التّاريخ على مستوى الابستمولوجيا والمنهج عند ابن خلدون
د. محمد عبد العزيز يوسف*
المقدمة
لم يكن التّاريخ علماً، بل كان سرداً إخبارياً إلى أنّ جاء ابن عَصَره القلق، الّذي اكتوى بمشاكله وحاول أن يفهمه وأن يعي التحولات التي أدت إليه، وهو الّذي عرف التّاريخ وندد بقلة النقد فيه وضعف إسلوبه لدى أسلافه ليضع قواعد النقد الدقيق. مع ابن خلدون، ولأول مرّة يتكون التّاريخ في علم. وقد رأى ابن خلدون ضرورة في تحديد موقفه من المؤرخين السّابقين، وفي إقامته الحدّ المعرفي الفاصل بينه وبينهم حتى لا يكون وهْم بأن كتابته التّاريخ هي امتداد لكتابتهم، لا سيما أنّ فنّ التّاريخ عريق عند العرب، عرفوه ومارسوه حتى قبل الإسلام، فضلاً عن أنّ الطّابع الغالب في مفهوم التّاريخ عند الأوائل كان الطابع الحدثي.
كما حرص ابن خلدون على إظهار الاختلاف – مع أسلافه – حول الموضوع من العلم، بين أن يكون حدثاً معطى، أو أن يصير واقعاً مادياً فعلياً باستخراج القوانين الموضوعية التي تتحكم به.
فما هي طبيعة القفزة العلمية التي قام بها ابن خلدون في تاريخ الفكر العربي؟ أين يكمن الاختلاف بين الفكر التّاريخيّ الخلدوني والفكر التّاريخيّ السابق عليه؟ كيف يمكن للمؤرخ أن يتحقق من صحة الأخبار، فلا ينقلها إلا بعد نقد، وهو يفتقد أدته التي هي مفهوم العمران في ضرورة قوانينه؟
أولاً: مرحلة ما قبل ابن خلدون
إن علم التّاريخ عند العرب تطور طبيعي في الإسلام فالدّين الجديد، وتكوين إمبراطورية، ووضع تقويم ثابت، كل هذا هيأ الأساس، ثم إنّ الاتجاهات الإسلاميّة المتمثلة في الاهتمام بسيرة الرسول، وبإجماع الأمة وخبراتها، وبأراء علمائها وأحكامهم، وبالحوادث الكبرى التي حددت سيرها التّاريخيّ كانت الدّوافع الرّئسية لدراسة التّاريخ في المدينة ومن جهة ثانية استمرت الاتجاهات القبليّة نحو العناية بالأنساب والأيام والشعر في المراكز القبليّة الجديدة في الكوفة والبصرة في إطار جديد.
إنّ تطور الكتابة التّاريخيّة يكوّن جزءًا حيوياً من التّطور الثّقافي فالرّوايات المبعثرة – في الأخبار والحديث والأنساب – صارت تجمع من قبل الأخباريين أو المحدّثين بصورة شفوية، إلا أنّ التّاريخ لم يظهر بصورة ثابتة إلا حين بدأ استعمال الكتابة لحفظ الأخبار والروايات حيث إنّ قوة الذّاكرة التي اشتهر بها العرب وأعطت لصاحبها امتيازاً على غراراها تميز به الذّهبيّ أو الطبري – مثلا – لم يعد التوكؤ عليها وحدها ممكناً، مما كان سبباً في اتجاه العرب إلى التدوين، بعد تباعد المسافة بين الحدث ورواته.
وكانت المرحلة الأولى في نشاة التّاريخ محليّة بالدرجة الأولى ومحدودة تقريباً في نطاقها، ففي المدينة جهد الإسلام انصب الاهتمام على السيرة وعصر الخلفاء الراشدين، وفي الكوفة والبصرة اتجه الاهتمام إلى الفعاليات القبليّة والفتوحات.
فقد أورد الذّهبي في هذا السّياق: ” أن التدوين بدأ في حوالي منتصف القرن الثّاني، محدداً السنة الثالثة والأربعين بعد المائة، بأنّها السنة التي شرع فيها علماء الإسلام في تدوين الحديث والفقه والتفسير”(1) على أن الذّهبي على الرّغم من تحديده السّابق، لم ينف وجود الكتابة التّاريخيّة قبل هذه السنة، ولكنها أخذت تشيع وتاخذ تدريجاً مكان الذاكرة، حيث “كثر تدوين العلم وتبويبه ودوّنت كتب العربيّة واللغة والتّاريخ وأيام الناس”(2).
ولعل الزهري(ت 124هـ) يمثل المرحلة الأولى من التدوين التّاريخيّ، حيث اتخذت الكتابة التّاريخيّة طابعاً أكثر منهجية على يد الزهري الذي يعدّ من أقطاب مدرسة المدينة ورائد كتابة السيرة المدونة، “مورداً التفاصيل من أخبار الرسول التي استقاها في الغالب عن الحديث وجاءت متحرة أو تكاد من الطابع القصصي”(3).
كما كان من المؤرخين المتقدمين” شرحبيل بن سعد (ت 113هـ) الذي ينظر إليه كمؤسس لعلم الطبقات في التّاريخ الإسلامي” (4) و “عاصم بن عمر بن قتاده (ت 120هـ) وعبد الله بن أبي بكر بن حزم (ت حوالي130هـ)”(5). وقد “جاءت بعدهم كوكبة من المؤرخين، في طليعتهم موسى بن عقبة (ت 141هـ) الذي كتب في المغازي”(6) فضلاً عن “محمد بن اسحق (ت 151هـ)، أحد أعلام مدرسة المدينة التي ولد فيها وتلقى علومه، ومن ثم وضع سيرته التي عرفت بسيرة ابن هشام”(7).
ولعل اهمية هذه المرحلة التي اقترنت بالتدوين التّاريخيّ، انها لم تقتصر على لسيرة، حيث كانت الباعث الاساسي لكتابها الكبار الذين ارسوا مداميك علم التّاريخ عن العرب المسلمين، وإنّما تفرعت اهتماماتها وتشعبت موضوعاتها بين السّيرة والمغازي والمواقع والأنساب والمثالب والإدارة والقضاء وأخبار الخلفاء والولاة والقادة والشعراء والفقهاء، إلى آخر ذلك من العناوين البارزة، والثانوية في القرون الأولى للهجرة.
لقد كان هؤلاء الأخباريون – وغيرهم – على قدر كبير من الوعي التاريخي والثقافة التّاريخيّة الواسعة، على الرغم مما قيل عن ميول سياسية لهم كان من الصّعب الخروج منها تماماً في ذلك الوقت، ما شكك نوعًا ما في موضوعيتهم.
كما كانوا منهجياً على شيء من التسامح في استخدام الإسناد ما جعلهم هدفاً للنقد من جانب بعض الفقهاء الذين تعاطوا بكثير من التزمت مع هذه المسألة على أن ذلك يمكن أن يجسد، من منظور آخر، الصورة الفكرية لمدرسة الكوفة التي قطعت شوطاً في تطور المنهج التاريخي، متزامناً مع تقدم الرواية المكتوبة على الرواية الشّفيهة، من دون أن تصبح العودة بالتسلسل إلى مصادر الأخيرة، مسألة ضرورية للمؤرخ (الأخباري) في ذلك الوقت، بعد أن باتت تفاصيل الرواية وأبعادها معروفة وقيد التداول، ومن هناك “إن الإسناد لم يعد مجدياً للرواية، بقدر ما كانت هنالك أهمية للنقد التاريخي الذي سار فيه شوطاً بارزاً المدائني(ت 225هـ)(8)“.
حيث “مثل المدائني فوق ذلك مرحلة مهمّة في تطور المنهج التّاريخيّ، متأثراً بالأسلوب النقدي للمحدثين ما جعل أخباره موثقة، ومصدراً بارزاً لدى المؤرخين من بعده، لا سيما الطبري الذي احتل المدني موقعاً مهماً في رواياته”(9).
وفي معرض الحديث عن بدايات العمل التّاريخيّ عند العرب والمسلمين، نورد الآتي
لقد سارت الدراسات التّاريخيّة في بداياتها في اتجاهين عامين متميزين: الواحد من الآخر. اتجاه أهل الحديث، والاتجاه القبلي الذي كان إلى حد ما استمراراً للفعاليات القبلية السابقة. وهذان الاتجاهان يعكسان تيارين أساسيين في مجتمع صدر الإسلام – الاتجاه الإسلامي والاتجاه القبلي – أثراً في مختلف جوانب الحياة. وتمثل النشاط في كل من الاتجاهين في مصر من الأمصار، فكانت المدينة مهد الإسلام، والمركز الأول لاتجاه أهل الحديث، بينما كانت البصرة والكوفة مقر الحاميات القبليّة وموطن التقاليد القبليّة، المركز الأول للاتجاه القبلي.
وقد بدا الاتجاه القبلي في دراسة التّاريخ نتيجة الاهتمام بالفعاليات والشؤون القبلية وكان استمراراً مباشراً لقصص الأيام (ولروايات الأنساب) في الأسلوب والنظرة، وموجهاً إلى الأيام الجديدة أو المعارك والفتوحات في الإسلام. و”كانت الأخبار تُروى في الدرجة الأولى في المجالس القبليّة. ويعد ملكاً مشتركاً للعائلة أو القبيلة. وكان بعض الأفراد مثل رواة الشعر أو مشايخ القبائل الرواة الأساسيين لها. ولم يكن لهذه الأخبار أو الروايات في البدء أسانيد، بل استمرت جزءاً من الثقافة العامة وتهم الجميع. وقد بقي مثل هذه الروايات الشفوية مع كثير من الشعر يتداول في المجتمع الإسلامي الأول كما كان الوضع قبل الإسلام”(10).
إلا أنّ ظهور الإسلام واستقرار القبائل في الأمصار جمعا القبائل في منطقة واحدة، وأوجدا نواحي اهتمام جديد لدى القبائل، وأدخلا أوليات الكتابة والقراءة. و” لدينا أدلة وافية على استعمال الكتابة لإعانة الذاكرة أو لحفظ الروايات قبل نهاية القرن الأول الهجري وخلال النصف الأول للقرن الثاني الهجري”(11), وهكذا بدا ظهور روايات مسجلة إلى جانب الروايات الشّفويّة، وصار من أبرز سمات المدرسة العراقية في هذا القرن(الثاني الهجري)، كما التنوع في المضمون الذي اتسعت دائرته لتشمل تفاصيل واسعة عن تاريخ العرب قبل الإسلام، وعن بلدانهم وأمصارهم وأحوالهم وأنسابهم بعده، فضلاً عن أخبار النبي والخلفاء والفتوح والصراعات السياسية التي دارت في العهد الأموي، كما اتسمت – منهجياً – بالتحول من الرواية إلى التأليف وتوثيق السند على طريقة المحدثين، حيث تبلور هذا المنهج في أعمال مؤرخي القرن الثالث(هـ) واتسمت هذه المدرسة أيضاً ببروز الخلفية السياسية للمؤرخ، الذي كان أكثر قرباً من الحديث، وأكثر تأثراً بأجواء الصراعات الحادة بين الأمويين وخصومهم من الشيعة والزيديين والخوارج، وكانت تلك الحقبة حقبة علماء رواد في مختلف الحقول بدأوا يجمعون الشعر والأخبار والحديث. فقد “جمع أبو عمرو بن العلاء (ت 154هـ) وحماد الراوية (ت 156هـ) الشعر والأخبار ومواد من الأنساب العربية(قبل الإسلام) من رواة القبائل ومن كتبها بالدرجة الأولى، واستعانوا بالكتابة لحفظ بعض إنتاجهم” (12).
واذا انتقلنا إلى المدرسة الثانية البارزة في التّاريخ الإسلامي، وهي المدرسة الحجازية التي كان مركزها الأساسي في المدينة، “سنجد إضافة إلى المؤرخ المخضرم الزهري، الذي عاصر النصف الثاني من القرن الأول والربع الأول من القرن الثاني(هـ)، فريقاً آخر من المؤرخين، في طليعتهم محمد بن اسحق المطلبي، الذي وصف بأنه عمود هذه المدرسة”(13)، من خلال كتابه الرائد في السيرة، على الرغم من إهماله أحياناً التدقيق في السند. وثمة مؤرخ يمكن إدراجه بين أقطاب هذه المدرسة، هو أبو معشر السندي (ت 170هـ) الذي عاش ردحاً من حياته في المدينة وآخر في بغداد، واهتم شأن معاصره ابن اسحق، بالسّيرة النّبويّة، لا سيما الأخبار المتعلقة بالمغازي التي صنفته مؤرخاً رائداً في التّاريخ الإسلامي. على أنّ أبرز مؤرخي المدرسة الحجازية، هو محمد بن عمر بن واقد، المعروف بالواقدي (ت 207هـ) الذي نسبت إليه عدة كتب، في طليعتها “كتاب المغازي” الشهير ويعدُّ هذا الكتاب من أوسع الكتب في هذا المجال تفصيلاً وأكثرها دقة وتنظيماً وحرصاً على السند الذي اكتسبه من ضلوعه في علم الحديث، وأخذه له عن أئمته الكبار من أمثال مالك وسفيان الثوري.
وفي القرن الثالث(هـ)، جاء جيل جديد من المؤرخين كالبلاذري(ت279هـ) والدينوري(ت 282هـ) واليعقوبي (ت 284هـ) والطبري (ت 130هـ) الذين أضافوا الكثير إلى علم التّاريخ في الحضارة العربية.
لقد كان التّاريخ – عند هؤلاء جميعاً – مواكباً للأحداث الكبيرة في الإسلام، على الرغم من تلكؤ بعضهم في تتبع هذه الأحداث بصورة مباشرة، وتفسيرها في معزل عن الشخصية التي ظلت محور الكتابة التّاريخيّة حقبة طويلة من الزمن وكان ارتباط التّاريخ الإسلامي بالشخصية، بدءاً من النبي ومروراً بالخلفاء، سبباً في اتخاذه تلك الصفة السّياسيّة اللافتة، حيث كان المؤرخ،كما الشاعر، مشدود الأنظار إلى السلطة ولكن لكل منهما أسلوبه وهدفه، وبالتالي موقعه منها.
أضف إلى ذلك، فإنّ إشكالية النّظرة الدّينيّة إلى السّلطة و”الإحاطة” الإلهية للخلفاء، فضلاً عن الشّرعيّة المقدسة المسلم بها، مما يجعل السلطة فوق النقد، كان يربك المؤرخ ويقيد حركته، حتى لا يكون عرضة للملاحقة، أو التصنيف السياسي والمذهبي، وربما عرضه للتشكيك بإيمانه وكل ما يجعله في دائرة التهمة أو الخطر.
لذلك فإن من أبرز التّحديات التي واجهت المؤرخ في البدايات وأدت به إلى أن يأخذ شيئاً من دور الشّاعر، هي أنّ تحريّ الحقيقة التّاريخيّة لم يكن أمراً ميسوراً في كل الأحوال، وقد دفع ذلك المؤرخ أحياناً إلى الاستغراق في شؤون لا تثير انتباه السلكة، وإن لم تكن تباركها وتشجع عليها.
وليس ثمة شك في أنّ هذا المناخ غير المريح، قد انعكس بصورة مباشرة على المنهج التّاريخيّ، الذي بقي على تماهيه – إلا في حالات قليلة – مع منهج الحديث، على الرغم من الانفصال الذي تحقق بين العلمين في القرن الثاني(هـ). فقد تغلب منطق التسويغ لدى معظم الفقهاء على منطق التطور، وما يتبعه من نقد وتساؤل وتفسير، وغير ذلك من عناصر ظلت غائبة عن الكتابات التّاريخيّة حقبة طويلة من الزمن.
ولعل نقطة الاختلال البارزة في تكوين علم التّاريخ عند العرب المسلمين، تمثلت في تفوق الوعي على المنهج الذي انعكست عليه بعض سلبيات النظام السياسي، لا سيما التسليم بالأمر الواقع الذي جعل من المؤرخ عالمًا غير مفكر، وغير مطبوع على التحليل والنقد، فضلاً عن الالتزام الصارم بالسند – عند بعض المؤرخين – والاستسلام المطلق للرواية أضعفا الإحساس النقدي لديهم.
ثانياً: ابن خلدون من سرد الوقائع إلى دراسة الواقع
لقد كانت النظرة الواقعية للأشياء عند ابن خلدون تقوم على الوعيّ الذّاتيّ في فهم أحداث التّاريخ وتحليل دلالاته انطلاقاً من طبيعة السلوك البشري. فقد نظر ابن خلدون بواقعية إلى تدهور حالة الدول وانقراضها تبعاً لشروط العمران والطبيعة البشرية التي اقتضت تعاقب الأجيال، فـرأى “أنّ عدم أخذ الواقع بالحسبان وعدم تحكيم العقل في فهم طبيعة الأحداث أوقع العديد من المؤرخين في الخطأ، وجعلهم يخضعون للمؤثرات غير المنطقية كالخزعبلات والخرافات”(14)، وهذا ما لاحظه عند كبار المؤرخين كالطبري والمسعودي واليعقوبي وابن الاثير، فاكتفى بعرضه في تاريخه، وإن أشار إليه في مقدمته بقوله: “وإنّ فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها… وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وهموا فيها وابتدعوها، وزخرف من الروايات المضعفه لفقوها ووضعوها، واقتدى تلك الآثار الكثير من بعدهم واتبعوها وأدّوها إلينا كما سمعوها…”(15).
من قراءة بعض النصوص، يمكن تبين الاختلاف بين ابن خلدون والمؤرخين السابقين عليه. إذ إنّ ابن خلدون يرى ضرورة في تحديد موقفه من المؤرخين السابقين، وفي إقامة الحدّ المعرفي الفاصل بينه وبينهم حتى لا يكون وهْمٌ بأن كتابته التّاريخ هي امتداد لكتابتهم لا سيما أنّ فن التّاريخ عريق عند العرب، عرفوه ومارسوه حتى قبل الإسلام.
لقد تبين من خلال السّطور الأولى في البحث، أنّ الطابع الغالب في مفهوم التّاريخ عند الأوائل هو الطّابع الحدثي، سواء في ضرورة العناية بأخبار القبيلة وأيامها والتثبت من صحة النّسب، أم في ضرورة العناية بأخبار الرسول وأقواله، أيّ بالحديث والسّنة والتّحقق من صحتها.
لقد كانت كتابة التّاريخ لا تستدعي اعتماد أي منهج تفسيري. فالفعل البشري هذا هو المبدأ التفسيري. لذا، كان النقل السردي منهجاً لكتابة هذا التّاريخ الذي هو، في حركته، تعاقب حدثي، في حين كان ابن خلدون يمتلك تصوراً واضحاً لما عبر عنه بـ “باطن التّاريخ” ويقول عنه إنه “نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومباديها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بان يعد في علومها وخليق”(16).
وكما ألمحنا سابقاً، لعل من أهم الفروقات أيضًا بين ابن خلدون والمؤرخين القدامى، أنّ هؤلاء قد كتبوا ما كتبوه تحت ضغط الظروف التي عاشوا في كنفها؛ وسواء شعروا بذلك أم لم يشعروا، فإنّهم كانوا متأثرين بما يجري حولهم، مرتبطين في فهمهم للأحداث باهتمامات معاصريهم، وهي في الغالب، اهتمامات الملوك والحكام الذين دفعوهم إلى التّاريخ قصد إبراز مآثرهم ومحاسن حكمهم. ومثل هذه الاهتمامات تمنع صاحبها من تجاوز محيطها الضيق إلى المحيط الأوسع، محيط الصيرورة التّاريخيّة الذي هو وحده الكفيل بفهم الأحداث فهماً أعمق في إطار ترابطها وتكاملها.
إنّ الاختلاف القائم بين فكر ابن خلدون والفكر التّاريخيّ السابق عليه هو اختلاف في فهم التاريخ نفسه، بين أن يكون علماً، أو لا يكون. وهو أيضاً اختلاف الموضوع من العلم، بين أن يكون حدثاً معطى، أو أن يصير واقعاً مادياً فعلياً باستخراج القوانين الموضوعية التي تتحكم به. إن أثرًا من اختلاف بنية الواقع التّاريخيّ نفسه، بين أن يكون تعاقباً حدثياً، وبين أن يكون وحدة الترابط من العلاقات العمرانية الاجتماعية التي تكونه.
ويقترح ابن خلدون تمييزاً بين التّاريخ الذي يهتم بالأخبار الخاصة بعصر أو جيل، والتّاريخ الذي يهتم بالأحوال العامة للآفاق والأجيال والأعمار ويذهب إلى أنّ هذا الأخير”هو أُسُّ المؤرخ تُبنى عليه أكثر مقاصده وتتبين به أخباره”(17). هذا التمييز ينطوي على معنى عميق، أنّه يدل على إرادة واضحة لرفع التّاريخ إلى مستوى العقل الشّمولي. ومن الجدير ذكره هنا إن تتابع الحوادث التّاريخيّة ليس نتيجة المصادفة، ونسيج التّاريخ ليس نسيج أفعال مجانية. ففي المعرفة التّاريخيّة، كما في معرفة حقه، ينبغي إلغاء العرضية، أو على الأقل حصرها.
كما يميز ابن خلدون بين الظاهر والباطن فالتّاريخ كفنٍّ “هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأولى تنمو فيها الأقوال وتضرب فيها الأمثال وتطرف بها الأندية إذا غصّها الاحتفال وتودي إلينا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول فيها النطاق والمجال وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال وحان منهم الزوال، وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومباديها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق”(18).
وتظهر من هنا العمليّة التّاريخيّة الخلدونيّة التي سوف تصوغ مفهومًا جديداً لكتابة التّاريخ، الذي جاء على انقاضِ المفهوم الوضعي التّقليدي عند المؤرخين المسلمين، حيث اعتمد في ذلك على منهجه النقدي، القائم على جانبين، جانب هدّميّ وجانب بنائي، فالأول شخص فيه أسباب انحطاط التّاريخ عند المسلمين والثاني أُسِس فيه لمفهوم علمي جديد.
ويتضح لنا من تعريف ابن خلدون السّابق أنه يجعل من التّاريخ علماً، لا فناً أدبياً وبذلك ترتفع الكتابة التّاريخيّة عن مستوى الفن، الذي يقتصر فيه على مجرد سرد الأخبار سرداً قصصياً.
لقد “اتسع مفهوم التّاريخ فلم يعد منحصراً في تدون الوقائع، وتاريخ الحكام والدول أو ما يعرف بالتّاريخ السياسي، وإنّما امتد ليشمل التّاريخ الثقافي، والاجتماعي والاقتصادي والعلمي”(19).
إن في تمييز ابن خلدون بين ما هو ظاهر وما هو باطن في التّاريخ، يؤسس لنقض ما قبل فكر ابن خلدون من تاريخ إخباري.
في هذاالسياق فإن المأخذ الأساسي لابن خلدون على المؤرخين السابقين هو، بكل بساطة، أنّهم لم يمارسوا التّاريخ علماً بل اكتفوا منه بما ليس بالعلم، أي بعملية الأخبار نقلاً وسرداً من دون تحقيق.
هكذا نظر ابن خلدون إلى التّاريخ على أنه فهم للوقائع التّاريخيّة واستكشاف لأسبابها، فالوقائع أو الواقعات، إذا جردت عن أسبابها”صارت صوراً قد تجردت عن موادها وحوادث لم تُعلم أصولها”(20). هكذا كانت عند المؤرخين السابقين الذين كانوا “إذا تعرضوا لذكر الدولة نسقوا أخبارها نسقاً، محافظين على نقلها وهماً أو صدقاً، لا يتعرضون لبدايتها، ولا يذكرون السبب الذي رفع رايتها ولا علة الوقوف عند غايتها، فيبقى الناظر متعلماً بعد إلى افتقار أحوال مبادىء الدول ومراتبها، مفتشاً عن أسباب تزاحمها أو تعاقبها، باحثاً عن المقنع في تباينها أو تناسبها…”(21).
من هذا النص نفهم أن الأوائل من المؤرخين كانوا يفهمون التّاريخ على أنّه مجرد نقل للأخبار، من دون ذكر للأسباب، وليس في هذا النقل إنتاج لأيّ معرفة. هنا يكمن جذر الاختلاف المعرفي بين الفكر الخلدوني والفكر السّابق عليه.
إنّ البنيّة الفكرية التي كانت تمنع تكون التّاريخ في علم، والتي كانت تحكم الفكر العربي في تحركه، ليس في حقل التّاريخ وحده بل في حقول المعرفة الأخرى أيضاً، هي بنية فكر من التّاريخ ظاهرة الحدثي، فيحتجب عنه ما هو، عند ابن خلدون.
ويمكن القول إنّ الممارسة التّاريخيّة تتعطل من دون أُسُّ المؤرخ، وتفقد طابعها العلمي، فتسقط في ممارسة النقل الأخباري، والاُّس هذا الذي هو شرط لتكوّن التّاريخ في علم، هو العمران نفسه فـ “للعمران طبائع في أحواله ترجع إليها الأخبار”(22). والطبائع جمع طبيعة، والطبيعة هي الضرورة، كما في عبارة “طبيعة العمران البشري” التي يُكثر ابن خلدون من استعمالها. هذا يعني أنّ للعمران ضرورة تحكمه، هي ضرورة قوانينه الموضوعية التي تحدده في وجوده التّاريخيّ، وفي اختلافه من طور إلى طور، ومن بلد إلى آخر.
فكيف يمكن للمؤرخ أن يتحقق من صحة الأخبار، فلا ينقلها إلا بعد نقد، وهو يفتقد أداة هذا النّقد التي هي مفهوم العمران في ضرورة قوانينه، كيف يمكن له تفسير الوقائع، وهو يجهل أسبابها التي هي هذه القوانين بالذات؟ كيف يمكن لعلم التّاريخ أن يبنى على قاعدة هذا الجهل بأسباب الوقائع وقوانين العمران وفي غياب هذا المنهج النقدي في تحقيق الأخبار المنقولة؟
ثالثاً: قضية المنهج عند ابن خلدون
ارتبط منهج النقد التّاريخيّ في الكتابة التّاريخيّة بالعلوم الدّينيّة، واستخدم منهج المحدثين في توثيق الحديث بالارتكاز على الإسناد القائم على الجرح والتعديل وكان الهدف هو التمييز بين الأخبار الصحيحة والزائفة، خاصة الأخبار الصادرة عن النبي لكونها أساس إصدار حكم ديني/ شرعي.
وساهمت الصّراعات السّياسيّة والمذهبيّة التي عرفتها الدولة الإسلامية خلال القرن الثاني(هـ) في وصول المنهج إلى مستوى من النّضج حيث كان كل طرف يستند على شواهد لإثبات ادعاءاته، فشكلت تلك الشواهد مادة خام للمؤرخين لتطوير هذا المنهج.
وقد طرأت طفرة نوعية في منهج النقد التّاريخيّ في الكتابة التّاريخيّة العربية والإسلامية على يد ابن خلدون الذي رفض الإسناد وربط منهج الكتابة التّاريخيّة بطبائع العمران والعلم بقواعد السياسة والطبائع وعوائد البشر مقياساً لتمحيص الأخبار والروايات، فـ”عمد إلى وضع دراسة نقدية للتاريخ على أساس راسخ من المعرفة الجغرافيّة والسّياسيّة والثّقافيّة فالقواعد التي تستند إليها مثل هذه المعرفة، وكذلك النّواميس التي تسيطر على الأحداث والظواهر التي يدور عليها التّاريخ، هي في الأساس عقلية أو طبيعية، تمد دراس التّاريخ بقانون في تمييز الحقّ من الباطل في الأخبار والصدق من الكذب، بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه”(23).
ومن أجل تحديد معالم المنهج الذي جاء به ابن خلدون، لا بد من الإضاءة على منهج تدقيق الرّواية التّاريخيّة في المراحل السابقة.
لقد نشأ علم التّاريخ في الإسلام، كما أشرنا إلى ذلك سابقاً، جنباً إلى جنب مع علم الحديث: فلقد كان المؤرخون الكبار، الطبري مثلاً، من العلماء المحدثين والمفسرين الذين اشتغلوا، عن قرب أو بعد، بجمع الأحاديث وتدوينها. ونظراً إلى أنّ الأحاديث النبوية قد داخلها كثير من الوضع والتزوير، فقد “كان على جامعي الأحاديث ومدونيها، التأكد من صحتها، أيّ من صحة نسبتها إلى النبي. وقد اتخذوا لذلك منهاجهم المعروف، التعديل أو التجريح”(24). أي النظر في مدى صدق الرواة ونزاهتهم. فالحديث الصحيح هو الذي ثبت نسبته إلى الرسول عبر سلسلة تامة من الرواة النزهاء المعروفين بالتقوى والصلاح. وقد اصطنع المؤرخون الأُول هذه الطريقة نفسها عندما بداؤوا بكتابة سيرة النبي وسيرة الخلفاء بحسبانهما مصدراً للتشريع، لا بد من التأكد مما يروى عنهما، ثم اتسعت دائرة العمل التّاريخيّ، فعمت هذه الطريقة، طريقة التعديل والتجريح، ميدان التّاريخ كله.وإذا كان من غير الممكن في كثيرمن الأحيان تتبع الخبر إلى مصدره الأول عبر سلسلة الرواة، كما هو الشأن في الأحاديث وفي أخبار النّبي على العموم، فان المؤرخين كانوا يكتفون بذكر راوي الخبر أو الإشارة إلى مصدره، تبرئة لساحتهم مما قد يكون في الخبر من كذب أو زور. يقول ابن جرير الطبري في مقدمة كتابه : “فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضيين مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه من أجل أنه لم يعرف له وجهاً في الصحة ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك مكن قبلنا وإنّما أتى من قبل بعض ناقليه إلينا، وإنما أدّينا ذلك على نحو ما أُديّ إلينا”(25). ولم يغفل ابن خلدون عما توصل إليه علماء الحديث في هذا المضمار ولا عن تطبيقه على الروايات التّاريخيّة. فإنه نظر في أمر العدالة والضبط وذكر شيئاً من هذا القبيل في مقدمته الشهيرة، ثم ذهب مذهبه الخاص في تمحيص الأخبار، ومذهبه الذي لا ينفصل عن آرائه الفلسفية في الاجتماع والتّاريخ. وإليك الآن بعض ما قاله في هذا الأمر من محاذير: “لو ما كان الكذب متطرقاً للخبر بطبيعته وله أسباب تقتضيه. فمنها التشنيعات للآراء و المذاهب فإنّ النّفس إذا كانت على حلا الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقّه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه، وإذا خامرها تشيع لرأي أو زحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة، وكان ذلك الميل والتشيع غطاءً على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص فتقع في قبول الكذب ونقله. ومن الأسباب المقتضية للكذب في الأخبار أيضاً الثقة بالناقلين وتمحيص ذلك يرجع إلى التعديل والتجريح. ومنها الذهول عن المقاصد، فكثير من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع وينقل الخبر على ما في ظنه وتخمينه فيقع في الكذب. ومنها توهم الصدق وهو كثير وإنّما يجيء في الأكثر من جهة الثّقة بالناقلين. ومنا الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع لأجل ما يداخلها من التّلبيس والتصنع فينقلها المخبر كما رآها وهي بالتصنع على غير الحقّ في نفسه، ومنها تقرب الناس في الأكثر لأصحاب التجلة والمراتب بالثناء والمدح وتحسين الأحوال واسشاعة الذكر بذلك فيتفيض الأخبار بها على غير حقيقة، فالنفوس مولعة بحب الثناء والناس يتطلعون إلى الدنيا و أسبابها من جاه أو ثروة وليسوا في الأكثر براغبين في الفضائل ولا متنافسين في أهلها.
ومن الأسباب المقتضية له أيضاً وهي سابقة على جميع ما تقدم الجهل بطبائع الأحوال في “العمران” فإنّ كل حادث من الحوادث ذاتاً كان أو فعلاً، لا بد له من طبيعة تخصه في ذاته وفي ما يعرض له من أحواله. فإذا كان السامع عارفاً بطبائع الحوادث والأحوال في الوجود ومقتضياتها أعانه ذلك في تمحيص الصدق من الكذب”(26).
كما أضاف ابن خلدون عاملاً آخر مهماً إلى تلك العوامل وهو عدم مراعاة قوانين الطبيعة و ذلك كان ينقل المؤرخ أو الراوي أخباراً عن حوادث مستحيلة الوقوع، نظراً لكون قوانين الطبيعة لا تسمح بحدوثها. ومن أمثلة ذلك”ما نقله المسعودي من أنّ الإسكندر غطس داخل صندوق من الزجاج داخل البحر..”(27)، وهذا خبر كاذب لأنه مخالف لقوانين الطبيعة لكون الغطس في الماء وداخل صندوق الزجاج لمدة طويلة يؤدي إلى الاختناق والموت.
لقد أعطى ابن خلدون لمسألة الجهل بطبائع الأحوال في العمران أهمية كبيرة حتى تكاد تكون هذه الفكرة الركن الأساس في منهجه النقدي. فما هي هذه المسألة، وكيف نظر إليها؟
نصوص كثيرة تحدد معالم هذا المنهج لدى ابن خلدون في معالجته مغالط المؤرخين، حيث وضع مبدأً أساسياً يعتمده في الممارسة التّاريخيّة للتحقق من صحة الخبر المنقول، أو من بطلانه. هذا المبدأ هو مبدأ “المطابق”. العلاقة في هذه المطابقة، قائمة ليس بين خبر وآخر، بل بين الخبر المنقول وبين قوانين الاجتماع البشري. فالهدف من النظر في الخبر، في ضوء مبدأ المطابقة، ليس تعديل الخبر أو تصحيحه، بل غير ذلك وأبعد: إنه تحديد إمكان وقوع الحدث المنقول خبراً، أو استحالة هذا الوقوع. من هذا الإمكان أو هذه الاستحالة، نصل إلى ضرورة التعديل والتصحيح، أو إلى ضرورة نفي الخبر من أساسه، إذا كان الحدث الذي ينقله مستحيل الوقوع بمقتضى قوانين الاجتماع البشري.
لذا وجب على المؤرخ أن يكون ملماً بهذه القوانين وإلّا بطلت الممارسة التّاريخيّة في مبدئها. ما هو ممكن الوقوع من الأحداث ممكن بمقتضى ضرورة الاجتماع وقوانينه، وهو بالتالي، قابل لأن يكون خبراً صحيحاً، وما هو مستحيل الوقوع من الأحداث مستحيل بمقتضى هذه الضرورة وقوانينها،، وخبره بالتالي مرفوض لأنه باطل وللتوضيح هذا تحليل لمثال من ممارسة النقد الخلدوني. يقول ابن خلدون : “ومن الحكايات المدخولة للمؤرخين ما ينقلونه كافة في سبب نكبة الرشيد للبرامكة، من قصة العباسة أخته مع جعفر بن يحيى بن خالد مولاه، وأنّه لكلفه بمكانهما من معاقرته إياهما الخمر، أذِن لهما في عقد النكاح من دون الخلوة، حرصاً على اجتماعهما في مجلسه، وأنّ العباسة تحيلت عليه في التماس الخلوة به لما شغفها من حبه، حتى واقعها (زعموا في حالة السكر)، فحملت ووشى بذلك للرشيد فاستغضب”(28).
هذا هو الخبر المنقول عن المؤرخين الأقدمين كافة وهو لا ينقل حدثاً وحسب، بل يقدم تفسيراً للحدث، بتحديد سبب وقوعه. أمّا الحدث، فهو نكبة البرامكة، منقولاً خبراً عن المؤرخين. وأمّا السبب، فحدث آخر هو غضب الرّشيد. والعلاقة بين الحدثين – كما في الرواية – علاقة تتابع (بين غضب الرشيد ونكبة البرامكة)هي علاقة سببية تجريبية، حدثية، من حيث إن الحدث السابق ليس سبباً إلّا لكونه سابقٌ، والحدث اللاحق ليس أثراً(نتيجة) إلّا لكونه لاحقاً، والعلاقة بين الاثنين علاقة خارجية، بل قلّ ميكانيكية. وهكذا يتسطح التّاريخ عند هؤلاء المؤرخين أحداثاً تتسلسل في تعاقب مستمر.
يرفض ابن خلدون هذا الخبر – خبر العباسة – رفضاً باتاً ويعلل هذا الرفض ويبين أسبابه، فيقول : “وهيهات ذلك من منصب العباسة في دينها وأبويها وجلالها، وأنها بنت عبد الله بن عباس، ليس بينها وبينه إلا أربعة رجال هم أشراف الدين وعظماء الملة من بعده. والعباسة ابنة خليفة أخت خليفة محفوفة بالملك العزيز والخلافة النبوية… قريبة عهد ببداوة العروبة وسذاجة الدين البعيدة من عوائد الترف ومراتع الفواحش… فكيف تحمل نسبها بجعفر بن يحيى وتدنس شرفها العربي بمولى من موالي العجم.. وكيف يسوّغ من الرشيد أن يصهر إلى موالي الأعاجم على بعد همته وعظم آبائه. ولو نظر المتأمل في ذلك نظر المنصف وقاس العباسة بابنة ملك من عظماء زمانه لاستنكف لها عن مثله من مولى من موالي دولتها وفي سلطان قومها واستنكره ولج في تكذيبه..”(29).
لا يكتفي ابن خلدون برفض الخبر المنقول، بل يعلل رفضه – وهذا هو الأهم في منهجه النقدي – فيعتمد، في هذا التعليل، المنهج الذي استحدثه، والذي يقوم على مبدأ المطابقة. فهو يعرض الخبر على قوانين العمران فيراه غير مطابق لها، فيرفضه، لأن هذه القوانين تقضي برفضه. فالخبر هذا باطل لأن الحدث الذي ينقله بالسرد غير ممكن الوقوع، بضرورة العمران وقوانينه.
فـ “فالعباسة لا يمكن أن تأتي محظوراً في الشرع مع جعفر البرمكي. وكذلك فان خبر شرب الرّشيد الخمر خبر كاذب واهٍ لأن الجل لم يكن يواقع محرماً من أكبر الكبائر عند أهل الملة، و لقد كان أولئك القوم بمنجاة من ارتكاب السرف والترف في ملابسهم وزينتهم وسائر متناولاتهم، لما كانوا عليه من خشونة البداوة وسذاجة الدين التي لم يفارقوها بعد.
وأيضاً فإنّ الدّولة العباسيّة آنذاك كانت في أول طورها، ولأن طبائع العمران تقتضي أن طبيعة الدولة في أولها تكون على شيء من البداوة والغضاضة”(30).
في الممارسة التّاريخيّة، يكون التحقيق، إذان، بتحديد الإمكان أو الاستحالة في وقوع الحدث، والإمكان والاستحالة يكونان بضرورة العمران أي بآلته الداخلية.
لقد اتضح إذًا، أنّه في نظر ابن خلدون”يمكن إرجاع قواعد فحص الواقعات والتحقق منها، إلى قاعدة واحدة، هي ضرورة البحث عن إمكان حدوث الواقعة في نفسها، عن عدم مضادتها للقوانين الاجتماعية، وعن مدى انسجامها مع الزمان والمكان اللذين يشكلان إطار حدوثها”(31).
والحق يُقال فابن خلدون قد سبق عصره وأهل زمانه في مجال علميِّ التّاريخ والاجتماع. أليس من المفارقة العجيبة أنّ معظم التحقيقات المخصصة للتاريخ وعلم الاجتماع لا تزال تتجاهل هذا الفيلسوف الذي أشاد بعبقريته الكثير من رجال العلم والتّاريخ؟ وفي ذلك يقول توينبي عن المقدمة : “إنها بلا شك أعظم كتاب أنتجه الفكر البشري في كل مكان وزمان”(32).
إن ما يمكن أن نستنتجه هو أن النّزعة النقديّة التي خطها ابن خلدون في عصر تميز بكل أنواع الاضطرابات والتّخلف والفوضى على جميع الاصعدة هي صناعة عقلية ترفض الاستكانة للجاهز وتتخذ من السؤال والمساءلة منهجاً والإبداع غاية وهدفاً. وهو أنّ ثمة ضرورة تكاد تكون محل إجماع بين أغلب المفكرين اليوم على اختلاف منطلقاتهم الفكرية، حيث” لم يعد مثل هذا النقد فعلاً مشروعاً بمعايير المعرفة والأخلاق فحسب، بل بات يرقى إلى مستوى الفريضة العلميّة التي تترتب على المثقفين العرب على مقتضى العين لا الكفاية وهو اليوم – النقد نعني – شرط صحي لازم لإعادة بناء عمران ثقافي اهترأت أساسته بالتّقادم”(34).
إنّ النزعة النّقدية الخلدونيّة هي اليوم المنهج الذي يمكن أن نستعين فيه من أجل خلق حالة نقدية تعنى برسم ثقافة النقد وتوسيع مفهومه بعيداً من التوجس الذي جعل منه مظهراً للعداوة والخصومة وأغلق به باب الحوار الفكري وحصر به التفكير في العقل الواحد والشخص الواحد و المذهب الواحد.
الخاتمة
مما تقدّم نخلص إلى أنّ كتابة التّاريخ كانت لا تستدعي اعتماد أي منهج تفسيري. فالفعل البشري هذا هو المبدأ التفسيري لذا، كان النقل السردي منهجاً لكتابة هذا التّاريخ الذي هو في حركته، تعاقب حدثي، في حين كانت النظرة الواقعية للأشياء عند ابن خلدون تقوم على الوعي الذاتي في فهم أحداث التّاريخ وتحليل دلالاته انطلاقاً من طبيعة السلوك البشري.
إنّه، اختلاف بنية الواقع التّاريخيّ نفسه، بين أن يكون تعاقباً حديثاً، وبين أن يكون وحدة الترابط من العلاقات العمرانية الاجتماعية التي تكونه، ما يرفع التّاريخ إلى مستوى العقل الشمولي.
إن تتابع الحوادث التّاريخيّة ليس نتيجة المصادفة، ونسيج التّاريخ ليس نسيج أفعال مجانية. ففي المعرفة التّاريخيّة، كما في كل معرفة حقه، ينبغي إلغاء الفرضية او على الأقل حصرها.
من هنا تظهر العلمية التّاريخيّة الخلدونية التي سوف تصوغ مفهوماً جديداً لكتابة التّاريخ، الذي جاء على أنقاض المفهوم الوضعي التقليدي عند المؤرخين القدامى، حيث اعتمد – ابن خلدون – في ذلك على منهجه النقدي، القائم على جانبين، جانب هدمي وجانب بنائي، فالأول شخص فيه أسباب انحطاط التّاريخ عند العرب، والثاني أسس فيه لمفهوم علمي جديد.
وعلى مستوى النقد، أصبح التحقيق – عند ابن خلدون – في الممارسة التّاريخيّة، أقول أصبح التحقيق بتحديد الإمكان أو الاستحالة في وقوع الحدث. والإمكان والاستحالة يكونان بضرورة العمران، أي بآليته الداخلية.
إن النزعة النقدية التي خطها ابن خلدون هي صناعة عقلية ترفض الاستكانة للجاهز وتتخذ من السؤال والمساءلة منهجاً والإبداع غاية وهدفاً. وهو عمل يتوق العقل العربي إلى استعادته اليوم، وهو ضرورة تكاد تكون محل إجماع بين أغلب المفكرين اليوم على اختلاف منطلقاتهم الفكرية.
المراجع
1 – جلال الدين عبد الرحمن بن ابي بكر السيوطي، تاريخ الخلفاء، وزارة الاوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، د.ت، ص 261.
2 – المرجع نفسه، ص 261.
3 – عبد العزيز الدوري، نشات علم التّاريخ عند العرب، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت،2005، ص23.
4 – سهيل زكريا، التّاريخ عند العرب، دار الفكر، بيروت،د.ت، ص 38.
5 – يوسف هوروفيتس، المغازي الأولى ومؤلفوها، ترجمة : حسين نصار، 1949، ص 116.
6 – عبد العزيز الدوري، المرجع السابق، ص35.
7 – سهيل زكريا، كتاب السير والمغازي، دار الفكر، بيروت، 1979، ص 45.
8 – عبد العزيز الدوري، المرجع السابق، ص39.
9 – المرجع نفسه، ص39.
10 – جلال الدين عبد الرحمن بن ابي بكر السيوطي، المزهر في علوم اللغة وانواعها، شرحه محمد احمد جاد الملى، علي محمد البجاوي، ومحمد ابو الفضل ابراهيم،ج1، القاهرة، دار احياء الكتب العربية، د.ت، ص248.
11 – عبد العزيز الدوري، المرجع السابق، ص105.
12 – ابو الفرج الاصفهاني، كتاب الاغاني،ج3، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1974، ص 322.
13 – شاكر مصطفى، التّاريخ العربي والمؤرخون، دار العلم للملايين 6 – ج61 بيروت، 1978، ص160.
14 – طه حسين، فلسفة ابن خلدون الاجتماعية، ترجمة : محمد عبد الله عنان، دار المعارف للطباعة والنشر، سوسة(تونس)، 2000، ص 39، ط2.
15 – عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة، الدار التونسية للنشر، تونس، 1984، ص 30.
16 – المرجع نفسه، ص 351.
17 – المرجع نفسه، ص 257.
18 – المرجع نفسه، ص 209.
19 – ساطع الحصري، دراسات عن مقدمة ابن خلدون، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1967، ص 64.
20 – المقدمة، ص5.
21 – المقدمة، ص 5.
22 – المقدمة، ص 4.
23 – ماجد فخري، تاريخ الفلسفة الإسلامية، ترجمة: د. كمال اليازجي، الدار المتحدة للنشر، 1974، ص 449.
24 – مصطفى زيد، دراسات في السنة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1968، ص 19.
25 – ابو جعفر محمد بن جرير الطبري، تاريخ الامم والملوك، الطبعة المصرية(المطبعة الحسينية)، ج1، د.ت، ص 7.
26 – المقدمة، ص 35 – 38.
27 – محمد عابد الجابري، فكر ابن خلدون، العصبية و الدولة، معالم نظرية خلدونية في التّاريخ الإسلامي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2014، ص 98، ط 10.
28 – المقدمة، ص 15.
29 – المقدمة، ص16.
30 – محمد عابد الجابري، المرجع السابق، ص 127.
31 – طه حسن، المرجع السابق، ص 35.
32 – جورج لا بيكا، السياسة والدين عند ابن خلدون، ترجمة : د. موسى وهبه، شوقس الدويهي، دار الفارابي، بيروت، 1980، ص19، ط1.
33 – عبد الاله بلقريز، نهاية الداعية: الممكن والممتنع في ادوار المثقفين، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2006، ص 84.
* حاصل على شهاد الدكتوراه في التّاريخ الحديث والمعاصر من المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانيّة.