وفاء الزيتون
وظائف جماليّة وتعليميّة وتربويّة
د. عليّ زيتون*
العمل مؤلّف من بيان موجّه إلى الفتيان المتلقّين، ومن اثنتي عشرة أقصوصة تراوح بين الواقعيّة والرمزيّة والخرافيّة، والمتّصلة بالموروث الشّعبيّ، وسأتناول هذا العمل من خلال المستويين المتعلّقين بأدب الأطفال، عنيت الوظيفة التربويّة، التعليميّة، الوظيفة الجماليّة.
الوظائف التربويّة والتعليميّة:
صدَّر المؤلّف عمله بخطاب موجّه إلى المتلقّي الذي اختار له اسم (الفتيان) ليرسم من خلال هذا الاسم، وذلك الخطاب أبعاد رؤيته إلى عمله. وهذه الرؤية ثلاثيّة الأبعاد: الأوّل تربويّ، الثاني تعبويّ، والثالث تعليميّ.
وأن يكون هؤلاء الفتيان عند المؤلِّف “مشاريع إنسانيّة مستقبليّة مشرقة” ص5 يعني حضورًا قويًّا للهمّ التربويّ الذي يعرف ما يريد.
وأن نضع أمام أنظار جيل الفتيان صورتهم على هذه الشاكلة، يعني أن نصوّب توجّههم نحو الخير والعطاء، وأن نحفّزهم على سلوك طريقها. ولقد اقتضى مثل هذا الهمّ عند المؤلِّف أن يختار من الأقاصيص ما يؤدّي تلك الوظيفة بنجاح. فكانت مرجعيّة تلك الأقاصيص ثلاثيّة الأبعاد: مشاهدات الأديب للطبيعة الأمّ، ومراجعة لسلوك الكائنات فيها، وعودته إلى المأثورات الشعبيّة المحلّيّة.ولقد حاولت الأقاصيص أن تكون مصداقًا للغاية التي وضعها بيان الكتاب أمام أعين القرّاء فالقصّة الأولى “شجرة حنين” ذات بعد تربويّ والمسافة القائمة بين قراءة الفتى لتلك الأمراس وقراءة جدّته هي المسافة التي تحفّز الفتى على اجتيازها، وهذا بعد تربويّ يدفع الفتيان إلى الإفادة من ذوي الخبرة.
والتعبئة محاولة لإنتاج الإنسان القادر على القيام بمَهَمَّات صعبة في ظروف استثنائيّة، وذلك فهي جزء من التربية تنتمي إليها وتهدف إلى تقوية ما يحتاج إليه في وضعيّة معيّنة.
فقصّته “طائر النّار” تعيد إنتاج طائر الفينيق فلا يبقى أسطورة في الانبعاث وتجدّد النّسل، ولكنّه يتّخذ بعدًا ثوريًّا حين يأخذ ملامح الاستشهاديّين الذين يقهرون الموت بالموت. والقصّة التي نريد من كلّ فتى أن يهيئ نفسه ليكون فينيقيًّا ثوريًّا. إنّما تضع إصبعها على الحلّ المؤكّد لمشكلات شعبنا. وما كان للدوريّ الجميل أن يتحوّل إلى فينيق استشهاديّ لو تُرِكَت أشجاره وحقوله.
ولقد وضعت هذه المجموعة القَصصيّة بين أهدافها أن تقدّم دروسًا مفيدة فلا يقتصر الهدف التعليميّ على تصحيح ما شاع من أخطار متعلّقة بفهم المأثورات الشعبيّة البشريّة. أو فهم سلوك بعض كائنات الطبيعة، ولكنّه يتعدّى ذلك إلى “نقل ما في الطبيعة من معاني الفلسفيّة العميقة” ص5
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* رئيس قسم اللغة العربيّة وآدابها، الجامعة اللبنانيّة، الفرع الرابع. هذه الدراسة نُشرت في جريدة السفير في 11/ 5/ 2002 وهي ملخص لدراسة كبيرة مفصّلة.
الوظائف الجماليّة:
أدبيّة النص الإبداعيّ أوسع من أن يحاط بها، خصوصًا إذا كان هذا النصّ قصّة، متلقّيها هو الفتى، يعني أن يقوم الباحث بمقاربتين: الأولى أدبيّة غير قَصصيّة والثّانية أدبيّة قَصصيّة.
استثمر الأديب أدوات فنّيّة غير قَصصيّة في إنتاج نصّه القَصصيّ كالترميز والتضاد، إذ لجأ إلى الرمز المتمثّل في “سناء” و”الدوريّ” ويعني ذلك أنّ هذه الرموز قد استجابت بشكل واضح إلى رؤية المؤلِّف فحقّقت بذلك الفرادة المنشودة على الرغم من مشاعيّة الأبعاد الرمزيّة المستخدمة.
واستخدم المؤلِّف التّضاد أداة في التعبير عن تلك الرؤية أيضًا. والتّضاد قائم في غير نصّ من نصوص المجموعة، فأغصان “شجرة الحنين” تنحدر لتغرز في الأرض بدلاً من الارتفاع في العلاء، مستبدلة وظيفة التّعاضد والالتفاف حول جسد الأمّ (الوطن) بوظيفة الزّهو والفخار. والوظيفتان منتميتان إلى الرؤية وإلى الحقيقة الطبيعيّة، وهما تندرجان في سياق الهّم التعبويّ الذي يعيشه الكاتب.
ولا تسير نصوص المجموعة على وتيرة واحدة في تعاملها مع التضاد. فقد لجأت إليه حين كان الهمّ تعبويًّا تربويًّا، ولكن حين صار الهمّ تعليميًّا خرجت على التضاد وقصّة “الصرصور والنملة” أخرجت بطلها (الصرصور) من مأزق التضاد بين من يعمل ومن لا يعمل، بين من يستحقّ أن يأكل ومن لا يستحقّ، لتدخله دائرة التنوّع في صفوف العاملين المستحقّين للطعام، ويعني ذلك أنّ وظيفة القصّة هي التي تحدّد درجة الاختلاف التي تراوح بين التّضاد والتنوّع.
وعبّرت الأدبيّة غير القَصصيّة عن حضور قبليّ للفتى المتلقّي حين لجأت إلى تقنيّات فتيّة تثير الحساسيّة الجماليّة لديه، ونجاح هذه الأدبيّة متناغم إلى حدّ بعيد مع الإطار القَصصيّ، إذ تمثّل الشخصيّات في هذه المجموعة حجر الأساس في بنائها الكلّيّ، نواجه بثنائيّة (الجدّة والفتى) في قصّتي “شجرة الحنين” و”وفاء الزيتون” أي بجيلي الرشاد والفتوّة، ويمثّل الفتى جيل التّعطش إلى المعرفة.
وهذا عائد إلى رؤية الأديب إلى طبيعة المشكلة التي ستواجه جيل الفتيان، فهي مشكلة مع العدوّ الخارجيّ، وليست مع جيل مختلف. فمعركتهم ليست مع الموروث، ولكن مع العدوّ، عدوّ وطنه، وتأتي شخصيّة الصرصور لتمثّل الشخصيّة الأكثر غنى، إذ يواجه اتّهامًا، وهو حين رغب في دحض هذا الاتّهام، لم يسعَ إلى الظهور بمظهر العامل الجاد.
ولكنّه يدافع عن حياته معتزًّا ببيته، وبكونه فنانًا شاعرًا يقابل الحياة ببساطة واضعًا نفسه ممثّلاً لجانب من جوانب الحياة المتعدّدة والمعقّدة.
والكاتب حين أعاد إنتاج شخصيّة الصرصور بناء على رؤيته إلى الحياة وضع تعقيدات الحياة في مواجهة الرّوح التبسيطيّة. فالراوي ممثّل أمين للكاتب في رؤيته إلى مستقبل مجتمعنا، ولذلك قدم للمتلقّي ما يريد الكاتب أن يقدّمه. وهذا ما لم يخفه الكاتب منذ اللحظة الأولى، فالمتلقّون فتيان، وهم بالنسبة إليه مشاريع إنسانيّة مستقبليّة مشرقة، ولذلك كان همّه إنتاج الإنسان المتمتّع بالفكر النّيّر. فالصرصور يشكّل خروجه على حصر الحياة بالعمل، أو عدم العمل، محرضًا لهؤلاء الفتيان على إعادة النظر في معظم الحقائق التي اتّخذت صفة الرسوغ في الأذهان. وتشكّل حواريّة البومة والسنونوة تحريضًا آخر على تجنب النظرة الأحاديّة. وإقناعهم بأنّ معظم الحقائق نسبيّة.
وإذا كانت الأحداث تسير بوتيرة واقعيّة إلى حدّ ما وعلى أرضيّة حياديّة تتوافق، وما تطلبه قدرة الفتيان على الاستيعاب، فإنّنا لا نعدم وجود زمن فنّيّ خصوصًا في القصّة الأولى حين يحرّك أيمن الأحداث في ذهنه فيتقاطع الماضي مع الحاضر مع المستقبل.