“إسرائيل الكنعانية” رواية الخروج التوراتية
دراسة نقدية تحليلية مقارنة لرواية الخروج التوراتية ومقارنة أحداثها مع النتائج التي أخرجها علم الآثار
د. علي إبراهيم زين الدين*
بالاستناد إلى الجغرافيا والتاريخ والآثار
لطالما طالعنا الكثير من الدارسين، والباحثين، والمتخصصين، والمنظّرين الغربيين، واليهود في دراسة التوراة “الإسرائيلية” أن الإسرائيليين هم مجموعة إنسانية تعرضت للاضطهاد، والاستعباد، والظلم على أيدي فراعنة مصر المتعاقبين على مدى 430 عامًا، ومن ثَمَّ على أيدي الآشوريين، والبابليين متحلّين بالصبر، والإيمان، وحسن الخلق، وأنهم جماعة على علاقة وثيقة بالإله “يهوه” الذي طالما وقف إلى جانب هذا الشعب، “وندم” على مجازاته، “وأسف” لما حل به “ونسي ثم تذكر” وعده مع إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ولذلك كان دائمًا يعوّض ذلك الشعب بنصره “وإذلال” كل شعوب كنعان تحت قدميه، وأنهم لايمتّون إلى الشعوب المحيطة بأي صلة ثقافية، أو دينية وأنهم – أي “الإسرائيليين” أبناء الآباء الأنقياء الأتقياء، وكل الشعوب الكنعانية المحيطة بهم من آدوميين، وعمونيين، وموآبيين حتى سكان الأردن – شرقًا “سدوم وعمورة” – هم أبناء زنا المحارم (قوم لوط)، أو أبناء السراري، والجواري (الإسماعيليين)، أي إنّ الإسرائيليين أبناء الحلال، والرفعة، والآباء الصالحين، والآخرين أبناء الحرام، ومن دونية المجتمع، لكن المعطيات الأثرية، والتاريخية خلال القرن الماضي أظهرت الكثير من الحقائق، والوقائع قلبت القصص التوراتية رأسًا على عقب.
بداية لنتعرف إلى كنعان “وإسرائيل” جغرافيًا واصطلاحيًا، فمن خلال علم الآثار (الأركيولوجيا)، وعلم اللغات بتنا نعرف اليوم أن كنعان هي المساحة من الأرض تضم فلسطين، والأردن، ولبنان، وسوريا، يقيم في مراكزها الاستيطانية الرئيسة شعوب سامية حتى إنّ تلك المراكز ذات أسماء سامية منذ الألف الرابع قبل الميلاد نذكر منها صيدون، وساريبتا، وأوغاريت، وسيميرا، وبيت شان، وعكا وغيرها، وتشير آثار الأوابد واللقى الأثرية فيها إلى استمرارية عرقية، وثقافية واضحة تتجاوز في تاريخها الألف الرابع قبل الميلاد. (Albright, William-Foxwell,1949)
وأما ما يتعلق “بإسرائيل” وبالعودة إلى العهد القديم فهي على الشكل التالي: فإنّه بعد “الخديعة” التي قامت بها رفقة زوجة إسحاق بسرقة البَرَكة التي كان من المفترض أن تذهب إلى عيسو ابن إسحاق، وحولتها إلى يعقوب كما سنرى: 1- وَحَدَثَ لَمَّا شَاخَ إِسْحَاقُ وَكَلَّتْ عَيْنَاهُ عَنِ النَّظَرِ، أَنَّهُ دَعَا عِيسُوَ ابْنَهُ الأَكْبَرَ وَقَالَ لَهُ: «يَا ابْنِي». فَقَالَ لَهُ: «هأَنَذَا». 2- فَقَالَ: «إِنَّنِي قَدْ شِخْتُ وَلَسْتُ أَعْرِفُ يَوْمَ وَفَاتِي. 3- فَالآنَ خُذْ عُدَّتَكَ جُعْبَتَكَ وَقَوْسَكَ، وَاخْرُجْ إِلَى الْبَرِّيَّةِ وَتَصَيَّدْ لِي صَيْدًا، 4- وَاصْنَعْ لِي أَطْعِمَةً كَمَا أُحِبُّ، وَأْتِنِي بِهَا لآكُلَ حَتَّى تُبَارِكَكَ نَفْسِي قَبْلَ أَنْ أَمُوتَ». (تكوين 27: 1 – 5)
عندما قرر إسحاق أن يمنح البَرَكة لابنه عيسو الذي يحبه سمعت زوجته رفقة التي تحب ابنها يعقوب، وقررت الاحتيال على إسحاق لمنح البَركة إلى ابنها يعقوب، فألبسته ثياب أخيه عيسو، ووضعت عليه جلد ماعز حتى لا ينتبه إسحاق لأن عيسو كان “مشعرًا”، وهذا ما حصل فعلًا، وانطلت الحيلة على إسحاق: 18 فَدَخَلَ إِلَى أَبِيهِ وَقَالَ: «يَا أَبِي». فَقَالَ: «هأَنَذَا. مَنْ أَنْتَ يَا ابْنِي؟» 19 فَقَالَ يَعْقُوبُ لأَبِيهِ: «أَنَا عِيسُو بِكْرُكَ. قَدْ فَعَلْتُ كَمَا كَلَّمْتَنِي. قُمِ اجْلِسْ وَكُلْ مِنْ صَيْدِي لِكَيْ تُبَارِكَنِي نَفْسُكَ». (تكوين 27: 18 – 19)
عندما عاد عيسو من الصيد وعرف بالمكيدة استشاط غيظًا، وأراد قتل أخيه، فهرب يعقوب من وجهه، وتوجه إلى حران
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أستاذ محاضر في ،الجامعة اللبنانيّة كلّيّة الآداب الفرع الخامس قسم الفنون والآثار.
وتزوج من بنات خاله لابان، وبينما هو في المكان المسمى بيت إيل يظهر له الرب في المنام، ويجدد معه العهد الذي قطعه مع إبراهيم وإسحاق، وبعد أن كبر أولاده، وكثرت أمواله، ومواشيه يقرر العودة إلى ديار أبيه في كنعان، وفي مكان ما يسمى مخاضة يبوق يلتقي بشخص ما، ويتصارعا وقتًا طويلًا من الليل إلى أن يتمكن يعقوب من خصمه الذي لم يكن سوى “يهوه” نفسه الذي سأل يعقوب عن اسمه فقال: يعقوب، فقال: لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب، بل إسرائيل لأنك جاهدت مع الله، والناس وقدرت: 22 ثُمَّ قَامَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَأَخَذَ امْرَأَتَيْهِ وَجَارِيَتَيْهِ وَأَوْلاَدَهُ الأَحَدَ عَشَرَ وَعَبَرَ مَخَاضَةَ يَبُّوقَ. 23 أَخَذَهُمْ وَأَجَازَهُمُ الْوَادِيَ، وَأَجَازَ مَا كَانَ لَهُ. 24 فَبَقِيَ يَعْقُوبُ وَحْدَهُ، وَصَارَعَهُ إِنْسَانٌ حَتَّى طُلُوعِ الْفَجْرِ. 25 وَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، ضَرَبَ حُقَّ فَخْذِهِ، فَانْخَلَعَ حُقُّ فَخْذِ يَعْقُوبَ فِي مُصَارَعَتِهِ مَعَهُ. 26 وَقَالَ: «أَطْلِقْنِي، لأَنَّهُ قَدْ طَلَعَ الْفَجْرُ». فَقَالَ: «لاَ أُطْلِقُكَ إِنْ لَمْ تُبَارِكْنِي». 27 فَقَالَ لَهُ: «مَا اسْمُكَ؟» فَقَالَ: «يَعْقُوبُ». 28 فَقَالَ: «لاَ يُدْعَى اسْمُكَ فِي مَا بَعْدُ يَعْقُوبَ بَلْ إِسْرَائِيلَ، لأَنَّكَ جَاهَدْتَ مَعَ اللهِ وَالنَّاسِ وَقَدَرْتَ». (تكوين 23: 22 – 28)
يخبرنا هنا العهد القديم ربما عن غفلة من المحرر التوراتي، أو ربما عن قصد بأن أبا الشعب الإسرائيلي الذي سيكون له صولات، وجولات مع الأمم المحيطة ما هو إلا “كذاب”، ووالدته “مخادعة” ربما الهدف من ذلك أن يبرر خلفيات الأسباط الاثني عشر من أبناء يعقوب، وتصرفاتهم مع “الشعب” مستقبلًا فالصالح منهم مرجعه الناحية الصالحة من يعقوب، والطالح متأثر بالوجه الآخر له أيضًا، أو هو مجرد جهل!
بناء على ما تقدم سنحاول أن نبين، وبناء على علم الآثار، ومن خلال العهد القديم نفسه، وبالاستناد إلى الكثير من الأبحاث التي قام بها دارسون غربيون، وحتى يهود بَدءًا من عشرينيات القرن الماضي، ومطلع القرن الحالي التي تنقض بشكل قوي وواضح الكثير الكثير مما ورد في العهد القديم الذي بات هناك ما يشبه الإجماع على أن التوراة “الإسرائيلية”، أو العهد القديم لا يعدو كونه مجموعة من القصص جمعت من الذاكرة الشعبية، وألبست لشخصيات مرت في تاريخ المنطقة، ونسبت إلى الإسرائيليين فضلًا عن أن أسفار العهد القديم دونت – وبأسانيد معتبرة – في القرن السابع قبل الميلاد، وربما في حِقبة السبي البابلي، ومنهم من يذهب أنها ترجع إلى حِقبة أحدث، وهي الحِقبة الهلّينية، أي إنّها حررت بعد قرورن عدة من حصول أحداثها. (Garbini, Giovanni)
هنا يجب أن نشير إلى أمور من المُهِمّ أخذها في الحسبان، علينا التمييز بين التوراة “الإسرائيلية” التي عبّر فيها المحرر التوراتي عن مخاوف، وأمنيات، وطموح الإسرائيليين، وبين التوراة التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، والتي يقصد منها الشريعة التي أنزلها الله تعالى على موسى، وتضمنت أحكامًا للعبادات والمعاملات: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (آل عمران – 93).
من هنا نبدأ، من المعروف على مرّ العصور، والأزمنة أن بلاد كنعان، أو ما يعرف ببلاد الشام هي ذات مُناخ معتدل تتفاوت فيه نسبة هطول الأمطار فأحيانًا تشهد أمطارًا غزيرة، وأحيانًا أخرى يشح معها هطول المطر، ومن المعروف أيضًا أن الجماعات السكانية التي عاشت في هذه البعقة الجغرافية منذ أن وجدت، وحتى عهد قريب اعتمدت بشكل كبير في معيشتها، وفي اقتصادها على الزراعة، والصناعات الزراعية، وتربية الماشية، فقبل أن تعرف الاستقرار، وإنشاء القرى البسيطة كان اعتمادها على تربية أنواع محددة من الماشية كالأغنام، والماعز، والحمير، والبغال بعدّها حيوانات خفيفة، وسريعة الحركة إذا ما قورنت بالثيران، والبقر، والجمال، وتعتمد الزراعات الحقلية البسيطة، ومع اعتمادها نظام القرى المستقرة في المرتفعات بدأت تأخذ منحى جديدًا من خلال اعتمادها على البقر، والجمال في أعمالها، وتقوم بأعمال البستنة بزراعة أشجار الزيتون والكرمة.
أخرج محرر التوراة “إسرائيل”[1] إلى الوجود في الربع الأول من عصر البرونز الوسيط 1950 – 1550 ق.م. علمًا أنه لم يرد أي ذكر “لإسرائيل” في أي أرشيف للمالك العظيمة التي عاشت في تلك الفترة، ولم تذكر من قريب، أو بعيد هذه الكلمة، وأول ذكر مؤرَّخ “لإسرائيل” يعود لأواخر عصر البرونز المتأخر 1220 ق.م. على نصب أقامه الفرعون مرنبتاح مخلدًا فيه انتصاره على شذاذ الآفاق الذين كانوا يدخلون البلاد، ويعيثون فيها فسادًا في بحثهم عن الطعام، أو العمل، حتى إنّ ذكر “إسرائيل” ورد للدلالة على مجموعة إنسانية، وليس على بقعة جغرافية، أو بلاد: قوم إسرائيل قد أتلفوا، وليس لهم غلة، أو بذار (فرناند بتري)، لقد أبيدت إسرائيل، واستؤصلت (جيمس بريستد)، إسرائيل صار خرابًا وقطع دابره (فراس السواح) أي ما معناه تم القضاء على المجموعات الإسرائيلية وانتهى أمرها. (السواح، فراس)
ففي حين كان اعتماد كنعان في الغذاء والمعيشة على المطر، كانت مصر تعتمد على شريان الحياة فيها نهر النيل العظيم لذلك كانت ملجأً للجائعين، ومقصدًا من كل البلدان المحيطة، وشح المطر، ونقصان الغلال، والمجاعة ليست حدثًا مفاجئًا في بلاد كنعان، وربما لا يزال بين الأحياء في أيامنا من يروي الكثير من القصص حول هذا الموضوع، ولا تزال حية في أذهاننا حالة القحط التي عانت منها بلادنا نهاية الربع الأول من القرن الماضي في العام 1925م حيث شح المطر، وكان صيفًا طويلًا جدًا فيبس الزرع، ونفقت البهائم، فاستغاث الناس بالعلي العظيم بإقامة صلاة الاستسقاء بإمامة المقدس محسن الأمين في السهل الواقع بين بلدات صفد البطيخ، وتبنين، وبرعشيت (سهل الخان) فاستجاب الباري عزل وجل، ونزل الغيث مدرارًا فارتوى الزرع والبشر.
وبالتالي من الطبيعي جدًّا أنه في أوقات المجاعة في كنعان كان الرعاة، والمزارعون يلجأون إلى مصر للاستقرار في الدلتا الشرقية، ويستفيدون من خصوبة الأرض، وتوفر الماء، ويفيد علم الآثار أنه ومنذ العصر البرونزي كانت تأتي جاليات سامية للاستقرار في الدلتا الشرقية، فمصر كانت توفر لهم فرصًا جيدة للحياة، والتجارة معًا، وربما هذا ما أشار إليه النقش على القبر المشهور (قبر بني حسن) الذي اكتشف في مصر الوسطى، ويرجع تاريخه إلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد فيشير إلى مجموعة من الكنعانيين جاؤوا من عبر الأردن مع ماشيتهم وسلعهم، وهذا الأمر لا يقتصر على عصر البرونز، بل استمر لقرون عدة حتى ما يقرب من عصر الحديد أي الزمن المفترض لكتابة قصة الخروج التوراتية “الإسرائيلية”.
وهؤلاء المهاجرون لم تكن لم أرض ليبنوا عليها أو يعملوا فيها، منهم من كان يستعبد في أعمال البناء، أو للخدمة العسكرية، ومنهم من يتدرج ليصل إلى مناصب في السلطة، وبحسب ما تروي القصة التوراتية “الإسرائيلية” أن المجاعة دبت في بلاد كنعان، وطالت مكان إقامة يعقوب (إسرائيل)، فذهب أبناؤه إلى مصر لشراء الطعام شأنهم شأن الجماعات المماثلة، لكن قصتهم اختلفت بوجود أخيهم يوسف على مخازن الحبوب، وهو “العبد” الذي تدرج في السلطة إلى أن وصل ليكون مسؤولاً “حكوميًا على المخازن بحكمته وفطنته، وما قاده لهذا المنصب أيضًا إنقاذه لمصر من المجاعة بعد أن قام بتأويل حلم الفرعون.
وبعد أن تعرف إلى إخوته وعرّفهم بنفسه طلب منهم أن يأتوا جميعًا مع أبيه يعقوب للإقامة في مصر، ومن هنا تبدأ قصة مغادرة بني إسرائيل (يعقوب) أرض كنعان للإقامة في مصر حيث تكاثروا، وعلا شأنهم ليموت يوسف، ويموت الفرعون الذي جعله مستشاره الخاص، ويأتي فرعون آخر لا تخبرنا التوراة “الإسرائيلية” باسمه، ولكنه يخشى من خيانة بني إسرائيل، ويجبرهم على العمل بالسخرة، ويجعل عليهم مراقبين أشداء يسومونهم سوء العذاب: 8 ثُمَّ قَامَ مَلِكٌ جَدِيدٌ عَلَى مِصْرَ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ يُوسُفَ. 9 فَقَالَ لِشَعْبِهِ: «هُوَذَا بَنُو إِسْرَائِيلَ شَعْبٌ أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ مِنَّا. 10هَلُمَّ نَحْتَالُ لَهُمْ لِئَلاَّ يَنْمُوا، فَيَكُونَ إِذَا حَدَثَتْ حَرْبٌ أَنَّهُمْ يَنْضَمُّونَ إِلَى أَعْدَائِنَا وَيُحَارِبُونَنَا وَيَصْعَدُونَ مِنَ الأَرْضِ». (خروج 1 : 8-10)
تعد قصة يوسف، وحكاية ارتقائه إلى منزلة مميزة في الحكم الفرعوني كما يرويها سفر التكوين من أكثر قصص المهاجرين الكنعانيين شهرة في مصر، تحدثنا التوراة “الإسرائيلية” أن بناء الهيكل تمّ في السنة الرابعة من حكم سليمان إنما حدث بعد 480 عامًا من الخروج الجماعي لبني إسرائيل من مصر: 1 وَكَانَ فِي سَنَةِ الأَرْبَعِ مِئَةٍ وَالثَّمَانِينَ لِخُرُوجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ لِمُلْكِ سُلَيْمَانَ عَلَى إِسْرَائِيلَ، فِي شَهْرِ زِيُو وَهُوَ الشَّهْرُ الثَّانِي، أَنَّهُ بَنَى الْبَيْتَ لِلرَّبِّ. (الملوك الأول 6 :1)
نستخلص مما سبق ذكره أن الهجرة إلى مصر، ومن ثَمَّ الطرد العنيف منها هي حالة متكررة في إمبراطورية عظيمة كمصر، فبعد أن يأتي المهاجرون، ويستقروا طلبًا للعيش، ويعملوا في البناء، والزراعة، أو عبيدًا، أو كمرتزقة في الجيش المصري، لكنهم لا يلبثون بعد أن يعلو شأنهم أن يثيروا القلاقل في البلاد ما يدفع السلطة المركزية إلى طردهم فيعودون إلى كنعان وهكذا. ويمكن أن نذكر الهكسوس كمثال على ما نذكره وهو ما رواه المؤرخ المصري مانيثو Manetho في القرن الثالث قبل الميلاد مستندًا إلى مصادر مقدسة مجهولة، وإلى الأساطير الشعبية، فتحدث عمن أطلق عليهم الهكسوس الذين قاموا بغزو مصر، وترجمة الهكسوس “الملوك الرعاة”، أو “حكام الأراضي الأجنبية” وأسسوا لأنفسهم مدينة أفاريس Avaris، وقد طابق العلماء عصر الهكسوس مع السلالة الملكية الخامسة عشرة التي حكمت مصر بين 1670 – 1570 ق. م. وأظهرت دراسات الأختام، والنقوش التي تحمل أسماء حكام الهكسوس أنهم ساميون، أو بمعنى آخر كنعانيون، ومن خلال التنقيبات الأثرية في دلتا النيل أثبتت الحفريات أن غزو الهكسوس كان عملية تدريجية للهجرة من كنعان إلى مصر بدلاً من كونه عملية غزو عسكرية منظمة. (Finkelstein, Israel).
وشهدت التنقيبات الأثرية في المكان زيادة تدريجية من التأثير الكنعاني في أساليب الفخاريات، والهندسة المعمارية وبناء القبور حوالى 1800 ق. م. ومنذ ذلك الوقت بدأت المعالم الحضارية بالتغير لتصل بعد 150 عامًا إلى مدينة ضخمة ذات ثقافة كنعانية صرفة، وتشير الاكتشافات في تل الدبا – مكان غير بعيد – على تطور تدريجي للحضور الكنعاني، وسيطرة سلمية على السلطة، ومن خلال مصدر مصري موثوق إلى حد كبير يعود إلى القرن السادس عشر قبل الميلاد نتعرف إلى الفرعون الذي طرد الهكسوس، واستباح مدينتهم أفاريس هو الفرعون أحموس Ahmose، وبالعودة إلى مانيثو فيقول في روايته إنّ المطرودين أسسوا مدينة “أورشليم” وبنوا فيها معبدًا.
تحدثنا التوراة “الإسرائيلية” أن بني إسرائيل المستعبَدين في مصر تم اضطهادهم، واستعبادهم، وإجبارهم على العمل في المشاريع العمرانية “للدولة”، وعن إشارات خاصة في استعمالهم في بناء مدينة رعمسيس: 11 فَجَعَلُوا عَلَيْهِمْ رُؤَسَاءَ تَسْخِيرٍ لِكَيْ يُذِلُّوهُمْ بِأَثْقَالِهِمْ، فَبَنَوْا لِفِرْعَوْنَ مَدِينَتَيْ مَخَازِنَ: فِيثُومَ، وَرَعَمْسِيسَ. (خروج 1 :11) تتحدث التوراة “الإسرائيلية” عن حِقبة الاستعباد قبل الخروج أي في النصف الأول من عصر البرونز الوسيط 1950 – 1550 ق. م. وهذا الأمر مستحيل على الإطلاق فأول فرعون مصري يدعى رعمسيس (أو رمسيس) اعتلى العرش سنة 1320 ق. م. وهي ما عرف بعصر الرعامسة، وهذا مؤشر آخر على أن التوراة “الإسرائيلية” تم تحريرها في حِقبة متأخرة جدًا عن زمن حصول الأحداث الحقيقية بقرون عدة، فهذا الفرعون تولى الحكم بعد قرن على أقل تقدير بحسب تاريخ الرواية التوراتية، وبالتالي مال العديد من العلماء إلى رفض القيمة الحرفية للتاريخ التوراتي مقترحين بأن الرقم 480 ما هو إلا طول رمزي للوقت يمثل حياة اثني عشر جيلًا بمعدل معروف، وهو 40 عامًا للجيل الواحد. (Silberman, Neil Asher).
وعليه يمكن القول إن حادثة الخروج الجماعي لبني إسرائيل من مصر لم تحدث قبل 480 عام من بناء الهيكل في “أورشليم” إنما حدثت في أواخر عصر البرونز المتأخر أيّ في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وقبل أن نفصّل في حادثة الخروج، تخبرنا التوراة “الإسرائيلية” أن بني إسرائيل أقاموا في مصر 430 عامًا، ولا يخبرنا بأيّ تفاصيل عن وضع الإسرائيليين طوال تلك الفترة، فكل ما لدينا عبارة عن ومضات خبرية سريعة، وكأن المحرر التوراتي كان في عجلة من أمره ليبدأ رواية الخروج من مصر، حتى إنّ الفترة بين موت يوسف وولادة موسى أيضًا هناك صمت حول تلك الفترة، فجأة يتم زواج بين لاويَّين ويولد موسى: 1 وَذَهَبَ رَجُلٌ مِنْ بَيْتِ لاَوِي وَأَخَذَ بِنْتَ لاَوِي، 2 فَحَبِلَتِ الْمَرْأَةُ وَوَلَدَتِ ابْنًا. وَلَمَّا رَأَتْهُ أَنَّهُ حَسَنٌ، خَبَّأَتْهُ ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ. (خروج 2: 1 – 2).
خبأته لأن الفرعون أمر القوابل بقتل كل مواليد الإسرائيليين الذكور غير أنهن خدعن الفرعون، وقلن له بأن الإسرائيليات قويات يلدن قبل وصول القابلة: فَقَالَتِ الْقَابِلَتَانِ لِفِرْعَوْنَ: «إِنَّ النِّسَاءَ الْعِبْرَانِيَّاتِ لَسْنَ كَالْمِصْرِيَّاتِ، فَإِنَّهُنَّ قَوِيَّاتٌ يَلِدْنَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَهُنَّ الْقَابِلَةُ». (خروج 1 :19)، بعد ذلك رواية كيف وضعته أمه في النيل، والتقته ابنة الفرعون، وأخذته ليعيش في بيت عدوه، وعلى الرغم من أهمية موسى كقائد، ومخلّص في عملية الخروج، وتخليص الإسرائيليين من عذاب فرعون وإذلاله لهم، غير أن الرواية التوراتية لا تخبرنا باسم أبيه، أو اسم أمه، بل مجرد خبر سريع مفاده ولادة المخلّص، ومن أصل إسرائيلي لاوي، واللاويون هم من سلالة لاوي ثالث أبناء يعقوب، وهم الكهنة عند اليهود. يشبّ موسى، ويترعرع في بيت فرعون، ولكن على ما يبدو أنه لم ينس أصله الإسرائيلي، فصادف موسى رجلين يقتتلان هذا من شيعته، وهذا من عدوه فنصر الذي من شيعته، وقتل المصري، ومن ثّمَّ هرب والتجأ إلى مديان، وتزوج ابنة يثرون، أو رعوئيل، أو حوباب (شعيب)، وأقام عنده إلى أن أتاه أمر الرب بالتوجه إلى مصر، فيدخلها يساعده أخوه هارون وتدور بينهما وبين الفرعون “مناوشات” بسبب رفض الفرعون السماح لبني إسرائيل بالخروج إلا بعد أن ذاقوا الأمَرَّين من عقاب الرب له من قمل، وضفادع، وتحول مياه النيل إلى دم، وانتشار الأوبئة، وموت معظم بكور المصريين، عندها يسمح الفرعون لموسى بالخروج من مصر، وهكذا كان: وَكَانَ عِنْدَ نِهَايَةِ أَرْبَعِ مِئَةٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً، فِي ذلِكَ الْيَوْمِ عَيْنِهِ، أَنَّ جَمِيعَ أَجْنَادِ الرَّبِّ خَرَجَتْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ. (خروج 12 :41)
يمكن أن نستخلص من التوراة “الإسرائيلية” نفسها أن إقامة بني يعقوب في مصر لم تتجاوز 100 سنة على الأكثر، ففي حين يشهد يوسف ولادة أحفاده من ابنيه أفرايم ومنسى على ركبتيه: 22 وَسَكَنَ يُوسُفُ فِي مِصْرَ هُوَ وَبَيْتُ أَبِيهِ، وَعَاشَ يُوسُفُ مِئَةً وَعَشَرَ سِنِينَ. 23 وَرَأَى يُوسُفُ لأَفْرَايِمَ أَوْلاَدَ الْجِيلِ الثَّالِثِ. وَأَوْلاَدُ مَاكِيرَ بْنِ مَنَسَّى أَيْضًا وُلِدُوا عَلَى رُكْبَتَيْ يُوسُفَ. (تكوين 50: 20 – 23)، فإذا بهم حاضرون أثناء تقسيم أرض كنعان على الأسباط برعاية يشوع، وألعازار الكاهن: 4 لأَنَّ بَنِي يُوسُفَ كَانُوا سِبْطَيْنِ: مَنَسَّى وَأَفْرَايِمَ. وَلَمْ يُعْطُوا اللاَّوِيِّينَ قِسْمًا فِي الأَرْضِ إِلاَّ مُدُنًا لِلسَّكَنِ، وَمَسَارِحَهَا لِمَوَاشِيهِمْ وَمُقْتَنَاهُمْ. 5 كَمَا أَمَرَ الرَّبُّ مُوسَى هكَذَا فَعَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَقَسَمُوا الأَرْضَ. (يشوع 14: 4 – 5)
وعلى ما يبدو أن محرر التوراة إما كان جاهلًا بالتاريخ، أو أنه لم يكن مكترثًا لما يدونه، فالتوراة “الإسرائيلية” تتضمن الكثير من المغالطات التاريخية التي لا يتسع المجال الآن لتبيانها، ولكن وبما أنّنا نتحدث عن الخروج الجماعي لبني إسرائيل من مصر فسنتوقف عند مغالطة بسيطة جدًا في سردها، ومخيبة كثيرًا في نتائجها، وكان يمكن تجنبها لو كان لدى كاتبها القليل من الدراية في التاريخ، ولكن على الأرجح أنه الجهل! مثلًا عندما تروي التوراة قصة الخروج وما جرى على الإسرائيليين فتروي أن الرب كان معهم في كل صغيرة وكبيرة، فحين أصبحوا على مقربة من الفلسطينيين، وحتى لا يخاف الشعب الإسرائيلي منهم، ويطلب من موسى العودة بهم إلى مصر – كما فعلوا في كثير من المواضع أثناء الطريق – فإن الرب لم يهدهم إلى الطريق التي تمر عبر الفلسطينيين مع أنها تختصر مسافة طويلة، بل غير مسارهم إلى طريق أخرى: 17 وَكَانَ لَمَّا أَطْلَقَ فِرْعَوْنُ الشَّعْبَ أَنَّ اللهَ لَمْ يَهْدِهِمْ فِي طَرِيقِ أَرْضِ الْفَلَسْطِينِيِّينَ مَعَ أَنَّهَا قَرِيبَةٌ، لأَنَّ اللهَ قَالَ: «لِئَلاَّ يَنْدَمَ الشَّعْبُ إِذَا رَأَوْا حَرْبًا وَيَرْجِعُوا إِلَى مِصْرَ». (خروج 13: 17)
كان من الممكن أن تمر هذه العبارة، أو الحادثة المزعومة بسلاسة كما أراد لها المحرر التوراتي لولا الخطأ التاريخي الكبير، فهو يتحدث عن أرض الفلسطينيين، وأن الرب كان يخشى وقوع حرب بينهم وبين الإسرائيليين ما سوف يخيف شعب إسرائيل، وهذا يعني أن الفلسطينيين في ذلك الوقت كانوا أمة عظيمة قوية ذات جيش محارب وقادر، فسواء كان الخروج بحسب الرواية التوراتية حدث نهاية البرونز الوسيط، أو بحسب الأدلة الأثرية نهاية البروز الحديث فإن الفلسطينيين لم يصبحوا أمة قوية تبني المدن، والأسوار إلا في النصف الأول من عصر الحديد أي بين 1200 – 800 ق. م. فالشعب الفلستي جزء من شعوب البحر الذين هاجموا بعنف مناطق الساحل الشرقي للمتوسط وآسيا الوسطى وكانوا سببًا في انهيار ثقافة عصر البرونز فانهارت ميتاني، وحاتي، ومصر، ودمرت المدن الكنعانية شرّ تدمير، عاد جزء من هؤلاء الشعوب إلى مواطنهم بعد حِقبة في ما استقر جزء آخر، وامتزج مع الشعوب المحلية، ومن بين الشعوب التي استقرت نذكر الفلستيون الذين أسسوا لهم كِيانًا مستقلًا عند الساحل الجنوبي من فلسطين الحالية. خرج الإسرائيليون من مصر رجالًا، ونساءً، وأطفالاً حاملين معهم متاعهم، وبحسب ما تذكر الرواية التوراتية فإن عدد الخارجين قارب ستماية ألف نسمة بين رجل وإمرأة وطفل، وعلى الرغم من أنهم هاموا على وجوههم في صحراء، وجبال سيناء، وأقاموا المخيمات في أماكن متعدّدة مدة أربعين سنة عقابًا لهم لخذلهم موسى، وعدم الدخول إلى أرض كنعان خوفًا من أهلها، ومن أسوار مدنها، وأنّ فيها قومًا جبّارين، فإن النص التوراتي، ومع ذلك يذكر بقاء أعداد كبيرة على قيد الحياة رغم الظروف الصعبة، وهؤلاء الخائفون، والمتعبون تصورهم التوراة “الإسرائيلية” فيما بعد محاربين أشداء قادرين على تدمير الحصون، وحرق المدن.
علمًا أن المسوحات الأثرية التي جرت لتتبع آثار تجوالهم لم تجد أي أثر، ولا كسرة فخار واحدة تشير إلى أنهم مروا من هناك، أو أقاموا في ذلك المكان، فكل ما تم العثور عليه هو آثار الحصون المصرية التي كانت مزروعة في كل مكان لحماية مصر من تطفل الكنعانيين، ربما من يطرح تساؤل أنه من غير الممكن تتبع آثار تجوال مجموعات صغيرة حتى وإن تركت آثارًا فلا بد للسنين والقرون أن تمحوا آثارها، فالجواب أن التقنيات الأثرية الحديثة قادرة على اقتفاء آثار أدنى البقايا القليلة لمجموعة من الصيادين، أو البدو الرعاة. (Finkelstein, Israel)
ما فعله الربّ مع الإسرائيلين، وأبعدهم عن الفلسطينيين حتى لا تقع حرب ويخاف الشعب، لم يفعله معهم في الضفة الشرقية لنهر الأردن حين اضطروا للاشتباك مع ملك الأموريين في مدينة حشبون عاصمة سيحون الذي حاول منع الإسرائيليين من المرور عبر أرضه في طريقهم إلى كنعان: 21 وَأَرْسَلَ إِسْرَائِيلُ رُسُلًا إِلَى سِيحُونَ مَلِكِ الأَمُورِيِّينَ قَائِلًا: 22 «دَعْنِي أَمُرَّ فِي أَرْضِكَ. لاَ نَمِيلُ إِلَى حَقْل وَلاَ إِلَى كَرْمٍ وَلاَ نَشْرَبُ مَاءَ بِئْرٍ. فِي طَرِيقِ الْمَلِكِ نَمْشِي حَتَّى نَتَجَاوَزَ تُخُومَكَ». 23 فَلَمْ يَسْمَحْ سِيحُونُ لإِسْرَائِيلَ بِالْمُرُورِ فِي تُخُومِهِ، بَلْ جَمَعَ سِيحُونُ جَمِيعَ قَوْمِهِ وَخَرَجَ لِلِقَاءِ إِسْرَائِيلَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، فَأَتَى إِلَى يَاهَصَ وَحَارَبَ إِسْرَائِيلَ. 24 فَضَرَبَهُ إِسْرَائِيلُ بِحَدِّ السَّيْفِ وَمَلَكَ أَرْضَهُ مِنْ أَرْنُونَ إِلَى يَبُّوقَ إِلَى بَنِي عَمُّونَ. لأَنَّ تُخُمَ بَنِي عَمُّونَ كَانَ قَوِيًّا. 25 فَأَخَذَ إِسْرَائِيلُ كُلَّ هذِهِ الْمُدُنِ، وَأَقَامَ إِسْرَائِيلُ فِي جَمِيعِ مُدُنِ الأَمُورِيِّينَ فِي حَشْبُونَ وَفِي كُلِّ قُرَاهَا. 26 لأَنَّ حَشْبُونَ كَانَتْ مَدِينَةَ سِيحُونَ مَلِكِ الأَمُورِيِّينَ، وَكَانَ قَدْ حَارَبَ مَلِكَ مُوآبَ الأَوَّلَ وَأَخَذَ كُلَّ أَرْضِهِ مِنْ يَدِهِ حَتَّى أَرْنُونَ. (عدد 21: 21 – 26)
العجب العجاب، جموع من الرجال والنساء والأطفال تائهون في الصحراء لأربعين سنة متعبون جائعون خائفون كثيرون منهم يعملون في الزراعة، وفي البناء، وأكثرهم عبيد، يستجدون حقّ المرور من دون إحداث أي ضرر، ولو شربة ماء، فجأة يتحولون إلى محاربين أشداء يأخذون سيحون وجميع قومه بحد السيف، ليس هذا فحسب، بل يحتلون جميع مدن الأموريين، وكما يذكر النص أعلاه على الرغم من أن سيحون هذا رجل مجرب في الحروب حيث كان انتصر على ملك مؤاب، وأخذ كل أرضه. بناء عليه فإن لعلم الآثار رأي آخر في هذا الموضوع، فقد أظهرت التنقيبات الأثرية في تل حسبان Hesban جنوب عمان أي الموقع القديم لمدينة حشبون أنه لم تكن هناك مدينة تعود للحِقبة المتأخرة من عصر البرونز، ولا حتى قرية صغيرة، ليس ذلك فحسب، بل إنّ الإسرائيليين واجهوا مقاومة من مؤاب، وعمون، وأدوم، وما نعرفه عن هذه المنطقة أنها سكنت بشكل متناثر خلال عصر البرونز المتأخر، وبحسب علم الآثار فإن في كل تلك المنطقة لم يكن هناك ملوك ليلتقي بهم الإسرائيليون. عود على بَدء، كما أشرنا سابقًا فإن التوراة، وبحسب العلماء الدارسين لها، ولعلم الآثار بات لديهم إجماع شبه مؤكد على أن التوراة تم تحريرها خلال القرن السابع قبل الميلاد على أقل تقدير في عهد الملوك، وما سبق ذكره حول حشبون، وأدوم، وعمون، ومؤاب يندرج ضمن حقد المحرر التوراتي على هذه الشعوب، فتلك الأمم لم تبلغ ذروة مجدها إلا بعد القرن العاشر قبل الميلاد، ولكن الإسرائيليين عانوا كثيرًا منها لأنها حدّت من طموحاتهم، لذلك جعل المحرر التوراتي الآدوميين، وهم من آدوم الذي هو عيسو ابن إسحاق، ولكنه تزوج من نساء كنعانيات لذلك صبّ المحرر التوراتي غضبه عليه: 1 وَهذِهِ مَوَالِيدُ عِيسُوَ، الَّذِي هُوَ أَدُومُ. 2 أَخَذَ عِيسُو نِسَاءَهُ مِنْ بَنَاتِ كَنْعَانَ. (تكوين 36: 1 – 2)، وأما المؤابيين والعمونيين فهم نتيجة زنا المحارم بناء على رواية التوراة “الإسرائيلية”:
فبعد أن دمّر الله تعالى مدينتي سدوم وعمورة (قوم لوط) بالنار والكبريت لأن أهلهما كانوا قومًا فاسقين، لم يبق رجال، ولا نساء، ولا زرع إلا لوط وابنتيه، أما زوجته فكانت خاطئة، وعصت أمر لوط، ونظرت خلفها، وتحولت إلى عمود ملح، فخرج لوط مع ابنتيه اللتين دبرتا مكيدة لأبيهما واضطجعتا معه خوفًا من انقطاع نسل أبيهما، ونتيجة لهذه المكيدة – الخطيئة – وُلد الشعب المؤابي، والشعب العموني: 30 وَصَعِدَ لُوطٌ مِنْ صُوغَرَ وَسَكَنَ فِي الْجَبَلِ، وَابْنَتَاهُ مَعَهُ، لأَنَّهُ خَافَ أَنْ يَسْكُنَ فِي صُوغَرَ. فَسَكَنَ فِي الْمَغَارَةِ هُوَ وَابْنَتَاهُ. 31 وَقَالَتِ الْبِكْرُ لِلصَّغِيرَةِ: «أَبُونَا قَدْ شَاخَ، وَلَيْسَ فِي الأَرْضِ رَجُلٌ لِيَدْخُلَ عَلَيْنَا كَعَادَةِ كُلِّ الأَرْضِ. 32 هَلُمَّ نَسْقِي أَبَانَا خَمْرًا وَنَضْطَجعُ مَعَهُ، فَنُحْيِي مِنْ أَبِينَا نَسْلًا». 33 فَسَقَتَا أَبَاهُمَا خَمْرًا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَدَخَلَتِ الْبِكْرُ وَاضْطَجَعَتْ مَعَ أَبِيهَا، وَلَمْ يَعْلَمْ بِاضْطِجَاعِهَا وَلاَ بِقِيَامِهَا. 34 وَحَدَثَ فِي الْغَدِ أَنَّ الْبِكْرَ قَالَتْ لِلصَّغِيرَةِ: «إِنِّي قَدِ اضْطَجَعْتُ الْبَارِحَةَ مَعَ أَبِي. نَسْقِيهِ خَمْرًا اللَّيْلَةَ أَيْضًا فَادْخُلِي اضْطَجِعِي مَعَهُ، فَنُحْيِيَ مِنْ أَبِينَا نَسْلًا». 35 فَسَقَتَا أَبَاهُمَا خَمْرًا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ أَيْضًا، وَقَامَتِ الصَّغِيرَةُ وَاضْطَجَعَتْ مَعَهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِاضْطِجَاعِهَا وَلاَ بِقِيَامِهَا، 36 فَحَبِلَتِ ابْنَتَا لُوطٍ مِنْ أَبِيهِمَا. 37 فَوَلَدَتِ الْبِكْرُ ابْنًا وَدَعَتِ اسْمَهُ «مُوآبَ»، وَهُوَ أَبُو الْمُوآبِيِّينَ إِلَى الْيَوْمِ. 38 وَالصَّغِيرَةُ أَيْضًا وَلَدَتِ ابْنًا وَدَعَتِ اسْمَهُ «بِنْ عَمِّي»، وَهُوَ أَبُو بَنِي عَمُّونَ إِلَى الْيَوْمِ. (تكوين 19: 30 – 38)
لم تثمر المساعي التي بذلت في سبيل إثبات تاريخية أحداث قصة خروج الإسرائيليين من مصر، كما فشل العلماء في محاولة وضع الأحداث في إطارها التاريخي، فأهم المصادر المعنية بشكل مباشر في هذه الرواية غفلت عنها تمامًا، وكأنها غير موجودة ألا وهي المصادر المصرية لا بالشكل الذي ورد وصفه في الرواية التوراتية “الإسرائيلية” ولا بغيرها، إذًا متى حدثت قصة الخروج؟ بما أنه لدينا تاريخ واضح وموثق في قصة الخروج التوراتية “الإسرائيلية”، وهو تاريخ بناء الهيكل (المعبد)، وهذا الأمر موثق تاريخيًا حيث هناك إجماع بين المؤرخين أن سليمان تولى عرش المملكة الموحدة حوالى 962 ق. م.، وبناء على ما أخبرنا به سفر الملوك الذي سبق ذكره (6: 1) أن سليمان بنى الهيكل بعد 480 عامًا على الخروج فيكون التاريخ المحتمل هو 1438 ق. م. وفي هذه الحالة نحن أمام مشكلة من نوع آخر، فهذه الحِقبة شهدت مرحلة بلغ فيه التوسع الفرعوني ذروته مع الأسرة الثامنة عشر وفراعنتها تحوتموس الأول، وابنه تحوتموس الثاني الذي شنّ حملات عدة على كنعان حتى وصل في بعضها إلى الفرات في تحدٍ للنفوذ الميتاني، لذلك فمن غير المحتمل أن يكون هروب العبيد الإسرائيليين قد تم في حِقبة حكم هؤلاء الفراعنة الأقوياء، علمًا أن كنعان كلها كانت تحت السيطرة المصرية بدليل وصول الفرعون إلى الفرات من دون أن تواجهه أيّ قوة عسكرية يعتد بها، فأمام هذا الواقع لم يجد المؤرخون بدًا للانطلاق من نقطة توراتية “إسرائيلية” وهي موثقة تاريخيًا أيضًا حيث تتحدث التوراة عن أن الإسرائيليين عندما غادروا مصر انطلقوا من رعمسيس: 37 فَارْتَحَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ رَعَمْسِيسَ إِلَى سُكُّوتَ، نَحْوَ سِتِّ مِئَةِ أَلْفِ مَاشٍ مِنَ الرِّجَالِ عَدَا الأَوْلاَدِ. (خروج 12: 37)، وهنا أيضًا نجد مشكلة أخرى لأن أول فرعون اعتلى العرش في مصر ويدعى رعمسيس وعرف بمشاريعة العمرانية الكثيرة استخدم فيها أيدي عاملة من المستعبدين، والمسخرين بشكل كبير هو رعمسيس الثاني الذي حكم مصر بين 1290 – 1224 ق. م. (السواح، فراس)
وعليه فإن بعض العلماء يضعون تاريخ الخروج نحو عام 1280 ق. م. أي خلال السنوات الأولى من حكم الرعامسة، وهي الحِقبة التي شهدت أحداثًا كثيرة من التمرد، والعصيان على الحكم المصري في المناطق الآسيوية الأمر الذي سهّل تنفيذ مخطط الهروب من مصر (Albright, W. F., 1963)، وبالتالي سار معظم الباحثين في التاريخ التوراتي على خطى أولبرايت مع تعديلات طفيفة حيث يرون أن مرحلة الرعامسة هي المرحلة الوحيدة التي بنى فيها المصريون لأنفسهم عاصمة في الدلتا، فقد بنى رمسيس الأول مدينة تانيس في الدلتا، ثم بنى رمسيس الثاني عاصمة في مكان غير بعيد ودعاها بي رمسيس، وقد اشتهر رمسيس الثاني في بناء المشاريع العمرانية مستخدمًا الكثير من الأيدي العاملة المسخرة التي شكل الإسرائيليون جزءًا منها، في الواقع فإن أرض رعمسيس، ومدينة رعمسيس الواردة في سفر الخروج لا يمكن الاعتماد عليها في مسألة تحديد زمن الخروج لأن المحرر التوراتي استعمل عبارة أرض رعمسيس في إشارة إلى منطقة الدلتا منذ أيام يوسف أي قبل بناء مدينة رعمسيس بحوالى 500 سنة: 11 فَأَسْكَنَ يُوسُفُ أَبَاهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَعْطَاهُمْ مُلْكًا فِي أَرْضِ مِصْرَ، فِي أَفْضَلِ الأَرْضِ، فِي أَرْضِ رَعَمْسِيسَ كَمَا أَمَرَ فِرْعَوْنُ. (تكوين 47: 11)، وهذا يعني أن المحرر التوراتي الذي كان يكتب سفر الخروج في حِقبة متأخرة من الألف الأول قبل الميلاد استخدم الاسم الذي يعرفه لمنطقة الدلتا بصرف النظر عن ارتباط هذا الاسم حِقبة تاريخية معيّنة. إن هذه المسألة المحيرة دفعت بعض العلماء إلى وضع سيناريوهات متعددة لعملية الخروج في محاولة لفهم ما جرى بعد إخراج الرواية التوراتية كمرجع لقصة الخروج بعد أن بينا أنها لا تصلح كمرجع يمكن الاعتماد عليه في تأريخ مرحلة الخروج، ولعل أفضل تلك السيناريوهات ما قدمته كاثلين كينيون (Kathleen Kenyon) فتقول إن المحرر التوراتي اعتقد أن قصة الخروج كانت تشكل شعبًا واحدًا منذ البداية وأن كل تلك القبائل شاركت، ومرت في التجربة الدينية عينها في سيناء، غير أن الاحتمال الأقوى أن القبائل التي استقرت في فلسطين كانت من أصول متعدّدة ومتنوعة، وأن طلائع الإسرائيليين كانت مؤلفة من ثلاث جماعات رئيسة، الأولى كانت تقيم في بعض مناطق فلسطين وشرق الأردن، ولم تشارك أبدًا في الرحيل إلى مصر، أو الخروج منها، الثانية رحلت إلى مصر، ثم طردت منها بعد مشاركتها في أعمال عصيان، وتمرد، ثم حاولت هذه الجماعة الدخول إلى فلسطين من الجنوب، وهذا ما لم يوافق عليه موسى، وأصرت الجماعة على الدخول فهزمهم الكنعانيون شرّ هزيمة: 39 وَلَمَّا تَكَلَّمَ مُوسَى بِهذَا الْكَلاَمِ إِلَى جَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَكَى الشَّعْبُ جِدًّا. 40 ثُمَّ بَكَّرُوا صَبَاحًا وَصَعِدُوا إِلَى رَأْسِ الْجَبَلِ قَائِلِينَ: «هُوَذَا نَحْنُ! نَصْعَدُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي قَالَ الرَّبُّ عَنْهُ، فَإِنَّنَا قَدْ أَخْطَأْنَا». 41 فَقَالَ مُوسَى: «لِمَاذَا تَتَجَاوَزُونَ قَوْلَ الرَّبِّ؟ فَهذَا لاَ يَنْجَحُ. 42 لاَ تَصْعَدُوا، لأَنَّ الرَّبَّ لَيْسَ فِي وَسَطِكُمْ لِئَلاَّ تَنْهَزِمُوا أَمَامَ أَعْدَائِكُمْ. 43 لأَنَّ الْعَمَالِقَةَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ هُنَاكَ قُدَّامَكُمْ تَسْقُطُونَ بِالسَّيْفِ. إِنَّكُمْ قَدِ ارْتَدَدْتُمْ عَنِ الرَّبِّ، فَالرَّبُّ لاَ يَكُونُ مَعَكُمْ». 44 لكِنَّهُمْ تَجَبَّرُوا وَصَعِدُوا إِلَى رَأْسِ الْجَبَلِ. وَأَمَّا تَابُوتُ عَهْدِ الرَّبِّ وَمُوسَى فَلَمْ يَبْرَحَا مِنْ وَسَطِ الْمَحَلَّةِ. 45 فَنَزَلَ الْعَمَالِقَةُ وَالْكَنْعَانِيُّونَ السَّاكِنُونَ فِي ذلِكَ الْجَبَلِ وَضَرَبُوهُمْ وَكَسَّرُوهُمْ إِلَى حُرْمَةَ. (عدد 14: 39 – 45)
أما الجماعة الثالثة وهي التي تدور حولها معظم أحداث الخروج فقد تشكلت من مجموعات من المستعبدين المسخرين في بناء المشاريع العامة تضافروا على الهروب من أسيادهم فعبروا سيناء، وعاشوا حياة رعوية حِقبة لا بأس بها قبل أن يدخلوا إلى فلسطين من الجهة الشرقية عبر الأردن، إن مثل هذا الخروج يتناسب تاريخيًا مع حِقبة حكم رمسيس الثاني، وهي الحِقبة الوحيدة التي كان فيها للمصريين عاصمة في الدلتا بعد الهكسوس، فصعد هؤلاء بقيادة موسى عام 1260 ق. م. هاربين من مدينة رمسيس. ينقل الباحث العربي السوري فراس السواح عن أحد الباحثين التوراتيين (Sarna, Nahum, M.)، وهو يهودي أمريكي يعد من الباحثين الرصينين في هذا المجال في دراسة حديثة نسبيًا في هذا الموضوع يقول فيها “هؤلاء المؤلفون – مؤلفو التوراة – لم يكونوا يكتبون تاريخًا، إنما يعملون على إيراد تفسيرات لاهوتية لحوادث تاريخية منتقاة، وقد تمت صياغة الروايات التوراتية بشكل يتلائم مع تلك الأهداف والمقاصد، إننا نفتقد إلى المصادر الخارجية – كما سبق أن ذكرنا – التي تحكي عن تجربة الإسرائيليين في مصر، أو تشير إليها بشكل مباشر، والبيئة الموضوعية الواضحة في تاريخية النص التوراتي مفقودة تمامًا بما في ذلك نتائج التنقيب الأثري”.
بناء على ما تقدم بات من المؤكد أن البحث الأثري، والتاريخي قد فشلا تمامًا في تحديد مسار الخروج بناء على التوراة “الإسرائيلية” فالمواقع التي ذكرت التوراة أن الإسرائيليين مروا بها كـ”مارة، وإيليم” وغيرها غير مذكورة خارج التوراة، وأما الأسماء المشابهة فلم يعط البحث الأثري أي نتائج إيجابية حولها بما في ذلك جبل موسى المعروف في الذاكرة الشعبية بجبل حوريب، وكذلك موقع قادش برنيع، أو موقع حشبون الذي انتزعه الإسرائيليون من أصحابه الأموريين حيث لم يظهر التنقيب أي آثار ترجع لزمن الخروج، أما الممالك التي واجهها الإسرائيليون فلم تكن قائمة على الإطلاق في زمن الخروج أيضا،ً فالمنطقة بكاملها كانت خالية من السكان أواخر عصر البرونز، وبداية عصر الحديد، وهذا كله يشير إلى أن المحرر التوراتي كان يستلهم الجغرافيا البشرية، والسكانية التي يعرفها وقت تحرير أسفار التوراة وأنه كان على جهل تام بأحوال الزمن المفترض للخروج. (Thompson, Thomas. L.)
بناء على كل ما تقدم، وبناء على التناقضات والمغالطات الواردة في التوراة “الإسرائيلية” نفسها في التاريخ، والجغرافيا التي بيّنا بعضًا منها، وبناء على الآثار، والجغرافيا، والتاريخ، وبناء على النقوش الحية إلى يومنا هذا لإمبراطوريات، وممالك عظيمة كانت قائمة إبان حصول حادثة الخروج من مصر بحسب التواريخ التي أوردتها التوراة، يمكن القول إنه فعلًا كان هناك مستعبدون في مصر، وإنهم فعلًا خرجوا منها وقد أثبتت العلوم التي سبق ذكرها أنها حدثت فعلًا، وأن المبعدين، أو الهاربين دخلوا بلاد كنعان بالفعل إنما دخلوا بطريقة سلمية، وليس بحد السيف، وأنهم ذابوا في المجتمع المحلي فهم جزء منه أصلًا، وكانت لهم الثقافة نفسها مع تغيير في المعتقد الديني فقط، وفي مقدمته رفض عبادة الأوثان والدعوة إلى عبادة الله الواحد: 11 وَفَعَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ وَعَبَدُوا الْبَعْلِيمَ. 12 وَتَرَكُوا الرَّبَّ إِلهَ آبَائِهِمِ الَّذِي أَخْرَجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، وَسَارُوا وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى مِنْ آلِهَةِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ حَوْلَهُمْ، وَسَجَدُوا لَهَا وَأَغَاظُوا الرَّبَّ. 13 تَرَكُوا الرَّبَّ وَعَبَدُوا الْبَعْلَ وَعَشْتَارُوثَ. (قضاة 2: 11 – 13).
فالإسرائيليون هم كنعانيون من سنخية سكان المنطقة نفسها ثقافيًا وحضاريًا لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، لكنهم ميزوا أنفسهم بنسج أساطير، وقصص ملحمية ليدعوا ملكية الأرض بأمر من الله، ولكنه تعالى شرط وعده بوفائهم بعهده، وهذا ما لم يفعلوه فلم يجاهدوا، ولم يرهبوا أعداءه فحق عليهم العذاب:﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾ (البقرة: 40)، ﴿ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (البقرة: 42)، يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى﴾ (البقرة: 80 – 81) شرط أن لا تشركوا بالله وإلا كنتم كباقي الناس فتنقلبوا خاسرين: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (المائدة: 21)، وبالفعل انقلب بنو إسرائيل على أعقابهم، وعبدوا البعل، وعشتار، وبالتالي أصبح الوعد باطلاً. ولنختم بشهادة من “أبو” علم الآثار الإسرائيلية (Israel Finkelstein)([2]): “العملية التي شرحناها (الخروج) هي – في الواقع – عكس ما نجده في الكتاب المقدس العبري، لقد أثبتنا هنا أن بروز إسرائيل المبكرة كان نتيجة لانهيار الثقافة الكنعانية[3]، وليس سببًا لها، وأغلب الإسرائيليين لم يأتوا من خارج كنعان، بل ظهروا من داخلها، ولم يكن هناك غزو وفتح عنيف لكنعان، وأغلب الذين شكلوا الإسرائيليين الأوائل من سخرية السخريات – أنفسهم – أصلًا كنعانيين”.
مراجع البحث
السواح، ف. (1995). آرام دمشق وإسرائيل في التاريخ والتاريخ التوراتي، دمشق.
Albright, W. F., (1949). The Archaeology of Palestine, London.
Albright, W. F., (1963). The Biblical period from Abraham to Ezra, New York.
Finkelstein, I. & Silberman, N. A. (2001). The Bible Unearthed Archaeology’s New Vision of Ancient Israel and the Origin of its Sacred Text, New York, London, Toronto, Sydney, Singapore. (ترجمة: سعد رستم، باحث ومترجم، حلب، سوريا)
Garbini, G. (1988). History and Idiology in Ancient Israel, London.
Kenyon, K. (1971). Royal City of the Old Testimony, London.
Sarna, N. M. (1999) Israel in Egypt: The Egyptian Sojourn and the Exodus, In: Shanks, H. ed., “Ancient Israel from Abraham to the Roman Destruction of the Temple”, Washington.
Thompson, Th. L. (1994). Early History of the Israelite People, Leiden.
[1]– العبارات الواردة بين مزدوجين”…” متحفظ عليها لاعتبارات علمية أولًا، وقومية ثانيًا، أو حين استعمال مصطلح في غير محله لتقريب المعنى ثالثًا.
[2] رئيس قسم علم الآثار في جامعة تل أبيب (فلسطين المحتلة) وبروفسور حاليًا في ذلك القسم، إسرائيلي من أصل ألماني، حائز على الماجستير (1978) ثم الدكتوراه (1983) في علم الآثار من جامعة تل أبيب بأطروحة عنوانها “عزبت سرتاح” Izbet Sertah والإستيطان الإسرائيلي في منطقة التلال (المرتفعات)، شغل منصب مدير أو مدير مشارك للعديد من أعمال التنقيب الآثارية في مناطق مختلفة من فلسطين منذ عام 1971 وحتى اليوم، آخرها رئاسته المشتركة حاليًا لمشروع أعمال التنقيب الآثارية في مجدو.
[3] بسبب هجمات شعوب البحر التي تحدثنا عنها والتي حصلت حوالى 1200 ق. م.