كُنِ المثقّف الحقيقيّ لبناء شعب ووطن
أ. د. صلاح أبوشقرا([1])
يتساءل المرء عن حال لبنان ونُخَبه ومثقّفيه في عصر انحطاطه، نعم، وإن كانت كلمات متشائمة إلاّ أنّها تعكس تداعيات السقوط من أعلى القمم إلى الحضيض، وكما هو معروف كلّما كان السقوط من أعلى كلّما كان التشوّه أبلغ، فكيف إن كان الأمر متعلّقًا بلبنان، ذلك البلد المتربّع على السّواحل الشرقيّة للبحر المتوسّط، الذي صدّر الأبجديّة من بيبلوس إلى كلّ العالم القديم، جاعلًا إيّاها وسامَ اعتزاز على صدر أرزه الأزليّ.
لقد كان لبنان في العلياء، علميًّا، طبيًّا، خدْماتيًّا، وفي الميادين كافّة متصدّرًا دول العالم العربيّ ومنطقة الشرق الأوسط، فكان مقصدًا لتلقّي الدّراسات الجامعيّة، كما كان مكانًا آمنًا للودائع ولا سيّما عائدات النفط العربيّ منها، وكذلك كان مستشفى للحالات المستعصية لمرضى الدول العربيّة ودول الشرق الأوسط، كما كان مقصدًا للسياح وللمستجمّين، نعم كان لبنان… ومن المعروف أنّه من أسباب تفوّقه هذا، هو التنوّع، ذلك التنوّع الذي قلّ نظيره بين الدول، كون لبنان بقعة جغرافيّة تجمع أقلّيّات كبيرة وصغيرة. ويعود سبب ذلك التفرّد اللبنانيّ لبنية لبنان الجبليّة، الوعرة المسالك والشديدة الانحدار، التي جعلت منه ملجأً للأقلّيّات الدّينيّة والمذهبيّة وحتّى الإثنيّة، وهو ما جذب المستشرقين والمبشرين المتنافسين لاستمالة اللبنانيين وإلحاقهم إمّا بالبروتستانتية أو الكاثوليكية. وقد كسب لبنان في هذا المجال تأسيس الجامعات على أرضه، كالكلية الإنجيلية السورية، الجامعة الأميركية في بيروت حاليًا، والجامعة اليسوعية، فضلًا عن مدارس الإرساليات، والمنح التعليميّة من الدّول الأوروبيّة. بالمقابل كان لمصر في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر اليد الطولى في تأسيس فرع لجامعة الإسكندريّة العريقة، جامعة بيروت العربيّة. ذلك كلّه ما كان ليحصل عليه اللبنانيّون لو لا التنوّع الدينيّ والثقافيّ في بلادهم، مقرونًا بانفتاحهم على العقائد والثقافات المتنوّعة الآتية من الخارج.
ولكنّهم لم يحافظوا على تلك الامتيازات التي جعلتهم يتصدّرون الدول العربيّة، ودول الشرق الأوسط في الميادين كافّة. وذلك عندما تحولّت نعمة التنوّع إلى نِقمة، والثقافة الحقيقيّة إلى ثقافة سلطة وثقافة طوائف ومذاهب وأحزاب، تلك التي أدّت بجهلها ومصالحها الضيّقة إلى صراعات طائفيّة – مذهبيّة بالمضمون أيديولوجيّة – سياسيّة بالشكل. وبين الشكل والمضمون وقعت الحرب الأهليّة واستتبعتها حروب ومعارك وصراعات إلى يومنا هذا، حتّى أطاح اللبنانيّون بكلّ ما ينعمون به من امتيازات كلّيًّا، وقد أصبح ساحة لصراع الأمم، والمصالح، والثقافات على أرضهم نتج عنها الانهيار الكارثيّ…
أخيرًا، لا بدّ من وعي المثــقّف اللبنانيّ لأهمّيّة دوره في استعادة الحياة للبنان المحتضر، وذلك مرهون بالعمل على بناء وطن سيّد مستقلّ أوّلًا، يضفي على اللبنانيّين المناعة في الانفتاح على الثقافات كلّها، كما على العولمة بأشكالها كافّة، وذلك من خلال تحويل التنوّع اللبنانيّ إلى نعمة، وهنا دور المثــقّف الحقيقيّ في بناء شعب متماسك في وطن كامل السّيادة.
1-أستاذ دكتور في الجامعة اللبنانيّة كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة – قسم الجغرافيا،وعضو هيئة اللجنة المحكمة.