أوراق ثقافيّة
د. عليّ مهديّ زيتون*
إنّ عنوان المجلّة “أوراق ثقافيّة” لم يكن عنوانًا مرتجلاً. هو في مفردتيه: (أوراق) من جهة، و(ثقافيّة) من جهة ثانية، تعبير عن همّ يؤرّق المثقّف. فالكلمة الأولى إشارة إلى جدل مرّ وصعب يدور في ذهنه بين النسخة الورقيّة، ومنافستها النسخة الإلكترونيّة. ولا تقلّ الكلمة الثانية إثارة لجدليّة قاسية أخرى. عنيت بها تلك الصراعيّة القائمة، في زماننا هذا، بين ثقافة الوجبات السريعة التي تؤمّنها الإلكترونيّات، وتلك المتشكّلة من حلول أوجدها عقل المجتمع الفعّال للمشكلات، والتحدّيات التي يواجهها. وإذا كان العنوان انتصارًا للأوراق من جهة، وللثقافة العميقة الجادّة من جهة ثانية، فإنّه إعلان واضح عن الأهداف التي آلت المجلّة على نفسها أن تحقّقها، وتحديد للمسار الدقيق الذي ستتّخذه في أثناء تحقيق تلك الأهداف. ويعني ذلك أنّ هذه المجلّة قد انطلقت في رحلة شاقّة نذرت نفسها لها. ووصفُ الرحلةِ بالشاقّة أمرٌ مقصود. يعني في ما يعنيه تجنّبَ الترف الطاووسيّ، خصوصًا أنّ الثقافة العربيّة تعيش مأزقًا، والعقل العربيّ لم يطرح على نفسه الأسئلة المرّة بعد. حتّام تظلّ مرحلة المثاقفة مع الغرب قائمة؟ أما آن لنا أن نمتلك تلك الثقافة الغربيّة تملّكًا واعيًا تبرز من خلاله شخصيّتُنا فنتمكّنُ من العودة إلى تراثنا المتعلّقِ بحقول المعرفة المتنوّعة، فنتملّكُهُ من جديد، من خلال تفتيحِ الأكمامِ التي أنتجها للثقافة الإنسانيّة، ولم تكن لها فرصةُ التفتّح بسبب الليل الطويل الذي بدأ مع القرن السادس الهجريّ، الثاني عشر الميلاديّ وظلّ قائمًاً حتّى (غبارِ 1918) الذي أصدرته الحرب العالميّة الأولى، مرورًا بالليلين الطويلين: الليل المملوكيّ الذي قاد مجتمعنا إلى الأمّيّة، والليل العثمانيّ الذي حاول في مرحلة من مراحل حضوره في سمائنا أن يُتَرّكنا؟ وما كان ليخطر ببال القائمين على المجلّة، ولو للحظة واحدة، أنّها الحمّالة الوحيدة لهذا الهمّ، كما لم يدُرْ في خلدهم لثانية واحدة أنّها القادرة وحدَها على القيام بهذا الحمل. حسبُها أن تتعهّد أقلامًا واعدة، وباحثين يُنتظر منهم القيامُ بالدور الشاقّ، أو المشاركة في تحديد معالم ذلك الدور، وحسبها أن تكون ديموقراطيّة المسار لا تأخذ إلاّ بما يفرزه العقل الجمعيّ الذي يمثّل الحكم الأخير في ما تذهب إليه وتتبنّاه. وهذا أمر مطلوب في معركة العقل العربيّ للتخلّص من كلّ القيود التي اربكته طيلة ثمانية قرون.
وكان لا بدّ من أن يكون النشاطُ البحثيّ لمجلّتنا نشاطًا بحثيًّا متّصلاً بالهمّ الثقافيّ الذي أرّق العقل العربيّ وشغل باله: عَنيت بذلك الحياة الثقافيّة العربيّة، وإذا كان أدبنا ونتاجنا الفكريّ العامّ أدبًا ونتاجًا فكريًّا حمّال هموم، كان المطلوب أن تتمحور الدراسات التي ستنشر حول ما سمِّي بالربيع العربيّ، وعليها أن تتحقّق من حقيقة تلك الربيعيّة عبر سؤال مبدئيّ مفاده: ما الذي تبطنه تلك الربيعيّة الموهومة؟ ولئن وقع مثقّفونا، في لحظة معيّنة، في وهم أنّ ذلك الربيع ربيع حقيقيّ؛ لأنّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
** أستاذ جامعيّ حائز رتبة أستاذ في اللغة العربيّة وآدابها. باحث في التراث الشعبيّ، وأدب المقاومة، وأدب الأطفال له العديد من المؤلَّفات منها: وفاء الزيتون، وقد ترجمت إلى الفارسيّة، والصينيّه، والفرنسيّة؛ وعناقيد العطش ترجمت إلى الفارسية أيضًا. عضو اللجنتين العلميّتي: الماستر والدكتوراه في الجامعة اللبنانيّة.
البداية لم تسمح بتَبيُّن الخيطِ الأبيضِ من الخيط الأسود. ولم يدر في خلدهم، يومها، أنّ الربيع الموهوم هو تمهيد لمّا سيسمّى بصفقة القرن، وأنّ الغرب ما زال (يستصغر) عقلنا ويلعب على حبالِ يريد لها أنّ تخنقنا. ولا أدافع بذلك عن الذين سقطوا في معمعة تلك الفوضى، ولا أبرّئهم ممّا يمكن أن يكونوا قد ارتكبوه. يبقى أنّ المطلوب من المجلّة أن تكون حريصة على طرح الأسئلة الجذريّة انطلاقًا من المُناخ الثقافيّ السائد، وممّا وصل إليه وعيُنا. وذلك من أجل الوصول إلى معرفة دقيقة بوضعيّة الثقافة العربيّة، تمهيدًا للسير بها، وبالتعاون مع جمع العاملين، في هذا المضمار، نحو خلاصها. والمطلوب التعاون مع الجهات الثقافيّة الرصينة والجادّة على إجراء مؤتمر سنويّ يجمع الأقلام الجادّة عربيًّا وعالميًّا موضوعه الثقافة المقاومة، والأدب المقاوم ؛ لأنّ المقاومة، وثقافة المقاومة هما خلاصنا في ظروف عالميّة (مستغولة) في محاولتها الانقضاض على ما هو إنسانيّ.
وإذا لم يكن هناك متّسع للغوص في التفاصيل المطلوبة، فإنّ مجلّتنا تعرف حجمها، ومدى قدرتها، وما يعترضها من صعوبات. ولن تدّعي بأنها قادرة منفردة على نقلة إنمائيّة ثقافيّة مهمّة. يكفيها أنّها تحاول إضاءة شمعة في زاوية مظلمةٍ، وأنّها ترفع الصوت في دعوة إلى إقامة مؤسّسة تضمّ جميع المؤسّسات الثقافيّة الجادّة لتقوم بالدور الرائد الذي ينتظرها. وذلك من خلال إقامة مؤتمر سنويّ موضوعه البحث عن العوائق التي تحول دون أن تصبح الثقافة العربيّة ثقافة منتجة تصبّ إلى جانب روافد الثقافة العالميّة في نهرٍ هدّار واحد يخرج بالإنسان، في جميع بقاع الأرض، من توحّشه ليصير إنسانا ثقافيًّا حقيقيًّا. ولا يكون ذلك إلّا عبر تمكين العقل العربيّ من أن يطرح على نفسه الأسئلة المحرجة التي تمثّل الإجابةُ عنها منطلقَ شفاء من أمراضنا، فيكونَ ذلك الشفاءُ تمثيلاً دقيقًا لخصوصيّتنا التي سترفد الثقافة العالميّة بما يجعلها ثقافة إنسانيّة.