الأدب والقراءة النقديّة
د.سهام عليّ طالب*
مِهاد نظريّ
من أبرز مَهَمّات النقد الأدبيّ طرح المسائل النظريّة المتعلّقة بالأدب ومناقشتها وبلورة اتّجاهات عامّة على أساسها ذلك لأنّ أيّ ممارسة نقديّة متماسكة لا بدّ من أن تكون جزءًا من موقف نظريّ شامل للنّاقد، والنّاقد الذي يلقي أحكامه جزافًا من زوايا نقديّة متفاوتة يقع في التناقض، والاضطراب، ولا يستطيع أن يتوصّل إلى نتائج ذات قيمة. والبحث في النّص الأدبيّ يرتكز دائمًا على سؤالين أساسيين هما: ما طبيعة الأدب؟ وما وظيفته؟ وهما سؤالان قديمان ضاربًا الجذور في التاريخ، وقد طرحها مفكّرو اليونان، ولا يزالان حتّى بين التيّارات الأدبيّة المعاصرة. والتركيز على السؤال الأوّل (طبيعة الأدب) يقود إلى (النظريّة الشكليّة) في حين أنّ التركيز على الثاني (وظيفة الأدب) يقود إلى (النظريّة الأخلاقيّة). وكان تركيز اليونان على وظيفة الأدب أقوى من تركيزهم على ما يشير إلى اتّجاههم الأخلاقيّ في فهمه، وقد تساءل أفلاطون عن مكانة الأدب في جملة التجارب الإنسانيّة، وعن وظيفة الشّعراء في (الجمهوريّة الفاضلة)، وانتهى إلى استبعاد الشّعراء من جمهوريّته لأنّهم لا يتحمّلون مسؤوليّة ما يقولون، ولأنّ فنّهم ضئيل القيمة باحتساب أنّه نسخة من الدرجة الثالثة، أو صورة للحقيقة تبعد ثلاث مراحل عن الأصل. والأصل عند أفلاطون هو عالم المثل العلويّ، والعالم الواقعيّ ليس إلاّ ظلًا لعالم المثل، والفنّ محاكاة للعالم الواقعيّ أيّ لعالم الظّلّ الزائل، إذًا لا يستحقّ أن يؤخذ بجدّ. وهكذا نرى أنّ منطلق أفلاطون كان أخلاقيًّا على أنّه لم يهمل السؤال المتعلّق بطبيعة الأدب، وبنى موقفه الأخلاقيّ على تحليله لطبيعة الأدب (المحاكاة)، وعند أرسطو أيضًا يختلط السؤالان معًا، فالأدب عنده أيضًا محاكاة، أو تقليد وهو تسجيل لضرب من الإلهام مقدّس ولكنّه يجنح إلى الجنون، وقد انصبّ اهتمامه على تأثير الأدب وعلى شخصيات ممارسيه وانفعالاتهم واتضح من خلال دراسته لتأثير المأساة (التراجيديا) النظارة وانتهى([1]) إلى نظريّة التطهير، ومفادها أنّ المأساة تثير في المشاهد مشاعر الخوف، والشفقة، وتروي ظمأه إلى هذه الانفعالات فيمارس نوعًا من الخبرة تؤدّي إلى تطهير نفسه، وتمكّنه من مواجهة الواقع بقوّة، وشجاعة. وسيطر في العصور الوسطى المفهوم الدينيّ على الأدب في أوروبا، وكان الأدب شأنه شأن الفلسفة، يقف من اللاهوت موقف الخادم من سيّده، وعاش معظم النشاط الأدبيّ في ظلّ الأديرة، وكان شديد التأثّر بالنظريّة الأخلاقيّة المسيحيّة. أمّا عند العرب فلم يتّخذ التمييز بين المسألتين شكلًا نظريًّا حادًّا على الرغم من أنّ هذه المشكلة بدأت مبكّرة في تاريخ النّقد العربيّ، فالأصمعيّ مثلًا “كان يقيم حدًّا فاصلًا بين الشعر، والدّين، ويراهما عالمين منفصلين لا يتّصل أحدهما بالآخر، وفي اتّصالهما حيف على الشعر نفسه، لأنّ طريق الشعر إذا دخلته في باب الخير…”[2]، والواقع أنّ نقّاد العرب في الغالب مالوا إلى إعفاء الأدب من الالتزامات الأخلاقيّة، وكان تشديدهم منصبًّا على النّاحية الشكليّة، وحتّى النّقّاد ذوو الاتّجاه الدينيّ، والأخلاقيّ الذين استبعدوا بعض أنواع الشّعر، أو أدانوا بعض الشّعراء إدانة أخلاقيّة (الماقلائيّ، ابن شرف، ابن بسام) لم يقلّلوا من أهمّيّة المقاييس الشكليّة في نقدهم التطبيقيّ.
والواقع أنّ طبيعة التمييز بين (طبيعة الأدب) و(وظيفته) لم يبدأ إلاّ في مطلع العصور الحديثة، وعلى وجه التحديد نتيجة لإسهام فلاسفة مثل (كانت) و(باومجارتين) في نظريّات النّقد الأدبيّ، إذ أوضح الفلاسفة، والمنظّرون الفرق بين السؤالين، ومالوا باتّجاه البحث عن طبيعة الأدب، ولم يتبلور هذا الأمر إلّا باستواء النظريّة الشكليّة، واشتداد الخلاف بين أنصار (الفنّ للفنّ) و(الفنّ في سبيل الحياة). وفي عصرنا الحالي تتعايش النظريّتان، وتتصارعان، ويتّخذ صراعهما أحيانًا طابعًا حادًّا تبعًا لتقلّبات الأجواء الفكريّة والسياسيّة، ذلك لأنّ النظريّتين كلتيهما أصبحتا وثيقتي العلاقة بالعقيدة، والسياسة، ويجدر التنبيه هنا إلى أنّ كلمة أخلاقيّ تستعمل بمعناها العامّ، ولا تنحصر بأيّ مفهوم أخلاقيّ معيّن، ويراد بها أن تشمل كلّ اتّجاه لاستخدام الأدب في سبيل الأخلاق، أو العقيدة، أو المذهب أي إعطاء الأدب وظيفة خارجيّة من كونه أدبًا، وهي بذلك تشمل نظريّات أرسطو الأخلاقيّة، وأغراض دانتي الدينيّة، وأهداف الأدب الاجتماعيّ، والأدب الموجّه لخدمة الطبقة عند الواقعيّين الاشتراكيّين. وعلى النّحو نفسه يشمل مصطلح (الشكليّة) كلّ من كان منطلقه الأساسيّ شكليًّا مهما تفاوت موقفه من حيث الاتقان الشّكليّ، فالشّاعر ازراباوند مثلاً يعبّر عن نظرة شكليّة في دعوته إلى تحطيم الأوزان، والبنى التقليديّة، ومع أنّه ثائر على الشّكل يمكن عدّ منطلقه شكليًّا، فالمسألة ليست مسألة كون الأديب مع الأخلاق، أو ضدّها، أو مع الشّكل، أو ضدّه، بل هي مسألة المنطلق الأساسيّ لموقف الأديب.([3])
المبحث الأوّل
- مبادئ النظريّة الأخلاقيّة
كانت النظريّة الأخلاقيّة سابقة للنظريّة الشكليّة، فأفلاطون أراد أن يستخدم الأدب لتثقيف الحرس، وشلبيّ حمّل الأدب عبئًا ضخمًا في إعادة خلق الإنسانيّة، والواقعيّة الاشتراكيّة، وفي عصرنا هذا تعدّ الأدب سلاحًا طبقيًّا يسهم في تطوير الحياة وتوجيهها نحو تحقيق المجتمع الاشتراكيّ كغيره من النشاطات الاجتماعيّة، والوجوديّة تطرح مفهوم الالتزام الذاتيّ النّابع من داخل الفنّان، وتعدّ الكلمة موقفًا ومسؤوليّة، وهكذا فإنّ الموقف الأخلاقيّ في الأدب قد يكون فرديًّا، وقد يكون اجتماعيًّا، وقد يكون دينيًّا، وقد يكون فلسفيًّا.
والمفهوم الأساسيّ الذي تقوم عليه النظريّة الأخلاقيّة هي أنّ قانون الكمال في الأدب هو نفسه قانون الكمال في الحياة والأدب خاضع للمبادئ نفسها التي تحكم سائر الخبرات الإنسانيّة، ومن الصواب أن نحكم عليه بمقدار ما يسهم في كمال النشاط الإنسانيّ، ولكن كيف يسهم الأدب في النشاط الإنسانيّ، ومن خلال أيّ معايير. هنا تتعدّد الأجوبة بتعدّد المذاهب الأخلاقيّة.
فالأدباء القدامى آثروا تصوير القدوة الحسنة، وإبرازها بشكل يدعو إلى تقليدها، وقادهم ذلك إلى تجنّب النماذج السيّئة والشريرة، ومن الواضح أنّ هذا الموقف يتضمّن مجانبة لواقع الحياة، ويقدّم نظرة ذات بعد واحد.
ثمّ إنّ المعايير الأخلاقيّة متطوّرة بتطوّر الحياة، ومفاهيم الخير تتغيّر من زمن إلى زمن، فالإحسان مثلًا قيمة أساسيّة في سلّم الأخلاق التقليديّ أمّا في سلّم الأخلاق الاشتراكيّ فلا مكان له، والحقيقة أنّ المقاييس الأخلاقيّة للمجتمع الحديث بوجه عام تختلف عن القديم، وربط الأدب بالأخلاق يعني ربطه بقيم غير ثابتة، وحرمانه من فرصة الخلود التي تعدّ من أهمّ مميّزات الأدب الجيّد. واليوم تتّخذ هذه المسألة طابعًا أشدّ تعقيدًا فالنظريّة الأخلاقيّة جزء من نظريّة أشمل فكريّة، أو سياسيّة، أو اجتماعيّة، وهي تستمدّ معاييرها الأخلاقيّة (والفنّيّة تبعًا لذلك) من قيم خارجة عن العمليّة الأدبيّة ذاتها، وبسبب من ازدياد تغلغل السّياسة في الحياة اليوميّة للإنسان المعاصر يزداد خضوع الأدب لتفسيرات السلطة للمفهومات الأخلاقيّة، والاجتماعيّة ما يعرّض الإنتاج الأدبيّ لموجات من النقمة، أو التحبيذ غير نابعة من موقفه الذاتيّ. يضاف إلى ذلك كلّه أنّه لا توجد ضمانة لاستمرار فاعليّة النموذج الأخلاقيّ. فما يكون قدوة في عصر قد يكون العكس في عصر آخر. فالبطل الجاهليّ مثلًا قد لا يكون مقبولًا من خلال المفهوم الإسلاميّ, والفرسان المتعطّشون إلى سفك الدماء في عصر الفروسيّة مرفوضون في منطق العصر الحديث. ثمّ إنّه ما من أحد يضمن أن يجري الإعجاب بالبطل المنشود، والأجيال الناشئة أحيانًا تقف موقف المستخفّ بالبطل التقليديّ، وأحيانًا تبحث عن النماذج السلبيّة.
على أنّ هذه الاعتراضات ليست إلاّ أسئلة في طريق النظريّة الأخلاقيّة التي أثبتت وجودها منذ أقدم الأزمنة حتّى اليوم مختلفة. والنظريّات الاجتماعيّة الحديثة (الماركسيّة بالدرجة الأولى) أعطت الموقف الأخلاقيّ في الأدب بعدًا جديدًا له منطقه ومسوغاته القويّة. فالأدب ظاهرة اجتماعيّة، وإنتاج الأدب عمليّة اجتماعيّة، والأديب يكتب ليوصل أفكاره إلى الناس أمّا إذا كانت العمليّة محصورة في نفس الأديب، فلماذا يكتب، ولماذا ينشر إنتاجه. إنّ الأديب يعبّر عن الواقع الاجتماعيّ لطبقته في عصر معيّن، وهو بالضرورة يتّجه إلى مخاطبة قطاع اجتماعيّ معيّن قد يكون طبقة ذات حدود اقتصاديّة. إنّ وضوح هذا المفهوم عند الماركسيّين يعطي النّقد الماركسيّ مقياسًا عينيًّا لا يتوافر لغيره من النّقّاد، ويتيح للأدب المتأثّر بهذا الاتّجاه فرصة التطوّر الدائم لتحقيق ذاته. ومن المؤسف أنّ طبيعة البحث لا تسمح بالخوض في التفصيلات المتعلّقة بهذا الموضوع.
وخلاصة ما يمكن أن يقوله المرء إنّ النظريّة الأخلاقيّة تجدّدت في هذا العصر بسبب الشّكل الاجتماعيّ الحديث الذي اتّخذته، وعلى الرغم من جميع الاعتراضات التي توجّه إليها فمن الواضح أنّها مستمرّة بشكل أو بآخر، ولعلّ التفسير التالي لوظيفة الأدب يوضّح سرّ القوّة في هذه النظريّة:
“يقدّم لنا الأدب المادّة الخام للمحاكمة الأخلاقيّة, ويقدّم منها أكثر بكثير مما تقدّمه حياة أيّ فرد… إنه يقدّم لنا امتدادًا للخبرة الأخلاقيّة… ذلك أنّ خبرة الفرد محدودة بظروفه الشخصيّة, بعصره، وقوميّته، وطبقته. وهو يستطيع توسيع هذه الخبرة بأسلوب نظريّ تجريديّ عن طريق عدد من دراسات كالتاريخ، والإنتروبولوجيا، والفلسفة. ولكن من خلال الأدب يستطيع الإنسان فعلاً أن يمارس خبرة أخرى من الوجود، وذلك من طريق التطابق الخياليّ. والأدب هو الطريقة الأساسيّة التي تمكننا من هذه الممارسة”([4]).
المبحث الثاني
مبادئ النظريّة الشكليّة:
تأخّرت النظريّة الشكليّة في الظهور، ولم تكن متبلورة في الآداب القديمة, ودُعاتها هم الفلاسفة، وعلماء الجمال، أو الأدباء في المجتمعات المتطوّرة، وهي غير مقبولة بين عامّة الناس، والنظريّة الأخلاقيّة أعرق منها، وأكثر رواجًا وترجع بداءتها إلى القرن الثامن عشر.
تقول النظريّة الشكليّة: إنّ الأدب فعاليّة إنسانيّة خاصّة قائمة بذاتها ولها قوانينها الخاصة التي تحكمها والتي يمكن ارجاعها الى مبدأ واحد هو الإتقان الصحيح للعمل الأدبيّ ولكلّ فنّ أداته الخاصّة التي تحكمها، ولعل أداة الفنّ الأدبيّ، وهي اللغة أعقد الأدوات جميعًا لأّنها حصيلة للفاعليّات الإنسانيّة. ويصرّ دعاة النظريّة الشكليّة على التفريق بين مقاييس هذه الفاعليّات الإنسانيّة المتعدّدة وبين المقاييس الأدبيّة الخالصة في حين يقول دعاة النظريّة الأخلاقيّة بعدم إمكان التفريق بين النّوعين لأنّهما متّصلان، ومتشابكان.
إنّ الأدب عند الشكليّين نوع من التأمّل المحايد الخالص، وقيمته الجماليّة متميّزة تمامًا عن القانون الأخلاقيّ، والاجتماعيّ، لأنّها نابعة من ذاته, والنظريّة الشّكليّة – بخلاف ما هو شائع عنها – ليست ضدّ الأخلاق، ولكنّ الشكليّين الأوائل، ولا سيّما بودلير قدّموا لمجتمعاتهم أسوأ مثال للخروج على العرف الأخلاقيّ، وبذلك تمّ نوع من الاقتران غير الدقيق بين الشّكليّة واللاأخلاقيّة. وقد زاد من حدّة الوصمات التي توصم بها النظريّة الشّكليّة الهجوم المركّز الذي يشنّه النّقد الإيديولوجيّ، والاجتماعيّ على الشكليّين وأبراجهم العاجيّة التي تعدّ عند الإيديولوجيّين هربًا من مواجهة الواقع وانسحابًا من المسؤوليّة الطبقيّة، أو القوميّة، أو الإنسانيّة. ولكن ما هو هذا القانون الأدبيّ الخاصّ الذي يتحدّث عنه الشكليّون وما كنهه.
تتضارب الآراء هنا تضاربًا عجيبًا, وإذا صنّفنا هذه الآراء تصنيفًا تاريخيًّا نستطيع أن نقول إنّها تلخّص تاريخ تطوّر الذوق الأدبيّ منذ أيّام أرسطو حتّى يومنا هذا.
وليس من شأن هذه المقدّمة العامّة أن تتفحّص سلسلة الآراء المتعدّدة بهذا الشأن, على أنّه من الممكن إرجاع العناصر المشتركة في النظريّات الشّكليّة المتعدّدة إلى ثلاث خصائص رئيسة، وهي الاتّساق، والتماسك والتألّق.
أ – الاتّساق:
ويُعرف مفهوم الاتّساق بمصطلحات كثيرة؛ منها: السبك، والربط، والتماسك، وتَجدر الإشارة إلى أنّ محمّد مفتاح في كتابه “التلقّي والتأويل”([5]) جمَعَ تحت مصطلح التماسك([6]) مجموعةً من المفاهيم المتقاربة، ومنها التنضيد، والاتّساق، والانسجام، والتشاكُل٭٭٭“.
لقد اهتمَّ العرب قديمًا بمفهوم الاتّساق، فالبلاغيّون عمَدوا في دراساتهم إلى الكشف عن الترابط الذي يكون بين عناصر النّصّ ومكوّناته؛ مثلما نجد عند حازم القرطاجنّيّ (ت 684هـ) الذي يقول متحدّثًا عن الكلام في الشعر: “فأمّا المتّصل العبارة والغرض، فهو الذي يكون فيه لآخر الفصل بأوّل الفصل الذي يليه – علاقةٌ من جهة الغرض، وارتباطٌ من جهة العبارة”، وهذا هو عينُ الاتّساق، والانسجام كما يُعرفان اليوم. ولعلّ نظريّة النَّظْم كما عند الإمام عبدالقاهر الجُرجانيّ – تعدّ من أكثر الأدلّة على اهتمام العرب بقضيّة الاتّساق في النصوص، فهو قد نظَر إلى القرآن الكريم نظرةً شاملة بعدّه نصًّا واحدًا، متسائلًا عن سرّ إعجازه للعرب.
إنّ للاتّساق ثلاثةَ أنواع: اتّساق نحويّ، ومعجميّ، وصوتيّ، وله وسائل وأدوات كثيرة يتحقَّق بها في النصوص، وأهمُّها الإحالة، والاستبدال، والوصل، والاتّساق المعجميّ، والتَّكرار([7]):
- الإحالة: هي إشارة عنصر داخل النصّ إلى عنصر آخرَ، وتتحقّق بمجموعة من العناصر؛ مثل: أسماء الإشارة، والضمائر، وأدوات المقارنة.
وتنقسم الإحالة من جهةٍ إلى إحالة مقاميّة خارج النصّ، وإحالة نصّيّة داخل النصّ، وتنقسم من جهة أخرى إلى إحالة قَبْلِيَّة تشير، وتُحيل على شيء سابق، وإحالة بعديّة تُحيل على شيء لاحق.
- الاستبدال:هو استبدال عنصر لغوي بعنصر آخر له نفس المدلول، فهو إذًا ذو طبيعة معجمية ونحوية، “وينقسم الاستبدال إلى ثلاثة أقسام: الاستبدال الاسمي، والاستبدال الفعلي، والاستبدال القولي”([8]).
- الربط:”هو الطريقة التي تترابط بها أجزاء النصّ اللاحقة، والسابقة بشكل منظّم، ومتماسك، وله وسائل؛ منها: العطف، الذي يعدّه ديفيد كريستال”.
من أهمّ وسائل الاتّساق، فهو أوّل وسيلة يتَّسق بها النصّ، ثمّ تأتي بعده الوسائلُ الأخرى؛ كالإحالة، والتكرار، والعلاقات المعجميّة.
- الاتّساق المعجميّ: يتحقّق هذا الاتّساق من خلال وسيلتين؛ هما: التَّكرار،والتضامُّ؛ فالأُولى هي “شكل من أشكال الاتّساق المعجميّ يتطلّب إعادة عنصرٍ معجميّ، أو ورود مرادفٍ له، أو شِبه مرادف، أو عنصر مطلق، أو اسمًا عامًّا”. ([9]) أمّا الثانية، فهي([10]) “توارُد زوج من الكلمات بالفعل أو بالقوّة؛ نظرًا إلى ارتباطهما بحكم علاقة من العلاقات”؛ كعلاقة التضادّ، والتنافر، وعلاقة الجزء بالكلّ.
- الاتّساق الصوتيّ:يتحقّق هذا النوع بالسجع، والجناس، والتوازي الصوتيّ، والصرفيّ.
هناك اتّفاق ضارب الجذور في تاريخ النقد الأدبيّ الأوربيّ على أنّ العمل الأدبيّ يجب أن يكون كلاًّ متكاملاً لا أجزاء متفرّقة، أو شذرات من هنا وهناك، ويتراوح تصوّر هذا بين مفهوم أرسطو المنطقيّ للتكامل (بَداءة، ووسط، ونهاية)، وبين مفهوم كولردج للوحدة العضويّة الذي يرى أنّ القصيدة مجموعة من المجازات تتضافر لتجعل العمل الفنّ ينمو من الداخل باتّجاه شكل متكامل، وكأنّه النبتة الحيّة… على أنّ مفهوم الوحدة غير مقتصر على المسألة المنطقيّة وحدها، أو مسألة الشكل الخارجيّ، فهناك وحدة الموضوع، أو الحالة الداخليّة كما نجد في الأعمال الابتداعيّة والرمزيّة. وهناك نماذج أدبيّة ممتعة تتجاوز المفهومات المتّفق عليها لمبدأ الوحدة، وتفسح المجال للاستطرادات، والتضارب، والإطالة في الأحداث الجزئيّة ومع ذلك يشعر الإنسان إنّها توفّر نوعًا من الوحدة. مثال ذلك الرواية الخياليّة في العصور الوسطى، وعصر النهضة، وبعض أعمال تشارلز، ديكنز (أوراق بيكويك)، بل إنّ شكسبير نفسه أشبه بغابة لا بحديقة منسّقة، ومع ذلك توفّر أعماله دائمًا انطباعًا بالوحدة العضويّة، والوحدة الشكليّة في آن معًا. وربّما كان سرّ هذا الانطباع أنّ مثل هذه الأعمال الفنّيّة خاضعة لنوع معيّن من الانسجام يوحي بالتكامل والوحدة، فهي قد تتعلّق بطابع معيّن من المغامرات، أو العواطف، وقد يكون الربط فيها هو الاهتمام بالشخص ذاته، وهي لا تقودنا إلى نهايات محدودة، ولكنّها تثير شغفنا باستمرار، ويتوافر فيها نوع من الكلّ المتكامل الذي يصعب تفسيره من خلال أجزائه.
ومقابل هذا الفهم المطاط للوحدة شهد الأدب الأوروبيّ شكلًا متزمّتًا جدًّا من أشكال الوحدة مثاله الأوّل إدغار ألنيو الذي أصرّ على أنّ القصيدة الطويلة لا وجود لها، وأنّها تتألّف من مجموعة قصائد قصار، وحدّد العمل الأدب الأوروبيّ شكلًا متزمّتًا جدًّا من أشكال الوحدة مثاله الأوّل إدغار ألنبو الذي أصرّ على أنّ القصيدة الطويلة لا وجود لها، وأنّها تتألّف من مجموعة قصائد قصار وحدد العمل الأدبيّ بإمكان استيعابه في جلسة واحدة، ويعدّ هذا التحديد هرطقة أرسطوطاليّة فأرسطو لم يقصد هذا التضييق، وكان مفهومه لحجم العمل الأدبيّ هو أنّه “حجم يمكن أن تستوعبه الذاكرة بسهولة”، وأنّ تحديد العمل الأدبيّ في لحظة انطباع واحدة يناقض وجود العمل الأدبيّ ذاته.
ب _ الانسجام:
يعتمد الانسجام على عمليّات ضمنيّة غير ظاهرة، يُوظِّفُها المتلقّي لقراءة النصّ، وبناء انسجامه؛ مثل: السياق، ومبدأ التأويل المحلّيّ، ومبدأ التشابه والتغريض، والمعرفة الخلفيّة، وغيرها:
1 – السياق: تعدّ معرفة السياق الذي يظهر فيه النصّ حاسمةً في تأويل المتلقّي، فالسياق “يَحصر مجال التأويلات الممكنة… ويَدعَم التأويل المقصود”، وهو يشمل المتكلّم، أو الكاتب، والمستمع، أو القارئ، والزمان والمكان، فللسياق “دور حاسمٌ في تواصليّة الخطاب، وفي انسجامه بالأساس”([11]).
2- مبدأ التأويل المحلّيّ: يُعدّ هذا المبدأ تقييدًا لتأويل المتلقّي من خلال خصائص السياق، فالمتلقّي لا ينتج تأويلًا بعيدًا عن السياق، ما دام السياق لا يُقدِّم مؤشّرًا لتأويل آخر، فمثلًا في قولنا: ذهبتُ إلى بيت الأسرة، وتحدَّثت مع الأب، يَفرض مبدأ التأويل المحلّيّ أنّ الأب هو أب الأسرة التي ذهبتُ إليها، وليس أب أسرةٍ أخرى، فالمتلقّي هنا لا يفترض تأويلًا لا يدلّ عليه السياق.
3- مبدأ التشابه: يقوم هذا المبدأ على تشابُه النصوص، وتراكُم تلقِّيها عند المتلقّي؛ حيث يصبح بإمكانه أن يَفترض، أو يتوقّع تأويلًا ما لنصٍّ معيّن، انطلاقًا مِن استحضار تَلقٍّ سابقٍ لنصٍّ آخرَ، “فتراكُم التجارب (مواجهة المتلقّي للخطابات)، واستخلاص الخصائص، والمميّزات النوعيّة من الخطابات – يقود القارئ إلى الفَهم والتأويل؛ بناءً على المعطى النصّيِّ الموجود أمامه، ولكن بناءً أيضًا على الفهم، والتأويل في ضوء التجربة السابقة؛ أي: النظر إلى الخطّ الحاليّ في علاقة مع خطابات سابقة تُشبهه، أو بتعبير اصطلاحيّ: انطلاقًا مِن مبدأ التشابه”([12]).
4- التغريض: يعتمد مبدأ التغريض على استناد المتلقّي لثيمة النصّ من أجل تكوين تأويلٍ معيّن، ولو كان تأويلًا أوّليًّا، والثيمة هي بداية قول ما، فقد تكون العنوان، أو جملة البداية… ولها تأثير على تأويل المتلقّي، فإذا تغيَّر مثلًا عنوان نصٍّ، أو خطابٍ ما، فقد يتغيَّر تأويلُ المتلقّي له تكيُّفًا مع العنوان الجديد.
5- المعرفة الخلفيّة: تتشابه مع مبدأ التشابه؛ حيث تعتمد على زاد القارئ، والمتلقّي المرتبط بالنصّ نوعًا، وشكلًا، ومضمونًا، وغير ذلك.
فالانسجام ترابط أجزاء العمل الفنّيّ وتناسبها وفق متطلبات الموضوع ونطقه الذاتيّ فعلى العمل الفنّيّ، كما يقول كولودج، أن يتضمّن في ذاته السبب الذي جعله على هذا النحو من دون أيّ نحو آخر “وهذا يعني التناسب من الناحية المنطقيّة أي أن يتوافر حُسن توزيع الأجزاء، وأن يجري التطوّر الداخليّ ضمن توقيت مناسب، ويعني أيضًا التناسب من الناحية الكيفيّة أي أن يجري التأكّد المناسب على أجزاء العمل الفنّيّ حسب أهمّيّتها (كما يجري تحديد درجة الألوان في الرسم). والتناسب ضروريّ لأنّ العمل الفنّيّ قد يكون كلاًّ واحدًا، ولكنّه يفتقر إلى التناسب، والتوازن فمسرحيّة([13]) “تاجر البندقيّة” مثلًا تعبّر عن كلّ واحد، ولكن تطغي عليها عواطف، وانفعالات شيلوك بحيث تكاد تطمس الآخرين.
وليس يعني الانسجام نوعًا من التوافق السلبي القائم على استبعاد العناصر المغايرة، وإنّما يعني القدرة على توفير توافق إيجابيّ بين العناصر المتباينة.
ج- التألّق:
ويعني التألّق ذلك الإشعاع الجماليّ الذي ينبع من الاستعمال الأدبيّ الخاصّ للغة، والذي يفرّق هذا الاستعمال عن سائر الاستعمالات العمليّة لها، وهو تألّق نابع من اللفظ، وبارز على السطح، وقد يُفتقد عند الترجمة، وهو بالذات ما يسمّى أحيانًا بسحر البيان، والذي يعتمد على الإمتاع، وإثارة المتلقّي عبر الانزياح، وخرق المألوف في اللغة الطبيعيّة على مستوى دلالة الكلمة، أو التركيب النحويّ والبلاغيّ، أو البِنية الإيقاعيّة.
وأيّ عمل أدبيّ لا بدّ من أن يحتوي قسطًا من هذه الخاصيّة الجماليّة التي لها امتدادات واسعة عبر فضاءات معرفيّة شاسعة، بل أضحت مدخلاً لا يمكن القفز عليه في المجال العلميّ، والأدبيّ، والفنّيّ، والثقافيّ، التي تسترشد بآليّاتها مجموعة من العلوم، والتخصّصات في خطاباتها المعرفيّة المتعدّدة، والمتنوّعة إن نظريّة، وإن تطبيقًا.
خلاصة
ومن الواضح أنّ الخصائص الثلاثة السابقة. (الوحدة، الانسجام، التماسك) ذات طابع أرسطوطاليّ مدرسيّ وأنّها وضعت على هذا الشكل لتسهيل التمييز، وأنّها لا تستطيع أن تستوعب جميع العناصر المتباينة للنظريّة الشكليّة، ولذلك كان على الإنسان أن يتناولها بحذر شديد وأن يعدّها مجرّد مؤشّرات. والناقد الواعي يدرك تمامًا أنّ هذه الخصائص لا تتوافر في العمل الأدبيّ على مستوى واحد فهناك أعمال يكون التشديد فيها قويًّا على عنصر من دون الآخر. ومهما يكون من أمر فإنّ أهمّ ما يجب أن يحتاط له الناقد هو عدم تطبيق هذه العناصر على الأدب الأوروبيّ الحديث، لأنّ هذا الأدب له قوانينه الخاصّة التي تختلف عن كلّ ما عرفته الآداب الإنسانيّة السالفة من مواصفات، وبدلًا من العناصر السابقة، تسيطر على الأدب الحديث عناصر أخرى مثل التوتر، والتعارض، والصراع، والنشاز، وهي عناصر مقصودة، ومتعمّدة وتؤلّف لبّ الموقف الفرديّ المتمرّد ضدّ الحضارة المعاصرة التي لم يعرف لها تاريخ الإنسانيّة السالف مثيلًا أيضًا.
** أستاذ مساعد، الجامعة اللبنانيّة، كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، الفرع الرابع، قسم اللغة العربيّة وآدابها.
– 1عبّاس، د. إحسان: تاريخ النقد الأدبيّ عند العرب، بيروت، 1971، ص 50.
2- وذلك أنّ الأصمعي كان لا ينشد، ولا يفسّر ما كان فيه ذكر الأنواء لقول رسول الله(ص): إذا ذكرت النجوم فأمسكوا؛ وكان لا يفسّر، ولا ينشد شعرًا فيه هجاء، وكان لا يفسّر شعرًا يوافق تفسيره شيئًا من القرآن (الكامل 3: 36).
– [3]للتفصيل راجع:Hough, Graham:An essay o Criticism London, ,1966, P11. N
[5]– ينظر محمّد مفتاح، التلقّي والتأويل، ص 157 وما بعدها.
-[6]حازم القرطاجنّيّ: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، محمّد الحبيب ابن الخوجة، د. ت، د. ط، دار الكتب الشرقيّة، ص 290.
– [7] قد يكون التكرار تامًّا بإعادة الكلام نفسه لفظًا ومعنًى، وجزئيًّا باستخدام تنوُّعات الجذر اللغويّ، كما يكون التكرار بالترادف، أو شبهه، أو بإعادة الصيغة الصرفيّة.
– [8] ينظر: سيبويه، الكتاب، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، ط1974، ج3، ص 369.
[9]– David Crystal, the Cambridge encyclopedia of language.119p.
– [10] محمّد خطابيّ، لسانيّات النصّ، ص 179.
– [11] بروان ويول، تحليل الخطاب، ص 37، نقلًا عن محمّد خطابيّ، لسانيّات النصّ، ص 52.