تحليل الواقع اللبنانيّ من الناحية الاجتماعيّة والسياسيّة من خلال مسرحيّتي زياد الرحبانيّ “نزل السرور” و”بالنسبة لبكرا شو؟”
تحليل الواقع اللبنانيّ من الناحية الاجتماعيّة والسياسيّة من خلال مسرحيّتي زياد الرحبانيّ
“نزل السرور” و”بالنسبة لبكرا شو؟”
فاتن إرياض إسماعيل*
مقدّمة
لطالما امتاز المسرح بقدرته على تصوير واقع المجتمع وقضايا الوطن، فكان ساحةً حرّةً للفنّ الساخر والكوميديا السوداء، ويُعرف عن هذا النوع من الفنّ صعوبته، وتطلّبه الكثير من الحنكة والذكاء.
“زياد الرحبانيّ” اسمٌ لمع في عالم المسرح، امتازت مسرحيّاته بنكهةٍ خاصّة، واشتهرت بكونها تقدّم نقدًا ساخرًا لاذعًا للواقع اللبنانيّ. فزياد الذي عايش تردّدات أحداثٍ واضطراباتٍ وحروبٍ شهدها لبنان – بمضاعفاتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة – وجد نفسه متمرّدًا على القهر والظلم، تغلي فيه نزعةٌ ثورويةٌ ضدّ الاحتلال، والتبعيّة، والظلم الاجتماعيّ جسّدها بلغته الفنّيّة التي خلقها. “نزل السرور”، “بالنسبة لبكرا شو؟” مسرحيّتان من أعمال زياد الرحبانيّ جسّد فيهما واقع وطنه بإيقاعٍ كوميديّ ساخر، ستكونان محطّ اهتمام هذا البحث الذي سيطرح ويحلّل الواقع اللبنانيّ الاجتماعيّ، والسياسيّ من خلالهما، ملقيًا الضوء على أهمّيّة المسرح في معالجة قضايا الوطن، ودور الوعي الاجتماعيّ والسياسيّ للفنّان، كما يطرح عددًا من التساؤلات، منها:
– هل تعرّض زياد للمضايقات كضغط سياسيّ، أو اجتماعيّ عندما طرح لغته، ولونه في التعبير في مسرحيّاته؟
– هل واجه زياد انتقادات من عائلة “الرحابنة” عندما خرج عن المسار الفنّيّ الخاصّ المتعارف لديهم؟
– هل سيّر زياد الشعب بطريقةٍ غير مباشرة للقيام بالثورة خلال الحرب اللبنانيّة الأهليّة في السبعينيّات، وحثّهم على الانقلاب على النظام الذي ينتقده؟
– هل تحليلاته الواعية، ورؤيته المستقبليّة الدقيقة لوضع لبنان الاجتماعيّ، والسياسيّ التي نراها من خلال أعماله تعكس بأنّ زياد ينوي تأسيس مدرسة فنّيّة جديدة؟
لمحة تاريخيّة للوضع الاجتماعيّ والسياسيّ في لبنان من عام 1970 إلى 1980
قبل الحديث عن الوضع الاجتماعيّ، والسياسيّ في لبنان في الحِقبة الزمنيّة الممتدّة بين العامين 1970 و1980، لا بدّ من التطرّق ولو قليلًا إلى الأحداث التي سبقت هذه الحِقبة، ولا سيّما منها حرب 1967 التي انتهت بهزيمة العرب أمام العدوّ الإسرائيليّ، واحتلال أراضٍ عربيّة، وظهور فصائل مقاومة فلسطينيّة، وعربيّة لمقاومة الاحتلال الإسرائيليّ لاسترجاع الأراضي المحتلّة بعد أن عجزت الجيوش العربيّة عن ذلك.
وكذلك توقيع اتّفاق القاهرة عام 1969 بين الدولة اللبنانيّة، والمقاومة الفلسطينيّة لتنظيم العمل المسلّح، الذي بموجبه سمحت هذه الاتفاقيّة للمقاومة الفلسطينيّة بالانطلاق من الأراضي اللبنانيّة لمقاومة الاحتلال، وضربه في فلسطين المحتلّة، وتعاطفًا مع المقاومة الفلسطينيّة ظهرت في لبنان حركات مقاومة مسلمة في نهاية الستينيّات وبداية السبعينيّات، نادت وطالبت بالكفاح المسلّح لمقاومة الاحتلال، ورفض كلّ المساعي لأيّ حلّ سلميّ مع الاحتلال الإسرائيليّ، في المقابل ظهرت مواقف لفئات لبنانيّة ترفض التجاوزات الفلسطينيّة وعدّتها ضربًا للسيادة اللبنانيّة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* طالبة دكتوراه، الجامعة اللبنانيّة، كلّيّة الفنون.
كما تأثّر الوضع الاجتماعيّ، والسياسيّ في لبنان بنتائج حرب تشرين 1973، وما أفضت إليه من نتائج أعادت الاعتبار قليلًا للكرامة العربيّة.
إنّ لهذه الأحداث الآنف ذكرها تأثير كبير على الساحة اللبنانيّة، فقد انعكست على مواقف الفرقاء اللبنانيّين بين مؤيّد، ومعارض، ومتحفّظ على مجرى الأحداث، كما كان لها تأثير على الوضع السياسيّ والاجتماعيّ في لبنان، وتأثّر الوضع المعيشيّ للبنانيّين بتلك الأحداث بسبب التوتّرات، والأحداث التي كانت تحصل بين الحين والآخر، والخوف على مستقبل البلاد، عدا عن الإضرابات والاضطرابات كذلك في مناطق لبنانيّة عديدة انقسمت انقسامًا طائفيًّا بين مؤيّد لهذه الفئة السياسيّة، أو لتلك الفئة.[1]
إنّ هذه الاضطرابات التي حصلت في لبنان في بداية السبعينيّات وما رافق تلك الحِقبة الزمنيّة من فوضى انتشار السلاح بين اللبنانيّين، أدّى إلى ظهور دعوات للثورة على الوضع المعيشيّ الذي بدأ يضغط على حياة اللبنانيّين، ويهدّد لقمة عيشهم، وحياتهم، ومستقبلهم.
كما في الحِقبة ذاتها تعرّضت الدولة اللبنانيّة ومؤسّساتها لاجتياح طائفيّ فانفكّ رباط الوحدة الوطنيّة أو كاد، وعاد معظم اللبنانيّين إلى البيئة الطائفيّة، وبات لدى الكثير منهم مصلحة الطائفة فوق مصلحة الوطن. كما أنّ الأحداث التي حصلت في تلك الحِقبة أطاحت ببقايا السلم الأهليّ، والأمن الاجتماعيّ، وازداد الفقر، والخوف على المصير، والمستقبل.
الحرب اللبنانيّة الأهليّة 1975
13 نيسان 1975 تفجّرت الحرب التي أطلق عليها تسميات عدّة: حرب أهليّة، حرب طائفيّة، حرب الآخرين على أرض لبنان. دامت هذه الحرب أكثر من خمسة عشر عامًا، تخلّلها حوادث مفجعة مارسها اللبنانيّون على بعضهم، وغير اللبنانيّين على اللبنانيّين.
أحدثت هذه الحرب تغييرًا ديموغرافيًّا بين السكّان كما طاول هذا التغيير معظم المؤسّسات المدنيّة، والإداريّة، والعلميّة، والتجاريّة، واهتزّت المؤسّسات الأهليّة، وتزعزعت القِيَم والروابط الإنسانيّة بين أفراد الشعب.
بحلول هذا العام كان جزء مهمّ من سكان القرى قد أجبروا على الانتقال إلى المدن حيث لم يستطيعوا تدبّر فرص عمل إلاّ بصعوبة بالغة، وكانت هذه إحدى المشاكل الاجتماعيّة التي عانى منها المجتمع اللبنانيّ.
كما أنّ الطائفيّة التي اجتاحت مساحات واسعة من المجالات العديدة العامّة منها والخاصّة جعلت من لبنان ساحة للصراعات المحلّيّة والإقليميّة الدائمة.
ومن ناحية أخرى، كانت الحياة الثقافيّة، التي تأثّرت وتعطّلت وسائلها، حاضرة عند رجال الثقافة، والفنون الذين قاوموا الانهيار. فرجال المسرح كانوا يرفضون الحرب وأدّوا مسرحيّات لم تكن متحيّزة لجانب من دون الآخر، ولم تتّخذ منحىً طائفيًّا، ولم تهاجم أيّ دين، أو معتقد، أو سياسة، التي برز من بينها أعمال زياد الرحبانيّ المسرحيّة.[2]
زياد الرحبانيّ: حياته وتجربته المسرحيّة
ولد زياد الرحبانيّ عام 1956 في أنطلياس من رحم عائلة فنّيّة وموسيقيّة من أبوين هما عاصي وفيروز. تشبّع بالحوافز التي دفعته إلى العمل في المسرح، والتلحين، والتأليف الموسيقيّ. تعلّم العزف على البيانو على يد ريمون جلاليان وبدأ بتأسيس شخصيّته الموسيقيّة، وعلى الرغم من بداية زياد التي كانت متأثّرة بما قدّمه عاصي لها، وما قدّمته “المؤسّسة الرحبانيّة”، فإنّه لا يمكن إلحاق تجربته الفنّيّة بالمدرسة الرحبانيّة نفسها، لأنّ تجربته في كتابة الموسيقى، ومقاربة المسرح جاءت في سياق مختلف عن المسرح الغنائيّ الرحبانيّ، وطريقة معالجته ومواضيعه.[3]
أولى أعماله الفنّيّة
أولى أعمال زياد لم تكن عملًا موسيقيًّا، بل كانت أعمالًا شعريّة بعنوان “صديقي الله” الذي كتبه بين عامي 1967 و1968. هذه الأعمال التي كانت تنبئ بولادة “شاعر مهمّ”، لولا أنّه اختار الموسيقى فيما بعد. في عمر السابعة عشرة، أي في عام 1973 تحديدًا، قام زياد بتقديم أوّل لحن لوالدته فيروز. كان والده عاصي حينها في المشفى، وقد كان مقرّرًا لفيروز أن تؤدّي الدور الرئيس في مسرحيّة “المحطّة” للأخوين رحبانيّ. ولهذا كتب منصور (أحد الأخوين رحبانيّ) كلمات أغنية تعبّر فيها فيروز عن غياب عاصي لتغنّيها في المسرحيّة، وألقى بمَهَمَّة تلحينها إلى زياد. كانت تلك أغنية “سألوني الناس”.
لاقت تلك الأغنية نجاحًا كبيرًا، ودهش الجمهور للرصانة الموسيقيّة لابن السبعة عشر عامًا ذاك، وقدرته على إخراج لحن يضاهي ألحان والده، ولو أنّه قريب من المدرسة الرحبانيّة في التأليف الموسيقيّ.
وكان أوّل ظهور لزياد على المسرح في المسرحيّة ذاتها أي “المحطّة”، حيث أدّى فيها دور الشرطيّ. كما ظهر بعدها في “ميس الريم” بدور الشرطيّ أيضًا الذي يسأل فيروز عن “اسمها, عملها وضيعتها” في حوار ملحّن. وفي المسرحيّة ذاتها، قام زياد بكتابة موسيقى المقدّمة، التي أذهلت الجمهور بالإيقاع الموسيقيّ الجديد الذي يدخله هذا الشاب إلى مسرحيّات والده وعمه.[4]
التجربة المسرحيّة
طلبت إحدى الفرق المسرحيّة اللبنانيّة، التي كانت تقوم بإعادة تمثيل مسرحيّات الأخوين الرحبانيّ، من زياد أن تقوم ولو لمرّة واحدة على الأقلّ، بتمثيل مسرحيّة أصليّة، بنصّ جديد، وأغانٍ جديدة، وقِصّة جديدة. وكان جواب زياد إيجابيًّا، واستلم تلك المَهَمَّة، وقام بكتابة أولى مسرحيّاته “سهريّة”، وقد نسخت تلك المسرحيّة شكل مسرحيّات الأخوين رحبانيّ وتعاملت تمامًا مع مقولاتها فكانت كما يصف زياد “حفلة أغاني” لا أهمّيّة للقِصّة فيها بقدر ما هو مهمّ استمرار الأحداث كوسيلة لتمرير المقطوعات والأغاني.
بعدها توالت المسرحيّات، التي كان آخرها “لولا فسحة الأمل” عام 1994، ولكن بأسلوب مختلف جدًّا عن الأسلوب السابق (الرحبانيّ) فقد اتّخذت مسرحيّات زياد، الشكل السياسيّ الواقعيّ جدًّا، الذي يمسّ حياة الشعب اليوميّة، بعد أن كانت مسرحيّات الأخوين رحبانيّ تغوص في المثاليّة، وتبتعد قدر الإمكان عن الواقع، ويعيش فيها المشاهد خيالًا آخر وعالمًا آخر. هذا ما لم يقبله زياد لجمهوره، خصوصًا أنّ الحرب الأهليّة كانت قد بدأت. من هنا يمكن القول إنّ زياد الرحبانيّ شقّ طريقه الفنّيّ بنفسه، إذ لعب على وتر الفقر، والسياسة مكوّنًا مدرسةً فنّيّةً مقاومةً للظلم، ومجسّدةً الواقع السياسيّ والاقتصاديّ، والاجتماعيّ معطيًا لنفسه الحرّيّة المطلقة كفنّان، وشخصيّة اجتماعيّة.
الصحافيّ والسياسيّ
لم تقتصر أعمال زياد الرحبانيّ على الكتابة المسرحيّة، وكتابة الشعر، والموسيقى فكان الوجه الثاني لزياد هو “السياسيّ” وقد تميّز بجرأة قلّ نظيرها. أمّا زياد الرحبانيّ الصحفيّ الذي كتب في أكثر من جريدة لبنانيّة منها جريدة النداء، والنهار أثناء الوجود السوريّ في لبنان، فقد تميّزت كتاباته بالجرأة، والقدرة الهائلة على التوصيف. وقد كتب وما زال في جريدة الأخبار اللبنانيّة دعمًا لانطلاق الجريدة الجديدة في زحمة الإعلام والصحافة اللبنانيّة.[5]
الوعي الاجتماعيّ والسياسيّ والوعي الفنّيّ عند زياد الرحبانيّ
الوعي الاجتماعيّ ناتج عن فهم للبنية الاجتماعيّة الموجودة، والوعي الفنّيّ ناتج عن فهم بنية نوع محدّد من الفنّ على الأقلّ. والوعي الاجتماعيّ العاديّ هو وعي الفرد الذي يعدّ النظام الاجتماعيّ القائم أمرًا بديهيًّا لا يخطر له ببال أن يحاول تغييره. وكذلك فإنّ الوعي الفنّيّ العاديّ هو الوعي الذي يعدّ قواعد الفنّ السائد أمرًا بديهيًّا لا يتغيّر.
وزياد الرحبانيّ، كفرد، مثال على الإنسان الحائز على “وعي اجتماعيّ نقديّ” وهو بالتناقض مع “الوعي الاجتماعيّ العاديّ” لا يرى في النظام الاجتماعيّ القائم أمرًا بديهيًّا، وهو يرى إمكانيّة تغيير هذا النظام جذريًّا – أي تغيير أسسه، وإذا أخذنا كتابات زياد كمثال فإنّنا نرى بوضوح فاقع أنّ لزياد وعيًا فنّيًّا نقديًّا لا يقلّ في وضوحه عن وعيه الاجتماعيّ النقديّ[6].
كتب زياد وهو في الثانية عشرة “الإنسان متى عرف الحقائق، سقط عن سرير الأحلام”. بعد عامين على عرض “سهريّة”، اندلعت الحرب الأهليّة في لبنان فلم يعد يستطيع زياد الوقوف بعيدًا عن هموم الوطن، فراح يثقّف نفسه، يقرأ، ويسمع، ويراقب. فبنى لنفسه قناعات سياسيّة من وحي الفكر الماركسيّ يؤجّجها واقع البلد المشرذم الذي تسوده الطائفيّة والطبقيّة. وعندها استعان زياد بالكلمة بعدما شعر بأنّ الموسيقى وحدها لا تكفي، فكان المسرح الذي يخاطب الناس وسيلته المفضلة.[7]
من هنا يمكن القول إنّ فنّ زياد الرحبانيّ لم يكن منفصلًا عن رأيه في الحدث السياسيّ، ولا عن قناعاته الأيديولوجيّة، بل يمكن القول إنّ وعيه السياسيّ كان الدافع الأوّل له في خِياراته العابرة للفلكلور المحلّيّ، والمتجاوزة للهُويّة، وفي الانحياز نحو لغة متدنّية، شعبيّة، وشوارعيّة.
وقد استطاع مسرح زياد أن يكون مستشرفًا للآتي، وصادمًا، وتحريضيًّا، ومبتكرًا للغة تنقل الأحوال والتحولات الاجتماعيّة والسياسيّة إلى المتلقّي. ويمكن القول إنّ مسرحيّة “نزل السرور” تعكس هذا الوعي السياسيّ/ الاجتماعيّ إلى جانب الوعي الفنّيّ، فهذا العمل المسرحيّ كان مثل زلزال مسرحيّ، وسياسيّ، ولغويّ أطاح بالطمأنينة الكاذبة، وكشف عن الصدوع العميقة في المجتمع اللبنانيّ.
فجاء إلى منصّة العرض معه إلى جانب الكوميديا السياسيّة السوداء، براعة الموسيقى، وكلمات الأغنيات، وحدَّة اللغة المدهشة، والشخصيّات الحيّة[8].
في عام 1978، وبعد الحرب التي استمرّت سنتين (1976 – 1975)، وبعدما بات الحال في لبنان أشبه بالمستنقع، جاء سؤال زياد الرحبانيّ “بالنسبة لبكرا شو؟”، العمل المسرحيّ الذي يطرح الانحلال الأخلاقيّ، وغياب الأمن والمأزق المعيشيّ. وسيتناول البحث في ما يلي، تحليلًا لهذين العملين من حيث النصّ، والشخصيّات والارتباط بالواقع.
المسرح والمجتمع
تحدّث نقاد الأدب كثيرًا عن العلاقة بين الأدب والمجتمع. وتطوّرت الدراسات النقديّة في هذا المجال بتطوّر المعرفة البشريّة. على الرغم من أنّ دراسة العلاقة بين الأدب، والمجتمع قديمة، إلاّ أنّها أدخلت في القرن العشرين أفاقًا جديدة جعلتها مدار بحث بين كثير من المُهتمّين في الأدب.
فقد بدأ الحديث عن عنصر الصراع بوجه عامّ في مجال الحديث عن كثافة الارتباط بين المسرح، وتصوير الصراع الاجتماعيّ، بوصفه المقوّم الرئيس للعمل المسرحيّ، فشمل كلّ أنواع الصراع: الاجتماعيّ، والشخصيّ، والنفسيّ. ولكنّه لم يلبث أن تدرّج بعد ذلك ليصبح النوع الاجتماعيّ من هذا الصراع هو المقصود بصفة أساسيّة حين يأتى ذكر العلاقة بين المسرح والمجتمع.[9]
ويعدّ جورج لوكاش (G. Luckacs) فيلسوف الواقعيّة الأكبر في النصف الأوّل من القرن العشرين، وهو المُنظّر الأساسيّ لمبادئ المدرسة الجدليّة التي تعود إلى الفيلسوف الألمانيّ هيغل (Hegel)ورأيه الذي بلوره فيما بعد ماركس (Marx) في العلاقة بين البنى التحتيّة (علاقات الإنتاج، وقوى الإنتاج)، والبنى الفوقيّة (الثقافة، والفنون، والفلسفة)، فقد أوضح أنّ هذه العلاقة متبادلة، ومتفاعلة ما يجعلها علاقة جدليّة قائمة على التأثير والتأثّر.[10]
إنّ أيّ تغيير في البناء الاقتصاديّ، والاجتماعيّ يؤدّي إلى تغيير في شكل الوعي، فالواقع المادّيّ في تفاعل مستمرّ مع الأفكار. والتغيّرات التي تحدث في المجتمع نتيجة التحوّلات السياسيّة، والاقتصاديّة، والاجتماعيّة كلّها تؤثّر في الوضع الإنسانيّ، ومن ثَمَّ في شكل الدراما ومضمونها، وهذا يعني أن الأدب هو انعكاس للواقع الاجتماعيّ.
وقد أكّد هذا العالم الجديد على أنّ الأدب ليس نتاجًا فرديًّا، بل هو إنتاج جماعيّ، ومن هنا يتّضح أهمّيّة المجتمع في عمليّة الإبداع الفنّيّ بشكل عامّ، والإبداع الأدبيّ بشكل خاصّ، فالأدب يتأثّر بالأوضاع الاجتماعيّة، والتاريخيّة، وهو مشروط بالظروف الاجتماعيّة، والتاريخية. والعلاقة بين الأدب، والمجتمع هي علاقة تأثير وتأثّر، ويقول عالم الاجتماع الفرنسيّ إميل دور كايم (E.KEIM) إنّ الأدب إنتاج نسبيّ يخضع لظروف الزمان والمكان، وهو عمل له أصول خاصّة به، وله مدارسه، ولا يبنى على مخاطر العبقريّة الفرديّة، وهو اجتماعيّ أيضًا من ناحية أنّه يتطلّب جمهورًا يعجب به ويقدّره.
والمسرح بوصفه هو نشاط إنتاجيّ جماعيّ جدليّ تتحوّل فيه الممارسة الإبداعيّة إلى ممارسة اجتماعيّة معرفيّة عبر عمليّات الإرسال والتلقّي. وأكثر النظريّات تمثيلاً لهذا الاتّجاه هي “نظريّة الانعكاس” التي تهتمّ بالعلاقات، والنظم المادّيّة داخل المجتمع، ثمّ تبحث في طبيعة الصلات، والعلاقات المتبادلة بين المجتمع، والأدب من خلال رصد التأثيرات المتبادلة بينها، تلك الوظيفة التي تتبلور في مجال المسرح على أنّها الانعكاسات المتبادلة للمجتمع إرسالاً واستقبالاً، وامتطاءً للذات الاجتماعيّة لعلاقات الإنتاج، وانعكاسات الصراع الطبقيّ على بنية النصّ، أو العرض المسرحيّ.[11]
إنّ ما طرأ على المجتمع الإنسانيّ من تطوّر اقتصاديّ، وسياسيّ، وفكريّ في مطلع القرن العشرين، وما لحق به من حروب طاحنة عالميّة، ومحلّيّة، وما استجدّ من نظم سياسيّة، وما خاضته بعض الدول من ثورات، وصراعات لنيل الحرّيّة، والاستقلال كلّ ذلك فرض على الأديب دورًا فاعلاً في المجتمع الذي يعيش فيه، والمشاركة في قضاياه بما يضمن مواجهة الفساد. فالأدب أداة من أدوات الإصلاح الاجتماعيّ بوصفه وسيلة من وسائل الدعاية الثوريّة ضدّ الممارسات الفاسدة.[12]
البناء المسرحيّ في مسرح زياد (النصّ – الشخصيّات – الإخراج)
ترتكز أعمال زياد الرحبانيّ على النصّ المسرحيّ بشكل أساسيّ الذي تتكوّن بنيته من الحوار العفويّ، والسلس الممتلئ بالنكات اللاذعة، وقد استوحى زياد هذا الأسلوب من مارسيل بانيول (M.PANIOL) الذي تميَّز بصياغاته وحواراته المسرحيّة البعيدة عن اللغة الأدبيّة القريبة من لغة الشارع والناس.[13]
يذكر الدكتور نبيل أبو مراد في كتابه “المسرح اللبنانيّ في القرن العشرين”، أنّ أوّل ما يلفت في لغة زياد الرحبانيّ هو اقتراب نصّه من الحديث اليوميّ باستعمال مفردات يستعملها الإنسان في الشارع، والمتجر، والمصنع، وسيّارات الأجرة، أي إنّها لغة لصيقة بواقع الإنسان، لا تَكَلُّفَ فيها، ولا ادّعاء، ولا زخرفة كلاميّة.
ويقسّم زياد مسرحيّاته إلى فصول ومشاهد. ويقول إنّه يكتب نصوصه بعد أن يكون قد وضع القياسات الدقيقة، وحدّد الديكورات، والأكسسوارات حتّى تجيء الحوارات متوافقة في طولها مع المسافات المحدّدة. ويوافق زياد على أنّ الكلام في مسرحه يأتي في المرتبة الأولى قبل الحالة المشهديّة.
كما يبتعد الرحبانيّ عن المثاليّة في رسم الشخصيّات، فلا يلجأ إلى استخدام ممثّلين محترفين. في حين أنّ زياد لم يدرس التمثيل إلاّ أنّه عرف كيف يختار الشخصيّات التي يؤدّي دورها بما يتناسب مع شخصيّته، وإمكانيّاته، وأثبت مقدرة مذهلة في التمثيل، وخصوصًا في مجال التمثيل الكوميديّ. ففي “سهريّة” مثّل دور السكّير، وفي “نزل السرور” دور لاعب السباق البسيط، وفي “بالنسبة لبكرا شو؟” أدّى دور النادل، وفي “فيلم أميركي طويل” دور مريض نفسيّ. كلّها أدوار تستدر العطف، لكنّه جعلها شخصيّات كوميديّة[14].
يتميّز زياد بأسلوب في التمثيل يعتمد على الاسترخاء من خلال مظهر الوجه، فلا يلجأ إلى استعمال الإشارات، والتعابير مثل الضحك، والعبوس، والغمز، وهنا تكمن مقدرة زياد في إثارة الضحك من خلال وجه خالٍ من التعبير. ومن خلال إلقاء كلامٍ لا معنى له بإمكانه أن يقيم الجمهور ولا يقعده كما في “سهرية”، و”بالنسبة لبكرا شو؟”، و”نزل السرور”.
أمّا الإخراج فيلجأ الرحبانيّ إلى أسلوب إخراجيّ بسيط لا يتبع أيّ مرجع فنّيّ محدّد. ويؤكّد زياد افتقاره إلى أيّ معرفة نظريّة في المسرح وأصوله، واقتصار معرفته فقط بعمل واحد لستانسلافسكي (Stanislavski). ويصف الرحبانيّ إخراجه المسرحيّ بأنّه “تنفيذ حرفيّ للمعاني”.
ومع ذلك أظهر زياد مقدرة ومرونة في إخراج مسرحيّاته. وهو لم يستطع التعاون مع أحد المخرجين بسبب اختلاف في الرؤية، وبسبب حرصه على نصوصه في أن تؤدّي غايتها كما يراها هو. وهذا ما نراه في “بالنسبة لبكرا شو؟” حيث تبرز براعة زياد في إدارة ممثّليه وتركيب مشاهدها، خصوصًا أنّ النصّ، والمشاهد تتفرّع أحيانًا إلى موضوعات عدّة في المشهد الواحد. والشخصيّات، والأحداث تتداخل بعضها ببعض، فيخفت حوار هنا ليعلو حوار هناك، وتغيب شخصيّة لتحضر شخصيّة جديدة، كما المؤثّرات الموسيقيّة ترافق هذه التحوّلات، كذلك مؤثّرات الصوت والضوء.[15]
تحليل مسرحيّتي “نزل السرور” و”بالنسبة لبكرا شو؟”
اهتمّت مسرحيّة “نزل السرور” بمعالجة الواقع السياسيّ والاجتماعيّ بشكل مباشر، وقد اتّخذت الشكل السياسيّ الثوريّ الواقعيّ الذي يمسّ جوهر الشعب في حياته اليوميّة، ولم يكتفِ زياد بالأغاني الرائعة التي أدّى أغلبها الفنّان الراحل جوزف صقر، فأضاف إلى موسيقاه حوارًا عميقًا في دلالاته خصوصًا في آخر ربع ساعة من المسرحيّة.
وتأتي مسرحيّة “بالنسبة لبكرا شو؟” لتعالج الوضع الاجتماعيّ، والاقتصاديّ، والسياسيّ في تلك الفترة، وتقدّم رؤية موضوعيّة عن الصراع الطبقيّ في لبنان. ويقول زياد عن هذه المسرحيّة: “الأمر يبدو كأنّه مصيرك. وكأنّه مكتوب على اللبنانيّ ألاّ يحصل شيء في لبنان. كما لو أنّه من قبيل القدر أن يبقى وضع لبنان هكذا.”
وإذا كان زياد يحسب “نزل السرور” خاطئة سياسيّة، فإنّ “بالنسبة لبكرا شو؟” ليست أكثر من “حلقة سياسيّة على المسرح”.
مسرحيّة “نزل السرور” – الأجواء التي كانت سائدة في تلك الفترة
بدأ عرض مسرحيّة “نزل السرور” سنة 1974، وتدور أحداثها في فندق “نزل السرور”، حيث يجتمع أبطال المسرحيّة بقيادة الفنّان زياد الرحبانيّ في الفندق المذكور في فترة سادت فيها التظاهرات، والإضرابات، والاضطرابات، كما ساد في تلك الفترة الفكر الثوريّ التغييريّ.
إنّ القاسم المشترك لأبطال مسرحيّة “نزل السرور” هو الفقر والرضوخ للواقع المعيشيّ، والاقتصاديّ المتأزّم. إلى أن جاء عبّاس، وفريد في ظلّ الفوضى، واقتحموا الفندق، ووضعوا النزلاء أمام خِيار: إمّا الثورة وإمّا الموت.
وبعد مناقشات طويلة مع عبّاس، وإقناعه بواسطة النزلاء، لا سيّما رؤوف “وهو كثير الكلام” ومنظّر للثورة، تمكّنوا من رشوة عبّاس عن طريق سوسن التي وافقت على مصاحبته، وهي ابنة صاحب الفندق، وتمتلك المال الكثير. ولاحقًا تهرب سوسن من عبّاس، وتعود إلى الفندق لتخبر الجميع أنّ عبّاس عائد لكي يقتل الجميع. فيهرب الجميع ما عدا الراقصة تحيّات، وزكريا (زياد الرحبانيّ) الذي يتعاطى الحشيش، وقد اقتنع بوجوب القيام بالثورة.
ويسطع في المسرحيّة الحوار المؤثّر والهادف بين زكريا وفهد، وهو مساعد عبّاس، الذي صعد مع الراقصة ليناما. واستمرّ الحوار فترة برز خلالها فكر زياد الرحبانيّ، والرسالة التي يحاول إيصالها من خلال هذا الحوار الذي دار بينهما بعدما رفض زكريا الهرب رغم محاولات فهد لإقناعه.
في مسرحيّة “نزل السرور” كان لزياد الرحبانيّ رؤية خاصّة بالدافع السياسيّ، والاقتصاديّ، ويتبيّن من هذه الرؤية الثوريّة أنّها بعيدة عن الواقع اللبنانيّ، وأنّ زياد حاول أن يعطي شكلًا سياسيًّا مختلفًا للثورة لتتلائم مع الحياة اليوميّة للشعب اللبنانيّ.
لقد تضمّنت المسرحيّة منذ بدايتها حتّى نهايتها الكثير من الحوارات بين نزلاء الفندق، بالإضافة إلى الحوار المؤثّر في آخر المسرحيّة الذي دار بين زكريا (زياد)، وفهد الذي رافق عبّاس بدعوة النزلاء إلى الثورة وإلاّ الموت. حاول زياد من خلال هذا الحوار الإيحاء للجمهور أنّ الموضوع الذي يطرحه في المسرحيّة لا يهدف إلى إضحاك الجمهور بقدر ما يسعى إلى إظهار فكره الثوريّ اليساريّ، ولا سيّما أنّ طرحه هذا جاء في ظلّ وجود أشخاصّ من الطبقة الفقيرة التي تعاني من الخضوع للواقع المأسويّ على الصعيدين الاجتماعيّ والاقتصاديّ.
وما يؤكّد أنّ زياد كان يحاول طرح فكرة الثورة يومها هو مشهد اقتحام الفندق من قِبل عبّاس وفهد، الرجلان المطرودان من عملهما بسبب تحريض زملائهما على الثورة، وهما أيضًا من الطبقة المستهدفة في المسرحيّة، وهي طبقة الفقراء. كما أنّ باقي أحداث المسرحيّة تظهر، من وجهة نظر زياد، جبن الشعب وضعفه، وعدم قدرته على اتّخاذ قرارات مصيريّة تتعلّق بمستقبله، ومستقبل أولاده.
ولا بدّ من الإشارة إلى أهمّ ما تحمله مسرحيّة “نزل السرور” وهو التنبؤ الذي أخرجه زياد من ثنايا المسرحيّة، والأحداث، وهو التنبّؤ بالحرب، الحرب الأهليّة التي وقعت في نيسان 1975 أي بعد سنة من عرض مسرحيّة “نزل السرور”.
وفي إطار البحث في جوانب المسرحيّة كافّة، لا بدّ من ذكر الجانب الأجمل من المسرحيّة، وهو الأغاني الرائعة، والهادفة بمجملها التي أدّاها الفنّان الراحل “جوزف صقر”، صاحب الصوت الجيّاش المحاكي بكلمات الأغاني معاناة الشعب في تلك الفترة.
وبالعودة إلى شخصيّة زكريا التي أرادها زياد من أن تكون تجسيدًا لمعاناة الناس، فهذا الرجل ضاقت به السبل فلجأ إلى التحشيش، فطردته زوجته من المنزل بسبب سوء تصرّفاته التي كان سببها السكر ولعب القمار، بالإضافة إلى تقصيره في واجباته الزوجيّة والمنزليّة. هذه الشخصيّة وبسبب ما تعانيه نراه مقتنعًا بالثورة، وذلك لاعتقاده أنّ هذه الثورة ستؤمّن مستقبلاً أفضل له ولأولاده، في الوقت الذي لم يقتنع نزلاء الفندق فيها. وهذا ما يعكس تعلّق الكثير من اللبنانيّين بالتاريخ الذي يتكرّر، فينتظر اللبنانيّ دائمًا شيئًا سيأتي من الخارج ويقرّر مصيره. وقد ذكر زياد بلسان زكريا هذا الواقع بقوله: “أنا بعرفو تاريخنا ناطر كفّ من غيرنا”.
وفي نهاية المطاف، لا يجد النزلاء حلاًّ لورطة الاختيار بين الثورة والموت سوى رشوة “الثورجيّ” عبّاس بفتاة جميلة وهي سوسن، ليجسّد زياد ساخرًا هذا الواقع المخزي للشعب المتمسّك بواقعه وتاريخه، فيكون الحلّ تأجيل الثورة من أجل الثورة، الذي بالتالي سيؤدّي إلى اختفاء الثورة نهائيًّا، وهذا ما حصل عندما ذهب عبّاس مع سوسن لينال أموال أمّها، ويعود بعد هربها ليمضي ليلته مع الراقصة، ويقضي على ما تبقّى من مزاعم الثورة التي لم تلقَ أيّ نجاح.
إن مسرحيّة “نزل السرور” حاولت أن تعالج الدافع السياسيّ، والاجتماعيّ الذي كان سائدًا في تلك الحِقبة (1974) على الرغم من التناقضات التي احتوتها (مع الثورة – ضدّ الثورة) (مع الشعب – ضدّ الشعب)، وعلى الرغم من التوجه اليساريّ لكاتب المسرحيّة (زياد)، تعرّضت هذه المسرحيّة لانتقاد اليسار.
مسرحيّة “بالنسية لبكرا شو؟”
قلنا سابقًا بما يتعلّق بمسرحيّة “نزل السرور” التي عرضت على المسرح عام 1974، بأن زياد تنبأ بإندلاع الحرب اللبنانيّة. وبالفعل وفي عام 1975، وعلى أثر أحداث عين الرمانة، إندلعت الحرب الأهليّة اللبنانيّة، بين ما عرف باليسار واليمين اللبنانيّ.
وقد تسببت هذه الحرب بالكثير من المآسي، وانقسمت العاصمة بيروت إلى شطرين شرقيّ وغربيّ، وانقسم اللبنانيّون بين مقاتل، ومعارض للحرب، ومستفيد منها.
كما تسبّبت الحرب بانقسام إجماليّ حدّ بين طبقة استفادت من ويلات الحرب، وطبقة اجتماعيّة خسرت الكثير من مواردها فتحوّلت إلى طبقات فقيرة.
عانى لبنان خلال الحرب من حالات هجرة داخليّة وخارجيّة، ففي ظلّ عدم اهتمام الدولة بالأرياف، انتقلت العديد من العائلات إلى شطري العاصمة لتامين حاجيّاتها، كما أنّ الدولة لم تستطع بأجهزتها تأمين مستلزمات المواطنين لا سيّما الخدماتيّة منها.
انطلاقًا من هذه المقدّمة التي ستشكّل خلفيّة لمسرحيّة “بالنسبة لبكرا شو؟”، التي عرضت على المسرح عام 1978، على إثر انتهاء ما سمّي يومها بحرب السنتين (1975 – 1976)، وقد حاول زياد الرحبانيّ من خلال هذه المسرحيّة معالجة الوضع الاجتماعيّ، والسياسيّ، والاقتصاديّ، من خلال الفترة التي سادت في بداية الحرب الأهليّة، وما رافقها من صراع طبقيّ في لبنان، وما ألحقته الحرب من ضحايا، وأضرار بالمواطن اللبنانيّ، وبالمجتمع ككلّ. فكان اللبنانيّ ضحيّة لمجتمع يسوده صراع الطبقات الغنيّة والمسيطرة على البلد.
وقد أدّى هذا الصراع إلى انحدار المواطن الفقير والمسكين إلى درجات قد تضطرّه فيها إلى التخلّي حتّى عن كرامته، وشرفه مقابل الحصول على أدنى مقوّمات الحياة.
تدور أحداث مسرحيّة “بالنسبة لبكرا شو؟” في كباريه ليليّ، يرتاده زبائن من الشرائح الاجتماعيّة والجنسيّات المتعدّدة – لبنانيّة – فرنسيّة – أميركيّة – إسبانيّة – إنكليزيّة.
زكريا (زياد الرحبانيّ) يعمل “بارمان”، وزوجته ثريّا (نبيلة زيتون) تعمل كساقية، اضطرّهما ضيق العيش، والحياة إلى المجيء من الريف إلى المدينة، إلى شارع الحمرا بالذات، الذي عُرف يومها بأنّه الشريان الرئيس للحياة في الشطر الغربيّ من بيروت، ليعملا في هذا “الكاباريه” الذي يملكه شخص يدعى خواجة عدنان (غازاروس الطونيان)، ويديره السيّد (بطرس فرح).
وحاول الزوجان زكريا وثريّا الارتقاء إلى مستوى معيشيّ لتأمين الحدّ الأدنى من مقوّمات الحياة لأجل أولادهما. وهذا ما دفع زكريا إلى تقديم الكثير من التنازلات لأجل الوصول إلى مبتغاهما. وهذه التنازلات ليست بالأمر السهل، فأن يتنازل عنها المواطن، لأنّها تتعلّق بالشرف، والكرامة، وروابط الحبّ بين الزوجين، وأمور أخرى. وإنّما أراد زياد الرحبانيّ من خلال هذه المسرحيّة في السياق التاريخيّ الذي أتت فيه، تسليط الضوء على الواقع الاجتماعيّ، والسياسيّ، والاقتصاديّ في تلك الحِقبة (1978)، وما كان يعانيه المواطن اللبنانيّ من صراع طبقيّ، وغيره من الصراعات التي خلّفتها الحرب بين شرائح المجتمع اللبنانيّ المتعدّدة.
هذه الحرب وما أدت إليه من مآسٍ، جعلت المواطن اللبنانيّ يفقد الحدّ الأدنى من مقوّمات العيش الكريم، ما دفعه إلى التنازل حتّى عن كرامته، وشرفه لتأمين حياة كريمة.
ويسلّط زياد الضوء في هذه المسرحيّة أيضًا على الهجرة من لبنان، فقد بدأت فكرة الهجرة تراود المواطن اللبنانيّ لأنّه لم يجد في بلده دولة تؤمّن له العيش الكريم.
في مسرحيّة “بالنسبة لبكرا شو؟”، يطرح زياد الرحبانيّ سؤالاً: ماذا بالنسبة إلى مستقبل البلاد؟ وهذا هو محور المسرحيّة أي ما هي الأحداث التي ستقبل عليها البلاد؟ سؤال طرحه زياد في سياق معالجة الوضع الاجتماعيّ، والاقتصاديّ، والسياسيّ للبنان في العام 1978.
وهذا السؤال طرح للمناقشة في “الكباريه” الذي يعمل فيه زكريا وزوجته ثريّا. فنجد مثلًا الطبّاخ نجيب (رفيق نجم) والنادل رضا (سامي حواط) اللذين يعانيان كزكريا من الهموم ذاتها. كما نجد الشاعر أسامة (فايق حميصيّ) الذي يعمل في كتابة الشعر والصحافة، كما نجد بائع الخضار رامز (جوزف صقر) صاحب الصوت العذب الذي غنّى أغاني المسرحيّة.
بالإضافة إلى الزبائن اللبنانيّين الذين يرتادون “الكباريه”، كالدركيّ لطف الله، والريس أنور، بعض الجنسيّات الأجنبيّة.
إنّ مسرحيّة “بالنسبة لبكرا شو؟” هي مرآة تعكس معاناة المجتمع اللبنانيّ، فهي تحاكي الواقع اللبنانيّ بخاصّة، والواقع العربيّ عامّة من منظور ساخر، مضحك ومبكٍ في آن، وهي تعبّر عن يوميّات المواطن اللبنانيّ في تلك الحِقبة من خلال الرسائل الاجتماعيّة، والسياسيّة التي وجّهها زياد فهي تُظهر الحالة الإنسانيّة، والنفسيّة التي يعيشها زكريا وثريّا، وتفكيرهما الدائم في مستقبل أولادهما.
لقد سمّيت هذه المسرحيّة بعفويّة وصراحة لافتتين، وفي نهايتها وإن كنت تضحك على حال زكريا وبساطته، إلاّ أنّك قد تتعاطف مع قضيّته، وهي قضيّة فئة كبيرة من الشعب اللبنانيّ الذي يعيش في واقع يحكم فيه القويّ على الضعيف، والغنيّ يأكل مال الفقير، ويعاني من إذلال قد يدفعه إلى التنازل عن أيّ شيء، كما وقد يؤدّي به الحال إلى ارتكاب جريمة، أو إلى الهجرة وترك البلاد.
الخاتمة
يندرج العمل المسرحيّ ضمن الأعمال الفنّيّة التي تحاكي بمواضيعها ظواهر إنسانيّة واجتماعيّة وسياسيّة عديدة. وفي حين تشير الدراسات التي تطال المعرفة البشريّة إلى العلاقة القديمة بين الأدب والمجتمع، يأتي المسرح ليشكّل أحد عناصر هذه العلاقة، والمقوّم الرئيس في تصوير الواقع الاجتماعيّ أو الاقتصاديّ أو السياسيّ.
وبعد الاطّلاع على هذه العلاقة والتأكيد على دور المسرح في طرح شؤون المجتمع ومعالجتها، ودوره في نقل واقع الشعب وما يعانيه، وما يطمح إلى تغييره، يمكننا الحديث عن بعض هذه الأعمال المسرحيّة التي ظهرت في فترة معيّنة وكان لها تأثير استمرّ إلى يومنا، التي تناول البحث منها مسرحيّتين لزياد الرحبانيّ.
وبعد مناقشة المسرحيّتين موضوع البحث؛ “نزل السرور” و”بالنسبة لبكرا شو؟”، يمكننا استخلاص الدور الذي يقوم به المسرح وتأكيده في المجتمع. فقد شكّلت هاتان المسرحيّتان تجسيدًا دقيقًا، ونقلًا واقعيًّا لواقعٍ عاشه المواطن اللبنانيّ في فترة زمنيّة كانت البلاد تمرّ فيها بأزماتٍ اجتماعيّة، وسياسيّة، واقتصاديّة، وذلك من خلال نصٍّ وشخصيّاتٍ أبدع الكاتب والمؤلّف زياد الرحبانيّ في اختلاقها.
“نزل السرور” المسرحيّة التي أحدثت ثورةً – وإن لم تكن حقيقيّةً – كانت شعلةً أوجدها زياد في فكر الحضور. وثقافته. أمّا “بالنسبة لبكرا شو؟”، فهذا السؤال الذي ما زال حاضرًا إلى يومنا هذا، والذي كان يحمل في طيّاته رؤيةً مستقبليّةً، ووعيًا اجتماعيًّا، وسياسيًّا واضحًا. فهذا التساؤل حول “بكرا” في المسرحيّة هو الذي أعطى العمل مُناخ القلق الذي يتعلّق بمفهوم الوجود عمومًا، فالسؤال أمام المصير المقبل، والمنتظر كان هاجس الإنسان المفكّر على الدوام.
من هنا، وبعد هذه الأعمال، سيتركّز اهتمام زياد الرحبانيّ على مثل هذه القضايا الاجتماعيّة والإنسانيّة، وهو الذي يمتلك قدرةً في أداء الأدوار في مسرحيّاته، والدخول بعمق في الشخصيّة حيث يؤدّيها بصدق كبير، فالتمثيل بالنسبة إليه مَهَمَّة عليه القيام بها لتنفيذ رؤياه المسرحيّة بما يتناسب مع رؤياه الفكريّة. لكنّه في النهاية يحبّ الجمهور، وقد أوجد بينه، وبين جمهوره العريض صلات وثيقة لم يعرفها مسرحيّ لبنانيّ من قبل على الإطلاق.
ويبقى زياد بفكرهِ ثورة على الواقع الاجتماعيّ السياسيّ السيّئ، وتبقى مسرحيّاتُهُ المجسِّدة لفكرِهِ هذا؛ محاولةُ ثورة.
قائمة المصادر والمراجع
- المصادر والمراجع باللغة العربيّة:
- مينارغ آلان، أسرار حرب لبنان، المكتبة الدوليّة، بيروت، 2006.
- د. أبو مراد نبيل، المسرح اللبنانيّ في القرن العشرين، شركة الطبع والنشر اللبنانيّة، بيروت، 2002.
- قاسم هاشم، الظاهرة الرحبانيّة، مسيرة ونهضة، مكتبة بيسان، بيروت، 2018.
- الحاج حسن حسين، علم الاجتماع الأدبيّ، المؤسّسة الجامعيّة للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1983.
- المقالات والأبحاث:
- شاويش محمّد، زياد الرحبانيّ بين الوعي التاريخيّ – السياسيّ والفعل الفنّيّ، برلين، 2008.
- حركة أمل، ظاهرة المخلّص بين الفرد والمجتمع، مجلّة كلّيّة الآداب، المجلّد الحادي والخمسون، جامعة الإسكندريّة، 2000.
- حجّاج إبراهيم، المسرح والمجتمع، 2010.
- الساحليّ حسن ، “بالنسبة لبكرا شو؟” الإخراج المسرحيّ المخفيّ، 8 – 1 – 2016.
- المواقع الإلكترونيّة:
1 مينارغ آلان، أسرار حرب لبنان، المكتبة الدوليّة، بيروت، 2006، ص 200.
2 د. أبو مراد نبيل، المسرح اللبنانيّ في القرن العشرين، شركة الطبع والنشر اللبنانيّة، بيروت، 2002، ص 615.
3 قاسم هاشم، الظاهرة الرحبانيّة، مسيرة ونهضة، مكتبة بيسان، بيروت، 2018، ص 253 – 254.
زياد – رحبانيّ، تاريخ زيارة الموقع: 4- 1- 2019 www.marefa.org/4
5 زياد ـــــ رحبانيّ، تاريخ زيارة الموقع: 4 – 1 – 2019 www.marefa.org/
[6] شاويش محمّد، زياد الرحبانيّ بين الوعي التاريخيّ – السياسيّ والفعل الفنّيّ، برلين، 2008، نقلًا عن:pulpit.alwatanvoice.com/articles، تاريخ زيارة الموقع: 4 – 1 – 2019.
7 د. أبو مراد نبيل، المسرح اللبنانيّ في القرن العشرين، شركة الطبع والنشر اللبنانيّة، بيروت، 2002، ص 272.
[8] شاويش محمّد، زياد الرحبانيّ بين الوعي التاريخيّ – السياسيّ والفعل الفنّيّ، برلين، 2008، نقلًا عن:pulpit.alwatanvoice.com/articles، تاريخ زيارة الموقع: 4 – 1 – 2019.
9 حركة أمل، ظاهرة المخلّص بين الفرد والمجتمع، مجلّة كلّيّة الآداب، المجلّد الحادي والخمسون، جامعة الإسكندريّة، 2000، ص7.
[10] حجاج إبراهيم، المسرح والمجتمع، 2010، نقلاً عن: www.m.ahewar.org ، تاريخ زيارة الموقع: 4 – 1 – 2019.
12 الحاج حسن حسين، علم الاجتماع الأدبيّ، المؤسّسة الجامعيّة للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1983، ص 261.
13 حسن الساحليّ “بالنسبة لبكرا شو؟” الإخراج المسرحيّ المخفيّ، 8 – 1 – 2016، نقلًا عن: www.almodon.com، بتاريخ: 4 – 1 – 2019.