، ولم يتصوُّف فقد تفيْقه، ومن تصوُّف ولم يتفقّه فقد تزندق، ومن جمع بينهما فقد تحقّق”[5].
التصوُّف والعرفان في شعر الشّيخ البهائيّ العربيّ رورو
كان طبيعيًّا أن لا يبقى الشيخ البهائيّ في حدود الظّاهر في تعاطيه مع الدين، وقد غرف أوّلاً من نهج الإمام عليّ (ع)، ومن الصّحيفة السجّاديّة للإمام زين العابدين (ع)، وكانت “مناجاة المحبّين” للإمام السجّاد (ع) من أوائل النصوص التي كان يعلّمها لتلامذته، وهذا النّصّ من أوائل النصوص العرفانيّة في التراث الإسلاميّ، وقد نهل، أيضًا، من ذلك التراث العرفانيّ الفارسيّ الذي امتدّ قرونًا، لذلك نرى أنّ عرفان الشيخ البهائيّ يتجلّى في شعره الفارسيّ أكثر من تجلّيه في شعره العربيّ، وإن كنّا نعثر في شعره العربيّ، لا سيّما الدينيّ منه، على لمحات عرفانيّة، ولقد ارتبط شعره الدينيّ (العربيّ) برؤية النبيّ (ص)، أو أهل بيته (ع)، في المنام، حيث ينال عطفهم ويُسقى من محبّتهم خمرة صافية طهورًا:
وليلة كان بها طالعي | في ذروة السّعد وأوج الكمال | |
قصّر طيب الوصال من عمرها | فلم تكن إلاّ كحلِّ العقال | |
… سُقيتُ في ظلماتها خمرةً | صافيةً صرفًا طهورًا حلال | |
وابتهج القلبُ بأهلِ الحمى | وقرَّتِ العينُ بهذا الجمال |
يقولُ في “المناجاة والشوق إلى صحبة أصحاب وأرباب الكمال”:
عشاق جمالكَ إحترقوا | في بحر صفاتكَ قد غرِقوا | |
في بابِ نوالك قد وَقفوا | وبغير جمالك ما عُرفوا | |
نيران الفرقة تحرقهم | أمواج الأدمع تُغرقُهم | |
من غير زلالك ما شربوا | وبغير جمالك ما طربوا | |
صدمات جمالك تفنيهم | نفحات وصالك تحييهم | |
كم قد أحيوا، كم قد ماتوا | عنهم في العشق رواياتُ | |
طوبى لفقيرٍ رافقهم | بشرى لحزينٍ وافقهم[6] |
الصُّورة واضحة ومدلولها العرفانيّ واضحٌ، أيضًا، فالعشّاق هم أصحاب الحال، وأرباب الكمال، احترقوا بمحبّة الذات العليّة، وغرقوا في بحر صفات الله عزّ وجلّ، يقفون في بابه يستجدون نواله، حيارى لا يعرفون أنفسهم في طريق طلب النوال، لا تزال ذكرى الوصال تؤرّقهم، والوصال معرفةُ الحبيب، وتَعرُّفُ جمالِه الروحيّ.
الحقّ يقال: إنّ أجمل أشعاره هي قصائده الخمريّة التي قالها في العشق الإلهيّ على طريقة المتصوُّفة، وهي ملمّعات بعضها عربيّ، وبعضها فارسيّ، اعتمد فيها الرمز وأحيانًا القِصّة على عادة الشعراء الإيرانيّين الذين تقدَّموه باعتماد الرّمز في أشعارهم، وهو مثلهم يقصد بالكأس، والنديم، والمدام، والدفّ، والمطرب، والصّنج، والساقي أسرارًا يعبِّر عنها بالإيماء.
الخمر لديه طاهرة تزيل الأدناس، وتفعل في العظام فعل الخمرة النؤاسيّة، إنّها شعلة الإيمان المقدّسة، وهي تعبّر عن الفناء في الذات العليا، وما المصطلحات التي استخدمها سوى رموز من سلسلة من المعاني العرفانيّة.
قال في سوانح سفر الحجاز، من مثنويّ “نان وحلوا” (الخبز والحلوى)، تحت عنوان: “في التشوّق إلى الإقلاع عن أدناس دار الغرور، والتشوّق إلى الارتماس في بحر الشراب الطهور”[7]:
يا نديمي ضاع عمري وانقضى | قم لإدراك زمانٍ قد مضى | |
واغسل الأدناس عنّي بالمُدام | واملأ الأقداح منها يا غلام | |
أعطني كأسًا من الخمر الطّهور | إنّها مفتاحُ أبوابِ السّرور | |
خلّص الأرواح من قيدِ الهموم | أطلِق الأشباح من أسر الغموم.. |
وقال تحت عنوان: “في نغمات الجنان من حدبات الرحمن”[8]:
اشفِ قلبي أيّها السّاقي الرّحيم | بالتي يحيا بها العظمُ الرّميمْ | |
واسقني كأسًا فقد لاح الصّباح | والثريا غرّبت والديكُ صاحْ | |
زوّج الصّهباء بالماء الزّلال | واجعلن عقلي لها مهرًا حلالْ | |
هاتها من غير مهلٍ، يا نديم | خمرةً يحيا بها العظمُ الرميمْ | |
بنتَ كرم تجعلنّ الشيخ شاب | من يذق منها عن الكونين غاب | |
خمرةٌ من نار موسى نورُها | دنُّها قلبي وصدري طورُها |
هذه الخمرة المقدّسة تستمدّ نورها من نار موسى التي يمّمها يقتبس منها في جبل الطّور، فكان له هناك الوحيُ الإلهيّ، وكلّمه الله تكليمًا: (نار موسى، الطور، الوادي المقدّس)، من عرائس شعره في غالبيّة قصائده الدينيّة، تظهر لنا أنّ خمرة البهائيّ، في جميع جوانب شعره، إنّما هي خمرة الإيمان المطلق بالحقيقة المطلقة، وإن استخدم التعابير والمعاني المألوفة في شعر الخمرة عند أمثال أبي نواس:
قم ولا تمهَل فما في العمر مهل | لا تصعّب شربها فالأمرُ سهل | |
قل لشيخٍ قلبه منها نفور: | لا تخف، فالله توّابٌ غفورْ |
إنّه يعمد إلى الرمز والإشارة ليعبّر عن فيضه الباطنيّ، ويبدع لنفسه مصطلحات خاصّة، لا يدركها إلّا الصوفيّ، فيصبح الفقيه المحافظ عارفًا صوفيًّا متحرّرًا، رفيع التحليق، يوازي شعرُه شعر كبار المتصوّفين، ويسمو في فضاء الروحانيّات، وينسى ما في عالم المعقولات، من صخب وثقل، ثمّ هو يمزج الخمرة بالغناء، وذكر المغنّي، وآلات العزف، وذكر الحبيب:
يا مغنّي ّإنّ عندي كلّ غمّ | قم وألقِ النايَ فيها بالنّغم | |
غنّ لي دورًا، فقد دار القدحُ | والصّبا قد فاح والقُمري صدح | |
واذكرن عندي أحاديث الحبيب | إنّ عيشي من سواها لا يطيب | |
واحذرن ذكرى أحاديث الفراق | إنّ ذكر البعد ممّا لا يُطاق | |
روّحن روحي بأشعار العرب | كي يتمّ الحظُّ فينا والطرب | |
وافتتح منها بنظمٍ مستطاب | قلتُه في بعض أيّام الشباب | |
قد صرفنا العمر في قيل وقال | يا نديمي قم فقد ضاق المجال | |
ثمّ اطربني بأشعار العَجَم | واطرُدَن همًّا على قلبي هجم | |
وابتدي منها ببيت المثنويّ | للحكيم المولويّ[9] المعنويّ: | |
“استمع إلى الناي كيف يحكي | وكيف يشكو آلام الفراق”[10] | |
قم وخاطبني بكلّ الألسنة | علّ قلبي ينتبه من ذي ألسنة | |
إنّهُ في غفلة عن حالِهِ | خائضٌ في قيله مع قالِهِ |
إنّها غفلة الإنسان عن الحقّ عندما يهتمّ بأمور الحياة الدنيا، ويدخل في ما يدخل فيه الناس من جدال عقيم، وكلّ ما في هذه الحياة الدنيا قيودٌ وأغلالٌ تشدّ الإنسان نحو الحضيض، ولا تترك له فرصة التحليق في الفضاء الرّحب، بل إنّ فيها أصنامًا يتعلّق بها قلبُه الضّعيف:
كلّ آنٍ فهو في قيدٍ جديد | قائلاً من جهله: هل من مزيد | |
تائهٌ في الغيّ قد ضلّ الطريق | قطّ من سكر الهوى لا يستفيق | |
عاكفٌ دهرًا على أصنامه | تنفرُ الكفّار من إسلامه | |
كم أنادي، وهو لا يُصغي التناد: | وا فؤادي، وا فؤادي، وا فؤادَ | |
يا بهائيّ اتّخذ قلبًا سواه | فهو ما معبوده إلّا هواه[11] |
وهو يحثّ النديم على عدم تضييع العمر في قيل وقال، ونزاع وجدال، وعلى الإسراع في سقيه المدام العذب التي تهدي إلى خير السّبيل، حتّى إنّه يتشوّق لو سُقي منها بالدّنان لا بالكؤوس، إنّها تُزيل ما علق في الذهن من العلوم الدنيويّة التي هي “علم الرسوم”، في حين أنّ ما يبقى ليس سوى ما يثمر السعادات الباقية الأخرويّة:
قد صرفنا العمر في قيل وقال | يا نديمي قم فقد ضاق المجال | |
واسقني تلك المدام السلسبيل | إنّها تهدي إلى خير السّبيل | |
واخلعِ النّعلين يا هذا النديم | إنّها نارٌ أضاءت للكليم | |
هاتها صهباء من خمر الجنان | دعْ كؤوسًا واسقينها بالدنان | |
ضاق وقتُ العمر عن آلاتها | هاتها من غير عصرٍ هاتها | |
قم أزل عنّي بها رسم الهموم | إنّ عمري ضاع في علم الرسوم |
ثمّ يصرّح، في الأبيات الفارسيّة التي تلي، أنّ العلم الرسميّ قيلٌ وقال لا قيمة له، لا يجب أن يكون الفكر إلّا في الحبيب. ويقول على لسان المُغنّي العربيّ الذي سمعه في طريقه إلى الحجاز يترنّم:
أيّها القوم الألى في المدرسه | كلّ ما حصّلتموه وسوسه | |
فكركم إن كان في غير الحبيب | ما لكم في النشأة الأخرى نصيب | |
فاغسلوا، يا قوم، عن لوح الفؤاد | كلّ علم ليس يُنجي في المعاد[12] |
ويقول في قصيدة الكرديّ الذي قتل أمّه:
أيّها الساقي أدر كأس المدام | واجعلَنْ في دَورها عيشي مدام | |
خلّص الأرواح من قيد الهموم | أطلق الأشباح من أسر الغموم | |
فالبهائيّ الحزينُ الممتَحَن | من دواعي النفسِ في أسر المحن[13] |
ويقول، في قصيدة يجمع فيها رموزه العرفانيّة: الخمرة المقدّسة (رمز المعرفة) جيران الحمى (رمز لجيران دار الخلود)، الساقي (المرشد، والدليل إلى الحقّ)، الدير: مكان تعاطي الخمرة، المدارس (المواعظ) والعلم الرسميّ، الذي سمّاه العلم المجازيّ وليس هو الطريق الموصل إلى الحقّ.
جاء البريدُ مبشِّرًا | من بعد ما طال المدى: | |
بالله خبّرني بما | قد قال جيرانُ الحمى | |
يا أيّها الساقي أدرْ | كأس المدام فإنّها | |
مفتاح أبواب النّهي | مشكاة أنوار الهدى | |
قد ذاب قلبي يا بنيّ | شوقًا إلى أهل الحمى | |
هذا الربيع إذا أتى | يا شيخُ قلْ حتّى متى؟ | |
قم يا غلامُ وقل لنا | الدّير أين طريقه | |
فالقلب ضيّع رشده | ومن المدارس ما اهتدى | |
قل للبهائيّ الممتَحَن | داوِ الفؤاد من المحنْ | |
بمدامةٍ أنوارها | تجلو عن القلب الصدا[14] |
يقول في قِصّة الكرديّ الذي قتل أمّه لاشتهارها بالفساد، وفيها ترمز الأمّ إلى النفس الأمّارة بالسوء، والكرديّ الشجاع هو الإنسان الذي يستطيع الخلاص من قوى النفس الكفور، يقول في آخر القِصّة بما لا يدع مجالاً للتأويل:
أيّها المأسور في قيد الذنوب | أيّها المحروم من سرّ الغيوب | |
أنت في أسرِ الكلاب العاوية | من قوى النفس الكفور الجانية | |
كلّ صبحٍ مع مساءٍ لا تزال | مع دواعي النفس في قيلٍ وقال | |
كلُّ داعٍ حيّةٌ ذاتُ انتقام | قلْ: مع الحيّات ما هذا المقامْ!؟ | |
إن تكن من لسعٍ ذي تبغي الخلاص | أو ترُم من عضّ هاتيك المناصْ | |
فاقتل النفس الكفور الجانية | قتل كرديٍّ لأُمٍّ زانية[15] |
والبهائيّ الإنسان يبغي الخلاص من دواعي النفس بخمرة قدسيّة تخلّص الأرواح من قيد الهموم:
أيّها السّاقي أدِرْ كأس المُدام | واجعلن في دورِها عيشي مدام | |
خلّص الأرواح من قيد الهموم | أطلقِ الأشباح من أسر الغيوم | |
فالبهائيّ الحزين الممتَحَن | من دواعي النفس في أسر المحن[16] |
وبعيش الشاعر العارف بصدق روح الحديث القدسيّ الذي يقول: “إنّ الله سبحانه كان كنزًا مخفيًّا، فأحبّ أن يُعرف، فخلق الخلق ودعاهم لعبادته، فاستمتعوا بنعمة الإجابة والمعرفة، ثمّ كانت المعصية، والهبوط من دار الخلود إلى دار الفناء، فكان الحنين إلى الحياة الأولى، وكانت الضراعة إلى الله، وكان الاشتياق والمجاهدة للعودة إلى موطن الحبّ والمعرفة، واتّخذت محاولة العودة صيغًا متعدّدة من الجهاد والاجتهاد”.
فروح الإنسان لطيفة ربّانيّة أودعها خالقها في جسد ترابيّ، كانت في عالم القدس، وكانت شخصانيّة ترى وتسمع في عالم الصّورة المتمثّلة التي ظهر بها الخالق لخلقه، وناداهم معلنًا ألوهيّته، وأنّه ربّهم الأكرم الذي يُريهم ويعلّمهم. وذلك النداء هو النداء الأوّل الذي سمعته الأرواح من بارئها في ظهوره الأوّل لها في عالم الصورة. هذه الروح التي أنعم الله عليها بمعرفته في عالم القدس، لا تنفكّ قلقة جزعة بعد الهبوط إلى عالم الكون والفساد، لأنّها في شوق دائم إلى ما رأته وسمعته من بارئها، متذكّرة ما كان من نعمة اللّقاء الأوَل، لذلك فهي لا تزال تحنّ إلى ذلك اللقاء وتلك المنازل، فالمنازل التي يبكيها الشاعر رمزٌ لدار الخلود قبل فراقها، ولذلك لا يكفّ عن الحنين إليها، وإلى عهده القديم فيها:
أيّها اللاهي عن العهد القديم | أيّها السّاهي عن النهج القوّيم | |
استمع ماذا يقول العندليب | حيث يروي من أحاديث الحبيب[17] |
فالعهد القديم هو ذلك العهد الذي قطعته الأرواح على نفسها في العالم الأول قبل الهبوط، نسيت العهد الذي قطعته للحبيب (الله عزّ وجل)، ولكن سماع غناء العندليب، بما هو مظهر من مظاهر تجلّي الحبيب وقدرته، يعيد الروح إلى ذكرى أيّامها الأولى: إذًا هذا الطائر، هو رواية قِصّة الحيّ القديم (عالم القدس):
يا بريد الحيّ أخبرني بما | قاله في حقّنا أهل الحمى | |
هل رضَوا عنّا ومالوا للوفا | أم علــــــــــى الهجــــــــــــــر استمـــــــــــــرّوا والجفــــــــــــــــــا |
التصوُّف والعرفان في شعر البهائيّ العربيّ
في القصيدة السابقة يتابع ملمّعًا بالفارسيّة ما معناه أنّه رسول الحظّ المبارك، لأنّه سيخلص الروح من قيودها:
مرحبًا يا رسول فألنا المبارك | مرحبًا يا باعث حظّنا السعيد | |
مرحبًا أيّها العندليب الجميل الصوت | لقد خلّصتني من قيد “ماسوا” |
إنّ سماع الغناء يحرّك لدى الصوفيّ الاضطراب، والقلق، والغم، يذكّره بسماع النغمة الأولى: “ألستُ بربّكم”، وفي ترجيع الطير وأغانيه ما يفعل في النفس، فقد تنتشي وتتذكّر بارئها وموطنها الأوّل:
غناؤك أيّها العندليب نار مؤصدة | أشعلتها ألفًا لقيدي موقده | |
مرحبًا يا هدهد مدينة سبا | مرحبًا يا رسول الأرواح مرحبا[18] |
الطائر المُغنّي هو رسول الأرواح، لذلك يُسمّيه هدهد مدينة سبأ، هو حامل الأخبار وهادي الحائرين، حامل الرِّسالة والأمانة، المخبر بصدق عن رؤاه ورؤيته:
مرحبًا أيّها الببّغاء الجميل الكلام
تكلّم فقد أذهبت عن قلب الحزن
أخبرنا من جديد عن نجد وأحباب نجد
حتّى يغيب الحائط والباب من الوجد
أخبرنا من جديد عن زمزم والخيف ومِنى
وأرح القلب من الغمّ والروح من العنا
أخبرنا من جديد عن مسكننا ومأوانا
أخبرنا عن الحبيب الذي لم يراعِ حالنا
ماذا سيعيد هذا الببّغاء على المسامع؟ أحاديث نجد وأحباب نجد، وزمزم والخيف ومِنى، ماذا تعني هذه الأماكن بالنسبة إلى المتصوُّف؟ أليست هي الأماكن المقدّسة التي خاطب فيها الله عزّ وجلّ رسله وأنبياءه؟ من هو الحبيب الذي نفض العهد والميثاق؟ أليس ذلك كناية عن انقطاع العهد بين الخالق والأرواح؟ وما هو إلاّ تبرئة الذات من المعصية الأولى، التي كانت سبب هبوط الأرواح إلى الأرض وسكنها في الأجساد:
قل كلمة عن لسان ذلك المعشوق الجميل
الحاد الطبع لتسكّن قلوبنا
ذكرى الأيّام التي كانت لنا معه
مرّة يغضب وأخرى يصالح من فرط الدّلال…
ألا ما أُحيلى ذلك العهد، حيث كان حينًا
يتكرّم بالسير في طريق الحبّ والوفاء[19]
ويظلّ العاشق (الرّوح المشتاقة إلى بارئها) في شوق دائم، وخشية من أن لا تصدق الرؤيا وتتحقّق، وتخوّف من فقدان الأمل في الرؤية، دائم التذكّر، كمن يستيقظ من حلم سعيد، وكيف يعود إلى الحلم بغير النّوم، حيث تفلت الروح من شهوات اليقظة، وفي الحلم يرى الحبيب[20]:
مسدلاً على كتفيه قصبات المسك
مروّضًا العالم كلّه بنظرة منه
فقصبات المسك التي يُشبّه بها الضفائر السوداء، لأنّ المسك أسود اللون، إنّما يرمز بها إلى الليل حين يزوره خيال الحبيب في المنام، وحين يكثر الشوق والحنين والوجد، ونظرة الحبيب المروّضة للخلق، والعالم إنّما هي لطف الله بالعباد، لأنّ العالم صنع من نظرته، ومن وجوده الأوّل انبثق العالم.
ولكنْ هل يصل الحالم إلى الرؤية الفعليّة؟
– قلت له: متى أراك يا جميل التبختر؟
قال: نصف الليل، لكنْ في المنام.
– وكيف يكون الوصول؟ بالتقوى التي هي إقامة التوازن بين الظاهر والباطن.
يقول:
– يجب أن يكون الباطن والظاهر واحدًا
حتّى تجد طريق الحقّ ولو قليلاً
وبالزهد بكلّ ما هو أرضيّ، وبالقناعة:
– إنّ جملة سعيك أيّها الإنسان، للدنيا الدنيّة
فأنت لا تعلم كيف يكون السعيّ للعقبى
وبالزهد بالمناصب التي تذرو الدنيا في مهب الرياح
– منصب الدنيا يا حسن الأصل
هو ما يجعل بيدر دينك عرضة للرِّياح
ما هو الزُّهد؟
– ما هو الزُّهد؟ إنّه تجريد القلب من حبّ الغير
كي لا يمنعك التعلُّق بالدنيا من السّير.
والزُّهد هو الخوف والخَشية:
– ما يبعدك من خوف الله
هو ما يبعدك من طريق الهدى
إنّ خَشية الله دليلٌ على العلم
ألا فاقرأ “إنّما يخشى” في القرآن
الخوف والحب معًا يؤدّيان إلى التوبة، وبالتوبة يغسل الساعي إلى الله خطاياه ومعاصيه، ويحصل النوال والعطايا:
- اغسل معاصيك بالتوبة
واحصل على النوال والعطاء بالتوبة
إذا تخلّصت بالتوبة من العذاب الأليم، ووصلت إلى النعيم المقيم، فالتّوبة هي التي تصلح الأحوال، فلا تقفل باب العفو، ولا تيأس من رحمة الله، حتّى وإن فاقت خطاياك العدّ، فإنّ عفو الله لا حدّ له:
– إن فاقت خطاياك العدّ
عفو الله وكرمه يفوق العدّ
بعد التّوبة تأتي محاسبة النفس، التي لا تكون إلاّ بالعزلة والخلوة:
– كلّ من جاءه توفيق الحقّ دليلاً
اختار العزلة ونجا من القيل والقال
ولا يكون تقويم النفس وتربيتها إلاّ بالفرائض التي فرضها الله على عباده المؤمنين، عبادة الله لأنّه أهلٌ للعبادة، لا طمعًا في جنّته، ولا خوفًا من ناره:
– إذا كان يُمكن أن يُقدّس الله الواحد الصمد من طريق التقليد، نقول على هذا النحو إنّ جمعًا من العوام قد دخلوا الإسلام، لكن إسلامهم ظاهريّ، كي يخرجوا من المجوسيَّة والوثنيّة[21].
…أولئك الذين يعبدون الله من أجل الجنّة
ليسوا عشّاقًا إنّهم طالبو أجر
هؤلاء الذين يعبدون الله طمعًا ورياءً
يضيفون ذنبًا إلى ميزان سيّئاتهم[22]
– إنّ الحجر الذي نسجد عليه في صلاتنا رياءً
أخاف إن يُثقِلَ ميزان أَعمالنا[23]
العبادة الحقيقيّة هي التي يكون دورها قهر النفس، وتربيتها، وتقويمها، فاللقمة المعجونة بالعبادة هي التي تقهر النفس وتقوّمها:
– إنّ نتيجة اللقمة المعجونة بالعبادة ظاهرة للعيان
فأنت تقوّم النفس وتقهرها بها[24].
إنّ الإقبال الكلّيّ على العبادة ظاهرًا وباطنًا، هو الذي يقوّم النفس ويهذّبها، وهذا ما عناه بقوله:
– إذا كنت تطلب حياة سعيدة
فاقتل بقرة نفسك أوّلاً[25].
والسعادة في معرفة الحقّ في المقام الأوّل، هذه السعادة تحوّلت إلى شقاء عندما حجبت الرّوح في ظلمة الجسد الكثيف، ولا تنال السعادة الأولى إلّا بالتخلّص من ربقة الجسد الذي هو مستودع مؤقّت للروح، أو هو معتقل لها:
– إلى متى ستظلّ يا هدهد مدينة سبأ
في الغربة مقيّد القدمين
اجتهد كي تفكّ قيود قدميك
وتطير في الفضاء الرحب[26].
فهدهد مدينة سبأ يرمز هنا إلى الروح (رسول العالم العلويّ إلى العالم السفليّ)، والغربة، والقيد هو الجسد الكثيف، وإنّما السعادة في التحليق:
– إلى متى ستظلّ يا عندليب عالم القدس
محبًّا لقفصك [زخارف الدنيا] وعاشقًا لمصيدتك[27]
فعندليب عالم القدس هو الروح، والقفص هو الجسد الكثيف، والروح التي أنعم الله عليها بمعرفته في عالم القدس، لا تنفكّ قلقة جزعة بعد الهبوط إلى عالم الكون والفساد، وهي في شوق دائم إلى ما رأته، وسمعته من بارئها يوم أشهد الخلق على أنفسهم قائلاً: “ألستُ بربكم؟ قالوا: بلى، شهدنا” [الأعراف/172].
– إلى متى ستظلّ قانعًا بتربية بدنك، وبالتراب بديلاً من جنّة عدن، تطلّع إلى الملك الذي ينتظرك، واخرج من البئر يا يوسف المصريّ، لتصبح والي مصر الوجود، وسلطان سرير الشهود.
في يوم، “ألستُ” قلتَ: نعم، والآن أنت مُقيّدٌ بسرير “لا”، إلى متى ستظلّ بعيدًا عن المعارف العقليّة، مغرورًا بزخارف عالم الحسّ لا تذكر وطنك الأصليّ، متعلّقًا باللهو، واللعب، والمرح؟[28]
فهو يرمز، هنا، بيوسف إلى الروح، والبئر هو الجسد الترابيّ الكثيف، ولن تخلص الروح من ربقة الجسد، كما تخلّص يوسف من البئر، وأصبح ملك مصر، إلاّ حين تتذكّر يوم المعرفة الأولى، وتسعى إلى العودة إليه، إلى الوطن الأصليّ، الوطن الأوّل: إقليم النعيم:
يقول بالعربيّة
أيّها المأسور في قيد الذنوب | أيّها المحروم من سرّ الغيوب | |
لا تقم في أسر لذات الجسد | إنّها في “الجيّد حبلٌ من مَسَدْ” | |
قُم توجّه شطر إقليم النعيم | واذكرِ الأوطانَ والعهدَ القديمْ |
ويتابع بالفارسيّة:
إنّ كنز العلم ما ظهر منه وما بطن
قال: إنّ حبّ الوطن من الإيمان
هذا الوطن ليس مصر أو العراق أو الشام
هذا الوطن مدينة لا اسم لها[29]
إنّ هذه الأوطان جميعها من الدنيا
فكيف يمدح الدنيا خيرُ الأنام
أنت في هذه الأوطان غريبٌ يا فتى
اعتدت الغربة فعيبٌ عليك
بقيت كلّ هذه المدّة أسير مدينة الجسد
ونسيت وطنك الأصليّ وطنَ الروح
حتّى متى يا هدهد مدينة سبأ
تبقى في الغربة مقيّد القدمين؟
وكيف تفك ُّالروحُ الأغلالَ التي تشدّها إلى الأرض؟
بالمجاهدة: مجاهدات المحبّة، حيث تنفلت الروح من متطلّبات الجسد، وبهذا يصبح الصوفيّ على باب الطريق إلى العودة، متذكّرًا سعادات المعرفة الأولى، حين يتوصّل إلى السرّ الأزليّ، ويقترّب من العلم الحقيقيّ (معرفة الحقّ)، أو العشق الإلهيّ، وهو الغاية التي يجاهد من أجلها المحبّون المغرمون بكمال الجمال، ويقطعون في مجاهداتهم مراحل الطريق مرحلة مرحلة حتّى يبلغوا النهاية.
ما هو العلم الحقيقيّ في نظره:
– العلم الرسميّ كلّه قيل وقال، لا يحصل منه جذبة أو حال
العلم الحقيقيّ هو علم العشق وما عداه تلبيس إبليسَ الشقيّ
ماذا يبغي العاشق من علم الرسوم وإلامَ يسعى في طلبه؟
العلم الحقيقيّ الذي يجب أن تطلبه هو نورُ القلب والصدرُ طورُه
اطلب علمًا ليس كتابيًّا، علمًا حاليًّا وليس مقاليًّا
إنّه علم يجدّد لك الروح، إنّه علم العشق فاسمع منّي
علم معه مفاتيح خزائن الوجود، وهو الساري في ذرات الوجود
العلم الرسميّ هو خسران كلّه، فتعلّق بالعشق الذي هو العلم الحقيقيّ
علم العشق خالٍ من كيف ولماذا، ينبوعه العليُّ العالي
أيّها الساقي اسقني قدحًا من شراب “ألست”
الذي لا يُتعب رجلاً ولا يَشِلُّ يدًا[30].
وبعد أن تشعر الرّوح بالظمأ، وهي مقيّدة في ظلمة الجسد، تتوجّه بكلّيّتها إلى النور العلويّ، فتضع قدمًا في عالم آخر مختلف، أفضل، وأجمل، وأعلى، هو مدينة الروح، والعالم الجديد، مختلف من عالم الجسد، فتصبح خالصةً مصفّاة من تراب طهور، لا تخاف نارًا ولا بردًا، كلّ جهة في ذلك العالم الجديد تبدو متعة للناظرين، تفيض عليها الأنوار القدسيّة، فلا ترى إلاّ حسنًا في حسن وجمالاً في جمال[31].
وهو يرمز إلى المعرفة بالخمرة المقدّسة التي تهدي إلى خير السبيل، فليشربها بكثرة لضيق الوقت، لأنّ ما بقي من العمر لا يكفي للتكفير عمّا مضى منه، وليشربها من دون عصر (أي من دون تمحيص) لأنّ ما بقي من العمر لم يعد كافيًا للقيل والقال، هذه الخمرة المقدّسة هي التي تزيل التوتّر، والقلق، والهموم، وتريح النفس، والفكر من العلوم المجازيّة.
ثمّ يقول بالعربيّة:
قد صرفت العمر في قيل وقال | يا نديمي قم فقد ضاق المجال | |
واسقني تلك المدام السلسبيل | إنّها تهدي إلى خير السّبيل | |
واخلع النعلين يا هذا النديم | إنّها نار أضاءت للكليم | |
هاتها صهباء من خمر الجنان | دع كؤوسًا واسقينها بالدِّنان | |
ضاق وقت العمر عن آلاتها | هاتها من غير عصرٍ هاتها | |
قم أزل عنّي بها رسم الهموم | إنّ عمري ضاع في علم الرسوم | |
قل لشيخٍ قلبُه منها نفور: | لا تخف فالله توّابٌ غفور…[32] |
ثمّ يتساءل: إن قيل لك إنّه لم يبق من عمرك سوى سبعة أيّام، وهذا أمر يقين، أنت في هذه الأيّام السبعة ماذا تختار؟ الفلسفة، أو النحو، أو الطبّ، أو النجوم، أو الهندسة، أو الرمل، أو الأعداد المشؤومة؟
العلم الحقيقيّ ليس سوى علم العشق، وما بقي من العلوم المجازيّة ليس سوى تلبيس إبليس الشقيّ، وكذلك علم الفقه وعلم تفسير الحديث.
هذه العلوم، لا تؤدّي إلى كشف السرّ حتّى وإن كان تلاميذك مئة من أمثال “الفخر الرازيّ”، فإنّك إن لم تتعلّم “العشق الإلهيّ” فلن ينكشف لك السّرّ ويزول الحجاب..[33].
الخمرة والغناء والحبيب هي رموز العرفان الثلاثة التي سطعت في أشعاره، ولقد خلع البهائيّ على المحبوب الإنسان جميع الصفات التي تجعل منه المعشوق كامل الأوصاف. وهو يدعو إلى الحبّ، فمن لا حبيب له لا روح له، والحبُّ وحده يهذّب النفوس، ويعيد إليها فطرة الجمال الأولى:
من لم يولَّه بحبّ الوجه القَمَريّ الجميل
أُمحُ اسمَه من لوح الإنسانيّة
القلب الخالي من حبّ الجميلات المورّدات الخدود
شجرةٌ قديمة يابسة الأغصان
والقلب الخالي من المعشوق ليس صدرًا
إنّه صندوقٌ قديم
كلّ ما في العالم دليل على المعشوق
والعاشق لا يرى فيه غير معشوقه
كلّ ما كان في العالم كان ليلى
نحن لا نرى فيه غيرها
يا بهائيّ، طريق العشق لن تقطعها إلاّ بالعشق…[34]
مصطلحات التصوُّف والعرفان في شعر البهائيّ
الشعراء العرفاء جميعهم يلتقون في التعبير المتقارب عن الحنين إلى الأصل الإلهيّ، والشوق إلى الصّفاء الذي يعيد، إلى الجنّة المفقودة، والنعمة المرجوّة، نعمة اللقاء، والغرق في بحر السّرّ، والتخلّص من ربقة الجسد الكثيف؛ وذوق التصوُّف، والعرفان فطريٌّ، وموهبة ربّانيّة لا تأتي كغيرها من العلوم بالاكتساب، والبحث، والدرس، والجدل. وللشعراء العرفاء مصطلحات، وتعابير مجازيّة سطعت في أشعارهم، لا يفهمها، أو يتذوّقها إلاّ من تمرّس بقراءة هذا الشعر، وأدرك ما تعنيه هذه الرموز. هذه التعابير المجازيّة لا تختصّ بالشعراء الإيرانيّين وحدهم، وإنّما هي في شعر العرفانيّين الهنود، أيضًا، والشعراء العرب من أمثال ابن الفارض ومحيي الدين ابن عربيّ، والسهرورديّ وغيرهم.
وقد ورد في شعر البهائيّ مصطلحات من قبيل:
الخمرة والحبيب: وهما رمزان لواجب الوجود المطلق ولمعرفته، لقد خسرنا الدين، والدنيا بنظرة واحدة، ونحن مع ذلك فرحون.
أجل هذا من ثمار الحبّ، وليس من ثمار الحبّ ندامة
نحن لا نريد من الحبيب سوى الحبيب
أمّا الحور العين والجنّة فلك أيّها الزاهد بسخاء
رأيت في حانوت الخمر زاهدًا قد احمرّ وجهه من الخمرة
قلت له: فليبارك الله إسلامك
عمّر قلوبنا بكرمك قبل أن تهرَم هذه القلوب…
ويقول:
أيّها العقل الخجل من جهلنا وعدم معرفتنا
لقد تعجَّب الكثيرون من حيرتنا وتردّدنا
في حضننا صنم وجبهتنا في السجود
لقد ضحك الكفر من إسلامنا
ويقول:
لقد أوقد شيخ المجوس نار الحديث
رأى إيماني فاحترق قلبه عليّ
أخذ من خرقة الكفر شبه رقعة
وأتى بها فخاطها على كمّ إيماني
هل يدلّ ما ذكرناه على تناقض بين وجهي البهائيّ: عالم الرُّسوم (الفقيه المجدّد)، والعارف الكاره لعلم الرسوم، أو أنّ هناك سعيًا وكدحًا للتوفّيق بين الظاهر والباطن، ومجاهدةً للارتقاء من حضيض النزاع والجدال الأرضيّين إلى حضن الملكوت الأعلى؟
وهل يمكن للإنسان أن يوفق بين هذين الوجهين؟
إنّه يسعى…
وقد تكون أفضل إجابة عن هذا السؤال ما نختم به هذا البحث، وهو قول الشيخ البهائيّ في مقدّمة مثنويّ “نان وپنير”:
” من تفقّه ولم يتصوُّف فقد تَفيْقه، ومن تصوُّف ولم يتفقّه فقد تزندق، ومن جمع بينهما فقد تحقَّق”.
مصادر البحث:
كتب الشيخ البهائيّ العربيّة
- الحبل المتين: منشورات مكتبة بصيرتي، قم، إيران. من دون تاريخ مع رسائل الشيخ البهائيّ.
- زبدة الأصول: مخطوط مصور عن مكتبة آل إبراهيم (الدوير- جنوب لبنان).
- الكشكول للشيخ البهائيّ، ط. أعلميّ. 3 أجزاء 1983م، الطبعة السادسة.
- كلمات المحقّقين، منشورات مكتبة المفيد، قم، إيران، 1402هــ – 1982م.
- مشرق الشمسين: مخطوط خاص (1690م).
- الوجيزة في الدراية، الشيخ البهائيّ- المطبعة الحيدريّة 1396ه- 1972م، قم، إيران.
كتب الشيخ البهائيّ الفارسيّة
- أربعين شيخ بهائيّ: شرح خاتون آبادي، نسخة مصورة عن مخطوطة إسماعيل الخوانساري 1375هــ – 1955م.
- جامع عبّاسيّ: مؤسّسة انتشارات فراهاني – تهران – مصوّر عن مخطوطة ميرزا الشيرازي 1319هــ – 1901 م.
- كليات آثار وأشعار شيخ بهائيّ، تقديم سعيد نفيسي، تهران، 1361 ش- 1982م.
المراجع العربيّة:
- الإصفهانيّ: رياض العلماء وحياض الفضلاء، تحقيق أحمد الحسينيّ، مكتبة آية الله المرعشيّ العامّة، قم، إيران، لا.ت.
- الأمين، محسن: أعيان الشيعة، ت. حسن الأمين، دار التعارف، بيروت، لا.ت.
- الخفاجيّ: ريحانة الألبا وزهرة الحياة الدنيا، طبعة عيسى البابيّ الحلبيّ، لا.ت.
- الخوانساريّ: روضات الجنّات، 8 أجزاء مكتبة إسماعيليان، إيران، 1392هــ.
- سلافة لعصر لابن معصوم، المكتبة الرضويّة، تهران، لا.ت.
- عبّاس، دلال: بهاء الدين العامليّ، أديبًا فقيهًا وعالمًا، بيروت، 1995م.
- عبّاس، دلال: التديّن والنفاق بلسان القطّة والفأر، ترجمة وتحقيق كتاب “موش وگربه”، دار رياض الريس، بيروت، 1995م.
- كشكول البحرانيّ للبحرانيّ، تحقيق محمّد صادق الكتبيّي، النجف 1376هــ – 1956م.
- المجلسي، محمّد باقر: بحار الأنوار، ط2، مؤسّسة الوفاء، بيروت- لبنان، 1403هــ – 1983م.
- مطهري، مرتضى: الإسلام وإيران، ت. محمّد هادي اليوسفيّ، دار التعارف – دار التبليغ (1400هــ).
المراجع الفارسيّة
- صديق، عيسى: تاريخ فرهنگ إيران، ط.2 – تهران – 1338ش- [1959م].
- فلسفيّ، نصرالله: زندگاني شاه عبّاس، ج1، 1955م، وج 2، [1968م].
[1] – للتوسّع يرجى العودة إلى كتاب الباحثة “بهاء الدين العامليّ، أديبًا وفقيهًا وعالمًا”، فصل الكتب المنسوبة إليه.
[2] – بهاء الدين العامليّ، ، الكشكول، ط.أعلميّ، ج1، ص 198 و210.
[3] – بهاء الدين العامليّ، ، الكشكول، ط.أعلميّ،ج3، ص 97.
[4] – المصدر نفسه، وط. دار الكتاب، ص 719.
[5] – كلّيّات شيخ بهائيّ، مقدّمة “نان وپنير”، كلّيّات شيخ بهائيّ، ص 144.
[6] – من مثنويّ “شير وشكر” (الحليب والسكر)، كلّيّات شيخ بهائيّ، نفيسي، ص 141.
[7] – كلّيّات شيخ بهائيّ، ص 106.
[8] – المصدر نفسه، ص 135.
[9] – المولويّ هو “جلال الدين الروميّ أكثر شعراء العرفان نظمًا وشعرًا”، لغت نامه، ج، ص 217 و120.
[10] – البيت للمولويّ بالفارسيّة.
[11] – كلّيّات شيخ بهائيّ، تحقيق سعيد نفيسي، ص 134 و135.
[12] – المصدر نفسه، ص 120.
[13] – الكشكول، ط. دار الكتاب ص 149.
[14] – كلّيّات شيخ بهائيّ، ص 106.
[15] – الكشكول، ط. أعلميّ، ج1، ص 172.
[16] – الكشكول، ط. أعلميّ، ج1، ص 227.
[17] – كلّيّات شيخ بهائيّ، القصيدة الأولى من مثنويّ “نان وحلوا” (الخبز والحلوى).
[18] – البَيتان بالفارسيّة.
[19] – القصيدة كاملة بالفارسيّة من كلّيّات شيخ بهائيّ، ص 119.
[20] – كلّيّات شيخ بهائيّ، القصيدة الثانية من مثنويّ “نان وحلوا”.
[21] – كلّيّات شيخ بهائيّ، مثنويّ “نان وپنير”،ص 80.
[22] – كلّيّات شيخ بهائيّ، فصل الرباعيّات، ص 83.
[23] – المصدر نفسه، فصل الغزليّات، ص 75.
[24] – المصدر نفسه، مثنويّ” نان وحلوا”، القصيدة الثامنة.
[25] – المصدر نفسه، القصيدة نفسها.
[26] – المصدر نفسه، القصيدة العاشرة.
[27] – كلّيّات شيخ بهائيّ، فصل الغزليّات، ص75.
[28] – كلّيّات شيخ بهائيّ، مثنويّ “شير وشكر”، القصيدة الأولى.
[29] – المصدر نفسه، الأبيات الثلاثة الأولى هي بالعربيّة في الأصل، وبقية القصيدة بالفارسيّة.
[30] – كلّيّات شيخ بهائيّ، القصيدة الخامسة من مثنويّ “شير وشكر”.
[31] – كلّيّات شيخ بهائيّ، لقصيدة الأولى من مثنويّ “نان وپنير”.
[32] – المصدر نفسه، مثنويّ “نان وحلوا”، القصيدة السادسة.
[33] – المصدر نفسه، القصيدة الثالثة.
[34] – كلّيّات شيخ بهائيّ، المثنويّ نفسه، القصيدة الثالثة.