ثقافة المتّحدات العربيّة بين الامتهان والإبداع
البروفسور مها خيربك ناصر*
أوّلاً: عتبة البحث
مذ كان الإنسان بدأ سعيه إلى خلق متّحد اجتماعيّ يحقق كينونته ويمنح هوية انتماء يُعرف بها وتُعرف به، فتنوعت المتّحدات بتنوع طبائع البشر وتمايُز طموحاتهم وأحلامهم وأهدافهم وأساليب تفكيرهم، فكان لكلّ متّحد نظامٌ مجتمعيّ يحفظ عاداته وتقاليده ومفاهيمه، غير أنّ معظم المتّحدات البشريّة لم تبقَ على ثباتها من حيث الحضور الثقافي والفكريّ والحضاريّ، لأنّها لم تستسلّم إلى ترابط جينات جغرافية فرضت نظمًا وقيمًا متماثلة بين أبناء المتّحدات المتقاربة، بل خضعت لقانون الحياة الذي يفرض حراكًا دائمًا يُنتج مسارات تتوازى أو تتقاطع في مركزيات جديدة ترسّخ حضورها بتوليد متحدات تتجاوز الأصل بقدر ما ترتبط به سلبًا أو إيجابًا، فيُطلق على المتجاوز الجديد المتحد الموازي من حيث العادات والتقاليد والأعراف وأنماط التفكير وأساليب العيش.
استنادًا إلى ما تقدّم يجوز القول إنّ كينونة المتّحدات انبنت على معادلة ليس لها جواب نهائي، بوصفه جوابًا متغيرًا ترتبط قيمته بحدين؛ معلوم ومجهول، فإذا كان المعلوم أحد مظاهر العادات والتقاليد والموروث الحضاريّ والثقافيّ، فإنّ المجهول مشروط بوجود حراك توحي به سلطات فاعلة، (فكرية، دينية، سياسية ، اقتصادية..الخ) قادرة على ابتكار فروض تنبثق من المعطيات الملموسة والمحسوسة، ولا تتناقض نواتجها مع شروط بقاء السلطة واستمرارها أو فرض وجودها على ساحات الفكر جميعها.
فرضت، إذًا، معادلات الحضور الإنسانيّ وجود مجتمعات موازية لها خصائصها وسماتها غير المنقطعة عن الأصل، ولكنّها مغايرة من حيث إعادة صياغة القيم والأطر العامة الاجتماعية، والنفسية، والسياسية، والدينية، فأنتجت المجتمعات الموازية معايير لا تتناقض ومخططات استمرارها وحراكها وأشكال التعبير عنها، فكان لكلّ متّحد اجتماعيّ أنساق فكرية وحضارية متباينة تعكس حضورها بكل تجلياته الإيجابيّة والسلبية.
إذا كان قانون الحياة يفرض وجود بنيات متباينة في تراكيبها وأنساقها وأنماطها، فإنّ هذا التعدد عينه يفرض تباينًا في أشكال التعبير التي تنبئ عن مسارات حركيّة الصراع مابين الحق والباطل، والخير والشر، والحقيقي والمزيف، وبين ما تموضع في المتن وما تموضع في الهامش، وبين عدد لا متناهٍ من المتناقضات التي يستتر وراءها سر الحياة.
تمايز الحضور الإنسانيّ عبر تاريخه الطويل بالتنوع الفكريّ، وكان لكلّ متّحد قيم انطبعت بصماتها في أي منتج ثقافيّ، سلبًا أو إيجابًا، وجسّد المنطوق؛ المكتوب والمسموع، ما تبدّى وما تبطّن من حقيقة الفكر الفاعل أو المأجور، فحفظ الفعل الثقافي الحقيقي نبض المجتمعات، وعبّر بصدق عن طبيعة حراكها، بوصفه ناطقًا بمكنونات إنسانها الطامح إلى التواصل مع ذاته العليا من دون إسقاطها في آتون المادة والمصالح والرغبات الآنية، فكان الفعل الثقافي الحقيقي مرهونًا بوجود الذوات المبدعة القابضة على جمر إبداعها.
تحيل ثقافة المورث على فرضية تؤكد صحتها معطيات تظهر دور المثقفين في صياغة الرؤى والتطلعات الإنسانيّة، إذ انبرى هؤلاء القابضون على جمر الإبداع يكتبون بحبر شوقهم دستور الحياة الأكثر قدرة على البقاء،
ولكن كتاباتهم هذه، في أي زمنٍ، لم تلغِ النماذج الأخرى التي أثبتت حضورها السلبي أو الايجابي أو الطاغي على مسرح التثقفن، فكان بروزها دليلاً وبينة على من ادعى الثقافة ودخل في نعيم الحظوة، فتاجر باسم الثقافة، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
** رئيسة الفرقة البحثيّة للغة العربيّة وآدابها في المعهد العالي للدكتوراه، أستاذة الدراسات العليا، الجامعة اللبنانيّة.
واشترى وباع وترك حصاد تجارتها حفنة من كلمات تؤكد أنّ نعيم الحظوة لا يخلق إبداعًا، ولا يضمن أحقية البقاء؛ لأن الإبداع، بمعناه الأكثر شمولية، هو خلق متجدد تفرضه ديمومة الحياة واستمرارها لكونه الأصدق والأكثر تعبيرًا عن أنا الإنسان الكبرى وعن طموحاتها وأحلامها ورؤاها وآلامها ونظرتها إلى الكون والوجود.
يكشف الحضور الثقافيّ للمجتمعات العربيّة عن وجود علاقات إشكالية بين ما يمكن تسميته بالأصل، على مستوى الحراك والتعبير، وبين ما هو موازٍ، من جهة، وبين ما هو متن وهامشي من جهة ثانيّة، ولكن مهما تنوعت أشكال التعبير فإنّها في حقيقة تشكّلها تؤكّد أنّ العلاقة بين المجتمع والمنتج الثقافي علاقة جدلية، فالثقافة تتأثر بطبيعة المسارات الاجتماعية، وتؤثر في تشكلها في الوقت عينه، فكيف تجلت هذه العلاقة الجدلية في الثقافة العربيّة؟
ثانيًا: الصورة الكبرى لجدلية العلاقة بين طبيعة البنيات الاجتماعية وطبيعة المنتج الثقافيّ العربيّ
قبل الكلام على جدلية العلاقة بين طبيعة البنيات الاجتماعيّة وطبيعة المنتج الثقافيّ يمكن توضيح دلالة بعض المصطلحات المتداولة في الدراسات والأبحاث الفكريّة التي تتناول موضوع الموازي والهامشي في الثقافة العربيّة، لأنّ الحضور الثقافي في الواقع العربيّ، مذ تشكّل حتى يومنا هذا، يقوم على علاقة شبه متوازية، من حيث التقاطع والدلالة، بين من يتعاطون الثقافة مهنة اعتياش، وبين من يربطون الفعل الثقافيّ الحقيقيّ بشروط الخلق الإبداعيّ، وبين هذين المسارين غير المتلاقيين تتسع دائرة التأويل باتساع الفضاء الفكريّ الذي يتم به تبادل المواقع الدائم وغير المستقر بين الهامشيّ والمُهمّش.
تفيد كلمة الموازي، معجميًّا، المُقابِل والمُواجِه، وهي اسم فاعل من فعل رباعيّ(وازى) تم اشتقاقه من فعل ثلاثي (وزى) الذي يفيد معنى التجمع؛ أي أنّ مصطلح الموازي ليس أصلاً في الوضع والاصطلاح، وإنّما هو نتاج عمليات لغوية ذهنيّة استعانت بقوانين لغوية دقيقة لتفيد الكلمة الجديدة معنى جديدًا ارتبط بالتجمع والتقابل من حيث الدلالة المعجميّة، ثم اكتسبت الكلمة بالاستخدام والتداول دلالات إضافيّة وظِفّت في الميادين العلميّة، وكان للفظة الموازي قيمة في علم الرياضيات، وصارت مصطلحا يفيد التقابل والمواجهة من دون تلاقٍ. غير أنّ هذا المصطلح انزاح معناه عن المفهوم الرياضيّ، شأن عدد كبير من الألفاظ؛ نحو، الهيمنة والزعيم والمسؤول وغيرها من الألفاظ، ولم تلتزم كلمة الموازي ، في التداول، بمعناها المعجمي والدلالي،أي بوجود مسارين مستقيمين متوازيين لا يلتقيان، بل اكتسبت دلالات متنوعة فنقول على سبيل المثال؛ التعليم الموازي- الجلسات الموازية، الاقتصاد الموازي… الخ.
أما كلمة هامشيّ فهي منسوبة إلى هامش، واللفظة اسم فاعل مشتق من الفعل همَش، وهو فعلٌ ثلاثي، أي أصل في الوضع، وله معان ودلالات مرتبطة بالاستخدام، فالفعل همَش تتحرك معانيه ودلالاته وفق النسيج السياقيّ من دون أن يفقد الصلة بمعناه المعجميّ الوارد على النحو التالي:
- همَش الشيء = جمعه
- همش فلانًا = عضه
- همش القوم = تكلّموا وتحرّكوا
- همش الجراد = تحرّك ليثور
- همش الرجل = أكثر الكلام في غير صواب
- وكلمة هامش تفيد أيضًا حاشية الكتاب، أو التعليق على ما ورد في الأخبار.
يشير المعنى المعجميّ، إذًا، سواء أكانت الكلمة منسوبة إلى اسم الفاعل أم إلى الهامش بمعنى التابع متنًا، إلى معانٍ متمايزة بتمايز السياقات، أي إنّ المعنى المعجميّ لا يخضع للثبات، وبالتالي فالمعنى الدلالي أكثر اتساعًا، ولكن في محاولة رياضية بسيطة يمكن الاستدلال إلى ربط تحقّق المعنى المعجمي والدلالي بحصول حركة غير مُنظَّمة وغير هادفة، بمعنى آخر إن تحقّق معنى الهامش في ذهن المرسل والمتلقي مشروط بوجود ثنائي؛ أولهما أصل، والثاني تابعٍ غير خاضع في تبعيته لأسس، أو نظام، أو قانون، ما يجعل الكلمة تفقد ثباتها الدلالي، فالهامش في المفهوم التداوليّ الثقافيّ يجوز أن يصير متنًا، والمتن قد يصير هامشًا، والمتحكم الأساس في تبادل المواقع طبيعة الفضاء الفكريّ، ونوعية الحراك الثقافيّ.
أمّا كلمة “المُهمّش” فهي مشتقة من الفعل “همّش”، وهو ليس أصلاً، بل مشتق من الفعل الثلاثي “همش” فهو، إذًا، خاضع في صياغته لمؤثرين، أولهما؛ تضعيف عين الفعل للدلالة على التعدية، وثانيهما، صياغة اسم المفعول من فعل مضارع مجهول الفاعل، ولذلك يمكن القول إنّ مفهوم “المُهمَّش” مغاير لمفهوم الهامشيّ، فالهامشي يمكن أن يصير أصلاً وفق ما تنتجه معادلات التحوّل والصيرورة، أما “المهمَّش” فليس التهميش أصلاً في تكوينه، وإنما تفرضه عوامل خارجيّة لتجعله هامشيًا مسلوب القدرة على التحوّل، فيبقى مغيّبًا عن ساحات الفعل الثقافيّ إذا استمرت العوامل الخارجية في سيطرتها، ورغبتها في ممارسة فعل التعدي، والقمع، والتغييب.
فإذا كانت كلمتا “الموازي والهامشي” تفيدان وظيفة اسم الفاعل فإنّ معنى الموازي لا يفيد معنى الهامشي، ولكن ربما صار الموازي هامشيًّا، والهامشيّ موازيًّا، وربّما تقاطعا في ظاهرة اجتماعيّة/ ثقافيّة ما، أمّا المُهمَّش فليس هامشيًا أو موازيًا، فهو المتعدّى عليه والمقموع بسلطة خارجية.
إنّ التصور الأوليّ لهذه العلاقة يمكن تجسيده في وضع فرضية توحي بالعلاقة من دون أن تصوغ لها إطارًا مفهوميًّا ثابتًا، فإذا كان المجتمع الكليّ/ لنفترض الدولة/ يشكل مركزية قادرة على توليد عدد لا متناهٍ من الدوائر ترتبط بجاذبية المركز القيميّة، والحضاريّة، فإنّ هذه الدوائر ليست بمأمن من أن يصيب نقطة من نقاطها انكسارٌ ما في مكان ما وزمن ما نتيجة ضعف الجاذبية المركزية، فيفرض هذا الانكسار مركزية جديدة تبدأ هامشية، ومن ثَمَّ تقوم المركزية الجديدة بتوليد عدد لا متناهٍ من الدوائر الجديدة والمتمايزة، في عملية إثبات أصل جديد موازٍ لأصل الكينونة الأولى، ومتجاوز حدودها.
استنادًا إلى هذه الفرضيّة يمكن القول إنّ أي متّحد اجتماعيّ كليّ لا بدّ له من أن يفرض بفضل حركيته ولادة متّحدات ربّما تكون في بدء تشكّلها هامشية ثم تصير أصلاً موازيًا، أو أصلاً مندمجًا في كليّة تتمايز بالقدرة على التحوّل، والتنظيم فتكثر المسارات، وتتنوّع، وتتعدّد، لتشكّل مّتحدات ثقافيّة وحضاريّة؛ فيُقال، على سبيل المثال؛ متّحد التعليم، متّحد الصحة، متّحد الاقتصاد، متّحد الإعلام؛ …. الخ، ولكن ربما في لحظة ما ينزاح مسار حركة المتحد الجزئيّ ليتفرع عنه عدد آخر من المتّحدات التي يمكن أن تكون هامشية موازية، أو هامشية غير موازية تتلاقى، أو تتباعد وفق طبيعة الحراك الثقافيّ، والسياسيّ، والاجتماعيّ.
تأسيسًا على ما تقدّم يمكن القول إنّ المنتج الأدبي المرتبط، شكلاً ومضمونًا، بطبيعة الوسط الاجتماعي، يجوز أن يكون أصلاً أو موازيًّا، هامشيًّا أومُهمّشًا، لأنّ المنتج الأدبيّ ينقل حركية المجتمع، ويصوّره تصويرًا صادقًا يعبّر عن طبيعة إنسانه، وعن ارتباطه السلبي، أو الإيجابيّ بوسط ما يمنحه موادّ التجربة الأولى، ولذلك يمكن القول إنّ عملية رصد للثقافة العربيّة تظهر طبيعة علاقة الإنسان العربيّ، قديمًا وحديثًا، بمجتمعه سواء أكان ذلك في مجتمع أصلي أم مجتمع موازٍ، فتجلّت حقيقة المجتمعات في ثقافة مركزية، أو موازية، أو هامشية، أو مُهمَّشة، أو في هذه الأنواع مجتمعة، وتأرجحت الثقافة في هذه المستويات جميعها ما بين الامتهان والإبداع.
كان لكلّ قبيلة، في العصر الجاهلي، شاعر ينشر أمجادها، ومآثرها، وبطولاتها، فحظي شعراء القبائل برعاية القيمين على المتّحدات، أشيوخًا كانوا أم أمراء أو ملوكًا، وخرج على الأعراف مجتمعة مجموعةٌ من الرافضين المتصعلكين، فنُبذوا وهُمشّوا، وعاشوا حياة تمرد ورفض، وعرفوا بالصعاليك الخارجين على أعراف القبيلة، وهؤلاء أنتج تصعلكهم تراثًا شعريًّا أضاء على معالم اجتماعيّة، وسياسيّة، وإنسانيّة من معالم العصر الجاهليّ.
كشّفت دراسة نتاج شعر الصعاليك عن ثقافة مجتمع موازٍ مجتمع القبيلة السلطويّ، فرأوا أنّ شعر الصعاليك شكّل صوت الضمير الحي والشجاع، وأنّهم كانوا طلائع تقدمية ونموذجًا للرفض والثورة، لأنّهم رفضوا الاضطهاد والتمييز الطبقيّ، وتبنوا الدفاع عن المسحوقين اقتصاديًّا، واجتماعيًّا، وتمردوا على البنيان الطبقي والاقتصادي، واختاروا الحرمان بديلاً عن نعيم الحظوة، وأمنها، وحمايتها، واستقرارها، وجعلوا من خوف الصحراء ملاذًا لمدينة أحلامهم، وساحةَ جهاد ضد التموضع القبلي وانقساماته، لذلك حوّلتهم حركيّة الثقافة، وصيرورتها من هامشيين مهمشين إلى أصل، ومن حال شعريّة موازية إلى حال شعريّة مستقلة بذاتها تتمتع بمركزية، وكينونة تراثيّة، لأنّ الشعر معهم جاء حاجة روحيّة متحرّرة من ماديّة العيش، ومن سلطة التزلف ونعيم الحظوة، ولذلك جسّدوا حالة فكريّة أصيلة في بنية التراث العربي.
لم يحظ الرسول (ص) في بَدء الدعوة بنعيم الحظوة من سادة قريش، فكان للمسلمين شعراء يرسخّون مبادئ الإسلام في موازاة شعراء يُمعنون في مهاجمة المتّحد الدينيّ الجديد، وفي الدفاع عن معتقداتهم الموروثة، ولكن لمّا تحقق النصر هُمشت الأصوات غير المنتمية إلى فضاء الفكر الجديد، فقال الدارسون إنّ صوت الغزل اختفى، والسبب، في رأيي، كامن في هامشية دور العاطفة الذاتية، التي حجبتها عاطفة دينية جامعة. ويبقى السؤال مفتوحًا: هل انفرضت العاطفة الذاتية مع اعتناق الدين الجديد؟ وإذا كانت الطبيعة البشرية تتنافى وفرضية الجواب فأين ما أنتجته الأقلام من مشاعر وأحاسيس؟ وهل حقيقة انقطع شعر الغزل، والفخر القبليّ، أم غيّبته سلطة دينية ألغت الفردية والتعددية، وأبقت الكلّ تحت عباءة واحدة تمدّهم بالصور والدلالات في عملية دمج وتوحيد وديمقراطية؟
ربما كانت الدعوة إلى إلغاء نعيم الحظوة الدنيويّ، في موازاة الدعوة إلى الالتزام بمبادئ دينيّة تضمن نعيم الخلد، هي السبب الرئيس الذي فرض أحادية النسق الإبداعيّ، وربما كان الشعور الدينيّ الجديد المشحون بالعاطفة الإنسانيّة هو السبب في غياب حالات الهامشية والتهميش وفرض قيم المساواة التي نادى بها الأسلام، “فلا فضل لعربيّ على أعجميّ إلاّ بالتقوى، والعمل الصالح”، والمساواة عدالة تؤتى أُكلُها أمنًا وسلامًا يفرضان الاستقرار الاجتماعي والديني السياسي والفكريّ، وبالاستقرار تغيب حالات الانكسار، وتتوقّف عمليات توليد مجتمعات موازية، ولهذه الأسباب مجتمعة يمكن الاعتقاد أنّ الإبداع ارتبط بالفكر الديني، وغاب الامتهان عن الواقع الفكريّ والثقافيّ.
فرضت طبيعة الحكم في العصر الأمويّ ولادة شعر سياسيّ متعدد المسارات فكان للسلطة الأمويّة شعراؤها، ولكلّ متّحد سياسيّ شعراء يعملون على تأكيد أحقيتهم في الخلافة، غير أنّ الشعراء الأكثر حظوة كانوا من شعراء البلاط الأمويّ الذين نذروا أقلامهم لتثبيت شرعية الخلافة الأمويّة والنيل من خصوم السلطة السياسيّة والدينيّة، فنشأ عن هذا الواقع ثقافات موازية، ولكنّها مُهَّمشة، فكان تجلٍّ ثانٍ يجمع بين الموازي والمُهمَّش، لأنّ روح القبلية استعادت حضورها اجتماعيًّا، وفرضت نفسها من جديد على شكل المنتج الثقافيّ، وذلك في معظم الساحات الأدبيّة التي تشطر إنتاجها بين الامتهان والإبداع.
أحدثت السلطة العباسيّة في بداية سيطرتها تبدلاً في المواقع، فصار الموازي المهمّش الأصل الثابت الذي يقاس عليه المشابه والمغاير، غيّر أنّ الثقافة الجديدة خرجت على المعيارية السياسية، وتنوعت مساراتها بتنوع أنساق الحراك الثقافيّ والعلميّ والاجتماعيّ وما واكبها من تطور حضاريّ فرض مستويات أدبيّة لا حصر لها، وكان لكلّ مستوى أدباء منعمون وآخرون مهملون، ولكن بقيت مبادئ عامة تجمع بين الفئتين، وتختزل التعريف بأصحاب كلّ فئة، فكشف التراث عن أن بعض من نال الحظوة استطاعوا إتقان لعبة التقرّب من ذوي الشأن من دون أن يلغي ذلك روح المنافسة، فوازنوا بين الامتهان والإبداع، وكان في موازاة ذلك أدب إبداعي لا امتهان فيه، وآخر غايته التكسب من دون إبداع.
مما لا شك فيه أن الثقافة العربيّة تأثرت بطبيعة الواقع الاجتماعيّ الأندلسيّ، ففرضت المجتمعات الأندلسية وجود ثقافة موازية للثقافة المشرقية؛ ولكنها غير هامشية وغير مهمشة، وفرضت الحياة السياسيّة ولادة مجتمعات موازية لها ثقافات تُعرِّف بها، وكان في كل مجتمع ثقافة هامشية وأخرى مهمشة، لأنّ شروط الواقعين السياسيّ والاجتماعيّ، وإن تمايزت في المكان والزمان، فهي القابضة وحدها على تأطير أبناء المجتمع الواحد سواء أكانوا أدباء أم علماء أو غير ذلك.
شهد عصر الانحطاط ترهلاً اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا أعاق حركية الإبداع في واقع عربيّ رُهن للمجهول، و سقطت فيه القيم والمعايير، وصار وجوده مرادفًا مفهوم العجز بأبعاده ودلالاته كلّها، فكان للثقافة النصيب الأكبر من فراغ فرضته معوّقات داخلية وخارجية تركت أثارها في معظم النتاج الفكريّ الذي اتسم بالإعادة، والتكرار، والتأليف المفرغ من الإبداع. ولكن في موازاة هذه الحالة المترهلة فكريًّا، كانت حالات إبداعيّة موسومة بالأصالة والجدة، ما زالت فاعلة في الفكر العالميّ المعاصر، يُذكر منها مقدمة ابن خلدون التي تجسّد خاتمة الإبداع العربيّ، لأنّ ابن خلدون خرج على حالة التداعي، وفرض حالة فكريّة لها وجودها وقيمتها، فشكّلت مقدمتُه ظاهرة إبداعيّة مركزية أصيلة، غير هامشية وغير مُهمشّة.
أمّا في عصر النهضة، فلقد كان للوعي القومي الجمعي الذي نشرته نخبة مثقفة على امتداد الوطن العربيّ والمهجر دورٌ بارٌز في نفض غبار التهميش عن الذات العربية التي كانت مسلوبة الإرادة، فأنتج الوعي يقظة فكرية وصحوة قوميّة، قوامُها رفض أشكال الاستعمار والعمل على تحسين واقع الإنسان العربيّ تحت عنوان أساس هو النضال من أجل الحرية، والاستقلال، والسيادة، فخرجت الأقلام الحرّة على الاستلاب، والعبودية، وتبنت معايير وطنية وقوميّة صاغتها من حاجة الشعوب العربيّة إلى التحرر، ولذلك اتسم أدب عصر النهضة بالوعي الثقافيّ، وبالتجديد والتحديث الذي فرضه واقع اجتماعيّ/ سياسيّ جديد، فعّله مثقفون سعوا إلى ترسيخ واقع ثقافي إبداعيّ معافى، بنسبة لا بأس بها، من أمراض الارتهان والامتهان، معينهم في ذلك حراك فكريّ يهدف إلى تأسيس مركزية أدبية نهضوية جديدة، يجوز عدّها المنطلق الحقيقيّ لأدباء العصر الحديث.
مما لا شك فيه أنّ الساحات الثقافيّة في العصر الحديث تشهد حراكًا فكريًّا موسومًا بالجدة، ولكن، على الرغم من تنامي حالة التفرد الإبداعيّ، فإنّ الثقافة العربية الحديثة، في معظم تجلياتها، ثقافة تفتقر إلى أيقوناتها وإلى النموذج الأصل وإلى العمق والمركز وتكتفي بالصور المتحركة التي تفرضها عولمة وسياسات تمنح ممتهني الكتابة حظوة وحضورًا من دون إخضاع ما يسوّق له لمعايير علميّة تكون الحكم الموضوعي في التقييم والتصنيف.
تكشف عملية رصد دقيقة للساحات الثقافية العربية، في هذه المرحلة من تاريخ الفكر، عن صراعات وانتماءات وتحزبات واستصفافات لا علاقة لها بالحرية الفكرية الإبداعيّة، لأنّ الفكر الإبداعي فكر حرٌ يرفض الدخول في بازار المصالح والنفعية التي تكرسها ظروفٌ دوليةٌ ومصالحُ شخصية معيارًا أساسًا في دخول نعيم الإعلام والإعلان والدعاية، فينال الحظوة من يتقن لعبة الانبطاح والاستزلام والسعي وراء شهرة مزيفة تحقق له المزيد من التكريم باسم حداثة امتُهنت وانزاحت عن مفهوم الفرادة والإبداع وانقطعت عن أصل، فسهلت استباحة حرمتها وصارت متاعًا سهل المتناول يدّعي وصالها الكثيرون.
كثر الكلام في الساحات الأدبيّة المعاصرة على الأصالة والحداثة وما بعد الحداثة، واكتظت وسائل الإعلام، المقروءة والمسموعة والمرئية، بأنواع أدبيّة تفتقر إلى التوازي والتقاطع، وفق المفهوم الرياضيّ، ولكنّها تجتمع تحت عنوان واحد يختزل حال التشظي الثقافيّة العربيّة المعاصرة، هذه الثقافة المفتقرة إلى فضاء لغويّ/ إبداعيّ يمنحها سمة الخلق الفني، لأنّ معظم ما تروج له وسائل الإعلام لا يقدم بدائل يمكن التأسيس عليها، ولا يجوز اعتمادها أنموذجًا إلاّ إذا بقيت الاستنسابية متحكمة في بث الدعاية، وترويج الغث، وفرض شروط منح الجوائز في ظل عولمة، غايتها القضاء على الخصوصيات والأصول والتراث بحجة خلق قرية كونية واحدة لها خصائص ومقومات متماثلة.
مما لا شك فيه أنّ للعولمة إيجابيات على مستوى الفعل الثقافيّ، ربّما كان من أهمها خلق مسارات فكريّة حواريّة تفاعليّة بين مثقفي العالم، لينتج عن كلّ حوار فكر جديد ومغاير يتجاوز الأصول بقدر ما يحرص على جيناتها؛ غير أنّ معظم ما يُطرح في الساحات والمحافل الثقافيّة في العالم العربيّ لا يوحي بخصوبة الفعل الكيميائيّ وتحوّلاته، لأنّ مواد التجربة الأساس التي تصوغ نواتج المختبر العقليّ مهملة أو معطلة، فإذا كانت خيوط النسيج مهترئة فكيف يأتي الثوب متماسكًا وعلى غير مثال؟
يشهد الواقع العربيّ المشحون بمؤثرات داخليّة وخارجيّة أحداثًا سياسيّة، ومتغيّرات اجتماعيّة، ومآزق اقتصاديّة تترك أثارها في طبيعة الثقافة العربيّة المعاصرة، كان من أبرز مظاهرها تنوع المسارات المرتبطة بتنوّع مشارب المثقفين والأدباء، وبتنوّع المؤثرات الفكريّة العالميّة، وبتعدّد طبائع الإنسان العربيّ وطاقاته، ما جعل معظم هذه المسارات محكومة بتبعية مرتهنة إمّا إلى قديم مكتمل مغلق لا يجوز المسّ به، وإمّا إلى تيارات عالميّة يتمّ التعاطي معها من حيث الشكل من دون إدراك الظروف، والمناخات، والمعطيات، والمؤهلات التي تركت أثرها في ولادة أيّ تيار فكريّ ثقافيّ حضاريّ، فتقتصر عملية التأثر على مقاربة الأشكال من دون إدراك روحيّة المضامين.
فرض الواقع العربي الجديد طبقة من المثقفين تمتهن فعل الكتابة، وتمارس نوعًا من التدليس والتضليل نتج عن سلطتهما تغييب أصوات المبدعين الرافضين الانتساب إلى سلك الوظيفة الأدبيّ والخارجين على صنمية الفكر الذين لم يقبلوا أن يكونوا أرقامًا في خانات رجال أمن برتبة شرطي، ولم يوظفوا أقلامهم مباخر لذوي الشأن، ولم يجعلوها معاول تهدم التراث المنذور للخلق والابتكار، فنُعت إنتاجهم بالكلاسيكية وأُسقطت عنه سمة الإبداع، وألقى عليهم أصحاب الشأن الحرم، وحاصروهم بالإلغاء والتعتيم والإقصاء في زنزانات لا يمكن أن تصل إليها يد الإعلام الحر.
تبدو الساحات الثقافية العربيّة غارقة في سيل من المهاترات، والاتهامات غير المجدية، فكلّ فريق ينسب إلى نفسه الفرادة والإبداع باسم حداثة لم يبقَ منها إلاّ اسمها، لأنّ فضاءها حوصر بالهلوسة والتضليل، وتشوّه مفهوم مصطلح الحداثة الموازي التراث، لأنّ المعايير غُيِّبت في فجوات التقييم الاستنسابيّ، وغياب المعايير يمنح من يرتع في نعيم الحظوة صولانج الحكم والتحكيم ، ويكرّسه إلهًا في محافل الثقافة الاستهلاكيّة، ويُسند إليه سلطة ثقافية تخوّله حقّ منح أهل القلم نعيم الحظوة الإعلاميّة والحضور على ساحات المبارزة، وهذا الواقع أفقد الثقافة دورها التقويميّ والنهضويّ، فصارت ثقافة اللحظة الموشومة بالتسليع والاستهلاكية.
لقد تحوّل بعض معتنقي الدين الحداثي إلى بطاركة، حدود معابدهم حجارة بلاستيكية من فنون وآداب مستوردة غير قابلة للتوليد والتجسيد، في موازاة أقلام عاشقة تجيد التمرد على سلطات الجهل والقمع والاستلاب، على الرغم من محاولات التغييب والتهميش، هذه السلطات التي حاولت تجفيف الفيض الإبداعي بالتهديد والمكر والتسلط، وباستخدام المثقف الوسيط القادر على شراء الضمائر والنفوس والعقول وتبني فرضيات مغلوطة ونشرها باسم حداثة تكون بديلا عن التراث وباسم عولمة تتمظهر بأثواب الثورة العلمية.
ليست الحداثة فعلاً طارئا على الفكر العربيّ فلقد عرّف بها ابن قتيبة في كتابه “الشعر والشعراء” ومارسها أبو نواس وأبو تمام والمتنبي فعل خلق، وقال بها طه حسين ومارسها جبران، وغيرهم. والعولمة، أيضًا، ليست عامل تغيير وفعل تواصل منتج الديمقراطية في مواجهة النسق الاستبدادي، كما يبشّر بها بعض أصحاب الحظوة، بل هي فعل تفتيت للكيانات القومية القائمة، ومن ثَمَّ تهميش دورها التاريخيّ والحضاريّ، لتفرض إمبراطورية رأس المال نفسها قدرًا محتومًا فاعلاً متحكّمًا بمصير كيانات مهمشة تابعة يرتبط وجودها بما تلقيه الرأسمالية العالميّة الجديدة من فتات موائدها؛ وبالجوع والقهر تغتال الديمقراطية المزعومة حركات الفكر ويصير للحداثة حقيقة واحدة مرتبطة بعولمة تجيد نشر فوضى حداثة بدأت طلائعها تتبدّى في نتاجات المثقّف العربيّ الذي يجهل ماذا يكتب، وينال بجهلة المنزلة والرفعة.
مما لا شك فيه أنّ الحداثة نتيجة حتمية للتطور الحضاري، ولكنّها ليست بديلاً عن التراث، بل هي موازية ومكملة له، في اللحظة عينها، غير أن المثقف العربيّ المأزوم فكرًا وانتماء يفتعل، عن قصد أو غير قصد، أزمات تضخّم من حقيقة القطيعة المعرفية بين الأصل التراثيّ والأصل المُحدَث القادر على تقليص فوضى الحداثة، ومحاصرة انشطارها الخبيث المُضخِّم وهمَ بعض الذين يعتقدون أنّ لهم حضورًا ثقافيًا يوازي الحضور الثقافيّ الغربيّ، بكلّ ما فيه من تعددية، وتناقضات، واختلاف، فيمعنون في تكريس أنفسهم روّادًا، بحثًا عن عالميّة تمنحها وسائل الإعلام شهادات تقدير في واقع ثقافيّ عربيّ مُفكَّك ومُفتَّت.
يشير الواقع الثقافيّ إلى أنّ الفكر المطلوب في محافل الإبداع العربيّ، هو الفكر الحائز على مباركة الثقافة المعولمة التي باسمها نال الكاتب الهندي البريطاني (سلمان رشدي) الحظوة والانتشار عن كتابه (آيات شيطانية)، وحظي أدباء عرب بالتكريم الذي كان بدل أتعاب عن مطالبتهم بإلغاء الشريعة الإسلامية، وباسمها، أيضًا، سُجن الكاتب الفرنسي روجي غارودي، لأنّه كتب حول خرافة الهولوكست، وباسمها، أيضًا، صارت حياة الحيوانات أكثر حرمة من حياة العرب، وباسمها، أيضًا، يرتكب الإعلام، والمؤسسات الثقافيّة، والملتقيات، والمنتديات، والجامعات جرائم تهميش وإلغاء للقابضين على جمر إيمانهم بسلطة العقل المبدع والخارج على سلطات القمع والترهيب والترغيب، فلا يبالي أصحابه بالأحكام المعلنة الصادرة بحقهم والهادفة إلى تعطيل دورهم الريادي، لأنّ لهم في صفحات التراث عبرة تؤكّد تحررها من قبضة الإرهاب الفكري، وتكشف لأبناء الحياة عن الأدب الحقيقيّ القادر على الاستمرار في الآتي شأن، ما بقى حيًا في التراث بعد زوال نعيم الحظوة وبقاء ثقافة الإنسان بكلّ أبعادها وتجلياتها.
ثالثًا: فاعليّة الثقافة العربيّة المعاصرة
استنادًا إلى ما تقدّم يمكن القول إنّ الثقافة تعكس في جانب من جوانبها طبيعة المجتمع بكلّ ما فيه من تنوع وتناقض، وتغيّر وثبات، بوصفها الفضاء المفتوح على جميع التحديات التي تتجدّد بموجبها أسئلة الواقع الثقافيّ، هذه الأسئلة التي تطرح إشكاليات، ربّما كان أكثرها بروزًا ما يشير إلى أنّ الأزمة الثقافيّة هي وراء أزماتنا الدينيّة، والاقتصاديّة، والسياسيّة، والاجتماعيّة، والحضاريّة، لأنّ الوعي بالأزمات والتغلّب عليها مرتبط بوجود فكر قادر على قراءة المعطيات وتحليلها، وعلى ابتكار فروض جديدة، قوامها العمل على تقلّيص مخاطر الأزمات والتخفيف من ضخامة الصراع ونتائجه، وذلك بتعزيز كينونة الانتماء، والتخفيف من مساوئ الواقع التضليليّ. بمعنى أكثر وضوحًا لا تنهض المجتمعات من كبوتها إلاّ بثقافة فاعلة واعية تضمن لها تحولات فكريّة، واجتماعيّة، واقتصادية، وسياسية تحدّد موقعها وحضورها ودورها في المحافل العالمية الحضاريّة.
يبدو الواقع الثقافي العربي، اليوم، مصابًا بالتوّرم والانتفاخ في معظم المراكز الفكريّة الثقافيّة العربيّة، لأنّ القيمين عليها لم يسلكوا سبلاً قويمة تحرّرهم من السعي إلى إرضاء سلطات الأمر الواقع، ولم يقبلوا، في الوقت عينه، إبراز من هم أكثر فاعلية فكريّة منهم، فأدّى هؤلاء دور الوسيط الثقافي في الانتقاء والترقية ونيل الحظوة عند أهل الشأن، وأمعنوا في إقصاء المفكرين الأحرار الذين رفضوا نعيم الحظوة، ولذلك يزداد الواقع العربيّ تأزمًا على المستويات جميعها، ولكنّها، في رأيي، ليست قاتلة لأنّ ثمة أقلامًا رافضة مبدعة ما زالت تبشّر بولادات جديدة على الرغم من تنامي سلطة ثقافة الحظوة والإمعان في تكثيف حالات التصدع.
تخبر كتب التراث أنّ نعيم الحظوة ليس بجديد على ثقافتنا العربية، ففي كلّ عصر أدباء وشعراء لم يصلوا إلى الشهرة إلا بنيل رضى الحكّام والأمراء والخلفاء، وتؤكد الدراسات أنّ المفكرين أنفسهم نصحوا ذوي الشأن بتبني فكرة الوسيط الثقافي القادر على تحريك خطوط اللعبة، فلقد نصح ابن المقفع في كتابه “رسالة الصحابة” ذوي الشأن السياسيّ أن يجندوا أهل العلم لحسابهم، ولكن لم تكن القضية بهذه الخطورة لأنّ للإعلام في العصر الحديث دورًا رئيسًا في التضليل؛ لكونه الوسيط الأساس في سوق الثقافة التجاريّ الذي يدلّل على بضاعة تدرّ الربح بغض النظر عن قيمتها المعرفية، فصارت الثقافة شأن أيّ سلعة خاضعة لقانون العرض والطلب الذي يروج له وسطاء لا يرون من خيوط اللعبة إلاّ الربح السريع الذي ضرب معظم المؤسسات الثقافيّة والتربويّة.
تفتقر، في رأيي، مراكز قرار التكريم والحظوة إلى معايير علميّة تعتمد في تقييم أي منتج ثقافيّ، فتمارس في أثناء منح الألقاب أشكالاً متنوعة من التدليس الذي يُخرج مفهوم الثقافة عن معناه المعجمي وتتحوّل وظيفته التقيمية/ التقويمية إلى أصوات تتقن التبويق والتطبيل لأشباح تقبض على لحظات العبور إلى الشهرة لتضعها في قبضة الارتهان الثقافيّ الممعن في التقطيع والإلغاء.
يعتقد بعض مراقبي الساحات الثقافية في العالم العربي أنّ الكلام على سلبيات الثقافة فيه نوع من التجني، ولكن ما هي المعايير التي تتبناها السلطات الثقافيّة لتحكم على نصّ ما أو أيّ عمل فنيّ بالتفرّد والتمايز والعالميّة؟ وهل المجتمعات العربيّة تتمتع بمقوّمات المجتمع الإنسانيّ الحرّ في ظل متغيرات تفرضها عولمة مؤمركة؟ وهل حقيقة أنّ ما ينال الشهرة والانتشار هو الأجمل والأرقى في هذه الحقبة من الوجود العربيّ؟
إنّ الإجابة عن هذه التساؤلات تُختزل في ظهور أنواع لا تحصى من الانتهازيين والوصوليين الذين يؤكدون، من خلال بروزهم، عمق المأساة في الثقافة العربيّة التي ترسخ واقعًا مشحونًا بالأزمات، والتداعيات الأخلاقية، والاجتماعيّة، والسياسيّة، والاقتصاديّة، لأنّ مشكلة مثقفي اللحظة الراهنة تخطت دائرة التلميع المزيف، واستباحت حرمات الثقافة، وصارت خطرًا يهدد بانهيار كلّ شيء، فهؤلاء العاجزون عن تحقيق انجازات ثقافية ملموسة يغطون عجزهم باستئجار الأقلام، أو بالسرقات الأدبيّة التي تقتحم وسائط تقنية حديثة تساعد في تضخّم حالة الوعي الكاذب، غايتهم من كل ذلك اتخاذ المحافل الثقافيّة أداة زحف إلى عتبات سلم السلطة ومن ثَمَّ الوصول إلى مراكز تحميهم وتمنحهم قوة تخريب وتدمير، “لأنّ فاقد الشيء لا يعطيه”، ومن كان بلا كرامة يمعن في إذلال أصحاب الكرامات، فالكرامة عند الزاحفين والمستزلمين مسالةٌ عند ذوي الشأن، ليحققوا أهدافًا تختزلها شهوة المال والشهرة، وفي مقابل ذلك كل شيء مُباح.
لقد تسلل هؤلاء إلى معظم المؤسسات الفكريّة، وإلى الجامعات والمراكز الثقاقيّة وإلى دور النشر، فالجامعات العربيّة دكاكين وظيفتها إصدار الشهادات لأجيال تجهل القراءة ولا تدرك ما هي مقومات البحث العلميّ، أو ما هو دورهم في نهضة المجتمع، لأنّ أقصى طموحاتهم أوراق ثبوتية تضمن لهم لقمة العيش. وكذلك الحال مع معظم المراكز الثقافيّة التي تترهّل بأسماء تفرضها مُناخات سياسيّة أو انتهازيّة. والمشكلة الأكبر تكمن في أمية دور النشر التي حوّلت الفضاء الثقافيّ إلى مغاور للصوص والمرتزقة، فإذا ما دخلها المبدعون حوصروا بظلمة المصالح والمنافع، وصار بقاؤهم مشروطًا بالخروج على ذواتهم والاستسلام إلى إغراءات الإعلام بكلّ ما تحمله هذه الإغراءات من تداعيات أخلاقية، وثقافية، وفكرية؛ فإما الاستسلام والانقياد إلى شهرة أشبه بالعلاقة بين الطبل الفارغ وصوته، وذلك بكتابات هامشية تفرضها سياسات المؤسسات، لا ما يفرضه موقعه وفكره الحرّ القادر على الإضاءة والتمرّد والتغيير، وإما العزل والموت البطيء، أو التخلّي عن حقوق ماديّة بحجة كساد هذا النوع من الكتابة.
ليس من باب المبالغة القول إنّ معظم المحافل الثقافيّة تتحكّم بها مافيات مجهولة الهويّة، لأنّ معظم المؤسسات التربويّة العربيّة تعجز عن المساهمة في بناء شخصية الإنسان العربيّ، والمؤسسات الثقافيّة تفتقر إلى عوامل محفّزة تساعد على تنمية القدرات، لأنّ معظم القيمين على إداراتها محصّنون بجواز توصية بغض النظر عن القيمة العلميّة، وكذلك الإعلام يلهث وراء فضلات العولمة، ويقدم للمتلقي ثقافة لم يبقَ منها إلا اسمها، ولكن تبقى الأقلام المبدعة المهمشة في موازاة التخريب، والإفلاس الفكري نبضًا حيًا لا بدّ من أن يستعيد به الفكر العربي هُويته الحقيقية التي تجلت في أعمال أدبية جسّدت حضورًا إبداعيًّا معافى من سطوة الامتهان، ورسمت صورة واضحة عن جدلية العلاقة بين الهامشيّ والإبداعيّ.
رابعًا: جدلية العلاقة بين الهامشية والإبداع في المنتج الثقافي العربي المعاصر
لما كان الإبداع فاعلية كشف وتحريض فكري، فإنّ مَهَمَّته الأساس تكمن في هز المسكوت عنه وتعكير هدوئه بغية الكشف عن حالات الاستلاب الاجتماعي والثقافي المدمّرة إنسانيّة الإنسان. ولذلك ارتبطت خاصية الإبداع بوجود طاقة خلق، وتطوير، واستشراف تقرأ الحاضر، وتتقرى آلام الواقع، وتتلمّس طموحات إنسانه المتوهّج بنور النبوءة المتجه دائمًا نحو المستقبل، فالفعل الإبداعيّ فضاؤه مفتوح إلى ما لا نهاية، فهو يتمايز بحركية دائمة متمردة على التخصيص الزمانيّ والمكانيّ.
بهذه الرؤيا يجب أن تُقرأ أنساق الثقافة العربيّة المعاصرة، هذه الثقافة التي تأرجحت بين الامتهان والإبداع، بين الهامشي والمُهمَّش، بين المركزيّ والموازيّ، وذلك على المستويات الأدبيّة جميعها التي تداخلت فيها المواقع، وتنوعت مظاهرها في عملية تبادل تمظهرت في نتاج الأدباء، ومواقعهم، ومواقفهم من الظواهر الاجتماعيّة، والدينيّة، والسياسيّة، والفكريّة، وفي نتاج الأدباء أنفسهم.
تظهر عملية رصد للمنتج الثقافي العربيّ أنّ بعض الأدباء لفتهم واقع المهمشين فكان لهم من قضاياهم مركزيّة منحتهم حضورًا على مستوى الخلق الفني، فإذا كان الجاحظ استمد شخصيات بخلائه من مواقع اجتماعية مهمّشة فقد رفعها بقوة الخلق والإبداع إلى رتبة الأعلام المرموقين، وكذلك فعل جبران، ونعيمة، ومارون عبود، ونجيب محفوظ، ومحمد شكري، وغيرهم ممن همّشتهم الحياة، فانتصروا على التهميش بتبني قضايا هامشية ورفعها من عتمة الإهمال والتغييب إلى ضوء الحضور والكشف والتعاطف، فرفعوا أبطالهم وارتفعوا بها.
بهذا المعطى عينه يمكن القول إنّ نزار قباني بلغ النجومية بتبنيه قضايا المرأة الهامشية والمهمشة، فنال الحظوة والشهرة، ولكن ما الذي أضافه نزار إلى إنسانية المرأة؟ وهل استطاع أن ينظر إليها بوصفها إنسانًا مشاركًا في عملية الخلق والإبداع؟ أم جعل من هامشيتها وتهميشها مطية نحو الشهرة؟
لم يحرّر شعر نزار، وفق رؤيتي الشخصية، المرأة، بل أضاف إلى عبوديتها عبودية أكثر إيلامًا، جعل منها المقلّدون والطامعون في الشهرة عنوانًا عريضًا، فاحتل الجسد الأنثوي وانقياد المرأة فضاءات معظم المحافل الثقافية، حتى صارت المرأة نفسها تستخدم أسرار جسدها في أعمالها الأدبيّة لتبلغ مستوى النجوميّة، في موازاة تهميش متعمد لأديبات تسلّحن بالعفة والإبداع، ومنهن، على سبيل المثال، الأديبة العراقية بنت الهدى التي همّشتها سلطة حاكمة لأسباب سياسية، وهمّشها واقع اجتماعي عراقيّ فرض عليها أن تستخدم اسمًا مستعارًا احترامًا للأعراف، وهي شبه مغيّبة عن أعمال الباحثين والدارسين.
إنّ عملية الرصد عينها تقود إلى حضرة ثقافية محكومة بأقلام نقّاد باركت نتاج أديب بارز حتى صار بعض نتاجه فاتحة وعتبة في المناهج العربية كلّها، فقلما تخلو دراسات نقدية من تحليل لقصيدة: “وا حرّ قلباه” للمتنبي، أو لقصيدة “المطر” للسياب، أو قصيدة “الجسر” لخليل حاوي، في موازاة إهمال شبه كامل لقصائد لها أبعاد فنية وإبداعية للأدباء أنفسهم لم يُلقَ عليها الضوء. وكذلك الحال مع الأدباء الذين احتل بعضهم مراكز الصدارة في الساحات الثقافية في مقابل تغييب شبه تام لمبدعين لا تُعرف أسماؤهم، أضف إلى ذلك أن بعض الأدباء همّشوا جانبًا من نتاجهم؛ لأنه لا يعبّر عن مواقفهم الراهنة التي فرضتها ظروف سياسية، واجتماعية تناقض مواقفهم في بدايات تجاربهم الإبداعيّة.
إنّ قراءة نقدية سريعة للمنتج الثقافي المعاصر تطرح أسئلة متنوعة، ربّما كان من أهمها ما هو موقع المثقف من نتاجه؟ وهل ما يكتبه يعبّر عن حقيقة الإنسان في داخله؟ وهل استطاع أن يتحرّر من هامشية مركزيّة وتهميش مفروض؟ وهل استطاع أن يُدخل ذاته، بوصفه إنسانًا، إلى نعيم الحرية الإبداعيّة التي تطهره من أدران التغييب والشعور بالنقص؟
لما كان الأدب الحقيقيّ يجسّد الذات الإنسانية بكل تطلعاتها وتناقضاتها، فإنّ أيّ منطوق إبداعيّ لا بدّ من أن يتأثر بالناطق فيأتي موسومًا بخصوصية روحية يبثّها المبدع في مخلوقاته، فيعكس المنتج صورة صادقة عن مواقف الأديب وعن موقعه وتحوّلاته النفسيّة، ولذلك يجيب المنتج الأدبي عن الأسئلة، ويبرهن بالمعطيات على التحرّر من هامشية أصيلة، أو من تهميش قسريّ، أو يؤكد الارتهان النفسيّ لظروف كان لها تأثيرها في تكوين شخصيته.
تكشف قراءة الشاعر محمد الماغوط عن اتخاذه من التهميش قضية جوهريّة تحيل المتلقي إلى واقع الإنسان العربيّ المحبط سياسياً وتاريخيًّا، فهو الشاعر المسكون بالقهر والحزن لم يخرج من صدفة الألم، ولم يمسّه نعيم الحظوة فحافظ على هُويته ليرحل كما جاء فقيرًا وكسولاً: “أريد أن أرحل هكذا فقيراً وكسولاً”، لأنه ما زال مشدودًا إلى بدايات هامشية رفعها إلى مستوى المركزية “آهٍ كم أتمنى أن أكون في هذه اللحظة محمومًا في قريةٍ بعيدة” وهو لم يتحرر من أسئلة ما تزال تلح عليه ليحدّد موقعه في واقع عربي مأزوم ومحموم ثقافيًّا جعله يفضل بقاءه مهملاً مهمشًا على رصيف الحياة،: “أريد أن أكون حصاة ملونة على الرصيف”، وربما كان النتاج الشعريّ الإبداعيّ أكثر مصداقية في رصد إخفاقات الإنسان العربيّ وانتصاراته.
أمّا الرواية العربيّة فلقد تجلّى التهميش فيها من خلال رسم شخصيات جسّدت في بعض جوانبها ذاتًا من ذوات مبدعها، فتأرجحت الصور بين الهامشية، والتهميش، والإلغاء، والصمود، والانهزام، والمركزية، والأصل، والموازي، ولكن الصورة الأكثر حضورًا هي صورة الإنسان العربيّ المهزوم والمهمش في لحظات ضعفه وانكساره، وفي مواجهته سلطات القمع والترهيب والإلغاء والإقصاء، ولكن يبقى السؤال مفتوحًا عن العلاقة بين الامتهان، والإبداع في سوق السرد العربيّ غير الخاضع لأعراف، أو قانون، أو معايير.
خامسًا: بيان البحث
توحي القراءة التأويلية للواقع الثقافيّ العربيّ بوجود رغبات مضمرة غايتها إعادة صياغة العقل العربي وتنميطه وبرمجته بأداة تحكّم عن بعد، وربما كانت الغاية تدمير المرجعيات وإعادة تشكيلها بما يتوافق ومخططات العولمة، من دون النظر إلى الأصل الذي أوجدها، فينال الحظوة الأكثر قدرة على الاستجابة لتلبية حاجات السوق والقوى المهيمنة الهادفة إلى إلغاء المركزية بحجة تطوير الأنظمة السياسية، وتنميتها، وتحرير المؤسسة الدينية، وعقلنة الدولة.
إذا كانت ثقافة العولمة تضع في برنامجها خطة لغسل الأدمغة وتكريس ثقافة الاستسلام وخلق قطيعة بين الإنسان العربيّ وتراثهّ فما الذي يقدّمه المثقفون العرب من أجل إلغاء مشاريع الفوضى الخلاقة المدمّرة؟ وهل نحن بحاجة اليوم إلى أدباء يتصعلكون ليخرجوا على سلطة الواقع، ويفرضوا مركزية ثقافية جديدة تعبّر عن حركية الحياة، وتكون دليلاً على فاعلية المثقفين الأحرار القادرين على الالتزام بشروط الانتماء والهوية؟
إنّ المحافظة على الهُوية تحتاج إلى ثقافة تصنع الذاكرة وتعيد إنتاج القيم العربيّة/ الإنسانيّة، ثقافة خارجة على الامتثال ورافضة العمل في كاراجات الأجرة التي تنمّط نتاج الفكر العربي. أي نحن بحاجة إلى ثقافة حرّة تخرج على الاستلاب وعلى إغراءات السلطة وعلى نعيم الحظوة، وعلى قوانين ثقافة اللحظة العابرة التي يضيع معها الأصل لتتحكم الأشباح ويغيب الصوت المنشد تراتيل الروح الكليّة الرافضة الخضوع لأيّ سلطة غير سلطة العقل والفن والأدب وسلطة أنسنة الإنسان بعيدًا من حلبات الجلبة والاستعراض والتصفيق، فيتحرر الفكر العربيّ من سلطة الامتهان ويكرّس تصوّراته أدبًا إنسانيًا موسومًا بالجدة والخلق والابتكار على غير مثال.