سيمياءُ الصَّمتِ، وسيمياءُ الفراغ
د. شربل ميلاد توما([1])
المُستخلَص
قد قُمتُ بتفكيك هذه القصيدة عَبر الدَّالّ والاِستبدال، والمَرجِع، حتَّى إنَّ سيمياءَ الصَّمْتِ، وإيماءَ الفراغ فيها، يتشكَّلُ بالسُّطور المنقوطة. وما تبديلُ الدَّوال اللّسانيَّة فيها، بالدَّوال الطّباعيَّة النَّسقيَّة سوى علامةٍ من علاماتِ الأصوات الشّعريَّة الصَّامتة. وإنَّ السُّطور المنقوطة، تستنطقُ البؤرةَ الرُّؤيويَّةَ، وتُنشِئُ علاقةَ المُواحدة بين الذَّات الحاضرة للشَّاعرة، والذَّات الغائبة للآخَر. وتتعالقُ مسافةُ الرُّموز فيها، لتتقاطعَ اللُّغةُ الشّعريَّةُ ما بين الثَّابتِ اللُّغويّ، والمتحرّك اللغويّ بُغيَة ممارسةِ الخَلْق، وإنشاء فضاءات جديدة ٱلتي لا تهدأ إلَّا لتتحوَّل.
لذلك، فإنَّ ما يطفو من اللامرئيّ المُتصوَّر، يُشكِّلُ أحيانًا معابرَ إلى المرئيّ، مع جواز المُعاكسة؛ لأنَّ الشَّاعرة فاطمة محمود تُدركُ أنَّها تتوغَّلُ في تجريد الرُّوح، ولا تعملُ على ردم الهُوَّة الزمانيَّة، والفجوة المكانيَّة، بقدْرِ ما تَستقرئُ هجسَ الماورائيَّات، تأسيسًا للمعنى الشَّامل للقصيدة، طالَما أنَّ جماليَّة الصَّمْت هي أشدُّ وقعًا من الكلام المنطوق.
الكلمات المفاتيح: استنطاق الفراغ- الأسطر الفارغة- الأماكن الضيِّقة- الأماكن الواسعة- آليَّات التَّأويل- إيماء الصَّمْت – التَّأويل التَّلفُّظيّ- التَّأويل القرائيّ- التَّحوُّل التأويليّ- التَّداعيّ السياقيّ- تراكُم دلاليّ- التَّلفُّظ اللّسانيّ- حَبْس الذَاكرة- الدَّال الدَّال الطّباعيّ الصَّامت – الدَّال الّلسانيّ الدَّلالة -ذاكرة الرَّمز- سيمياء الفراغ- السّياق التَّركيبيّ-
الشَّكل الطّباعيّ-علامات لسانيَّة-فراغ ملفوظ-الفراغ الكلاميّ- الفراغات المحذوفة- الفعل الإبداعيّ-فاعلًا خطابيًّا-
الكلام الغائب- الكلام الملفوظ-لسانيَّات التَّلفُّظ- اللَّمْح المحذوف-المدلول- المنظور البصريّ-مَواضِعُ الصَّمْت.
Résumé
J`ai déchiffré ce poème grâce au signifé, à la substitution et à la référence, la sémiotique du silence et le symbole du vide y présents se manifestent à travers les lignes de trois points. Ansi, la substitution des singnifiants linguistiques en signifiants typographiques n`est qu`un signe parmi d`autres des voix poétiques silencieuses. Les lignes de trois points poussent le gouffre de visions à s`expliquer, et établissent une relation d`unification entre le « moi » présent de la poète et le « moi » absent de l`autre. L`espace des symboles s`y entrelace, la stabilité linguistique et son mouvement s`entrecroisent dans la langue poètique afin de procéder à la création, et de créer de nouveaux espaces qui ne vont que se tansformer.
Pour cela, ce qui transparait de l`invaisible supposé constitue parfois des passages vers le visible, et l`inverse est aussi vrai, parce que la poète Fatima Mahmoud sait qu`elle s`introduit dans l`âme, et ne cherche pas autant à combler le vide combler le vide spatio- temporel qu`à déchiffrer la métaphisyque, posant les bases du sens complet du poème, puisque la beauté du silence est plus importante que la parole délivrée.
Mots clés
Les ligne vide- Claustrophobia- Agrophobia- Les processus de l`interpretation – Faire parler absente- Le symbole du silence- Réinterprétation illocutoire- l`interpretation du lecteur- La transformation interpretative- La degradation du context- Une accumulation sémantique- La parole dite
Le cloisonnement de la mémoire- Le significant- Le significant typographique silencieux- Le significant évoqué- La significance- Le souvenir du smbole- La sémiotique du vide- Le contxte structural- Le signe imprimé- Des indices linguistiques –Vide rempli- Le silence limguistique- Les vides supprimés- L`acte créatif- Un Actant discursive- La parole absente- La langue parlée- Linguistique de l`énontiation- La vision suprimé- Le signifié- L`horizon visual- Les espaces silencieux
المقدّمة
سأتناولُ في هذا البحث إيماءَ الصَّمْت، وسيمياءَ الأسطُرِ الفارغةِ في قصيدة “سرنمة” للشَّاعرة اللّيبيَّة فاطمة محمود. وسأدرسُ مدى علاقةِ هذه الأَسطُر الفارغةِ باللُّغَة والسّياق([2]) والدَّالّ والمدلول والدَّلالة، مُحاولًا سَبْرَ أغوارِ الشَّاعرة الدَّفينة، مُتسائلًا عن كيفيَّةِ ٱشتغالِ لُغَتِها على مُستوى المحذوف، مُظهِرًا جانبًا من جوانبِ الفهم والإدراك، حتَّى يَكتشِفَ القارئُ أنَّ هناكَ شِبهَ تطابُقٍ بين المكتوبِ واللامكتوبِ داخل شبكاتٍ معرفيَّةٍ تأويليَّةٍ.
ولعلَّ هذا البحثَ يفتحُ البابَ على مِصراعَيه لاِستقراء أدواتٍ قرائيَّةٍ جماليَّة فنيَّةٍ جديرةٍ بالتَّمحيص والدَّرس المُتأنّي، عَبْرَ الدَّالّ، والمدلول، والدَّلالة. وإنَّ إيماءَ الصَّمْتِ، يُعطي القصيدةَ تشكيلًا جديدًا، توظّفُه الشَّاعرةُ لاِستبطانِ ما في داخلِها من مشاعرَ ومكبوتات. وتتنامى في هذا الاِستبطان أحلامٌ مُتراكمةٌ في قاعِ الرُّوح، وتتحوَّلُ في إيقاعِ الرُّؤيةِ بينَ الواقعِ المكتوبِ، والمجهولِ المُتصوَّر.
ويهدفُ هذا البحث إلى تتبُّعِ إيماء الصَّمْت، وسيمياء الفراغ، وإظهار تعالُقِهما مع المستوى الشَّكليّ، إنْ هو دالٌّ يوجِّهُ فعلَ المتلقّي، ٱستنادًا إلى أدواتٍ مفهوميَّة، بوصفها “صِيَغًا متحوِّلةً، تنتظمُ وتشتغِلُ على نحو يُسهِمُ في إنتاجِ الدَّلالة”([3]). وتعودُ فاعليَّةُ مَلء الفراغ إلى القوَّةِ المَرجِعيَّةِ للباحث، إذ “يستعينُ بثقافتِه التَّاريخيَّة، ويملأُ الفراغ”([4]) بأُفُقِ الاِنتظار، الذي لا يتجلَّى إلَّا بآليَّاتِ التَّأويلِ القادرةِ على الاِختراق والمغامرة.
وما أُفُقُ الاِنتظارِ سوى جماليَّةٍ نابعةٍ من ذاكرة جماعيَّة، وما تبديلُ الدَّالّ اللّسانيّ، بالدَّالّ الطّباعيّ النَّسقيّ الشَّكاليّ سوى إشارةٍ من إشاراتِ غياب الصَّوتِ الشّعريّ الصَّامت، لتصيرَ الفراغاتُ المحذوفةُ أشدَّ ٱحتراقًا، ويكونَ المحذوفُ أكثرَ إنارةً. وما حركيَّةُ هذه القصيدة سوى تراكمٍ دلاليّ مُتقاطعٍ في حركةِ البُنيةِ المفتوحة على التَّأويل القرائيّ، ٱلذي يحكُمُه الفعلُ الإبداعيّ، إذ تطفو عليه نفحةٌ إنسانيَّة. وما الإيحاءاتُ للأسطُر الفارغة سوى حضورٍ غائبٍ لطرَبِ الرُّوح، ٱلتي تحتاجُ إلى الكشف المُستمرّ؛ لأنَّها تبقى مُختبئةً في إدهاشِها المُباغت. وما البنيةُ الجدليَّةُ بينَ الصَّوتِ الفارغ، والصَّمْتِ المَليء سوى “تفاعُلٍ بين اللّسانيّ والتَّشكيليّ”([5])، ذلك أنَّ تفريغَ الأسطُر من الكلام الملفوظ هو ٱختيارٌ طوعيٌّ للصَّمْت، الذي يحمِلُ في طيَّاتِه موقفَ الشَّاعرة من أوضاع الأنا الصُّغرى، ومدى علاقتِها بالأنا الكُبرى.
بهذا المعنى، يصيرُ الصَّمْتُ هَجْسًا محذوفًا، ويكونُ ٱبتداءً مُستمرًّا تُجاهَ الآتي، ويُصيبُ الذَّاكرة بفراغ زمنيّ ما، ويتحرَّكُ في قرارةِ اللاوعي، ويَفتحُ أبعادًا قرائيَّة جديدة. وإذا كانَتِ السّيميائيَّةُ تَدرسُ العلاماتِ النَّصيَّة، بما فيها من تأويلاتٍ دلاليَّة، فإنَّ تفكيكَ الإشاراتِ الصَّامتةِ والسَّاكنة والهادئة في قصيدة “سرنمة”، يحملُ في أبعادِه قضايا تتراوغُ بِحسَبِ الاِنفعالاتِ، والمواقفِ، والتَّخيُّلات، والتَّصوُّرات، والتَّطلُّعات، وتتراوحُ بين الإفصاحِ والكِتْمان، أو بينَ الظُّهورِ والِاختباء، أو بين التَّعبير والاِنحباس. ولا يَرجِعُ الفراغُ الكلاميُّ إلى حَبْس الذَّاكرة، ٱلتي تَحولُ دونَ تسميةِ الأشياء، أو تحديدِ الصُّوَر([6])، بين المسافات الدَّلاليَّة، وأدواتِ التَّلقّي. وقد يكونُ تفكيكُ هذه القصيدة ٱنطلاقًا من قراءةٍ خطّيَّةٍ لها، إذ تُعَدُّ قراءةً ثانيةً مُؤوَّلَةً تكشفُ عن المعاني([7]). ويبقى السُّؤالُ هو التَّالي: هلِ الشَّكلُ الطّباعيُّ مُلائمٌ لروحيَّةِ هذه القصيدة، أَم هو مُلائمٌ لروحِ العصر، وحركتِه المُتسارعة؟ لذلك، آثرتُ أنْ أدرسَ علاماتِ الصَّمْتِ فيها، وإنطاقِها دلاليَّا؛ لأنَّها تُخاطبُ العينَ قبل الأُذُن، وتَحتلُّ فضاءَ المنظور البَصَريّ، وتَستحوذُ مُضاعفةَ التَّركيزِ في دائرةِ الدَّالّ، وتشحنُه بأكبر طاقةٍ مِنَ التَّدليل، والتَّمثيل، والتَّرميز، وتُراودُ التَّجريدَ التَّخاطُريّ، بتجاذبٍ أُسطوريّ، وتَستقطِبُ بؤرةَ الرُّؤية، وتَستقرئُ ٱشتباهاتِ الأسطُرِ الفارغةِ النَّابضة بالاِحتمالاتِ العلاماتيَّة، إذ تقولُ الشَّاعرةُ في قصيدة “سرنمة”:
“أُكهِّفُ أُنوثَتي، مُتحسِّسَةً زَغَبَ رغباتي، مُتقِنةً نُبُوَّاتٍ مُزوَّرة، حينَ تتدوَّرُ
الصَّبواتُ في كَفّي، أُبَعثِرُها في فضاءٍ مُعاقٍ – عازفةً لحنًا أسوَدَ بحُنجُرةٍ فتيَّةٍ
………………………………….
الغَدُ – الخيوطُ الشّريرةُ المُلوَّنةُ – يَندَسُّ في مَحجوباتي، يُجَرجِرُ الآباءُ قُطعانَ
خيباتِهم بخناجِرَ مُتوعِّكة. يَنْبَحونَ على بضاعةٍ كاسدة.
أنتُم الأبناءُ العُمْيُ، صدِّقوا في ألواحِنا، تصفَّحوا المقدَّسَ، طنينًا اِلتفتوا
اِلتفتوا.
نحنُ الأبناءَ، نلتصِقُ عُثًّا في المبايضِ الهَرِمَةِ. دُودُ التَّعاليمِ يَزْدَرِدُ نُطَفَنا.
ها إنَّا نَغمِسُ خُبزَ الغَدِ في مَرَقِ الحِكَمِ البائتةِ
ها إنَّا نُلَولِبُ أعناقَنا، يُروِّضُ جوعَنا
شبَعٌ كاذبٌ
……………………………
ماذا أيُّها الأنيقُ المُختفي بذاتِه؟ مَنْ يُنكِرُ جميعَ الألوانِ، ويَرتدي جميعَ
الألوانِ، ٱلذي يأتي مِثلَ كُلّ غَدٍ
ماذا بوُسعِكَ أنْ تَمنحَني؟
……………………………
تَقضِمُ النّساءُ الفَزِعاتُ حليبهُنَّ، إذ يلْمَحْنَني ناسجةً نَصّي كفَنًا لموتٍ “إيروسيّ”
رزانةُ الأبوابِ في يديّ تصيرُ غُبارًا فَزِعًا
النّساءُ الخَزَفيَّاتُ يُشاهِدْنَني أُعارِكُ طائرًا خرافيًّا
…………………………..
أنا ٱمرأةُ الهواجسِ المُبرقَشَة،
حين تلْمَحُ النّساءُ ألواني يتقصَّفْنَ ريشًا قاتِمًا لطائرٍ أسودَ يَنتفِضُ في وسادة”([8]).
يَحملُ الصَّمْتُ في هذه القصيدة دلالاتٍ ٱنفعاليَّة تعبيريَّةً خصبةً، ويتجلَّى ذلك في الِاستفادة من الشَّكل الطّباعيّ الذي يتمثَّل في علامات الوقف، فضلًا عن توزيع الكلمات والسُّطور، وتنسيقها على الصَّفحة بطريقة ما. ولعلَّ وضعَ الشَّاعرةِ ٱجتماعيًّا وثقافيًّا بوصفها ٱمرأةً، قد جعلَها تتَّخذُ من هذه القصيدة النَّثريَّة شكلًا شِعريًّا تُحمِّلُه ترميزَها لهواجسِها، وتُكهِّفُ فيه أُنوثتَها، وتُعبِّرُ عن تجاربَ داخليَّةٍ خاصَّةٍ ومُعقَّدة، وتنُمُّ عن مشاعرَ مكبوتةٍ خوفًا من سُلطةٍ ما.
وإذا كانَتِ اللُّغَةُ موجودةً بشكل تجريبيّ -إنْ هي مَخزنٌ لحضاراتِ الشُّعوب- فهذا يدلُّ على أنَّ خطابَ هذه القصيدة يتقاطعُ مع اللَّمْح المحذوف، ويتمظهَرُ عَبْرَ اللُّغَة، ويُنتِجُ بالضَّرورةِ إشاراتٍ ورموزًا ودلالاتٍ وٱحتمالات، تُدخِلُ إلى جانبِ العناصرِ اللّسانيَّةِ مُلابساتِ إنتاجِها بين المُتكلّم، والمُستمِع، وبين الزَّمان، والمكان، وبين العلاقاتِ القائمةِ لعناصرَ غير لسانيَّة([9]).
وإذا كانَ التَّحوُّلُ التَّأويليّ بين بنية القصيدة والسّياق من وُجهةٍ أُولى، وبين “الرَّمزيَّة والتَّأويل”([10]) من وُجهةٍ ثانية، فهذا يعني أنَّ الفعلَ التَّأويليّ ينطلِقُ مِنْ مؤشّرات نصيَّة، تقودُنا إلى الكشف عن المعنى المَخفي، ما يدلُّ على أنَّ السّياقَ التَّركيبيَّ يَتعالقُ مع الملفوظ والذَّاكرة، من مثل: الحذف، والتَّوقُّع، والتَّقديم، والتَّأخير. وهذا يدلُّ أيضًا على أنَّ المعنى المحذوف – بغضّ النَّظَر عن صِحَّتِه – هو نتاجٌ جديدٌ يتأسَّسُ في كنَفِ منظومةٍ ثقافيَّة ما، إذ يبقى “التَّأويلُ المُعتمِدُ على اللُّغة هو الشَّكلُ التَّأويليّ بامتياز”([11]).
وإذا كانَتِ البؤرةُ الأسطوريَّةُ “للكهف”، قد أرسَتْ قواعدَ حُزنِ الشَّاعرة فاطمة محمود على الأقلّ زمانيًّا، فإنَّ هذه الأُسطورةَ تضُجُّ بالتَّأمُّلاتِ، وتُتقِنُ “نبوَّاتٍ مُزوَّرة”، وتدخُلُ الشَّاعرةُ من خلالِها إلى عالَمٍ مُتعدّدِ الأبعاد، لتُمارسَ فيه الذَّاتُ كينونتَها على أنَّها ٱمتدادٌ لاِستمراريَّةِ الوجود الإنسانيّ. أمَّا إذا أخذَتْ مِنْ تلكَ الأُسطورةِ نقطةً تاريخيَّةً لها، فهذا يعني أنَّها قد حاولَت ٱكتشافَ التَّشكُّلاتِ الخطابيَّة ٱلتي تُحاورُ الزَّمانَ والمكانَ، حتَّى باتَ النَّسيجُ الأُسطوريُّ يُؤرِّقُ كآبتَها، فتكتشفُ طرُقًا أشقّ وأوعَر “حين تتدوَّرُ الصَّبوات” في كفِّها، لتجِدَ نفسَها مُرتادةً مَفازاتٍ لم تحلُمْ بها من ذي قبل، إذ أدركَها شعورٌ خفيٌّ، مَرَّتْ من خلاله حقائقُ كامنة في ظلال كَهفِها الرُّوحيّ، الذي تُبعثرُه “في فضاء مُعاق”، وتعزفُ “لحنًا أسود”.
إذًا، هناك إمكانيَّاتٌ يُتيحُها الشَّكلُ الطّباعيُّ، الذي يَحمِلُ دلالاتٍ خاصَّة، لا يستطيعُ أنْ يَفيَ بها التَّلقّي الشَّفاهيّ؛ لأنَّ سُطورَ القصيدة تَشغَلُ حيّزًا مَكانيًّا فوقَ الصَّفحة، إذ تَلحظُه العينُ لا الأُذُن؛ لأنَّ العينَ بوصفِها مِرآةً، تتحرَّكُ في سياقٍ بَصَريّ، وتعكسُ الصُّورةَ المرئيَّة، وتلتقطُ ٱتّجاهاتٍ ما، بوصفِها شِعريَّةً محوريَّةً. هذا الصَّمْتُ ينطوي على مِساحاتٍ بيضاءَ في القصيدة، ويَحمِلُ دلالاتٍ مُتنوِّعةً على الرُّغم مِنْ غيابِ الأحرفِ والكلماتِ؛ لأنَّها ترتبطُ في المُتَخيَّلِ الأُسطوريّ والرَّمزيّ والتَّأويليّ؛ ليحملَ “حقائقَ وجوديَّة وكونيَّة”([12]). فيُعَدُّ الصَّمْتُ جزءًا لا يَنفصِلُ عنِ الكلام بما أنَّه يَندرجُ في الحركةِ الإيقاعيَّةِ للقصيدة، وفيها حركةُ تنفُّسٍ، وحركةُ ٱنتظار وتوقُّف”([13]). إنَّ أشكالَ الصَّمْتِ موصولةٌ بمشاهدَ غائبة، إنْ هي وسيلةٌ لانفتاح العالَم، إذ يُمكِنُ دراستُها في إطار المُحاكاة والصِّيغة والتَّبئير والزَّمان([14])، و”يؤسِّسُ الصَّمْتُ صيغةً جديدةً لقراءةٍ توليديَّة”([15])، والصَّمْتُ هو هدوءٌ وسُكوتٌ وسُكونٌ وسَكَينةٌ([16])، وهو أيضًا حالةٌ تعيشُها الشَّاعرة وتَهجِسُ بها هَجْسًا، حتَّى يَصيرَ “الصَّمْتُ غبارًا” قائمًا على المُكابدة الروحيَّة، لأحلامِ اليقظة.
لذلك، يُعَدُّ خطابُها الشّعريُّ الصَّامتُ كتابةً ٱبتكاريَّة فنّيَّةً أدبيَّة إبداعيَّةً جماليَّة، خصوصًا أنَّها ٱستطاعَتْ توظيفَ الأنساق البصَريَّة، والصُّور البيانيَّة، والتّقنيَّات الكتابيَّة لصالح مُخيَّلة المتلقّي. وإذا كانَتِ الكتابةُ الشّعريَّةُ هي الكتابةُ البيضاءُ الأُولى، فهذا يعني أنَّ الشَّاعرَة تبدأ في كتابةِ البياض الأبيض، وترسُمُ بالنُّقاطِ المتتابعةِ الأسطُر الشعريَّةً، فتُعطِّلُ دلالةَ القول. ويمكنُنا أنْ نحصُرَ المعنى الشّعريّ بالإيحاء والإيماء واللَّمْح واللَّمْع والرَّمز التَّجريديّ؛ لأنَّه وسيلةٌ للتَّعرُّفِ على الأشياء.
هذه المعاني تُمارسُ رحيلَها باستمرارٍ من الدَّلالة إلى ظلّ الدَّلالة؛ لأنَّها تقومُ على صُوَرٍ ذهنيَّة، وتتمتَّعُ بتجاذبٍ عُمقيّ، وتعكِسُ الرُّؤيةَ إلى ما وراء الرَّمز الاِنزياحيّ، وتتجاذبُ في نظام دلاليّ، وتتحوَّلُ حركةً تَغورُ في الصَّاعد، وتتقدَّمُ في سُكُون، وتتماوجُ وراءَ المُمكن، وتَستنطِقُ الغائب، وتتشكَّلُ من خلال تحويل الحدث إلى صورة ومعنى، وتُعيدُ تشكيلَ الخطاب المُتواري الذي غيَّبَه المحو. بهذا المعنى، يكونُ توظيفُ الرَّمز عمليَّةً تتعالقُ بين الحاضر المُعاش، وبين الماضي القابعِ في ذاكرةِ الشَّاعرة.
وكلَّما ٱنقبضَتْ ذاكرةُ الرَّمز، ٱنبسطَتِ القصيدةُ بطوفانٍ دلاليّ هائل. بهذا المعنى، إنَّ إعادةَ “كتابةِ المَحوِ” أداةٌ قرائيَّةٌ مُعقَّدةٌ، يسعى الباحثُ إلى ٱكتشافِ دلالاتِها وتتراوحُ بين الإنصاتِ([17])، والسُّكْتة([18])، أو الفراغ([19])، والخُواء([20]). إذًا، إنَّ البياضَ([21])صَمْتٌ وفراغٌ وسُكوتٌ وتجاوزٌ، يحمل حضورًا مُكثَّــفًا للمعاني المُتنوّعة والصُّوَر والمَشاهد والرُّؤى. وترتبطُ هذه القصيدةُ بالكلمة المفتاح وهي “الكهف”، إذ طَلَبَ أصحابُه من ربِّهم أنْ يُرشِدَهم إلى طريقِهم([22]). هؤلاءِ الشَّبابُ الموجودون في “الكهف”، يطلبونَ الرَّحمةَ والمَغفِرةَ والتَّيسيرَ، ويُعبِّرونَ عنِ الاِنبعاثِ بعدَ الموت. وٱستهلَّتِ الشَّاعرةُ قصيدتَها النَّثريَّةَ مُتأثرةً بالفيلسوف اليونانيّ أفلاطون([23])، إذ “تُكهِّفُ أنوثتَها”، رمزًا لمعاناتِها مع الزَّمن والتَّزمين. وهذا التَّكهيفُ يُوحي بالرَّغبة الشَّديدة للعودة إلى الطُّفولة، إذ إنَّ الدَّخولَ إلى “الكهف” يعني الدُّخول إلى أحشاء الأُمّ([24])، قد تبحثُ الشَّاعرةُ عن أمَلٍ ضائعٍ في كَهفِها المَطويِّ، “حينَ تتدوَّرُ الصَّبوات”. وتَستندُ فاعليَّةُ التَّأويلِ القرائيّ في “الدَّالّ الفارغ”([25])، إلى التَّكوين الهندسيّ المُنظَّم للقصيدة، وربطِ ذلك الدَّالّ بالمدلول المُتغيِّر. بهذا المعنى، إنَّ “الدَّالّ الفارغ متغيِّرٌ؛ لأنَّه مرتبطٌ بالمدلول التَّجاوزيّ. فإنَّ “المؤوَّلَ الاِنفعاليّ”([26])، الذي يتجسَّدُ في “الصَّبوات”، يحملُ حدَثًا آنيًّا مرتبطًا بالفعل المضارع “تتدوَّرُ”.
ولكنَّ “الصَّبوات” لا تكون إلَّا في زمنٍ مضى، تدليلًا على دفء الطُّفولة على أنَّها الصُّورةُ المُثلى والماثلة أمام نُصْب عينَي الشَّاعرة. أمَّا الإثارةَ الإيحائيَّةَ فإنَّها قائمةٌ على الخوف، إذ إنّ”العلامة التَّصديقيَّة الشَّاهديَّة العينيَّة”([27])تتمظهرُ في الفعل المضارع “أُبعثِرُها”. وأنْ تكون فاطمة محمود موجودةً في عالَم جسديّ، فهذا يعني أنَّها في حالة غرابة وغربة، إذ تكتبُ الفراغ وتُخاطبُه. وإنَّ قلقَها هو حالةٌ ٱنفعاليَّة، ويُعَدُّ أساسيًّا في تفسير الكَبْت والخوف.
لذلك، إنَّ هذا التَّكهيفَ يكمنُ وراء ظاهر التَّصوُّرات والمخبوءات، ويحملُ مكنونات النَّفْس، ويتماهى آنيًّا مع المرجِعيَّة التَّاريخيَّة، والأسطوريَّة، والفلسفية، ليتحوَّلَ في زغَبِ رغباتِها كهفًا روحيًّا نابعًا من صميم تجربتِها الشّعريَّة. وتستمدُّ الشَّاعرةُ عناصرَها من مُكتسباتِ الحضارةِ اليونانيَّةِ والإسلاميَّة، وتستحضِرُ من هذه الأسطورةِ الآيةَ القرآنيَّة([28])، ووتُريدُ برؤياها الثَّاقبة أنْ يكونَ كهفُ أُنوثتِها تجسيدًا حيًّا شِعريًّا لتجربتِها ومعاناتِها. إذًا، إنَّ “كَهْفَ أُنوثتِها” هو رمزٌ فلسفيٌّ أفلاطونيٌّ، يدلُّ على أنَّ حياة الإنسان على الأرض هي حياةُ أوهام. وهو أيضًا رمزٌ توراتيّ وقرآنيّ.
إذًا، إنَّ الكتابة الشَّكليَّة التي تعتمدُها الشَّاعرةُ ترتبط باللُّغة ٱرتباطًا وثيقًا، كما أنَّ العلاماتِ اللّسانيَّةِ الفارغةِ هي مُحاذيةٌ للعلاماتِ الطّباعيَّة، وتدلُّ على أشكالٍ غنيَّة بنسَقٍ لافت ومُميَّز، حتَّى يَصيرَ الصَّمتُ أشدَّ إيغالًا مِنَ الكلام، ويغدو فاعلًا خطابيًّا Un Actant discursif مُحتاجًا إلى مِنهجيَّةٍ قرائيَّةٍ مُغايرةٍ عنِ المألوف، عَبْرَ تحديدِ بنية القصيدة، وإمكان بلوغ خاصيَّتها ومناحيها الدَّلاليَّة. وإذا أنعمْنا النَّظر في القراءة السّيميائيَّة لتبيَّنَ أنَّ الكلامَ المحذوف هو في دلالته الأساسيَّة فِعْلٌ تلفُّظيّ بالغياب، ولكنَّه مُندَرِجٌ في “التَّداعي السّياقيّ”([29]). لذلك، فإنَّ الزَّمنَ الوجدانيَّ للقصيدة، ينقل الأحداثَ في حالاتٍ مُتعثِّرة، حتَّى يبدو الفضاءُ شبيهًا بالزَّمان والمكان. إذًا، إنَّه لَمِنَ الثابت أنَّ الخطابَ الفارغ، يكونُ أبدًا موصولًا بالمتكلّم والسَّامع وروابطهُما المباشرة في الزَّمان والمكان، حتَّى يكون مُتحرّكًا. ويبدو أنَّ الخطابَ الشّعريَّ الفارغ في قصيدة “سرنمة”، يتحوَّل من نظام مكتوب إلى قانون مرئيّ. وهكذا، إنَّ الصَّمت يتَّخذُ أشكالًا مُتباينة؛ لأنَّه فعلٌ دلاليٌّ، يقوم على الحركة والتَّمثيل، والإيماءات. ويمكننا إذ ذاك أنْ نُقدّمَ إمكانات قرائيَّة لها “ٱمتداداتٌ في منظومة ثقافيَّة تسانُديَّة”([30]). وتربطُ هذه الإمكاناتُ ذهنَ المتلقّي بمشاهد ورؤى، تُفضي إلى تشكيل البُعد البصريّ، وتستدعي حركيَّة مشهديَّة. وتتدرَّجُ نظريَّة القراءة من المقاربة الدَّاخليَّة إلى المُقاربة الخارجيَة، مرورًا بمقاربة وسطيَّة، ذلك أنَّ قراءةَ شكلِ القصيدةِ ينتظمُ في هندسةٍ لافتة، حتَّى تتعاضدَ فيها المُستوياتُ اللُّغويَّة.
قد خَصَّصَتِ الشَّاعرةُ مكانةً عجيبة في خاصيَّة المَحو وفراغات البياض “ومواضع الصَّمت”([31])، حتَّى إنَّها “توصَّلت إلى تحقيق ذلك بطرائق عديدة في الكتابة، وخاصَّة ما كان منها مرئيًّا، وذلك من قبيل البياضات، ورسم القصيدة على صفحة الورقة، والتَّفنُّن الطّباعيّ، والتَّشظّي الدَّلاليّ، وتقطيع الأجزاء.
وإذا كانَتْ هذه الأسطُر الشّعريَّة الفارغة، تدلُّ على علامات جديدة، فلأنَّها تتشكَّلُ بين بنيةِ الاِمتلاء، إذ توظّفُها الشَّاعرةُ لاِستبطانِ منظومةِ الفراغ وما في ذاتِها من رؤى وأخيلة. وتُصوِّرُ الشَّاعرةُ مشكلتَها مع الزمن في إيقاعٍ حزين، عبر أسطورة “الكهف” المعروفة، بـ”الرمز الحضاريّ”([32])، الذي يتجالَدُ في الشَّاعرة، ويتهادلُ في خصب نظرتِها إلى الوجود. هذه الأسطورةُ تتمظهَرُ على أنَّها لُغَةُ اللُّغَةِ، ولها “نَسَقان دلاليَّان”([33])، وتتفاعلُ من خلال المدلول العقائديّ، والدَّلالات اللَّفظيَّة الظَّاهرة، وتُمثِّلُ نموذجًا ﭐمتداديًّا للزَّمن المُتَّصل لا المُنفصل، من خلال الآتي:
1-مراقبة القصيدة
قدِ ٱختارَت فاطمة محمود لهذه القصيدة شكلَ التَّموُّجات المتفاوتة بين الأسطر، وقد غابَ عنها المبدأ المنظَّم تنظيمًا مُحكَمًا. وقدِ ٱنتظمَت عناصرُ معجمِها الشّعريّ وَفْقَ أسلوبٍ تَعبيريّ ٱنفعاليّ، ما يدلُّ على خصوصيَّة الشَّاعرة من حيث الألفاظ والتَّلفُّظ والملفوظ.
أ-عنوان قصيدة “سرنمة”: قد وردَ العنوانُ نكرةً، وأفادَ الإفرادَ، ٱنسجامًا مع رغبة القراءة الجماليَّة، حتَّى كأنَّ المتلقّي يشعرُ بالسُّكون المُميت؛ لأنَّ الشَّاعرةَ تُصوّرُ المكانَ مُقفِرًا، ألَا وهو الكهفُ روحِها. وتظهر أهميَّة العنوان بوصفه العَتبة ٱلتي يجري عليها كشف مخبوءات القصيدة. هذا العنوانُ يتراوحُ بينَ الـتَّأشير الدَّلاليّ، وتحليلِ الخطاب التَّداوليّ للملفوظ، وما يُثبِتُ ذلكَ أنَّه غير واضح، وغير مرئيّ، ما يدلُّ على كَثرة التَّهويماتِ المُحيطةِ بدلالات القصيدة، حتَّى كأنَّ المُتلقّي يشعرُ بأنَّه مُحاطٌ بعالَم من الأشباح والرُّؤى والخيالات والتَّصوُّرات المبهَمة. وتبَعًا للقراءة التَّجزيئيَّة، يبعثُ هذا العنوانُ في القصيدة إشاراتٍ متنوعة([34])، إنْ هو “بنية نصَّية”([35])، و”مقطع لُغَويّ أقلّ من الجملة”([36])، و”عتبة قرائيَّة”([37])، لشبكة دلاليَّة، إذ يؤسِّسُ لنقطة الِانطلاق الطَّبيعيَّة فيه([38])، وهو مِفتاح القصيدة. إنَّه مُوجَزٌ، يتألَّف من كلمة واحدة، وهي “سرنمة”، إذ تشكّل مُنطلَقًا ضروريًّا للعمليَّة القرائيَّة المُباشرة. هذا العنوان يُعطينا مَشهدًا واضحًا، ويُرشدُنا إلى الفكرة العامَّة، ٱلتي تضمَّنتْها المُرسَلة، ويَبعثُ الإثارة والإغراء والتَّحديد والإيحاء([39])، والرَّمز والقصد والتَّشويق والفاعليَّة. إذًا، ننظُرُ إلى هذا العنوان من ناحيةٍ تأويليَّةٍ بوصفه علامةً سيميائيَّةً تُمارسُ التَّدليل.
وإذا كانت هذه القصيدة أقرب إلى العناصر التَّصويريَّة منها إلى التَّجريد؛ فلأنَّها تنتمي إلى “الإدراك الحسيّ”([40]). وهذا يعودُ إلى أنَّ العنوانَ هو “ملفوظٌ خارج نطاق الجملة”([41])، وهو أيضًا بنيةٌ لغويَّة ودلاليَّة موسَّعة، وفيها مُوازيات تُحدِّد هُويَّتَها. ونظرًا إلى أهميَّة المستوى التَّصويريّ فيها، فّإنَّها تتضمَّنُ فضاءً مكانيًّا، تُميّزُه أحداثٌ متسارعة، حتَّى تتحوَّلَ قوَّةُ الحضورِ تخصيبًا للدَّلالة المُختلِفة، وتتفاعلَ قرائيًّا من الفراغ إلى أُفُق الاِحتمال.
ولا شكَّ في أنَّ العنوانَ “سرنمة” ينطلِقُ من داخلِ أنظمةِ النَّسَقِ الثقافيّ الشَّامل، ويعتمدُ على الكلام الغائب، الذي يكتسِبُ عناصرَ بنائيَّةٍ جديدةٍ. وتُشكِّلُ الشَّاعرةُ هذا العنوانَ المُفارقَ “سرنمة”، عَبْرَ الإبداع النّصيّ الذي يتجلَّى في صورةٍ ذهنيَّة، تشُّدُّ ٱنتباهَ المتلقّي وتُثيرُ ٱهتمامَه؛ لأنَّ المعنى “المتولِّدَ قائمٌ في الشَّكل، وليس هو غاية في ذاته، إنَّما الشَّكلُ الفنيُّ هو الغاية. وقد زاوجَتِ الشَّاعرةُ بين الكلام، والصَّمت، وبين الكتابة وٱمِّحاء الحروف.
وتتوكَّأُ الشَّاعرةُ على تعميقِ الأنساق الدَّلاليَّة في ٱعتمادِها على الضمائر: أوَّلًا: ضمير المتكلّم “أُكهِّفُ أنوثتي”، رغباتي، “كفّي”، “أبعثرُها”، “ألواحنا”، “نلتصقُ”، “إنَّا نغمسُ”، “إنَّا نُلولِبُ”، “أعناقنا”، “جوعنا”، “أُعارِكُ”، “أنا ٱمرأة، “ألواني”. وثانيًا: ضمير المخاطب: “أنتم الأبناءُ”، “صدّقوا”، “التفتوا”، تصفَّحوا”، “بوسعك”. ثالثًا: ضمير الغائب: “خيباتهم”، “حليبهُنَّ”.
إنَّ علاقة هذه القصيدة بالصَّمت والبياض ترتبطُ بعلاماتٍ لسانيَّة، و”خاصيَّاتٍ تصوُّريَّة”([42])، ما يعني أنَّ التّقنَّياتِ ٱلتي ٱستخدمَتْها الشَّاعرةُ تقوم على الفضاء الطّباعيّ في تشكيل رؤيةٍ بصريَّة، تعملُ على تأويل فاعليَّة القراءة من أجل إثارة “المسكوت عنه”([43])، ذلك الضَّائعِ في سراديب الأُسطورة، أو ذلك الهائم في تشكيلِ الفراغ وإحالته إلى مدلول ما، تُفرزُه ٱنزياحاتٌ قرائيَّةٌ غائبة، لعدم حضور اللُّغَة اللّسانيَّة والدَّالّ الكتابيّ في الوحدات الصُّغرى والكبرى.
ب-عدد أسطر القصيدة: تتألَّفُ القصيدة من ٱثنين وعشرين سطرًا شِعريًّا. وإذا كانَت لا تختزلُ الكلامَ بالعلامات الصَّامتة والسُّطور البيضاء، فإنَّ مقاطعها اللاحقة، تستخدم فيها كتابة المَحْو، حتَّى تغيبَ علامات اللّسان، وتنوب عنها علامات مَطبعيَّة، إمَّا في بداية كلّ مقطع، أو في نهايته. وهكذا، لا نستطيع “فرض نمط قرائيّ واحد من القراءات الدَّاخليَّة؛ لأنَّ الشَّاعرة قد عمَدَتْ إلى إبدال الدَّال اللّسانيّ بالدَّالّ الطّباعيّ الصَّامت، لتحبسَ الصَّوتَ الشّعريّ، وتتكلَّم بصوت غير مسموع، إذ تقول كلامًا يحتاج إلى إنصات ورهافة السَّمْع، لمَّا يظلُّ الكلامُ محتبِسًا، وعندما ينطق به لسان الشَّاعرة. وتُعبِّرُ فاطمة محمود عن سيميائيَّة الأهواء والشَّهوات في ذلك “الكهف” من خلال التَّأشير إليه بالصَّوت والحركة والإيماء والوضعيَّة، والرَّغبة. إنَّما الأهواءُ حركةُ الرُّوح، تُعبِّرُ عن المكنوناتِ الوجدانيَّةِ العاطفيَّة، وتختزلُها الألفاظ الآتَّية: “رغباتي”، “نُطَفَنا”، “الهواجس”. هذا الحقل المفهوميّ للأهواء يتَّصل بـٱرتعاش “زَغَب الرَّغبات”. هكذا، إنَّ الموقف الاِنفعاليّ الذي تُشكّله الشَّاعرة فاطمة محمود في هذه القصيدة، يُغذّي الخيال، ويُفسّر أحاسيسَها التَّخييليَّة، على أنَّها افتتان ذاتيّ.
وتتحوَّل العناصر الاِنفعاليَّة بوساطة ٱرتباطها بالميول بصورة طبيعيَّة، وتحتفظ بمطالبها الخاصَّة. ولكن، يمكن أنْ تكون أهواؤُها تعبيرًا عن الفرار من المراقبة، فتكون إذ ذاك مرتبطة بالحُبّ والطُّموح. إذًا، تخضع أهواءُ الشَّاعرة إلى الحركيَّة، وتنمو تحت التَّأثير الاِجتماعيّ.
وتلجأ الشَّاعرةُ إلى خَلْقِ شخصيَّات تحاورُها، ولكنَّها تُعيد بناءَها بطريقة خاصَّة بها. ويبدو أنَّها ٱتَّخذَتْ من التَّصفِّي الرُّوحيّ وسيلةً لبلوغ هدفها السَّامي، ألَا وهو ٱستنطاق الفراغ. ولم تتمَّ مرحلة التَّصفّي، إلَّا من خلال المعاناة والمجاهدة والمكابدة والوَجْد والشَّوق والوَحدة والاِنعزال والحنين والاِنعتاق. وهذا ما يُعرَفُ بالبُعد النَّفسيّ المنبعث من الدَّاخل؛ لأنَّه زمنٌ إنسانيٌّ، يحمل في طيَّاته تقابلات زمانيَّة، وتقاطبات مكانيَّة. لذلك، تنفعلُ الشَّاعرة بإيقاع الزَّمن الغائب البطيء الخافتِ
2- النَّسَق الطّباعيّ، والأبعاد الدَّلاليَّة
يُقصَد بالنَّسَق الطّباعيّ الإخراجَ الفنّيّ للقصيدة، إذ يتناول الجوانب الشَّكليَّة لطباعتها، وطريقة عَرضِها، إضافة إلى إبراز الأدوات، ٱلتي تساعد على فهمها، وتوضيح أقسامها. وإنَّ التعامل مع النَّسق الطباعيّ في هذه القصيدة يُتيحُ للمتلقي أن يضيفَ كلّ الدَّلالات ٱلتي تتوارد على ذهنه، ويتعامل مع بنية التَّكرار بترديد الدَّال ذاته مكان الأسطر الفارغة. وقد يكونُ تفكيكُ القصيدة ٱنطلاقًا من قراءةٍ خطيَّةٍ ضَربًا مِنَ القراءاتِ الكاشفة، لإدراكِ المعنى المُراد، ذلك أنَّ القارئَ يستعينُ بكفاءتِه اللّسانيَّة، ويَفترضُ أنَّ العلاماتِ تُحيلُ على الأشياء؛ لأنَّ هذه القصيدةَ بنيةٌ مُتغايرة، وأكثر ما يتعلَّقُ أهمُّية بها هو النَّسَق الطّباعيّ.
أ- طريقة الكتابة، والتَّشابُك الدَّلاليّ: إنَّ الإمكانياتِ ٱلتي أتاحَها الشَّكلُ المكتوبُ يقومُ على طريقةِ الاِختلافاتِ في توزيعِ الأسطرِ على الصَّفحةِ وتنسيقِها تنسيقًا معيَّنًا، أو توزيع الكُتَل السَّوداء على الصَّفحة البيضاء؛ لأنَّها تُحدّدُ الصُّورةَ الذّهنيَّةَ للقارئ حين ينظر إلى القصيدة. وتستوقفُنا طريقة توزيع السُّطور الشعريَّة بما فيها من دلالات يشفُّ عنها هذا التَّشكيل. وتتمُّ هذه الطَّريقة من خلال تقسيم الصَّفحة، وتنظيم الفقرات الشّعريَّة، و”تقطيع الجُمَل، والصُّور البيانيَّة من توازٍ وحذف وإضمار وقلب وٱلتفات”([44])، وسطور شعريَّة مُختلفة، وتوزيعها بحسب نسبة تواترها. تنفتحُ هذه القصيدة على جميع التَّأويلات القرائيَّة؛ لأنَّها محكومةٌ بحركة حُرَّة، لا نهاية لها. ولو أردْنا أنْ نَستقرئَ الإشاراتِ، لوَجدْنا أنَّ التَّحليل السِّيميائيّ يقتضي ضرورةَ التَّحريّ عن “النَّسَق السَّمْعيّ”([45]) في الفعل المضارع “ينبحون”. ويبدو أنَّ عدمَ وجودِ ركنٍ ٱسميّ يُبيِّنُ مَرجِعَ الضَّمير الغائب للجمع “هُمْ”، في الفعل المضارع “ينبحون”، إذ؛ مَنْ هُم هؤلاءِ الذين “يَنبحون”؟ هل تقصدُ الشَّاعرةُ بالضَّمير الغائب للجمع/”هُم”، “الآباءَ” الذين يَجُرُّونَ خيباتِهم، أم تقصُد بهم “الأبناء العُمْي”؟ إنَّ الفعل المضارع “يَنبحون” يحملُ دلالةً مُستمرَّةً في الزَّمن، ويُعبِّرُ عن موقفٍ راهنٍ للآباء الذين يُعبِّرون عن “خيباتِهم بخناجرَ مُتوعِّكة”.
وقد وردَتِ الشَّرطَةُ في السَّطر الثاني وأقفلَتْها الشَّاعرةُ في السَّطر الثالث، إذ وضعَتْها قبلَ الجملة الاِعتراضيّة وبعدها، لتحلَّ مَحلَّ الفاصلة، حتَّى كأنَّ هناكَ صوتًا آخر يُحاورُ الشَّاعرة من بعيد. وهذا يدلُّ على أنَّها ٱستطاعَتْ من طريق ٱستخدام الشَّرطَةِ أنْ تُعبِّرَ عن نفسِها بكلماتٍ تَرسُمُ ملامحَ الشخصيَّةِ المُتحاورة معها، وتَنُمُّ عنِ ٱنفعالاتٍ صادقة. وهذا الحوارُ ليس حوارًا عاديًّا، بل هو حوارٌ داخليٌّ. ونلحَظُ أنَّ السَّطر الثالثَ قد وردَ فارغًا، وتَمَثَّلَ في النُّقاط والصَّمت والنَّقص والحذف. وهذا السَّطر الفارغ يحوي مَسكوتًا عنه، رغبةً بإشراك المتلقّي في مَلء الفراغ.
قد أقامَتِ الشَّاعرةُ هذا السَّطرَ بالمنقوط بدلًا من المنطوق، أو المكتوب؛ لأنَّه يُحيلُ على الأحداث والأحوال المرجِعيَّة المُعدَّلة بفعل التَّخيُّل، لِمَا يعتري الذَّاكرة من فراغات زمانيَّة، يقعُ إسقاطُها من شريط الاِسترجاع سَهْوًا. ويمكنُنا -إذ ذاك- أنَّ نتوقَّعَ المحذوفَ بقليلٍ من التَّأمُّل، غير أنَّ الفراغَ الذي أحدثَتْه الشَّاعرةُ يتمثَّلُ في ٱسم الإشارة “هذا”، فيصيرُ السَّطر الشّعريُّ “هذا الغَدُ”.
لذلك، إنَّ هذا السَّطرَ الصَّامتَ يُضفي على الكلام الأضواءَ، ويُمثِّلُ عامِلَ تفعيلٍ لمُخيَّلة المتلقّي، ويدفعه إلى المشاركة في العمليَّة القرائيَّة التَّأويليَّة للقصيدة. هكذا، إنَّ مساحاتِ الصَّمت هي أشكال متعاكسة ومتباينة، ٱمتنعَتِ الشَّاعرة عن ٱستحضارها، وٱختارَتِ الشَّاعرةُ في السَّطر الرَّابع لفظة “الغد” لتدلَّ بها على ثلاثة أزمنة ٱنتشاريَّة وٱنحصاريَّة مُتشاكلة، وهي: “الأمس”، و”اليوم”، و”الغد”.
وإذا قرأْنا علامةَ “الأمس”، على أنَّها سِمةٌ لزمانٍ ماضويّ غابر؛ وقرأنا علامة “اليوم” على أنَّها سِمةٌ لزمنٍ حاضر، ويدلُّ على زمن غير “الأمس”، ولكن لا يدلُّ على غير “الغد” أيضًا، وهذا يعني: أنَّ زمانَ “الغد” عند فاطمة محمود، هو حاضرها الآنيّ. إذًا، إنَّ العلامة “الغد”، هي على موعد زمانيّ ٱستباقيّ ما، لتأتيَ الصّياغة في شكْل شُحَن عاطفيَّة تتلاحق مع “الخيوط الشَّريرة المُلوَّنة”، وتتشاكل مع “خُبزِ الغد في مَرَقِ الحُكم البائتة”، ٱختراقًا كتابيًّا وتشكيلًا خلَّاقًا من منظور وجوديّ، لبناء موعد زمانيّ ٱسترجاعيّ أيضًا مع “موتٍ إيروسي”.
أمَّا مستوى النَّسَق الدَّاخليّ فيتعلَّقُ بتجليَّات العلامة الزمنيَّة “حين” التي تدرس تغيير الظواهر([46])، بين المستوى التداوليّ والمستوى الدَّلاليّ، على أنَّ هذه العلامة هي ٱمتداديَّة ٱنتشاريَّة، تدلُّ على زمنٍ غيرِ الأمس، ولكنْ لا تدلُّ على غير “الغد” أيضًا. لذلك، إنَّ المُعطى الدِّلاليّ للعلامة، “يومًا” إنَّما هو تعاقُبٌ زمنيٌّ لامُتناهٍ([47])، إلَّا إذا لم نقرأ الزَّمانَ الكامنَ في “الأمس”، على أنَّه زمانٌ غابرٌ. إذًا، إنَّ “المؤوَّل الحركيّ”([48]) يمثِّل الواقع الأليمِ المتفرِّد بالشَّاعرة ٱلتي تمنحُ التَّجربة فعلًا تأويليًّا يتمثَّل في الفعل “نغمِسُ”. أمَّا المستوى الدِّلاليّ فيأخذ وضعَ العادة ([49]) اللامتناهية، ٱلتي ترمز إلى التَّحوُّل الوجوديّ المتعلِّق بزمن مستقبليّ غائب هو “الغد”. إنَّ “التأطير الاِنتقائيّ”([50]) لمسألة “المبايض الهَرِمة”، تقوم بشكل أو بآخَر على “المؤشِّر التَّصويريّ”([51])، إذ تُبلوِرُ الشَّاعرةُ منظورها إلى العالَم، بمعنى أنَّ ضمير المتكلِّم بالجمع “نحن”، يرصُد موقفًا تبادليًّا من حالةِ سكونٍ وخمود، إلى حالة الحياة التي تسبق حركة الاِلتفات إلى الزمن الماضويّ. هذا التماثل، يعتمد نحْويًّا على محور المشاكلة باستخدام حرف الجرّ “في”، الذي يمثِّل دورًا متعالقًا بالتَّصعيد الدَّلاليّ المتباعد بين “الكفّ، و”الفضاء”، و”المَرَق”، و”اليد”، و”الوسادة”.
وتُعبِّرُ هذه القصيدةُ عنِ ٱنتقالِ لُغة فاطمة محمود من المستوى الحقيقيّ إلى المستوى الاِنزياحيّ، وهذا يظهر من خلال ضمير المتكلّم “الأنا”، إذ تقول: إنَّا نُلولِبُ أعناقَنا، ويُروِّضُ جوعَنا”، وتعمل الشَّاعرةُ على تكثيف الدلالة، وتضعُ “الجوعَ” في حيِّز الشَّبَع الكاذب”. وهذا إنْ دلَّ فيدلُّ على أنَّ الشَّاعرة تُحوِّلُ جوعَها من نشاط تقوم به، إلى نشاط يقوم به ٱنحباس صوتِها في السَّطر الثاني عشر الفارغ، حتَّى إنَّها تسافر داخل اللُّغة وعَبْرَها، لتتحوَّل بدورها إلى دلالات إنسانيَّة شاملة.
لذلك، إنَّ الصَّمْتَ المُمتدَّ في هذا السَّطر المنقوط هو تشكيلٌ طباعيٌّ مُرتبطٌ بتصوُّراتٍ ذهنيَّةٍ نظريَّةٍ لكآبة الشَّاعرة المُنغمِسة في “خُبزِ الغد”، وفي “مَرَقِ الحُكمِ”، الذي يُلَولِبُ أعناقَنا، ويُروِّضُ جوعَنا”. وقدِ ٱحتفظَتِ الشَّاعرةُ بالصَّمت في السَّطر الثاني عشر، ولم تكشِفْ عن مضمون الكلام، بل ٱستخدمَتْ شكلًا فارغًا يتألَّف من نُقاط متتابعة صامتة؛ إذ تتعطَّلُ دلالةُ القول فيه، حتَّى يفُكَّ القارئُ مغالقَ الصَّمت.
وإذا أردْنا تأويلَ هذا السَّطر الفارغ لَوجدْنا أنَّ الشَّاعرةَ روَّضَتْ جوعَها “بشبَعٍ كاذبٍ”. ولعلَّ هذا السَّطر الخالي من الدَّالّ اللُّغَويّ في عبارة “شبع كاذب” يُعمِّقُ البُعدَ الحزينَ، ويُقيمُ تصويرًا موازيًا لصيغة الاِستفهام المصحوب بصيغة النّداء في الخلاء. وإنَّ هذا الصَّمْتَ يُجسِّدُ القرارَ الذي ٱتَّخذَتْهُ الشَّاعرةُ تعبيرًا عن موقفها الذي يترقَّبُ ٱنتظار “مَنْ يُنكِرُ جميعَ الألوان، ويرتدي جميعَ الألوان”.
هذا التَّأويلُ السيميائيّ الخفيّ، هو دليلٌ على أنَّ الصَّمتَ يكونُ سطرًا ناطقًا بما في داخلِه من معاناة. وقد سكَتَتِ الشَّاعرةُ فأوقَعَتْنا في حالةِ غموض دلاليّ. قد أسهَمَ الفراغُ في إبهامٍ وتساوُقٍ الخطاب الشّعريّ، وأصبحَ القارئُ أمامَ تعالُقٍ لُغَويّ، بين الحاضر المكتوب، والغائب المحذوف. ويُميِّزُ التَّلفُّظ اللسانيّ بين المعنى الضمنيّ، والمعنى المُفتَرَض، ذلك أنَّ الشَّاعرة تمُدُّ صوتَها في “شبَعٍ كاذبِ” في السَّطر الحادي عشر، وأتبعَهُ بسطرٍ من دون نُطق وتلفُّظ، ليبقى القارئُ في حَيْرةٍ من أمرِه لفكّ العلامة والفراغ اللّسانيّ المنقوط، ويُجهِدَ نفسَه في “تحديد المعاني الموضوعة ومنطوق المُرسَلَة”([52])، في السَّطر الثاني عشر.
وينحو النَّسجُ الشِّعريُّ منحى التَّكثيفِ الإنشائيّ في السَّطر الثالث عشر وذلك يبدو من خلال ٱستخدام الأسلوب الإنشائيّ الطَّلبيّ الاِستفهاميّ “ماذا”/ المصحوب بصيغة النّداء “أيُّها”/ إذ كيف يمكنُ للشَّاعرة أنْ تناديَ “الأنيق المُختفي بذاتِه”؟ هذا الحيِّزُ الدِّلاليُّ هو مُخادعٌ؛ لأنَّه يجعلُ القارئَ في حَيرة مِنَ التَّأويل القرائيّ، لكنَّه في الوقت ذاتِه يُقيمُ علاقةً بين الشَّاعرة المتسائلة، وبين المُتلقّي السَّامع. ولعلَّ الشَّاعرةَ تحاولُ أنْ تُقدِّمَ للمتلقّي صورةً ذهنيَّةً تُوضِحُ العلاقةَ الشَّائكةَ بينَها وبين ذلك “الأنيق المختفي”، وبين المجتمع، عَبْرَ طريق البناء الاِستفهاميّ. ويتشكَّل السَّطر السادس عشر من فراغ ملفوظ أو منطوق في بدايته، على أنَّه تشكيلٌ لسانيٌّ مرئيٌّ، ولكنَّه غير مسموع، إذ يجري الصَّمتُ فيه، إثر جريان الكلام. وقد تركَتِ الشَّاعرةُ للمُتلقّي حرية ملء الفراغ حسب ٱستيعاب الأبعاد الثقافية من وُجهة أُولى، ولتحرّضَه على الدُّخول في العمليَّة الإبداعيَّة بشكل يخلق تفاعلًا بينه وبين القصيدة. وليس الوصل بين الإشارات الكتابيَّة، وعلامات الفراغ والبياض، وبناء النّظام السيميائيّ في السَّطر السَّادس عشر أمرًا سهلًا، خصوصًا في تحديد موجّهاتها.
إذًا، أرادَتِ الشَّاعرةُ أنْ تُعمّقَ من أبعاد رؤيتها الشّعريَّة، وتعطيها دلالات غنية ومتباينة، حتَّى إنَّ هذا الفراغَ الذي يستعيضُ عن العلامة اللّسانيَّة بالعلامة الطّباعيَّة، لا يُفسِّرُ الصَّمتَ في الكلام الشّعريّ لأنَّه رهبةٌ، تعودُ إلى حَبْسةِ الذَّاكرة، وتفتحُ أُفُقَ التَّخيُّل لدى القارئ. أمَّا “الأبواب” فهي رمز التَّحرُّر من الماضي، قد تربطُ بين فضاء الدَّاخل، وفضاء الخارج. وتبدو أنَّها مهجورة، كأنَّها صدى مقابل للفعل المضارع: “تصيرُ”. وفي هذا المعنى ينشأ التّقابل المكاني في الحيِّز الذهنيّ والحيّز الـتَّأويليّ. إنَّ الشَّاعرة تُصرِّحُ بأنَّ “رزانةَ الأبواب” صارَتْ “غبارًا فارغًا” في يديها. لذلك، فإنَّ السِّلسلة اللامتناهية من التمثيلات والتَّهويمات تحتوي على شيء مُطلَق([53]).
إذًا، للأبواب في هذه القصيدة وجهان: يقوم الوجه الأوَّل على النَّظر من الداخل، وهو مألوفٌ. ويقوم الوجه الثاني على النظر من الخارج وهو يستقبل مجهولًا. وقد يصير المألوفُ مألوفًا فيدخل من الباب، والمألوف غريبًا فيخرج منه. وهكذا تتباين المعالم بين الدخول والخروج، أو بين المألوف واللامألوف. ولذلك تحملُ “البابُ” مُركَّبًا مكانيًّا وزمانيًّا منذ الزمن الماضي حتَّى الزَّمن الحاضر، لتتحقَّقَ الشَّاعرة من الاِستلاب والوَجْد والفَقد والتَّية والفراغ.
ربَّما تكون “رزانةُ الأبواب” أشبهَ بذاكرة الشَّاعرة المسكونة بالأشباح والأرواح، سواء أكانَت مرئيَّة من خلف الغبار، أو من خلف “الهواجس المُبرقشة”. وغالبًا ما تُثير الأشباحُ في الشَّاعرة الاضطرابَ والقلق والرّعب والفزع، على صعيد التركيب البصريّ. وغالبًا ما تُمثِّلُ هذه الأبوابُ مخاوفَ الطفولة، وعودة المكبوت في داخلها. وقد يرافقها شعورٌ بأنَّ ذلك “الكهف” مألوفٌ بدرجة غربية، وأنَّ روحَ الشَّاعرة تسكُنُ فيه، وتتجلَّى في جدرانه وأبوابه وممرَّاته والروائح التي تغمره، والأصوات التي تتردَّد في جنباته.
قد يكون هذا “الكهف” سببًا في إثارة مشاعر الخوف من الأماكن الضيِّقة Claustrophobia كما قد يكون سببًا في إثارة حالاتِ الخوف من الأماكن الواسعة Agrophobia بكلّ ما فيها من ضياع لأحداث غامضة حصلت في الزمن الماضي، إذ إنَّ آثارها وأشباحها، تؤثِّر بشكل أو بآخَر على الزمن الآنيّ المضطرب للشَّاعرة، إذ إنَّ لماضيها مخاوفَه، ولحاضرها هواجسَه، وما بين مخاوف الماضي وهواجس الحاضر، يتجسَّدُ سيمياء الفراغ.
أمَّا الاِنقطاعُ الخطابيُّ في السَّطر العشرين فيدعو إلى توقُّفِ القارئ قبل أنْ يتابعَ سلسلةَ الكلام المنطوق. وهكذا، إنَّ هذا الحذف يُجنّبُ الوقوعَ في التَّصريح والخطاب المباشر، إذ ٱقتصرَ الخطابُ على تقليص الملفوظ ودورانه حول عبارة “أنا ٱمرأة الهواجس”. أمَّا “الصَّمْت” فإنَّه يأتي لَجوجًا ومُحاصَرًا في عبارة “أُعاركُ طائرًا خرافيًّا”، وهذا يدلُّ على قدرة الشَّاعرة في تحمُّل الآلام. لكنْ، كيف تستطيعُ الشَّاعرةُ أن تتحكَّمَ بهذا العِراك؟ إذا كانَت سِمةُ “العِراك” من حيث السّياق قائمةً على المُعادلة الٱستعاريَّة، فهذا يعني أنَّ “الطائرَ الخرافيّ” يستكمِلُ عِراكَه مع هواجس الشَّاعرة المُبرقشة. لذا، فإنَّ منظومةَ الفراغ ليسَتْ مُقتصرةً على مِساحات واسعة على الصَّعيد الشَّكليّ في السَّطر العشرين، بل تتَّسعُ فجواتُ الإنصاتِ على الصَّعيد الدَّلاليّ، الذي ينطقُ بإشارات اللّسان، لكنَّ نُطقَه يميلُ إلى الصَّمت؛ لأنَّه “تواصُلٌ لفظيٌّ فيه ٱضطراب”([54]). لكنَّ الشَّاعرةَ تركَتْ للمُتلقّي فرصةَ مَلْءِ الفراغ الطّباعيّ، وهذا لا يتسنَّى له إلَّا إذا عَقَدَ مقارنةً بين النّساء اللَّواتي يُشاهدْنَ الشَّاعرةَ تُعارِكُ الطَّائرَ الخُرافيّ، وبين النّساء اللَّواتي يَلْمَحْنَ ألوانَ الشَّاعرة، ٱلتي تحملُ ٱنطباعاتٍ ذاتيَّة تتولَّدُ في العين، وتكون إيحائيَّة، تعتمد على التَّخيُّل؛ لأنَّها جزئيَّاتٌ متماسكةٌ فيما بينها، ومرتبطة بحركيَّة اللُّغة ٱلتي تستخدمُها.
وإذا كانَ هذا السَّطرُ أكثرَ ألوانِ الكتابة إصرارًا على البَوح والإفصاح، فهذا يعني أنَّ “الهواجسَ المُبرقشة” في الشَّاعرة، مكبوتةٌ في الأصل، وتبقى بمنأى عن لسانيَّات التَّلفُّظ Linguistique de l`énontiation، بل تَدخلُ في إعادة التَّأويل التَّلفُّظيّ Réinterprétation illocutoire. وتتَّخِذُ العلاقةُ التَّضمينيَّةُ بُعدًا حزينًا تتمثَّلُ في “الاِستلزام الماديّ”([55]) الذي يُعَدُّ ٱستدلالًا من معلول إلى عِلَّة؛ لأنَّ الشُّعلةَ الحزينةَ تُحرِّكُها “العلامة التَّذكاريَّة”[56]، وتُجسِّدُها “الهواجس”، وترتبطُ ﭐرتباطًا ﭐعتباطيًّا بوجود العلاقة الطَّبيعيَّة الاِستدلاليَّة للعلامات التَّواضعيَّة. أمَّا السَّطر الحادي والعشرون فتعودُ فيه “الأنا” إلى الظُّهور، لتعلِنَ أنَّها قائمةٌ في اللامكان، حيث “الخطاب الإثباتي” ([57])، يؤمِّنه الفعل المضارع “تلمَحُ”، ويُعبِّر عن نيَّة التَّأثير في المخاطَب ومُتابعة حركيَّةِ الرِّحلة الدِّلاليَّة. فيُصبحُ الزَّمنُ الذي يُمثِّلُه هذا الفعل المضارع، زمنًا مُجاوزًا للتَّأريخ، وخارجًا عنِ الزَّمن الفيزيائيّ؛ لأنَّه يرتبطُ بزمن الإبداع الخاصّ بالشَّاعرة فاطمة محمود. إذًا، الرَّمزيُّ هو المسؤولُ عمَّا ينبثقُ ضمنَ الأُطُر الاِجتماعيَّة والِّلسانيَّة؛ إذ إنَّ العلاقة القائمة بين السِّيميائيَّة والرمزيَّة جدليَّة([58])من وُجهة؛ لأنَّ النَّصَّ لا يُمكنُ حسمُه من وُجهة ثانية([59]). وعندما تبدأ عمليَّة توليد الدَّلالة، يصعُبُ تحديد ٱنتهاء التَّأويل الاِستعاريّ؛ لأنَّ “التَّأويل الرَّمزيّ”([60])، يُحدِّدُ آليَّةَ الرِّحلة في ذلك “الكهف”. أمَّا التَّداعيات للأفعال، فيعقبُها تداعيات الحركة ٱلتي تقوم على زمن الحضور الدائم. وإذا كانَ التَّنظيمُ المكانيُّ يكشفُ عن سُلْطةِ الحضور، فإنَّ هذه “الهواجس المُبرقشة” تصير الذَّاكرة، وتتحرَّكُ لترصُدَ الموجودات فيها.
وإذا كانَتِ الشَّاعرةُ قدِ ٱتَّحدت في العنقاء([61])، ذلك “الطائر الخرافيّ”([62]) – له جسمُ أسَدٍ وقائمتا نَسْر وجناحان- لكي تتَّخذَ من هذه الأسطورة أسلوبًا شِعريًّا جديدًا، فهذا يعني أنَّها تُحاولُ من خلالِ الطَّائر أنْ تُوفِّقَ بين ما يموت، وبين ما لا يموت. وقد تبلُغُ الشَّاعرةُ فاطمة محمود الرؤيةَ الاِستبطانيَّة، وتمنحُها تشاكُلًا ٱستشرافيًّا فريدًا، وتكشفُ عن الدَّور الوظيفيّ “للأنا” وٱمتدادها الحضاريّ العريق عَبْرَ تداخُل الأزمنة. أمَّا العنقاءُ تُجسِّدُ الدَّلالةَ الأُسطوريَّةَ التَّصريحيَّة، ما يعني أنَّها تُمثِّلُ دورًا عظيمًا في مُخيِّلة الشَّاعرة، وهذا يدلُّ على أنَّها تُريدُ أنْ تنتفضَ وتَنبعثَ مِنَ الرَّماد مُجدَّدًا([63])، وهذا الاِنبعاثُ يُخرِجُ العنقاءَ من دلالتِها الأُسطوريَّة إلى دلالة مرتبطة بزَيْفِ الواقع وتَردِّيه.
إذًا، إنَّ تداخُلَ النَّفَس الأسطوريّ هو تعبيرٌ عن الذَّات المُتَّصلة بالزَّمن النَّفسيّ الباطنيّ القابع في ذاكرة الشَّاعرة. والمعلوم أنَّ العنقاءَ تَبيتُ في جبلٍ بأرضِ أصحاب الرَّأس في بقيَّة ثمود قوم صالح، وأصحاب البئر، وسَمَّوها العنقاء لطول عُنقها. واللافت أنَّ العنقاءَ كانَتْ موجودةً في ذلكَ الجبل تَنقضُّ على الطُّيور فتأكلُها، إلا أنَّها جاعَتْ ذات يوم وأعوزَها الطَّير، فانقضَّتْ على صبيّ فذهبَتْ به، فسُمِّيَتْ عنقاء مغرب؛ لأنَّها تغرُبُ بما تأخذ([64]). وما لا شكَّ فيه أنَّ هذه “العنقاء”، هي “علامة تصوُّريَّة”([65])، تدلُّ على الطَّائر الأُسطوريّ الخُرافيّ([66])، الذي “يلتهبُ حتَّى يترمَّدَ ثمَّ ينتفض”([67])، وهو فُتاتٍ زمنيٍّ لحالات روحيَّة، تُجسِّدُ علاقةَ الشَّاعرة بالسَّماء. هذا “الطَّائر الأسود”، الذي “ينتفض في وسادة”، هو رمز الحريَّة والقَدَر([68]).
وقدِ ٱستدعَتِ الشَّاعرةُ أسطورةَ طائر “الفينيق” ٱلذي يحترقُ لينبعثَ هو، أو طائر آخَر مِنْ رمادِه. واللافتُ أنَّ توظيفَ الأسطورةَ أضفى على الأبيات إبهامًا دلاليًّا، لا يُمكنُ أنْ ينكشِفَ إلَّا لِمَنْ يعرفون هذه الأُسطورة. وقد وظَّفَتِ الشَّاعرةُ “اللَّونَ الأسودَ”، حتَّى كأنَّه مُتجذّرٌ في أعماقِها الحزينة. لكنْ، على الرُّغم من أنَّه لم يكن موجودًا كطائر خرافيّ، فإنَّ “العنقاءَ” موجودةٌ ومستعمَلة على أنَّها “دالٌّ لُغَويٌّ”([69])، تستحضرُه الشَّاعرةُ تلاؤمًا بين البناء والدّلالة، باحثةً عن شكل العنقاء، رمزًا “للزمن المكسور”([70])، الاِنشطاريّ الهابط.
ويمكننا ملاحظة الخليط بين الواقع والخيال، ولكنَّ الشَّاعرةَ تُعبِّرُ عنهما بالرمز والصُّورة، إذ تحلُم بتحطيم العالَم القديم الأليم، ونقله إلى الزمن الحاضر. إذًا، إنَّ هذا التَّحليل السيميائيّ، يتشكَّلُ من كلام يتخلَّلُه تشكيلاتُ صمت، وسطر أبيض، وفراغ لسانيّ. وقد تكون مساحة البياض مَشاهد، تُثبِتُها الذَّاكرة، لكنَّ الشَّاعرة السَّاردة، تتكتَّمُ عليها، وتُريدُ الاِحتفاظَ بها لنفسِها، لِما تنطوي عليها من أجواء حميميَّة، لا تُريد الإفصاحَ عنها.
وإذا كانت لُعبة البياض والسَّواد والاِتّصال بين إشارات القصيدة وسطورها قائمًا حينًا، ومنقطِعًا حينًا آخَر، فإنَّ بناء الكلام الشّعريّ عند فاطمة محمود، ينحو بالتَّشكيل الطّباعيّ منحًى مخصوصًا. أستدلُّ من خلال هذا التَّحليل أنَّ طَمْسَ هذه العلامة اللّسانيَّة، ومحْوَ الكلام المنطوق، وإضمارَ ما ينتظر القارئ من تفصيل، إنَّما يدلُّ على تقْنيَّة الإخفاء، ويُحرّكُ فضولَ المُتلقّي لمعرفة ما أرادَتِ الشَّاعرةُ إخفاءَه. إنَّ هذه الأسطر الفارغة تدلُّ على أنّ هناك صوتًا آخَرَ غير الصَّوت الذي تُعبِّرُ عنه العلاقات الصَّوتية المباشرة. هذا الصَّوت هو نابع من صوت الشَّاعرة فاطمة محمود، ولكنَّه مُنقسم إلى صوتين: الصَّوت الأوَّل يرصدُ الحركة الخارجية، والصَّوت الثاني يُعبّرُ عن الموقف الدَّاخلي الذي يُراقِبُ الحركة، ويرصدُ تناقضاتِها. بهذا المعنى، يتشابكُ البُعدُ الدَّلاليُّ القائم على المَرجِعيَّة الأسطوريَّة مع البُعد الدَّلاليّ للإبداع الشّعريّ، والنَّسج الجماليّ.
ب- علامات الوقف: هي رموزٌ ٱصطلاحيَّةٌ، وإشاراتٌ ذاتُ دلالاتٍ خاصَّة. ونَظرًا إلى أهميَّتِها في أثناءِ الكتابة، فإنَّها تُعيِّنُ مواقعَ الفصْل، والحذف، والوقف، والِابتداء، والاِستفهام، وأنواع النَّبرات الصَّوتيَّة، والأغراض الكلاميَّة إبَّان القراءة التَّفكيكيَّة. وتتعاملُ الشَّاعرةُ مع هذه علاماتِ بوصفِها أدواتٍ جديدة في التَّعبير عن رؤيتِها الشّعريَّة. إذًا، إنَّ كتابةَ هذه القصيدة قامَتْ على ٱستخدام علاملات الوقف، والرُّموز بين الجُمَل، أو الكلمات. هذه الرُّموز هي أشبهُ بإشاراتِ المرور الضَّوئيَّة، فإذا زالت، ٱضطربت عمليَّة القراءة. وتُوضَعُ وَفقَ قواعد مُحدَّدة يتطلَّبُها التَّواصلُ بين المتكلِّم والسَّامع في الأداء الشَّفهيّ، وبين الشَّاعرة والمتلقّي([71]). وهذا يعني أنَّ علامات الوقف هي كحركات اليد، وتعابير الوجه، ونبرات الصَّوت، تُضيف إلى الكلام دقَّةً في التَّعبير([72]).
ٱنطلاقًا من ذلك، تأتي الأسطُرُ الفارغةُ في هذه القصيدة لِتُظهِرَ الجوانبَ التَّعبيريَّةَ المُختلفة، وتُرشِدَ القارئَ عَبْرَ علامات الوقف والرُّموز المكتوبة إلى مقاصدِ الكلام وأساليبِه، وتُساعِدَ على فهم مُرادِ الشَّاعرة المُتكلّمة، وإدراكِ المقصود مِنَ كلامها. في المقابل، إنَّ هذه الأسطرَ الفارغةَ غلَّفتِ القصيدةَ بمعالم الإبهام، فصارَ الكلامُ في الصَّمتِ خطابًا مُتقطّعًا، يتعثَّر على القارئ في معظم الأحيان أنْ يحدِّدَ أبعادَه الكلاميَّة، ويضبِطَ دلالتَه المعنويَّة. إنَّ صَمْتَ فاطمة محمود المُبرَم، يتكلَّم في العلامة المحذوفة، ٱلتي تتشكَّل من سطر فارغ، وتدلُّ على فراغ نصّيّ، وخطاب غائب، الأمر الذي يستدعي من القارئ إلى أنْ يَسُدَّ فجواتِ الكلام، ويطلبَ إليه أنْ يخرقَ تأويلَ ما ٱنقطعَ من سلسلة الملفوظ، ليحملَ دلالةَ فعل القول. وينبغي من المتلقّي أنْ يتنبَّهَ إلى حقيقةِ إدراجه في أحيازٍ معيَّنة داخل القصيدة، ويُفتَرضُ بالقارئ أنْ يبذلَ جهدًا في إنطاق هذا الكلام المحذوف، الذي هو علامة تواصل وفيه ٱضطراب.
أضفْ إلى ذلك، أنَّ سيمياءَ الحذف يُعطي بُعدًا تشكيليًّا، ويفتحُ مجرًى تأويليًّا، للبؤرة الدَّلاليَّة النَّصّيَّة، وينطلقُ فيه المتلقّي على مَهل، ليُدركَ أنَّ التَّعويلَ على بينة الصَّمت في هذه القصيدة، إنَّما يدلُّ على معاناة الشَّاعرة فاطمة محمود بفعل بُعدها عن أحبَّائها. وخِلافًا لأشكال أفعال الكلام، وأشكال الفنّ الكتابيّ، الذي يتجسَّد بالنُّطق والكلمة، فإنَّ فعلَ الاِمتناع عن الكلام الملفوظ لسانيًّا لا يتولَّد، بل يُنشئُ فراغًا نَصّيًّا. وقد ٱستخدمتِ الشَّاعرةُ في قصيدتِها مبدأَ الحذف، وجَعلَتِ القارئَ يشحذُ ذِهنَه بشكلٍ متواصل لمَلْء الأسطُر المنقوطة بالدَّلالات المعنويَّة.
ولكنْ، لم تكن هموم الشَّاعرة في هذه القصيدة مُقتصَرةً على النَّماذج الفنيَّة فحسبُ، بل كان الواقعُ العربيُّ المعاش حاضرًا هو الآخَر، وهذا ما جعلَها تتحرَّكُ في ثنائيَّةِ محاكاة النَّصّ وواقعها. ويبدو أنَّ جُلَّ ما قدَّمتْه، كان قائمًا على أغراض إنسانيَّة هادفة، تعملُ بشكل أو بآخر، على التَّلاؤم الاِبتكاريّ، والتَّشكيل التَّصويريّ، بينها وبين واقعها الرُّوحيّ والسِّياسيّ والاِجتماعيّ والِاُطوريّ، حتَّى جاءت لغتها تحاكي الحيِّز النَّفسيّ، وتستنطقُ خفاء الصُّورة الشِّعريَّة.
وبين إيحاءات الذاكرة، وحركيَّة الذّكرى، تتباعد حركتا الغَور والعُروجُ إلى حيِّز المسكوت عنه، إذ تتحرَّكُ الذّكرياتُ على أنَّها إيقاعٌ فنِّيّ خصْب، يتناوبُ بعضُها من أجل الوصول واللاوصول في بؤرةٍ تأمليَّة لتجاويف الإيقاع الدَّلاليّ الغائب، الذي يمزِّقُ ترجيعَ الصَّدى، ويُؤرِّقُ ظلالَ الصَّمت.
إذًا، حين درسْنا هذه القصيدة على مستوى قراءة الغائب فيها، ٱكتشفْنا آلامَ الشَّاعرة فاطمة محمود، وهي تُعانِقُ شَتاتَها مع شتاتِنا، حتَّى تُمارسَ الذَّاتُ كينونتَها كامتدادٍ لاِستمراريَّة الوجود الإنسانيّ، وكصيرورةٍ تاريخيَّة، تتشكَّلُ من خلال العلاقات المُضمَرة بين الرُّموز. ويبدو أنَّ عمليَّة الحذف هي من وسائل المشاركة الجماليَّة والفنّيَّة بين الشَّاعرة المُبدِعة والقارئ، إذ إنَّهما يتشاركان في كتابة العمل الأدبيّ. وقد عمَدَت إلى تَرْكِ بعض الفراغات، أوِ الثغرات التَّبليغيَّة، بهدفِ توظيفِها توظيفًا فنّيًّا جماليًّا، وتركتْ للقارئ فُرصةَ مَلْء هذه الفراغات، تأسيسًا للمعنى الكُلّيّ للقصيدة، على أنَّ جماليَّةَ الصَّمتِ، وحيِّز الفراغ، وٱشتباه الظّل، وٱنحباس الملفوظ فيها، إنَّما هي أشدُّ وقعًا من الكلام المنطوق.
وصفوةُ الكلام، قد قُمْنا بقراءة تأويليَّة لهذه القصيدة، وتبيَّنَ لنا أنَّ الشَّاعرة ٱبتكرَتْ لغةً شعريَّة جديدةً، ونسجَتِ لها الأبعادَ الرَّمزيَّة، وزاوجَتْ فيها بين الاِستعمال المجازيّ الاِستعاريّ للغة، وبين إيماء الصَّمت، وسيمياء الفراغ. وبما أنَّ معرفةَ الذَّات تأويل، فلا يمكنُ أنْ يتُمَّ ذلك، إلَّا من خلال البنية الرَّمزيَّة؛ لأنَّ الدَّالّ اللّسانيّ عند فاطمة محمود تنحتُه المُخيِّلةُ الشّعريَّة بشكلٍ عَفْويّ، بهدفِ إحداث الدَّهشة الجماليَّة، وتخصيب الرُّؤية الاِستكناهيَّة للوجود.
المصادر
1-القرآن الكريم.
المراجع العربيَّة
2- أحمد زكي، باشا، التَّرقيم وعلاماته في اللُّغة العربيَّة، دار البشائر الإسلاميَّة، بيروت، ط2، 1987.
3- إمام، إمام عبد الفتَّاح، معجم ديانات وأساطير العالَم، مكتبة مدبولي، م3، القاهرة، [لاط]، [لات].
4- إيكو، أمبرتو، السّيميائيَّة وفلسفة اللُّغة، ترجمة أحمد الصَّمعي، مركز دراسات الوحدة العربيَّة، بيروت، ط1، 2005.
5- أيكو، أمبرتو، العلامة، ترجمة سعيد الغانمي، المركز الثقافيّ العربيّ، بيروت، ط2، 2010.
6- أيُّوب، نبيل، الطَّرائق إلى نصّ القارئ المختلف، المكتبة الأهليَّة، بيروت، ط1، 1997.
7- أيُّوب، نبيل، النَّقد النّصيّ وتحليل الخطاب، مكتبة لبنان، جونيه، ط1، 2011.
8- بن حميد، رضا، الخطاب الشّعريّ الحديث من اللُّغَويّ إلى التَّشكيل البصَريّ، مجلَّة فصول، المجلَّد 15، العدد 2، 1996.
9- بيصار، مُحمَّد، الفلسفة اليونانيَّة، دار الكتاب اللُّبنانيّ، بيروت، ط1، 1973.
10- بارت، رولان، هسهسة اللُّغَة، ترجمة منذر عيَّاشي، مركز الإنماء الحضاريّ، حلب، 1990.
11- تشاندلر، دانيال، أُسُس السِّيميائيَّة، ترجمة طلال وهبة، المنظَّمة العربيَّة للتَّرجمة، بيروت، ط1، 2008.
12- توسان، برنار، ما هي السيميولوجيا، ترجمة محمَّد نظيف، أفريقيا الشَّرق، المغرب، ط2، 2000.
13- جوزيف، كورتيس، سيميائيَّة اللُّغة، ترجمة جمال حضري، المؤسَّسة الجامعيَّة للدّراسات والنَّشر والتَّوزيع، بيروت، ط1، [لا ت].
14- الحدَّاوي، طائع، سيميائيَّات التَّأويل، المركز الثَّقافيّ العربيّ، بيروت، ط1، 2006.
15- الحفنيّ، عبد المنعم، معجم المُصطلحات الصُّوفيَّة، دار المسيرة، بيروت، ط2، 1987.
16- حليفي، شُعَيب، هُويَّة العلامات في العتبات وبناء التَّأويل، دار الثَّقافة للنَّشر والتَّوزيع، الدَّار البيضاء، ط1، 2005.
17- خليل، أحمد خليل، مضمون الأسطورة في الفكر العربيّ، دار الطَّليعة، بيروت، ط1، 1973.
18- رياض، قاسم، تقنيَّات التَّعبير العربيّ، دار المعرفة، بيروت، ط2، 2002.
19- سحلول، حسن مصطفى، نظريَّات القراءة والتأويل الأدبيّ وقضاياها، منشورات ٱتحاد الكُتَّاب العرب، دمشق، 2001.
20- سعيد، علوش، معجم المصطلحات الأدبيَّة المعاصرة، دار الكتاب اللُّبنانيّ، بيروت، ط1، 1985.
21- سقَّال، ديزيره، الكتابة والخلق الفني، دار الفكر اللبناني، بيروت، ط1، 1993.
22- سمير، خليل، علاقة الحضور والغياب في شعريَّة النّصّ الأدبيّ، دار الشُّؤون الثقافيَّة العامَّة، بغداد، ط1، 2008.
23- شفيق، غربال محمَّد، الموسوعة العربيَّة الميسَّرة، دار القلم، القاهرة، [لاط ]، 1965.
24- شيباني، عبد القادر فهيم، السّيميائيات العامَّة أسُسُها ومفاهيمها، الدَّار العربيَّة للعلوم ناشرون، بيروت، ط1، 2010.
25- عبد الحي، مُحمَّد، الأُسطورة الإغريقيَّة في الشّعر المعاصر، دار النَّهضة العربيَّة، بيروت، 1977.
26- العدنانيّ، محمد، معجم الأغلاط اللُّغويَّة، مكتبة لبنان، جونيه، ط1، 1984.
27- فاخوري، عادل، تيَّارات في السيمياء، دار الطَّليعة، بيروت، ط1، 1990.
28- فضل، صلاح، شفرات النَّصّ، دار الآداب، بيروت، ط1، 1999.
29- محمَّد، بازي، العنوان في الثقافة العربيَّة، الدَّار العربيَّة للعلوم ناشرون، بيروت، ط1، 2012.
30- محمَّد، بازي، نحو نموذج تسانديّ في فهم النُّصوص والخطابات، الدَّار العربيَّة للعلوم ناشرون، بيروت، ط1، 2010.
31- محمَّد فكري، الجزار، العنوان وسيميوطيقا الاِتّصال الأدبيّ، الهيئة المِصريَّة العامَّة للكتاب، مِصر، ط1، 1998.
32- محمود، فاطمة، مباهج الوسوسة، مجلَّة مواقف، ع 61، 62، 1989.
33- مروه، حسين، دراسات نقديَّة في ضوء المنهج الواقعي، مكتبة المعارف، بيروت، [لا ط]، 1988.
34- معلوف، منير، معجم الرُّموز، المطبعة البولسيَّة، جونيه، 2009.
35- نايف، سليمان، الجامع في اللُّغة العربيَّة، دار صفاء، عمَّان، ط2، 1990.
36- هيو، سلفرمان، نصيَّات بين الهرومنطيقيَّة والتفكيكيَّة، تعريب حسن ناظم، المركز الثقافي العربيّ، بيروت، 2002.
المراجع الفرنسيَّة
– Cucros, Franc, Le poètique le réel, Paris, 1987.37
– Ducrot, Oswald, Le dire et le dit, édition de Minuit, Paris, 1984.38
– Dubois, Jean, Dictionnaire de linguistique et des sciences du langage, Paris, 1994.39
– H.G. Gadamer, Méthode et vérité, Seuil, Paris, 1976.40
41- Pougeoise, Michel, Dictionnaire de poètique, Belin, 2006.
42- Riffaterre, Michelle, Sémiotique de la poésie, Seuil, Paris, 1983.
-34 Todorove, Tzeventan, Symbolisme et interprétation, édition, Seuil, Paris, 1987.
44- Van Den Heuvel, Pierre, Parole Mot Silence pour une poétique de l`énociation, Librairie José Corti, 1985.
[1] – د. شربل ميلاد توما أستاذ مُحاضر بالجامعة اللُّبنانيَّة- كلية التربية . Charbelmtouma@hotmail.com
[2]– العلاقة بين الكلمة والسّياق جدليَّة تتحوَّل باستمرار بحسب الرَّامز والرَّمز والمرموز. وإنَّ الاِختلافَ هو ٱنتقائيٌّ مِنْ مُرتقَبِ المُتكلّم، ودلاليٌّ في نظر المتلقّي. إنَّ سياق الشّعر التَّجريديّ يأتي ضمن إطار “شعريَّة الصَّمْت”، أو الشّعر الصَّامت”. وأهمُّ عناصرِه: التَّركيز، والإيجاز، والتَّعرية، والإخفاء.
[3]– بن حميد، رضا، الخطاب الشّعريّ الحديث من اللُّغَويّ إلى التَّشكيل البصَريّ، مجلَّة فصول، المجلَّد 15، العدد 2، 1996، ص 90.
[4]– سحلول، حسن مصطفى، نظريَّات القراءة والتَّأويل الأدبيّ وقضاياها، منشورات ٱتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2001، ص130.
[5]– Cucros, Franc, Le poètique le réel, Paris, 1987, p 10.
[6] -Dubois, Jean, Dictionnaire de linguistique et des sciences du langage, Paris, 1994, p42.
[7] -Riffaterre, Michelle, Sémiotique de la poésie, Seuil, Paris, 1983, p16.
[8]– محمود، فاطمة، مباهج الوسوسة، مجلَّة مواقف، ع 61، 62، 1989، ص 98-99.
[9]– Todorove, Tzeventan, Symbolisme et interprétation, édition, Seuil, Paris, 1987, p 9.
[10] -Ibid, p 41.
[11]– H.G. Gadamer, Méthode et vérité, Seuil, Paris, 1976, p 246.
[12] -عبد الحي، مُحمَّد، الأُسطورة الإغريقيَّة في الشّعر المعاصر، دار النَّهضة العربيَّة، بيروت، 1977، ص 87.
[13]– Pougeoise, Michel, Dictionnaire de poètique, Belin, 2006, p 421.
[14]– Van Den Heuvel, Pierre, Parole Mot Silence pour une poétique de l`énociation, Librairie José Corti, 1985, p74.
[15]– Van Den Heuvel, Pierre, Parole Mot Silence pour une poétique de l`énociation, p 255.
[16]– معلوف، منير، معجم الرُّموز، المطبعة البولسيَّة، جونيه، 2009، ص 191.
[17] -القرآن الكريم، سورة الأعراف، الآية 204. ﴿إذا قُرِئَ القرآنُ فٱسْتمِعُوا لَهُ وأَنْصِتُوا لَعلَّكُمْ تُرحَمُونَ﴾ هذا دليلٌ على الِاستماعِ لَهُ بَقَصْدٍ وَنيَّةٍ، لِفَهمِ مَعانيه، والسُّكوتِ عَنِ الشَّواغلِ والكَلامِ للاِستماعِ عندَ تِلاوتِه، لِنَظفَرَ برحمةِ اللهِ عندَ ٱمْتِثالِ أَوامِرِه، وسَمَاعِ آياتِ كِتابِه. إذًا، هو الصَّمت عن الكلام، وعدم التَّشاغُل عن المسموع، بانتباهٍ، ولا فائدةَ مِنْ مُجرَّدِ الاِستماع، إلَّا إذا أعقبَه الإنصاتُ، إنْ هو مَهارةٌ يسعى الباحثُ إلى إغنائِها في بحثِه.
[18] -العدنانيّ، محمد، معجم الأغلاط اللُّغويَّة، مكتبة لبنان، جونيه، ط1، 1984، ص 312. السُّكْتةُ هي موتُ الفُجاءَةِ، وهي المَرَّةُ مِنَ السُّكُوتِ. والسُّكْتَةُ في الصَّلاةِ، هي أنْ يُسكَتَ بَعدَ الاِفتتاح، أو بَعدَ الفراغِ من قراءةِ الفاتحة.
[19] -الفراغُ هو دعوةٌ للاِمتلاء، طالما أنَّ الشَّاعرَ يَكتبُ ما هو جديدٌ من خلالِ لغةٍ جديدة يُسطِّرها على الورقة البيضاء. لذلك، يجب أنْ يجعلَ الشَّاعرُ لغتَه تسيلَ على الأوراقِ البيضاء، لتفتحَ آفاقًا معنويَّةً جديدةً للنَّصّ الشّعريّ. ويبحثُ الخُواءُ عن معنًى ما، وشكلٍ ما، ويكونُ مبنيًّا على شيء مَمْلُوءٍ غيرِ واضحٍ. هكذا، يُثيرُ الشّعرُ ما هو مكبوتٌ ومَنسيٌّ، وهامشيٌّ. ولكنَّ هذا لا يعني أنَّه إذا تحقَّقَ، فقد تتحقَّقُ الشَّاعريَّة.
[20] -الخواء هو رمز الفراغ، والإبهام، والضَّياع، وٱختلاط الأشياء.
[21]– لا أقصُدُ بالبياض تلك المِساحة البيضاء المُحيطة بالقصيدة، بل أقصُد به الفراغ الذي تتركُه الشَّاعرة عَمْدًا بين الكلمات، أو الأسطُر الشّعريَّة، ويُرمَزُ إليه عادةً بالنُقَط، أي ذلك الفراغ الطّباعيّ المتروك في متن القصيدة، ويُسبِّبُ غموضًا، وربَّما يُوظَّفُ لإنتاج الدَّلالة والإيحاء، وربَّما تحذفُه= =الشَّاعرة خوفًا من السُّلطة. لكنَّه في كِلا الحالَين هو كلامٌ صامتٌ وغائبٌ ومسكوتٌ عنه، ويشكِّلُ حقيقةً دلاليَّة ما. أمَّا الصَّمتُ فهو تشخيصٌ عابرٌ للجسد، وسلوكٌ أساسُه السُّكوتُ على الفضائح والإغماض والاِستغلاق والإصغاء. إذًا، الصَّمْتُ خطابٌ فارغٌ من الكلام والإشارات اللّسانيَّة.
[22]– القرآن الكريم، سورة الكهف، الآية 10 ﴿ إذْ أَوَى الفِتيَةُ إِلى الكهْفِ فقالوا ربَّنا آتِنا مِنْ لدُنِكَ رحْمَةً وَهَيِّئْ لنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ﴾. هؤلاءِ الشَّبابُ يطلبونَ الرَّحمة والمَغفِرة والتَّيسير، يُعبِّرون عنِ الاِنبعاث بعدَ الموت.
[23]– بيصار، مُحمَّد، الفلسفة اليونانيَّة، دار الكتاب اللبنانيّ، بيروت، ط1، 1973، ص 101- 102. أبصَرَ أفلاطون Platon (470- 399 ق م ) النُّورَ في أثينا من أَبٍ ثريّ. هو فيلسوف المِثاليَّة اليونانيَّة. هو أوَّل مَن تكلَّم على أسطورة الكهف. شملَتْ فلسفتُه عدَّةَ موضوعات، أهمُّها: نظريَّة في المعرفة، ونظريَّة في المثُل العُليا. وهذا “الكهف” في رأيه هو العالَمُ الحسيُّ، وما فيه من ظِلالٍ تَحسَبُها حقيقةً، بينما هي خيال. أمَّا التَّماثيلُ المركَّبةُ على الصُّلبان خارج الكهف فهي عالَم المُثُل، وهي خالدة.
[24]– معلوف، منير، معجم الرموز، ص 267.
[25]– تشاندلر، دانيال، أُسُس السّيمسائيَّة، ترجمة طلال وهبة، مركز دراسات الوحدة العربيَّة، بيروت، ط1، 2008، ص 144.
[26]– الحداوي، طائع، سيميائيَّات التأويل، المركز الثقافيّ العربيّ، بيروت، ط1، 2006، ص 347.
[27]– فاخوري، عادل، تيَّارات في السيمياء، دار الطَّليعة، بيروت، ط1، 1990، ص 67.
[28] – القرآن الكريم، سورة الكهف، الآية 11 ﴿ فضرَبْنا على آذانِهم في الكَهْفِ سِنينَ عَدَدًا ﴾
[29]– يعملُ التَّداعي السّياقيّ داخل المُدوَّنة الشّعريَّة، ويستدعي العلاماتِ اللّسانيَّة وَفقَ محور التَّأليف والمُجاورة.
[30] -مُحمَّد، بازي، نحو نموذج تسانديّ في فهم النُّصوص والخطابات، الدَّار العربيَّة للعلوم ناشرون، بيروت، ط1، 2010، ص 14.
[31]– نبيل، أيُّوب، الطَّرائق إلى نصّ القارئ المختلف، المكتبة الأهليَّة، بيروت، ط1، 1997، ص24.
[32] -مروه، حسين، دراسات نقديَّة في ضوء المنهج الواقعيّ، مكتبة المعارف، بيروت، [لا ط]، 1988، ص397.
[33]– بارت، رولان، هسهسة اللغة، ترجمة منذر عيَّاشي، مركز الإنماء الحضاريّ، حلب، 1990، ص 98.
[34]– نشير بوجهة نظر نقديَّة إلى أنَّ هناك علاقةً وُثقى بين القصيدة المكتوبة، والقصيدة المعروضة. القصيدة المكتوبة تتوقَّفُ عندما تتمثَّلُ في ذهن المتلقّي، بينما القصيدة المعروضة تَفترِضُ بنيةً معرفيَّة ومهارة فنيَّة في الأداء.
[35]– سمير، خليل، علاقة الحضور والغياب في شعريَّة النَّصّ الأدبيّ، دار الشُّؤون الثقافيَّة العامَّة، بغداد، ط1، 2008، ص 106.
[36]– سعيد، علوش، معجم المصطلحات الأدبيَّة المعاصرة، دار الكتاب اللُّبنانيّ، بيروت، ط1، 1985، ص 155.
[37] -محمَّد، بازي، العنوان في الثقافة العربيَّة، الدَّار العربيَّة للعلوم ناشرون، بيروت، ط1، 2012، ص 15.
[38] -حليفي، شُعَيب، هُويَّة العلامات في العتبات وبناء التَّأويل، دار الثقافة للنَّشر والتَّوزيع، الدَّار البيضاء، ط1، 2005، ص 11.
[39]– محمَّد فكري، الجزار، العنوان وسيميوطيقا الاِتّصال الأدبيّ، الهيئة المِصريَّة العامَّة للكتاب، مِصر، ط1، 1998، ص 21.
[40] -جوزيف، كورتيس، سيميائيَّة اللغة، ترجمة جمال حضري، المؤسَّسة الجامعيَّة للدّراسات والنَّشر والتَّوزيع، بيروت، ط1، [لا ت]، ص 113.
[41]– نبيل، أيُّوب، النَّقد النَّصيّ وتحليل الخطاب، مكتبة لبنان، جونيه، ط1، 2011، ص 220.
[42] -أمبرتو، إيكو، السّيميائيَّة وفلسفة اللُّغة، ترجمة أحمد الصَّمعي، مركز دراسات الوحدة العربيَّة، بيروت، ط1، 2005، ص 218.
[43] -نبيل، أيُّوب، الطَّرائق إلى نصّ القارئ المختلف، ص 24.
[44] -أيُّوب، نبيل، الطَّرائق إلى نص القارئ المختلف، ص 27.
[45] -توسان، برنار، ما هي السيميولوجيا، ترجمة محمَّد نظيف، أفريقيا الشَّرق، المغرب، ط2، 2000، ص 29.
[46] -تشاندلر، دانيال، أسُس السِّيميائيَّة، ص 438.
[47] -أيكو، أمبرتو، السّيميائيَّة وفلسفة اللُّغة، ص 412.
[48]– شيباني، عبد القادر فهيم، السيميائيات العامة أُسُسها ومفاهيمها، الدَّار العربيَّة للعلوم ناشرون، بيروت، ط1، 2010، ص 109.
[49] -المرجع نفسه، ص 110.
[50]– تشاندلر، دانيال، المرجع نفسه، ص 230.
[51] -إيكو، أمبرتو، السّيميائيَّة وفلسفة اللُّغة، ص 219.
[52]– Ducrot, Oswald, Le dire et le dit, édition de Minuit, Paris, 1984, p27.
[53] -أيكو، أمبرتو، التأويل بين السيميائيَّات والتفكيكيَّة، ص 133.
[54] -Van Den Heuvel, Pierre, Parole Mot Silence pour une poétique de l`énociation, p170.
[55] -أيكو، أمبرتو، السيميائيَّة وفلسفة اللغة، ص 90.
[56] -المرجع نفسه، ص 91.
[57] -إيكو، أمبرتو، العلامة، ترجمة سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربيّ، بيروت، ط2، 2010، ص 106.
[58] -هيو، سلفرمان، نصيَّات بين الهرومنطيقيَّة والتفكيكيَّة، تعريب حسن ناظم، المركز الثقافي العربيّ، بيروت، 2002، ص 256. نشير إلى أنَّ “الهرمينوطيقا” L’herméneutique تُعرَفُ بعِلم التأويل. هذا العِلمُ أخَذَ حيِّز الاِهتمام منذ منتصَف القرن الثامن عشر م، ولم يُجهِدْ نفسَه في: “ما هو معنى النصّ، بل ٱنتقلَ إلى معنى آخَر هو: “ما الفهمُ”؟
[59] -المرجع نفسه، ص 127.
[60]– المرجع نفسه، ص 304.
[61] -الحفنيّ، عبد المنعم، معجم المصطلحات الصُّوفيَّة، ص 190.
[62] -معلوف، منير، معجم الرموز، ص 222.
[63] -إمام، إمام عبد الفتَّاح، معجم ديانات وأساطير العالَم، مكتبة مدبولي، م3، القاهرة، [لاط]، [لات]، ص 127.
[64] -خليل، أحمد خليل، مضمون الأسطورة في الفكر العربيّ، ص 72.
[65]– فاخوري، عادل، تيَّارات في السيمياء، ص 67.
[66]– شفيق، غربال محمَّد، الموسوعة العربيَّة الميسَّرة، دار القلم، القاهرة، [لاط ]، 1965، ص 1241: العنقاء: طائر خرافيّ بحجم النَّسر، وله ريشٌ ذهبيّ وَقِرمزيّ، يبني عُشًّا من أغصان، يَضرمُ فيها النَّار، مُحرِقًا نفسَه، ولكنَّه ينبعث من الرَّماد مجدَّدًا. كانَ موضوعُ العنقاء مُحبَّبًا لدى الوثنيّين والمسيحيّين، وقد عرفَه العربُ، وعدُّوه في شِعرِهم أحَدَ المُستحيلات الثلاثة في المَثَل السَّائر، وهي: العنقاء، والغول، والخِلُّ الوفيّ.
[67]– سقَّال، ديزيره، الكتابة والخلق الفنّيّ، دار الفكر اللُّبنانيّ، بيروت، ط1، 1993، ص 56.
[68] -القرآن الكريم، سورة الإسراء، الآية 13 ﴿ وكُلَّ إنسانٍ ألزمْناهُ طائرَه في عُنُقِهِ ونخرُجُ لَهُ يومَ القيامةِ كتابًا يلقاهُ مَنشورًا ﴾
[69]– أيكو، أمبرتو، العلامة، ص 61.
[70] -فضل، صلاح، شفرات النَّص، ص 25.
[71] -رياض، قاسم، تقنيَّات التَّعبير العربيّ، دار المعرفة، بيروت، ط2، 2002، ص 162.
[72] -نايف، سليمان، الجامع في اللُّغة العربيَّة، دار صفاء، عمَّان، ط2، 1990، ص 53.