ثلاثيّة الطّفولة والعائلة والأرض في شعرِ جوزيف حرب
La trilogie de l’enfance, de la famille et de la terre dans La poésie de Joseph Harb
Mohamad Ahmad Haidar محمّد أحمد حيدر)[1](
ملخّص البحث
يتناولُ البحثُ بعضَ نتاجِ الشّاعرِ اللّبنانيّ جوزيف حرب الّذي وُلدَ ونشأ في بيئةٍ مَحرومةٍ، في كنفِ أُسرةٍ إمكانيّاتُها محدودةٌ، ما دفعَ ذويه إلى إيداعِهِ مدرسة الدّير الدّاخليّة، بغيةَ تعليمِهِ أُصولَ القراءةِ والكتابة، وهو طفلٌ لا يتجاوز السّنين الخمس، فانسلخَ من بيئتِهِ، وحُرمَ أحضان عائلته، وعاينَ قسوةَ التّعاملِ عن كَثبٍ في مؤسّسةٍ نظاميّةٍ لم يعتدْها مسبقًا.
انعكست هذه المعاناةُ على حياةِ الشّاعرِ الطّفل، فجسّدَها في جلِّ قصائدِهِ، الأمرُ الذي دفعنا شطْرَ بعضِها لدراسةِ مدى تأثيرِ الظّروفِ والمتغيّرات الحياتيّة، متوسّلين المنهجَ الموضوعاتيّ لتحقيقِ مُرادِنا.
الكلمات المفاتيح: الدّير ـ الأمّ ـ الأب ـ الأخت ـ الرّاهب ـ الرّاهبة ـ الفقر ـ الجوع ـ البيت ـ الحبر ـ اللّوح…
Résumé de la recherche
La recherche porte sur certaines œuvres du poète libanais Joseph Harb, né et élevé dans un environnement défavorisé, au sein d’une famille aux moyens limités, ce qui a amené sa famille à l’inscrire dans un internat de monastère, afin de lui apprendre les bases de la lecture et de l’écriture, alors qu’il n’avait pas plus de cinq ans, il était donc isolé de son environnement et privé de son étreinte, de sa famille, et il a été témoin de la dureté du traitement strict dans une institution systématique à laquelle il n’était pas habitué auparavant.
Cette souffrance s’est reflétée dans la vie de l’enfant poète et il l’a incarnée dans la plupart de ses poèmes, ce qui nous a motivé à nous tourner vers certains d’entre eux pour étudier l’étendue de l’impact des circonstances et des variables de la vie, en adoptant l’approche thématique pour atteindre notre objectif.
Mots clés : Le monastère – la mère – le père – la sœur – le moine – la nonne – la pauvreté – la faim – la maison – l’encre – la planche…
المقدّمة
أوّلًا: التّعريف بالموضوع: يُعدُّ الشّاعرُ اللّبنانيُّ جوزيف حرب، من أبرز الشّعراءِ اللّبنانيّين الّذينَ تجاوزَت قصائدُهم حدودَ الوطن، وقد غنّى من شعرِهِ السّيّدة فيروز، ومارسيل خليفة، فذاعَ صيتُهُ في الوطنِ العربيِّ والعالمِ برمّته.
وُلدَ العام 1944 في لبنان، وتوفّي العام 2014 في السّبعينيّاتِ من عمره، بعد صراعٍ مع المرض، ليتركَ بصمةً عميقةً في قلوبِ محبّيه.
لم يدعْ موضوعًا من موضوعاتِ الحياةِ إلّا وتناولَهُ، فشكّلَ نتاجُهُ مادّةً غزيرةً غنيّةً تحثُّ على الدّراسةِ والبحث، وهو ما حدا بي إلى تناولِ بعضِهِ، بما يخدمُ البحثَ المرادَ إنجازُه.
ومن أهمّ نتاجاتِهِ: شيخ الغيم وعكّازه الرّيح، شجرة الأكاسيا، مملكة الخبز والورد، المحبرة… وهذه الأخيرةُ هي الأشهرُ على الإطلاق، لخروجِه فيها من حيّزِ الذّاتِ الضّيّقِ إلى عالمِ القوميّةِ والإنسانيّةِ بأجمعِه، فتجسّدَتْ روحُ المحبّةِ والتّضحيةِ والإيثارِ والعطاءِ بين ثنايا أبياتِهِ، لتُشعرَ المتلقّيَ بثقلِ شاعرٍ تخطّى أُطرَ التّقوقعِ والشّخصانيّة، ليحلّقَ في سماءِ الإبداعِ.
ثانيًا: أهمّيّة البحث: تكمنُ أهمّيّةٌ البحثِ في تسليطِ الضّوءِ على بعضِ نتاجِ شاعرٍ معاصرٍ، هو جوزيف حرب، كسر قواعدَ الرّوتينِ والرّتابةِ في أسلوبِهِ الشّعريِّ المتحرّرِ من قيودِ القافيةِ والوزن وفي مضامين كتاباتِهِ الشّعريّةِ، الحافلةِ بالمعاني العميقةِ، وبالرّمزيّةِ النّاطقةِ بألف معنًى ومعنًى، يعضدُهُ في ذلكَ نمطُ حياةٍ قاسيةٍ عاشها مضطرًّا في غياهبِ الدّيرِ بعيدًا من أهلِهِ ورفقائِهِ ومحبّيهِ، يكلّلُه الفقرُ بلباسِهِ الكالحِ، القاصرِ عن تلبيةِ احتياجاتٍ دنيويّةٍ بَدَهيّةٍ، فاستقى من معاناتِهِ الطّويلةِ مادّةً خصبةً لذهنِهِ المتفتّقِ عن الخَلقِ والإبداعِ.
ثالثًا: أهداف البحث: لكلِّ عملٍ بحثيٍّ أهدافٌ يسعى الباحثُ إلى تحقيقِها، ومن أبرزِ أهدافِنا المتوخّاة ها هنا:
الأهداف العامّة
ــ إماطةُ اللّثامِ عن مضامينِ الأبياتِ الشّعريّةِ المتناولةِ بالدّراسةِ، للوقوعِ على أبرزِ محطّاتِ حياةِ الشّاعرِ: في طفولتِه، وبين عائلتِهِ، وفي أحضانِ الطّبيعةِ المتمثّلةِ في أرضِهِ.
– تلمّسُ أسبابِ معاناتِهِ المهمَّة ، وتفسيرُ ميلِهِ إلى الحزنِ، وتخييمُ الهمِّ والقنوطِ على حياتِهِ، لإدراكِ العلاقةِ القائمةِ بين ظروفِ الأديب، وبين ما ينتجُهُ.
– الوقوعُ على بعضِ ملامحِ العصرِ وظروفِ المجتمعِ الّذي عايشَهُ، انطلاقًا من استقاءِ الشّاعرِ مادّتَه من بيئتِهِ، وتغريدِه في إطارِها بالدّرجةِ الأولى.
– الأهداف الخاصّة:
– ميلي الشّديدُ إلى تذوّقِ الأدبِ عمومًا والشّعر خصوصًا.
– إعجابي بنتاجِ الشّاعرِ جوزيف حرب، ورغبتي في تحليلِ بعضِه وفقَ المنهجِ الموضوعاتيّ، بغيةَ استخلاصِ المعلوماتِ من مادّةِ الشّعرِ نفسِهِ.
رابعًا: الإشكاليّة: يقع الباحثُ المتمحّصُ في شعريّةِ جوزيف حرب على عمقِ العلاقةِ بين الفلسفةِ والأدبِ من جهةٍ، وبينَ المعاناةِ والإبداعِ من جهةٍ أخرى، في حركةٍ بنائيّةٍ حيويّةٍ، تنبضُ بالإنسانيّةِ والتّجذّرِ والوعيِ، من هنا تُطرَحُ الإشكاليّةُ الآتية: ما هي طبيعةُ العلاقةِ الّتي تربطُ بينَ شعرِ جوزيف حرب، وبينَ ظروفِهِ الحياتيّة وبيئتِهِ المحيطة؟ وإلى أيِّ مدًى نجحَ في إخراجِ مكنوناتِهِ ومكبوتاتِهِ إلى العلنِ متوسّطًا الشّعرَ وسيلةً ناجعةً في التّعبيرِ؟
خامسًا: منهج البحث: ارتأيتُ اعتمادَ المنهجِ الموضوعاتيّ في دراستي البحثيّةِ هذه، نظرًا لملاءمتِهِ الموضوعَ المختارَ والّذي يسعى إلى استنباطِ المضامينِ المكتنهةِ في شعرِ جوزيف حرب، فالموضوعُ في الدّراسةِ الموضوعاتيّةِ يشكّلُ واحدةً من وحداتِ المعنى، وهي وحدةٌ حسّيّةٌ، أو علائقيّةٌ، أو زمنيّة، مشهودٌ لها بخصوصيّتِها عند كاتبٍ ما، وذلكَ بوجودِ تكرارٍ معيّنٍ لها، وهو النّقطةُ المركزيّةُ الّتي ينطلقُ منها النّاقدُ، وإليها يعودُ، كما يقولُ جان بيار ريتشارد Jean pierre Richard.
والدّراسةُ الموضوعاتيّةُ عند باشلار، تكمنُ في إعادةِ الاعتبارِ إلى الخيالِ، وتتمثّلُ مهمّةُ النّاقدِ في الحلُمِ مع المبدعِ، للعثورِ على الصّورةِ الشّعريّةِ في انبثاقِها، وفي تخلّقِها كاشفةً عن تنظيمِها السّرّيِّ، ما يفسّرُ “رؤيةَ الرّومانسيّينَ في الشّعرِ تعبيرًا عن شخصيّةِ الشّاعرِ، وفي الخيالِ عصبُ الكيانِ الشّعريّ”([2]).
الفصل الأوّل: طفولةُ جوزيف حرب في شعرِهِ:
تمهيد: عالمُ الطّفولةِ عالمٌ واسعٌ وشائكٌ، يتركُ بصماتِهِ في حياةِ المرءِ مهما عمّر، ولا غَرْوَ أنَّ أبرزَ العقدِ النّفسيّةِ الّتي يعاني منها المرءُ في مرحلةِ النّضجِ، تعودُ إلى طفولةٍ مرهقةٍ، يشوبُها الحزنُ والهمُّ والتّكديرُ، أو المشاكلُ الأسريّةُ والتّفكّك، ولا يخفى ما للعَوَزِ من دورٍ في تأطيرِ حياتِهِ لاحقًا.
ولغايةِ الوقوعِ على طبيعةِ طفولةِ شاعرِ الثّورةِ والإنسانيّة، جوزيف حرب، نتناولُ بعضَ أبياتِهِ الشّعريّة، حولها:” كيفَ أبي وأمّي وافقا؟! بلْ كيفَ قد حَلَمَا بأنْ يُلقى عليَّ القبضُ كيْ أُمضيَ هنا عشرينَ عامًا بينَ جدرانِ الزّنازنِ مثلَ لصٍّ قدْ أحبَّا أنْ يتوبَ، ومجرمٍ أخذاهُ للقاضيْ لكيْ لا يستمرَّ بقتلِ مَنْ هُمْ أبرياء، رغمَ أنّي ما تجاوزتُ السّنينَ الخمسَ بَعدُ…” ([3])
تساؤلٌ حزينٌ، مَشوبٌ بغصّةٍ هائلةٍ بعمقِها، مُمعنةٍ بأذيّتِها تنشبُ أظفارَها في نفسٍ توّاقةٍ إلى حضنِ الأهلِ الّذينَ يجسّدونَ مصدرَ الأمنِ والطّمأنينةِ للطّفلِ، فكيفَ وقد تحوّل هذا المصدرُ الآمنُ إلى جلّادٍ يرمي بضحيّتِهِ إلى التّهلكةِ؟
وهلاكُهُ يكمنُ في مدرسةِ الدّيرِ الّتي أُودعَ فيها طفلًا، لم يتجاوزْ من سنيِّهِ الخمسَ، إنّها مأساةُ الطّفولةِ الغضّةِ وقد سُلخَتْ من محيطِها، لِتُسجنَ في مكانٍ باردٍ أشبهَ بالزنزانة.
ويستطردُ ناعيًا ما سُلبَ منهُ في إسارِ عمليّةٍ تبادليّةٍ خاسرةٍ، لم تتقبّلْ روحُهُ البريئةُ نتائجَها، إذ إنَّ ما أخذوهُ أغلى وأكثر أهمّيّة بكثيرٍ ممّا منحوهُ إيّاه، في ذلكَ المكانِ المُقفرِ، لأنَّ مدرستَهُ الأولى والأحبَّ إليه هيَ الطّبيعةُ، ولم يعشقْ في حياتِهِ مدرسةً سواها:
” أخذوا منّي السّواقي،
سلّموني مِحبَرَهْ.
أخذوا منّي حِصانًا قصبيًّا،
سلَّموني مِسْطَرَهْ.
أخذوا منّي تُرابًا كُلُّهُ غاباتُ
شَربينٍ،
وشيحٍ،
سلَّموني عددًا مِنْ
وَاحِدٍ لِلعَشَرَهْ….” ([4])
وتكرارُ الفعلِ ” أخذوا” ينبضُ بمقدارِ ألمِهِ وعجزِهِ عن استعادةِ ما سُلبَ منه غصبًا عنه، فلم يُستشرْ قبلَ حرمانِهِ من مواطنِ الطّفولةِ وصورةِ الحبِّ المستوطنةِ في أرضِهِ، وكذا الأمر في تكرار الفعل ” سلّموني”، الّذي يوحي بتجريدِهِ من القدرةِ على الاعتراضِ، أو الرّفضِ، وكأنّهُ جنديٌّ يُعَدُّ لخوضِ معركةٍ حاميةِ الوطيس.
يئنُّ أنينَ مشتاقٍ يتلوّى تحتَ براثنِ الألمِ، في مكانٍ قصيٍّ عن عالمِهِ الطّفوليِّ البريءِ، لا يحتوي على أشيائِهِ الجميلةِ الّتي تشكّلُ منبعَ سعادتِهِ وحرّيّتِهِ وانطلاقِهِ:
” هنا
لا رنينُ السّواقيْ، ولا شَجَرُ الخَوخِ، والدَّرَجُ المستظلُّ بخيمةِ دِفلى، ولا قيصريّةُ كُلِّ العصافيرِ، لعبةُ
أُختي، بياضاتُ حَبلِ الغَسيلِ، دَكاكينُ بيعِ المُلَبَّسِ والفُستقِ السّاحليِّ”([5]).
الطّفلُ الشّاعرُ يرنو إلى ماضٍ بسيطٍ، تكتنفُهُ الطّبعيّةُ والبراءةُ، فلا يقعُ على شيءٍ منهُ، ما يولّدُ الغصّةَ في صدرِهِ، والتّأوّه على خصوصيّتِهِ الّتي لطالما كانت تعني له الكثير:
” هنا
لا سريري، ولا تينةُ البيتِ. لا
وَجهُ أُمّي الّذي يُشبِهُ الأحدَ البلديَّ، ولا
وردةٌ بلغَتْ خمسَ عشرةَ شَمسًا وظلَّتْ بغيرِ
مناديل…” ([6])
هو الرّفضُ المضمرُ لشتّى أساليبِ التّمدّنِ ومصادرةِ الرّيفيّةِ الكامنةِ في داخلِهِ، فأكثرُ ما يؤلمُهُ إقصاؤُهُ من موطنِ طفولتِهِ، وتجريدُهُ من حرّيّته وفوضى نهلِه من أمّهِ الطّبيعةِ لهوًا وارتماءً في أحضانِها، ناهيكَ عن حرمانِهِ من الوجهِ الأحبِّ إليه، وجهِ أُمِّهِ، ما يجعلُنا نستحضرُ قولَ ستاندال:” الوطنُ الحقُّ هو الّذي تلتقي فيهِ بكثيرٍ ممّن يشبهونَكَ”([7]).
وما أمرَّ انتماءَهُ إلى مكانٍ باردٍ قاصرٍ عن منحِهِ الدّفءَ في اللّيالي الشّتويّةِ الطّويلةِ والمخيفة، حيثُ يعاينُ العواصفَ المزمجرةَ، وينخرُ الزّمهريرُ عظامَهُ من دونِ رحمةٍ، والأشخاصُ الّذينَ كانوا يمنحونَه الطّمأنينةَ ويدفّئونَ قلبَهُ قبلَ جسدِهِ، غُيِّبُوا عن ناظرَيهِ، فأضحى وحيدًا لا مُؤنسَ لهُ ولا نديم:
” آهِ
يَا ياسَمينَةَ أُمّي اغمُريني، ففي
هذِهِ اللّيلةِ الثّلجُ يَسقُطُ في القَلبِ، كلُّ المَصابيحِ
صارَتْ شُيوخَ البَيَاضِ، ولا نارَ في الدَّيرِ، لا أُختَ قُربي، ولا أنتِ تنسدلينَ ستائرَ من مِغزلِ الجَمرِ فوقَ
شَبابيكِ نَومي، اغمُريني، فقلبي قِنديلُ بيتِكِ،
لوْ ظلَّ في الدَّيرِ
هذا المساءَ
تَكَسَّرْ…” ([8])
قدرتُهُ على التّحمُّلِ نفذَتْ، فانداحَ يناجي بعضَ أشياءِ أُمِّه، وهي الياسمينة، رمزُ الجمالِ والعطرِ العابقِ المتضوّعِ في القلبِ قبلَ العينِ، مكرّرًا طلبًا ينمُّ عن جوعِهِ إلى عطفٍ حُرِمَ منه، ألا وهو الغمرُ والاحتضانُ، ” اغمريني”، وما طلبُهُ آمرًا سوى صرخةِ وجعٍ تكتنفُ روحَه الخائفةَ المرتعبة، وقد سُجّرَتْ في مكانٍ لا تنتمي إليهِ، مع أغرابٍ لا يأبهونَ لأمرِهِ، أو يعيرونَ أنينَهُ الأخرسَ التفاتةً.
وتتعارضُ تعليماتُ الدّيرِ وأساليبُ تنفيذِها، مع ما تلقّاهُ من تربيةٍ بيتيّةٍ، فيُعنَّفُ جسديًّا من الرّاهبةِ على ما حسبتهُ ذنبًا، في حينِ أنّهُ يندرجُ في إطارِ القيمِ الأخلاقيّةِ النّبيلة، فـ ” للفردِ منظومةٌ قيميّةٌ وأخلاقيّةٌ، تضبطُ لهُ السّلوكَ، وتعطيهِ الإيقاعاتِ وفقَ شُروطِها”([9])، إذ ” لا أحدَ يولدُ في هذه الدّنيا، إلّا ويحملُ في قسمٍ من عقلِهِ المُثُلَ العُليا المتكوّنةَ من عناصرَ فكريّةٍ رئيسةٍ منبثقةٍ من تأثيراتٍ مختلفةٍ، كالوراثةِ والتّربيةِ والمحيطِ والعقلِ ذاتِهِ”: ([10])
” كُلَّما
أبْقَيْتُ في صحنيَ لُقمَهْ،
ضَرَبَتْني
الرّاهبهْ!
لمْ تَكُنْ تعلمُ أنّي اعتَدْتُ فيْ
البيتِ إذا نحنُ جَلَسْنا حولَ صَحنٍ واحدٍ،
فوقَ الحَصيرَهْ،
وأكلنا
جائِعينَ،
أنْ يُخَلّي كلُّ مَنْ يأكلُ منّا
لُقمةَ الصَّحنِ الأخيرهْ،
دائمًا
للآخرينْ.”( [11])
أمّا المشهدُ الأكثرُ تأثيرًا في النّفوسِ، فهو احتشادُ عصابةٍ مؤلّفةٍ من أدواتِ القراءةِ والكتابةِ، والمعنيّينَ بمتابعةِ شؤونِ الدّيرِ، والمُحيطينَ به، مؤتمرة من الرّاهبة، لمطاردتِهِ في محاولةِ هروبِهِ المعنويّة، من تلقّي العلمِ في يومِ عطلتِهِ:
” نادَتِ الرّاهبةُ الحِبرَ، ولوحَ الصَّفِّ،
والمِسطرةَ الحمراءَ، والدّفترَ، والقدّيسَ يوحنّا، وراعي الدَّيرِ، والقاضي،
ومُختارَ البَلَدْ.
طاردوني حافيًا،
كيْ يقتلوا فيَّ ولَدْ
هاربًا، خبّأَ في جَيبتِهِ
يومَ الأحَدْ.” ([12])
صحيحٌ أنّ هذه المشهديّةَ الشّعريّةَ تلوّنَتْ بحسِّ الفُكاهةِ، وبالرّمزيّةِ، ” التّي تحثُّ على دراسةِ المادّةِ دراسةً نفسيّةً”([13]) ، إلّا أنّها تنضوي على جروحٍ دفينةٍ تقضُّ مضجعَ الشّاعرِ الطّفلِ، إذْ صودرَتْ طفولتَه ولهوَه وتسلياتِه، بشكلٍ مفاجئ، لتنقلبَ حياتُهُ إلى الجدّيّةِ والمثابرةِ والمواظبةِ على التّعلّمِ قسرًا، وهو ما لم يجدْ وعيُ الطّفلِ المحدودِ له تفسيرًا، أو مبرّرًا منطقيًّا، يجعلُهُ يرغبُ في الصّبرِ والتّحمّلِ.
خلاصة الفصل: منَ الجليِّ أنّ طفولةَ الشّاعر جوزيف حرب انقسمَتْ إلى شطرينِ: واحدٍ عشّشَ في ذهنِهِ حولَ ماضٍ جميلٍ، وذكرياتٍ سعيدةٍ في أحضانِ عائلةٍ رحيمةٍ، وطبيعةٍ معطاءَ غنّاءَ ساحرة، وآخرَ باردٍ أجوفَ، يُعمِلُ في جسدِهِ ضربًا وذلًّا وقسوةً، وفي روحِهِ يُتمًا وحرمانًا وفي عقلِهِ حشوًا وإرهابًا حتّى غدا مشتّتَ الذّهنِ، يحيا انفصامًا قسريًّا في شخصيّةٍ لا تتقبّلُ الواقعَ المرير، ولا ترتضي الخروجَ من ماضٍ مشرقٍ أفلَ ولن يعودَ.
الفصلُ الثّاني: العائلةُ المقدّسةُ في شعرِهِ:
تمهيد: انتماءُ المرءِ إلى عائلةٍ بعينِها، هو ذلكَ الانتماءُ إلى أيقونةٍ مقدّسةٍ، لا يقوى على سلخِها من صدرِهِ، مهما ضاقَتْ بهِ الأحوالُ، واشتدَّ أُوارُ الأزماتِ والمِحَنِ، فمنها يستمدُّ القدرةَ على الثّباتِ والصّمودِ، وعلى المضيِّ قدمًا في دهاليزِ الحياةِ الملتوية، صعودًا وهبوطًا، وإذا ما حُرِمَ منها، أو من بعضِ أفرادِها، يساورُهُ الشّعورُ بالغربةِ والنّقصِ، ويفقدُ الرّغبةَ في الحياةِ، ويختفي من قلبِهِ ذلك الاندفاعُ المتحمّسُ للحياة.
والفقدُ لا يكونُ بالموتِ فقط، لأنَّ إقصاءَهُ عنها هو بمنزلةِ الموت مع فارقٍ بسيطٍ يتمثّلُ في عصفِ رياحِ الشّوقِ إليها، وتكليلِ سمائِهِ بسحابِ الأملِ في لقياها من جديدٍ.
إلّا أنّ هذا الأملَ سرعانَ ما يتلاشى ويندثرُ، إذْ يُعاينُ اصطحابَ الأهلِ رفقاءَهُ في الدّيرِ، وينتظرُ حتّى يملَّ الصّبرُ منه إقبالَ ذويه، ليخيبَ أملُهُ مع الغروبِ.
الفقرُ عدوُّهُ اللّدودُ، فلطالما حالَ بينَهُ وبينَ أحبّائِهِ لانعدامِ القدرةِ وخلوِّ الجيبِ من مقوّماتِ المجيء، فلا يلقى سوى خيالِه رفيقًا يؤازرُهُ في وحدتِهِ:
“… مضى أولادُهُم معهم. ووحدي لمْ
تقفْ سيّارةٌ من بيتِنا جنبَ الطّريقِ،
ولمْ يجئْ أهلي.”.( [14])
أمّا الزّمنُ، فهو بطيءٌ جدًّا، يُمعنُ في تعذيبِهِ ووحدتِهِ، ويزيدُ من شعورِهِ بالغربةِ، إذْ يحتسبُهُ بالثّواني والدّقائقِ والسّاعات، منذُ انتسابِهِ القسريّ إلى الدّيرِ، ذلكَ الكائنُ الّذي لم يساورْه الشّعورُ بالانتماءِ إليهِ يومًا، كبديلٍ عن دفءِ عائلتِهِ الحبيبة:
” … غادرتُهُم للدّيرِ من سنةٍ. غدًا سيصيرُ من سنةٍ
ويومٍ. بعدَ أُسبوعينِ سوفَ يصيرُ من يومٍ ومنْ
سنةٍ وأُسبوعينِ. كُلُّ دقيقةٍ تَمضي، سأشعرُ أنَّ
وقتَ فراقِهم قد صارَ أطولَ، أنّني ولدٌ بلا
أهلٍ ودَارْ…” ([15])
- الأب: لا شكَّ أنّ الأبَ عمادُ البيتِ وعمودُه، فهو القيِّمُ على شؤونِ تدبيرِهِ، والمعنيُّ الأوّل بتربيةِ الأبناء، وتختلفُ أساليبُ الآباءِ بهذا الخصوصِ، وفقَ قناعاتِهِم ووعيِهم وثقافتِهم، هذا ناهيك عن ظروفِهمُ الحياتيّةِ من يُسرٍ وعسرٍ، نظرًا لتأثُّرِهِم وقلقِهم على مستقبلِ أبنائِهم، خصوصًا في ظلِّ استباحةِ الفقرِ والعَوَزِ لحياتِهم، وذاك شأنُ والدِ الشّاعر الّذي ضمَّ التّعنيفَ الجسديَّ إلى مُعجمِ عقوباتِه لهم، كلّما تراءى له التّقاعسُ في الدّراسة:
“… وأبي يغضبُ كالرّيحِ إذا ضَيَّعْتُ
وقتي. وهو كالرّيحِ يلفُّ التّبغَ مِنْ عُلبتِهِ، يشربُ
دُخّانًا كثيرًا. يملأُ البيتَ بغيمٍ فيهِ قضبانٌ مِنَ
الرُّمّانِ يُلقي تحتَها ظَهري
ويُمطرْ…” ([16])
صورٌ مكثّفةٌ تنضحُ بالرّمزيّةِ، ضمّنها الشّاعرُ خلاصةَ الكآبةِ والهمِّ المتغلغلين في ذهنِ والدِهِ، والمستوطنَين صدرَه، من وضعِهِ المزري الّذي أعجزَهُ عن تأمينِ الرّفاهية لأبنائِهِ، ما جعلَه يدخّنُ همومَه بكثافةٍ، متوسّلًا سيجارةً لا تنطفئ، وما مبالغتُه في ضربِ الطّفلِ بعصا الرّمّانِ من دونِ هوادةٍ، سوى تعبيرٍ عن خوفِهِ المغروسِ في نفسِهِ، كسنديانةٍ عتيقةٍ من أنْ يكرّرَ التّاريخُ نفسَه مع هذا الأخير، فيعيشُ حياةَ الجهلِ والبساطةِ والفقر، وهو ما لا يرتضيه له نمطَ حياةٍ، إذ إنّهُ يطمحُ في التّغييرِ نحوَ الأفضل، ولنْ يكونَ ذلكَ إلّا بالتّعلّمِ الّذي حُرِمَ منه في الماضي، ليعوّضَ ما فاتَهُ من طموحاتٍ وآمال، عبر ولدِهِ.
لكنَّ هذه القسوةَ حين تنبعُ من قلبٍ رقيقٍ كقلبِ والدِهِ، لا تلبثُ أن تنتهيَ بدموعِ النّدمِ، فينسى الطّفلُ المعنّفُ طعمَ لسعاتِ قضيبِ الرّمّانِ، في غمرةِ الدّموعِ المترقرقةِ في مآقي الجاني:
“… ثمّ يبكي.
آهِ ما أقسى قضيبَ
الغَيمِ
في كَفِّ أبي.
آهِ ما أجملَ بعدَ الغَيمِ تلكَ
الزُّرقةَ الصّافيةَ الأعماقِ
في دَمعِ أبي…”( [17])
والطّفلُ غيرُ المدركِ بعدُ أهمّيّةَ العلمِ، له وجهةُ نظرٍ مختلفة، حيثُ نلفيهِ متوجّهًا إلى والدِهِ برسالةٍ ضمّنَها اقتراحاتِهِ، ناصحًا بتوفيرِ ما يدفعُه للدّيرِ من قسطٍ، للاستفادةِ منهُ في تحسينِ مستوى معيشتِهم، إذ يقولُ:
” … أَوَلَيسَ أفضلَ أيُّها الدّركيُّ
لوْ بالقسطِ أصلَحنا الشّبابيكَ المُخلّعةَ
العَتيقهْ؟
أَوَليسَ أفضلَ لو بسعرِ
البدلةِ الكُحليّةِ اتّسَعتْ أسِرَّتُنا، وصار لنا
مقاعدُ، أو بنينا غرفةً حتّى يصيرَ لنا
اثنتانِ، وخيمةً حتّى إذا خبزَتْ لنا
أمّي شتاءً،
لا يبلّلُها المطرْ؟”([18])
ويستيقظُ حسُّ الامتنانِ وتقديرُ التّضحياتِ الجليلةِ الّتي بذلَها والدُه، في نفسِهِ، إثرَ رحيلِهِ، فيتلمّسُ ذوبانَ روحِه وجسدِه في سبيلِ إنارةِ دربِهِ، حتّى لم يبقَ ما يذيبُهُ، فتمزّقُهُ الغصّة، ويؤلمُهُ الرّحيلُ إلى عالمِ اللّاعودة:
” … قُبيلَ رحيلِك،
أغرقْتَ روحَكَ بالدَّمعِ، كالشّمعِ، لمْ
يبقَ ما يتذوَّبُ فيكَ،
ولمْ يبقَ نورُ…”( [19])
يخيّمُ الفقرُ على سماءِ أسرةِ الطّفلِ الشّاعر، لكنَّ وجودَ سندٍ يعضدُها، يميطُ لثامَ أُوارِهِ، فيعلو به الأملُ المجنّحُ من دونِ جناحَينِ، مستترًا بضلوعِ أمٍّ حنونٍ، فلا يعودُ يستشعرُ ما هو فيهِ من حرمانٍ، لأنّ الأحلامَ تطيرُ بهِ فوقَ هشاشةِ الحياةِ، وانعدامِ الخير، وزوالِ المأوى.
وفي هذا الإطار، يعدُّ الشّاعرُ أنّ ” أقربَ صفةٍ للصّراعِ البشريِّ، هي صفةُ السّوقِ، ولأنّ السّلطةَ المنتصرةَ فيه هي سلطةُ اللّصِّ والظّالمِ والمستبدّ، فقدِ استغلّتْ هذه السّلطةُ أقصى قدرةٍ للطّاقةِ البشريّةِ على العملِ، مقابلَ أجرٍ مهينٍ، ممّا سبّبَ الفقرَ والأمراضَ والمجاعات…” : ([20])
” … وكانَ الفقرُ صيّادًا يُلاحقُنا.
فنعلو في سماءِ يَدَيْ أبي،
ونَغُطُّ خلفَ ضُلوعِ أُمّي…”.( [21])
والموتُ لم يحلْ بينَهُ وبينَ وصايا الرّاحل، إذ يتراءى له القبرُ ناطقًا بلسانِ والدِهِ، يذكّرُهُ بقيمٍ تربّى عليها، لا يريدُ له أن يتناساها مهما استبدَّ به الفقرُ، أو دعاهُ مغريًا إلى التّطاولِ على أرزاقِ الآخرين، ما يوحي بمضاعفةِ تقديرِ الشّاعرِ لوالدِهِ بعدَ حرمانِهِ منه، فـ ” الموتُ أهمُّ الأفكارِ إطلاقًا”([22]).
“… قصيرٌ لقاؤكَ قبرَ أبيكَ
قُبيلَ الرّحيلِ قصيرُ.
فلا تنسَ حِكمتَهُ حينَ قالَ لكَ
القبرُ: إيّاكَ أنْ يُغريَ اليدَ بالطُّولِ فيكَ
الفقيرُ”.([23])
ولا يلبثُ أنْ يدركَ أنّهُ أغنى النّاسِ جميعِهم، بفضلِ ما تلقّفَه من والدٍ، عجزَ البحرُ عن منحِه السّحابَ، في حينٍ منحَه والدُه بعظمتِهِ وحنوِّهِ، ليدركَ قيمتَهُ الحقيقيّة:
“… أنا
أغنى الخليقةِ يا أبي. لمْ يُعطِ بحرٌ غيمَهُ، ما أنتَ قدْ أعطيتَني
يا أيُّها الرّجلُ الفقيرُ…” ([24])
- الأُمّ: للأمِّ مكانةٌ عظيمةٌ في حياةِ أبنائِها، فهيَ نبعُ الحبِّ الّذي لا يجفُّ، وشعاعُ النّورِ الّذي لا يتلاشى، والعطاءُ الّذي لا ينضبُ، حتّى في ظلِّ حرمانِها ممّا ذُكرَ.
وصورةُ الأمّ لا تفارقُ الشّاعرَ في منفاه البعيد، تلاحقُهُ من مكانٍ إلى آخرَ، فتحرقُهُ الذّكرياتُ ويشدُّه الحنينُ، تتراءى له على مائدةِ الطّعامِ حيثُ هو، فتلامسُ تضحياتُها شِغافَ قلبِهِ، حين تدّعي الشّبعَ والاكتفاءَ، وهي في الواقعِ تتضوّرُ جوعًا، وتتناولُ ما تركَ أبناؤها من بقايا:
” … وأنا وحدي الّذي جاءَ منَ الأُمِّ الّتي
أولادُها إنْ جَلَسُوا للأكلِ قالَتْ إنّها
شَبعانةٌ. حتّى إذا ما شَبِعوا مَدَّتْ يَدًا
مُتعَبَةً تأكلُ فيها ما تبقّى
مِنْ طعامْ”.([25])
ويخشى من خشيةِ أُمِّه عليهِ، في اللّيالي الباردة، إذ يتضاعفُ شعورُهُ بالبردِ يلسعُ بدنَهُ، جرّاءَ وحدتِهِ واغترابِهِ، فلا يريدُ لها أن تقلقَ بشأنِهِ، يسعدُ لتدثّرِها بما يدفئُها، على الرّغمِ من حزنِها وهمِّها:
“…يا
أمّيَ البردُ قاسٍ، ودِفئُكِ أكثرُ هذا
المساءَ، فما عُدتُ طفلًا، وكلُّ اللّحافِ تَلفّينَ نفسكِ فيهِ.
ويُفرِحُني أنّكِ الآنَ دافئةٌ رغمَ حزنِكِ، يا
أمّي البُعدُ يجعلُ بردَ الفِراشِ أشدَّ، فلا تدعيني أمُرَّ ببالِكِ
أنّي بعيدٌ
وأنّي في البُعدِ عنكِ وحيدُ…”[26]
- الأُخت: علاقةٌ متينةٌ تربطُهُ بأختِهِ المقصيِّ عنها، ويؤلمُهُ معرفتُه المسبقةُ بحرمانِها من ملذّاتِ الحياة، إذ تتوقُ نفسُها إلى تذوّقِ حلوى حُرمَتْ منها، حتّى كادَتْ تنسى طعمَها:
” لم يزلْ
كالفَمِ
في وَجهي
معي
ذاكَ المساءْ،
عندما أُختي قالَتْ:” لمْ أذقْ قطعةَ حلوى منذُ شهرَينِ”.
وغصَّتْ بالبُكاءْ”([27]).
لم تسوّلْ له نفسُه يومًا خيانةَ الأمانة، وهو المكلّفُ بجمعِ النّذورِ الّتي كانَتْ تُقدَّمُ إلى الكنيسة، لكنَّ دموعَ الأختِ غاليةٌ جدًّا، تقلبُ الموازينَ، وتفرضُ أنماطًا مختلفةً من السّلوكِ، لم تكن لتصبح نهجًا لولاها:
” …. بعدَ ذاكَ الدّمعِ
في أجفانِ أُختي،
سَرَقَتْ كفّي مِنْ صينيّةِ
القشِّ الكبيرهْ،
نِصفَ ليرَهْ”([28]).
وبفضلِ تلكَ الهبةِ الّتي أضحى يعدُّها حقًّا لأختِهِ لدى المتبرّعين، أسبغَ الفرحَ على حياتِها، وصار وجهُها بهيًّا ساطعًا بالاكتفاءِ، فلم يتوانَ عن المواظبةِ على تكرارِ ما فعلَ، كلّ سبتٍ:
” … ثمّ أرمي في قميصي
نصفَ ليرهْ،
كنذورٍ وهِباتٍ من يدِ النّاسِ
لأُختي”.([29])
قناعاتٌ جديدةٌ أُقحمتْ في حياتِهِ، لم تكنْ سابقًا، وتبريرٌ مستوحًى من الفقرِ والعَوَزِ، فالحاجةُ تحرّكُ الغرائزَ في دروبِ إشباعِها، ولو بطرقٍ ملتويةٍ حينَ تلحُّ على صاحبِها.
خلاصةُ الفصل: يتّضحُ ممّا سبقَ، أنّ جوزيف حرب كان متعلّقًا جدًّا بعائلتِهِ، مرتبطًا بها، بعرى الحنينِ والحبِّ والانتماءِ في أبهى صورِهِ، فمنها يستمدُّ الطّمأنينةَ والأمان، الأمرُ الّذي يفسّرُ حالتَه النّفسيّةَ المتدهورةَ بعدَ انسلاخِهِ عنها، بفعلِ اصطحابِهِ إلى الدّيرِ للتّعلّمِ، ما جعلَهُ يشعرُ بمعاقبتِهِ على جريمةٍ لم يرتكبْها، فهو طفلٌ لا يعي أبعادَ هذا الأقصاء، ولا يقدرُ على تحديدِ أهدافِهِ البعيدةِ، إذ جلُّ ما يدركُهُ أنّهُ سيقَ كلصٍّ إلى زنزانةٍ مغلقةٍ، باردةٍ خاليةٍ من مشاعرَ اعتادَ تلقّفها مّمن حولَه.
لكنّهُ في وسطِ تساؤلاتٍ لا حصرَ لها، يقعُ على الحقيقةِ المرّة، فأهلُه كانوا أكثرَ فقرًا من الفقراءِ جميعِهم، لهولِ ما يقعُ على عواتِقِهم جرّاءَ ما يقدّمون من قسطٍ للدّيرِ لقاءَ تعلّمِه:
” … لم نكنْ أكثرَ فقرًا مِنْ سِوانا.
فلماذا كانَ أهلي مِثلَ ناياتِ المَراثي؟ ولماذا لمْ
تكنْ كنزاتُهُم كُلَّ شتاءٍ
غيرَ سَاعاتِ النّهارِ المُشمِسهْ؟
آهِ كَمْ أفقرَ أهلي،
وأنا في الدَّيرِ،
قِسطُ المَدرسَهْ.
الفصل الثّالث: انعكاسُ صورةِ الأرضِ في شعرِهِ:
تمهيد: الأرضُ هيَ أمُّ البشر، من طينِها جُبِلوا وإلى ثراها يعودونَ، بعدَ رحلةِ حياةٍ قصيرةٍ مهما طالَ أمدُها، لم تضنَّ عليهِم بخيراتِها، فانداحُوا منها يتغذّونَ ويتنامَونَ وعلى سطحِها يدرجونَ، وقدْ بنَوا لأجسادِهم مأوًى يقيهم عواملَ المناخِ المتقلّبة.
من هنا، نراهم وقدْ تعلّقُوا فيها برباطٍ لا يعرفُ فصامًا، مستشعرينَ الانتماءَ إليها، وانبثاقَ هويّتِهم من وجودِهم في ربوعِها، فحاربُوا لأجلِها على مرِّ الزّمنِ، لتضحيَ أشبهَ بالعرضِ، لا يحتملُ التّنازلَ، قيدَ أنملة.
وشاعرُنا ابنُ هذه الأرض، ارتبطَ بها بروحِهِ قبلَ جسدِهِ، فعاشتْ كائناتُها وعناصرُها في خيالِهِ، ليترجمَها شعرًا صادقًا ينضحُ بقرويّةِ الفطرةِ السّليمةِ، ويفوحُ منهُ عطرُ الياسمينِ وطعمُ القمحِ وسحرُ العرائشِ الملتفّةِ المتطاولة.
الأرضُ مصدرُ الخيرِ للإنسانِ: تحنو الغلالُ على الفقراءِ، فتضمُّهُم إليها برفقٍ وحبٍّ، مزيّنةً أمسياتِهم بما يلزمُها لتحلوَ وتطيب، ممّا لذَّ من الزّبيبِ، مقدّمةً إليهم مادّةَ الحياةِ الّتي لا غنى عنها، الطّحين عن طيبِ خاطرٍ واعدةً بالمزيد من حفاوةِ التّرابِ بِهِم، لتقرَّ أعينُهُم اكتفاءً:
” …وضمَّتْ غلالُ القُرى الفقراءَ، البيوتُ
تزيَّنَ فيها المَسا بالزَّبيبِ، الطّواحينُ راحَتْ تُنادي:
رحاي لَكُمْ،
عَرَقُ القلبِ، سوقُ الشّهورِ، زفافُ التّرابِ لكمْ
ولكمْ
كلُّ هذي الحقول،
وهذا الحصادْ”.([30])
والطّبيعةُ في رؤى الشّاعر، أشبهُ بمعبدٍ يمارسُ الفلّاحونَ فيهِ شعائرَهم، ويؤدّونَ طقوسَهم، فالعملُ في الأرضِ، والبذلُ في سبيلِ إحيائِها، وإخراجِ خيراتِها المكتنزةِ في أعماقِها، لا يكونُ إلّا بعرقِ السّواعدِ الّذي ينهمرُ فوقَها، فينبتُ قمحًا وزيتونًا وفاكهةً:
” … إذا ما الصّيفُ جاءَ، وأبرَقَتْ
فيهِم مناجلُهُم، وشاعَ حصادُهُم، نادَوا بأجنحةِ الطُّيورِ لكيْ تجيءَ
إلى كنائسِ قَمحِهِم في ديرِ بيدرِهِم، وأعطَوا نملَهُمْ
أكياسَهُ، ومَضَوا بما ذرَّوا منَ التِّبنِ الخفيفِ إلى
مواشيهِمْ، وساقُوا في المَساءِ حميرَهُم قدْ حُمِّلَتْ قمحًا
لمطبعةِ الطّواحينِ الغريقةِ…”. ([31])
فالصّيفُ فصلُ الحصادِ، والهممُ العاليةُ تكسبُ أصحابَها ما يرومونَ، لذا يراهم مندفعينَ إلى عِناقِ مناجِلِهم وسنابلِ القمحِ، مستخرجينَ لآلئَها المكنونةَ الكفيلةَ بإحيائِهِم.
رجالُ الأرض: يتغنّى الشّاعرُ برجالِ الأرضِ الّذينَ ينكبُّونَ على أعمالِهِم القاسيةِ بنشاطٍ، فلا يتكاسلون، أو يتوانونَ عنِ الحرثِ والرّيِّ، وهم إذ يفعلونَ ذلكَ، يحوّلونَ يباسَها إلى اخضرارٍ، وصخرَها إلى أرضٍ خصبةٍ صالحةٍ للزّراعةِ، وكأنّ العرَقَ المتصبّبَ من جباهِهم، غيومٌ تروي عطشَ أرضِهم، لتخجلَ من حبسِ عطائِها عنهم:
” … نُعطي المُروجَ الزّرعَ، والشّجرَ اخضرارَ
الأُمِّ، والصّخرَ انقسامَ الخُبزِ بينَ موائدِ الحيطانِ. كلُّ
جِباهِنا برقٌ. ومَا عَرَقُ الجِباهِ سوى غمامٍ، آهِ لمّا
في جِباهِ رجالِ هذي الأرضِ ينتشرُ الغَمامْ…”([32])
الأرضُ السّاحرةُ بجمالِها: لا ينظرُ الشّاعرُ إلى الأرضِ على أنّها مصدرُ الخيرِ والعطاءِ للإنسانِ فحسبُ، بل يراها أيقونةَ الجمالِ والجلالِ والسّحرِ، فهيَ موئِلُ الكائناتِ الحيّةِ بمقوّماتِها الطّبيعيّةِ البسيطة، يرتمي المتعَبُ بينَ أحضانِها، فيتلاشى ما يخامرُهُ من إرهاقٍ، ويلجأُ إليها العاشقُ الولهان، فتتجسّدُ فيها صورةُ محبوبتِه، إنّها الأُمُّ الّتي يتّسعُ حضنُها لأبنائِها على كثرتِهِم، فتحنو عليهم برأفةٍ وحبٍّ:
” … فألبسَتْ أشجارَها قمصانَها الخضراءَ،
حوَّلَتِ الحُقولَ إلى مقاعدَ
من رَكاياها الظِّلالُ،
ومن مسانِدِها الحفافي…”.( [33])
ولعلَّ هذا التّغنّي بروعةِ الأرضِ، يسدُّ بعضًا من الشّعورِ بالنّقصِ في حياتِهِ، إذ ” تتشكّلُ بدافعٍ من هذا الشّعور، في نفسيّةِ كلِّ إنسانٍ، أوالياتٌ خاصّةٌ لإقامةِ البناءِ الفوقيِّ النّفسيِّ التّعويضيّ، الّذي بفضلِهِ يجري تطوّرٌ لا واعٍ لنشاطِ الفردِ باتّجاهِ التّغلّبِ على النّقصِ”([34]).
خلاصة الفصل: تأسيسًا على ما سبقَ، يتجلّى حبُّ الشّاعرِ للأرضِ، ويتمظهرُ مدى عشقِه لها، لما تجودُ به من خيرِها على البشر، فبقدرِ ما يقدّمونَ إليها من عنايةٍ واهتمامٍ، يتلقَّونَ منها مادّةَ حياتِهم الضّروريّةَ للعيشِ.
من هنا، نلفيهِ داعيًا إلى الجودِ في العملِ بها، وعدمِ التّواني وإلى اللّجوءِ إليها في حالاتِ الفرحِ والتّرح، فهي بجمالاتِها تبلسمُ الجِراحَ، وتُنسي الهمومَ، مثلما تؤنسُ من ينادمُها، وتمنحُهُ الشّعورَ بالرّاحةِ والأمانِ.
الخاتمة
لا شكَّ أنَّ شاعرَنا أبدعَ في التّعبيرِ عن ذاتِهِ المثقلةِ بالوحدةِ والغربةِ والفقرِ في ظلِّ حياةٍ باردةٍ طويلةٍ قضاها في الدّيرِ مُجبَرًا، ولم يفقهْ لها تبريرًا بوعيِهِ الطّفوليِّ السّاذجِ آنذاكَ، لكنَّه لم يلبثْ أن أدركَ مرامَ ذويهِ من إقصائِهِ، ما جعلَهُ يغفرُ نادمًا على خسارةِ أبٍ عظيمٍ على بساطتِهِ، وأمٍّ رؤومٍ على ضيقِ ذاتِ يدِها.
وتتبدّى لنا ملامحُ العصرِ من ثنايا سطورِ كلماتِهِ، فنتلمّسُ الفقرَ المدقعَ يحيطُ بذويهِ، وبأهالي قريتِهِ والقرى المجاورة، إذ يسعونَ لتأمينِ قوتِ يومِهِم، متكبّدينَ التّعبَ، متعرّضينَ للاستغلالِ من القيّمينَ على الحكمِ، ومن بعضِ رجالِ الدّين، ولعلّ هذا يفسّرُ ما يشنُّهُ من حملاتٍ متمرّدةٍ على هؤلاءِ، في معرضِ ردِّ الفعلِ على الظّلمِ والتّسلّط.
ونوردُ أهمّ النّتائجِ المتأتّية من بحثِنا المتواضع:
– الشّعرُ صورةٌ حيّةٌ تنطقُ بحالاتِ صاحبِها، حيثُ تنعكسُ معاناتُهُ في ما يبدعُ.
– الأديبُ يتأثّرُ بالبيئةِ الّتي يُعايشُها، فيعبّرُ عنها في نتاجِهِ، وفقًا لما يعاينُهُ من وجهةِ نظرِهِ الخاصّةِ.
– لا بديلَ عنِ العائلةِ في حياةِ المرء، وليس ما ينسيهِ دفئَها وحنانَها، مهما بلغَ به البعدُ والتّنائي.
– الجروحُ الّتي تمعنُ في المبدعِ تعذيبًا، تتحوّلُ بفعلِ ساحرٍ إلى نتاجٍ خالدٍ، يتركُ بصمتَه على مرِّ الزّمنِ.
المصادر
1- حرب، جوزيف، شيخ الغيم وعكّازه الرّيح، ج1، رياض الرّيّس للكتب والنّشر، بيروت، لبنان، الطّبعة الأولى 2001.
2- …………، شيخ الغيم وعكّازه الرّيح، ج2، رياض الرّيّس للكتب والنّشر، بيروت، لبنان، الطّبعة الأولى 2001.
3- ………….، شجرة الأكاسيا، دار الفارابي، الطّبعة الأولى 1986، بيروت، لبنان.
4- ………….، المحبرة، رياض الرّيّس للكتب والنّشر، بيروت، لبنان، الطّبعة الأولى 2006.
المراجع
5- الحاوي، إيليّا، الرّمزيّة والسّرياليّة في الشّعرِ الغربيّ والعربيّ، دار الثّقافة، بيروت، لبنان، الطّبعة الثّانية 1983.
6- حبشي، دعيبس دياب، العقلُ والتّوازن، حركة الرّيف الثّقافيّة، لبنان، الطّبعة الأولى 2014.
7- حسين، محمّد طه، سيكولوجيّة الشّخصيّة، دار الحوار، اللّاذقيّة، سورية، الطّبعة الأولى 2017.
8- صبحي، محيي الدّين، جوزيف حرب وأمطار الوردة السّوداء، رياض الرّيّس للكتب والنّشر، بيروت، لبنان، الطّبعة الأولى 2008.
9- عزّام، محمّد، المنهج الموضوعيّ، منشورات اتّحاد الكتّاب العرب، الطّبعة الأولى 2007، بيروت، لبنان.
10- مغنية، أحمد جواد، الغربة في شعر محمود درويش، دار الفارابي، بيروت، لبنان، الطّبعة الأولى 2004.
11- ولسون، كولن، اللّامنتمي، دار الآداب، بيروت، لبنان، الطّبعة الخامسة 2004.
- – طالب في المعهد العالي للدكتوراه- الجامعة اللبنانيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة- قسم اللّغة العربيّة وآدابها[1]
- Étudiant à l’Institut Doctoral Supérieur – Université Libanaise des Arts, des Sciences et des Lettres Humaines – Département de Langue et Littérature Arabes..Email: haidari206@gmail.com
[2] – عزّام، محمّد، المنهج الموضوعيّ، منشورات اتّحاد الكتّاب العرب، الطّبعة الأولى 2007، بيروت، لبنان، ص 9.
[3]– حرب، جوزيف، شيخ الغيم وعكّازه الرّيح، ج1، رياض الرّيّس للكتب والنّشر، بيروت، لبنان، الطّبعة الأولى 2001، ص 21.
[4]– حرب، جوزيف، شيخ الغيم وعكّازه الرّيح، ج 1، ص 26 ـ 27.
[5] – حرب، جوزيف، شيخ الغيم وعكّازه الرّيح، ج 1، ص 30.
[6]– حرب، جوزيف، شيخ الغيم وعكّازه الرّيح، ج 1، ص 31.
[7] – مغنية، أحمد جواد، الغربة في شعر محمود درويش، دار الفارابي، بيروت، لبنان، الطّبعة الأولى 2004، ص 19.
[8] – حرب، جوزيف، شيخ الغيم وعكّازه الرّيح، ج 1، ص 38.
[9] – حسين، محمّد طه، سيكولوجيّة الشّخصيّة، دار الحوار، اللّاذقيّة، سورية، الطّبعة الأولى 2017، ص 24.
[10] – حبشي، دعيبس دياب، العقلُ والتّوازن، حركة الرّيف الثّقافيّة، لبنان، الطّبعة الأولى 2014، ص 43.
[11] – حرب، جوزيف، شيخ الغيم وعكّازه الرّيح، ج 1، ص 82 ـ 83.
[12] – حرب، جوزيف، شيخ الغيم وعكّازه الرّيح، ج 1، ص 108 ـ 109.
[13] – الحاوي، إيليّا، الرّمزيّة والسّرياليّة في الشّعرِ الغربيّ والعربيّ، دار الثّقافة، بيروت، لبنان، الطّبعة الثّانية 1983، ص 37.
[14] – حرب، جوزيف، شيخ الغيم وعكّازه الرّيح، ج1، ص 138.
[15] – م.ن. ص 233.
[16]– حرب، جوزيف، شيخ الغيم وعكّازه الرّيح، ج1، ص 267.
[17]– حرب، جوزيف، شيخ الغيم وعكّازه الرّيح، ج1، ص 268.
[18] – حرب، جوزيف، شيخ الغيم وعكّازه الرّيح، ج1، ص 53.
[19] – حرب، جوزيف، شيخ الغيم وعكّازه الرّيح، ج2، ص 154.
[20] – صبحي، محيي الدّين، جوزيف حرب وأمطار الوردة السّوداء، رياض الرّيّس للكتب والنّشر، بيروت، لبنان، الطّبعة الأولى 2008، ص 22.
[21] – حرب، جوزيف، شيخ الغيم وعكّازه الرّيح، ج2، ص 179.
[22] – ولسون، كولن، اللّامنتمي، دار الآداب، بيروت، لبنان، الطّبعة الخامسة 2004، ص 27.
[23]– حرب، جوزيف، شيخ الغيم وعكّازه الرّيح، ج2، ص 156.
[24] – حرب، جوزيف، شيخ الغيم وعكّازُهُ الرّيح،ج2، ص 314.
[25] – حرب، جوزيف، شيخ الغيم وعكّازُهُ الرّيح، ج1، ص 135.
[26]– حرب، جوزيف، شيخ الغيم وعكّازه الرّيح، ج2، ص 162.
[27] – حرب، جوزيف، شيخ الغيم وعكّازُهُ الرّيح، ج1 ، ص 125 ـ 126.
[28] – حرب، جوزيف، شيخ الغيم وعكّازُهُ الرّيح، ج1، ص 127 ـ 128.
[29] م. ن. ص 129.
[30] – حرب، جوزيف، شجرة الأكاسيا، دار الفارابي، الطّبعة الأولى 1986، بيروت، لبنان، ص 75.
[31] – حرب، جوزيف، شيخ الغيم وعكّازه الرّيح، ج2، ص 50.
[32]– حرب، جوزيف، شيخ الغيم وعكّازه الرّيح، ج2، ص 80.
[33] – حرب، جوزيف، المحبرة، رياض الرّيّس للكتب والنّشر، بيروت، لبنان، الطّبعة الأولى 2006، ص 87 ـ 88.
[34]– عبّاس، فيصل، العيادة النّفسيّة، دار المنهل اللّبنانيّ، بيروت، لبنان، الطّبعة الأولى 2002، ص 165.