العمليّة التعلميّة في لجّة الذكاء الاصطناعيّ
The learning process in the heart of artificial intelligence
Lubna Mahmoud Al Awar لبنى محمود الأعور ([1])
تاريخ الإرسال: 12-12-2023 تاريخ القبول: 23-12- 2023
ملخص
هيمنت التكنولوجيا على تمفصلات حياتنا اليوميّة كافة، وشيئًا فشيئًا صار الذكاء الاصطناعي ضرورةً في كل ميادين الحياة وليس التعليم استثناءً. على الرّغم من أن معظم المؤسسات التعليميّة ما زالت قلقة من دخول الذكاء الاصطناعي على العمليّة التعلميّة لما يُتيحه من إمكانية للغش، وانعكاساته السلبيّة على عمليات التفكير والتحليل والنقد، إلّا أنّه لا بدّ من الاعتراف بالعديد من إيجابياته، مثل توفير الوقت والجهد ومساعدة المعلمين والمتعلمين في توفير تعليم أفضل وأكثر تخصصًا، إذا ما استخدم بالشّكل الصحيح.
الكلمات المفاتيح: الذكاء الاصطناعي، العمليّة التعلميّة، شات جي بي تي.
Abstract
Technology has dominated all the details of our daily lives, and little by little artificial intelligence became a necessity in all fields of life, and education is not an exception. Although most educational institutions are still concerned about the introduction of artificial intelligence into the learning system, due to the possibility of cheating and its negative repercussions on the processes of thinking, analysis and criticism. Many of its positive aspects must be recognized, such as saving time and effort and helping teachers and students to benefit from a better specialized educational system, when correctly use
Keywords: Artificial intelligence, learning process, chat GPT.
مقدّمة
غزت التكنولوجيا حياتنا، فبتنا نعيش في عالمٍ رقميّ. ويعود الفضل لها في الرخاء والرفاهية التي نعيشها حاليًّا. لقد أثّرت التكنولوجيا اليوم على كلّ جانب من جوانب الحياة تقريبًا، فتغلغل التطوّر التكنولوجيّ الهائل في مجالاتٍ عديدة كالتعليم والترجمة والطب والرعاية الصحيّة وحتّى في تفاصيل الحياة اليوميّة. هذا، وتقنيات الذكاء الاصطناعي لا تزال في مهدها. وهنا يُستثار التساؤل الكبير، هل يمكن لهذا الذكاء الاصطناعيّ أن يستحوذ على وظائف الإنسان، ويحلّ مكانه في القريب العاجل؟ خاصة، وأنه يعمل بفاعليّة أكبر وبدوام كامل على مدار السّاعة، ولا يتقاضى راتبًا شهريًا؟ أم أنّه سيكون الآلة التي تدعم جهود الإنسان وتطوّر قدراته، فتوفّر وقته وماله وطاقته؟ وهل سيغيّر شكل العمليّة التعلميّة، والعمل، والحياة بشكل عام؟
إنّ البحث في هذا المضمار يطول، ولكن ما يهمنا في مبحثنا هو تأثير التّطور التكنولوجي على العمليّة التعلميّة بشكل خاص. يمكننا ممّا سبق صياغة الإشكالية على النحو الآتي:
هل من مفرّ من استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في العمليّة التّعلميّة؟ وهل تأثير هذا الذّكاء إيجابيّ أم سلبيّ على التعليم والمُتعلمين؟
منهجيّة البحث: تتداخل التكنولوجيا الحديثة وآخر ابتكاراتها بالتّعليم وعملياته القديمة نسبيًّا في مبحثنا هذا. ولكي نرصد هذا التّنوع في الميادين توخّينا في بحثنا، بشكل مبدئيّ، استخدام المنهج الوصفيّ التّحليلي Descriptive Analytic Method الذي كان البوصلة في فهم سير العمليّة التعلميّة وآخر انتاجات الذكاء الاصطناعي، ووسيلتنا النّاجعة في الغوص في هذه الطرق والانتاجات، وقراءة تأثير الأخيرة على الأولى بما تيسّر لنا من الفهم والتّحليل. بالإضافة إلى المنهج التّاريخي والمنهج المقارن اللذين ساهما مع المنهج التحليليّ في تتبع مسار العمليّة التعلميّة بشكل عام ونتائج تقاطعها مع التكنولوجيا في محطات عديدة، مما يحافظ على شروط الموضوعية الفكريّة، اللّازمة لكل بحث.
الذكاء الاصطناعيّ قمة التكنولوجيا، فما هو هذا الذكاء وبما يتميّز؟
الذّكاء الاصطناعي هو محاكاة عمليات الذّكاء البشري بواسطة الآلات، وخاصة أنظمة الكمبيوتر. وهو يتمثّل بخوارزميّة أو ما يُعرف باللغة الإنكليزيّة بالـ(Algorithm) ، وهي مجموعة من التّعليمات والخطوات البرمجيّة التي يجب اتباعها بالتّرتيب الصّحيح، لإكمال مهمة معينة. ويسمح هذا النّوع الجديد من الذّكاء، للأجهزة الإلكترونيّة أن تُفكّر، وتتصرّف، وتستجيب كما لو أنّها إنسان. ويقول “إد برنز” (Ed Burns): “إنّ الذّكاء الاصطناعي تطوّر وصل إلى مرحلة يستطيع فيها تقليد البشر، فيكون أسرع من الإنسان، لأنه مرتكز على ما يُسمّى بالـ (Machine Learning) التي تسمح بتلقينه بيانات مترابطة. إذ يمكن تزويد أجهزة الحاسوب بكميات هائلة من المعلومات والبيانات، ليتمّ تدريبها على تحديد الأنماط الموجودة فيها، وتصبح قادرة بعد ذلك على إنتاج توقعات، وحلّ المشكلات، وحتى التعلّم من أخطائها”([2]).
يمكن لتقنيات الذّكاء الاصطناعي التّوليديّة التي تستطيع أن تنتج محتويات عديدة الجديدة والمتطورة بسرعة، إنتاج نصوص وصور ورسوم وموسيقى، ووسائط أخرى واقعيّة. وهذا يعني أنّ الذّكاء الاصطناعي، أصبح قادرًا على إنتاج مقالات في مختلف المجالات، وكتابة القصص والروايات، والقيام بأبحاث ودراسات في مختلف الاختصاصات، ووضع خطط هندسيّة معمارية كاملة وحتى كتابة الشعر وتأليف الموسيقى ورسم لوحات فتيّة. وقد افتُتح بالفعل أول معرض فنيّ لرسومات الروبوت “أيدا” (Ai-Da) .
قد يتوهّم البعض للوهلة الأولى أنّ التكنولوجيا لم تتغلغل في صميم العمليّة التعلميّة، ولم تفعل شيئًا لتغيير التعليم. وأن العلم ما زال بمنأى عن التّطور الفعليّ. إذ يبدو التعليم، في بعض النواحي، راسخَا على رتابته التي بقي عليها قرونَا طويلة. ولتبيان مقصدنا، يمكننا الاستعانة بلوحة لورينتيوس دي فولتولينا (Laurentius de Voltolina)([3]) من القرن الرابع عشر، والتي يصوّر فيها محاضرة جامعيّة في إيطاليا في العصور الوسطى. يمكن التعرّف على المشهد بسهولة بسبب تشابهه مع العصر الحديث. يلقي المعلم محاضرته من على منصة في مقدمة القاعة، بينما يجلس الطلاب في صفوف ويستمعون، الكتب مفتوحة أمام بعض الطلاب الذين يصغون للمعلّم، أقليّة يبدو عليها الملل، والبعض يتحدث مع رفاقه، ويبدو أحدهم نائمًا.
لا تبدو الفصول الدراسية اليوم مختلفة كثيرًا، على الرّغم من أنك قد تجد الطلاب المعاصرين قد استبدلوا الكتب بأجهزة الكمبيوتر المحمولة أو الأجهزة اللوحيّة أو الهواتف الذكيّة. (والتي ربما تكون متصلة بوسائل التواصل أو الألعاب).
ومع ذلك، في نواحٍ عديدة، أحدثت التكنولوجيا تغييرًا عميقًا في التّعليم. فمن ناحية، ساهمت التّكنولوجيا في توسيع نطاق الوصول إلى التّعليم بشكل كبير. كانت الكتب نادرة في العصور الوسطى، ولم يتمكن سوى نخبة قليلة من الوصول إلى الفرص التّعليميّة. وكان التعلّم محصورًا بالأفراد القادرين على السّفر إلى مراكز التعليم. اليوم، تتوفر كميات هائلة من المعلومات (الكتب، والملفات الصوتيّة، والصّور، ومقاطع الفيديو) في متناول اليد عبر الإنترنت، كما تتوفر فرص التعلّم والتّخصص عبر الإنترنت في أنحاء العالم جميعها من خلال عدد من الأكاديميات (مثل أكاديمية خان، وMOOCs و Hub spot) والدورات المفتوحة عبر الإنترنت، والمدونات الصوتيّة (البرودكست)، والمواقع التّعليميّة المتخصصة، والكثير غيرها. وتعدّ القدرة في الوصول إلى فرص التعلّم اليوم، أمرًا غير مسبوق بفضل التكنولوجيا التي تشمل غالبيّة المواضيع على مساحة العالم.
كما ساهمت التكنولوجيا في توسيع فرص التّواصل والتّعاون العلميّ. لقد كانت الفصول الدّراسيّة تقليديّةَ معزولةً نسبيَّا، وكان التّعاون مقتصرًا على الطلاب في الفصل الدراسي نفسه أو المدرسة أو المبنى الجامعيّ.
تتيح التكنولوجيا اليوم أشكالًا من التواصل والتعاون لم نكن نحلم بها في الماضي. فلم تعد جدران الفصول الدراسية عائقًا حيث تتيح التكنولوجيا طرقًا جديدة للتعلّم والتواصل والعمل بشكل تعاوني في إعداد الأبحاث وتبادل المعلومات من مصادر في مختلف أقطار الأرض، ما يتيح تعلّم أفضل وأشمل.
بدأت التّكنولوجيا اليوم في تغيير أدوار المعلمين والمتعلمين في الفصول الدّراسية التقليديّة، المعلّم هو المصدر الأساسيّ للمعلومات، كما في لوحة دي فولتولينا، ويقتصر دور المتعلمين على التّلقيّ السلبيّ. هذا النموذج للمعلم بوصفه “الحكيم العارف على المسرح” موجود في التّعليم منذ مدّة طويلة، ولا يزال واضحًا إلى حدّ كبير حتى اليوم. ومع ذلك، نظرًا لإمكانيّة الوصول إلى المعلومات والفرص التّعلميّة التي أتاحتها التّكنولوجيا، نرى في العديد من الفصول الدّراسيّة اليوم، أنّ دور المعلم يتحول إلى “المرشد” إذ يتحمّل الطلاب المزيد من المسؤوليّة عن تعلّمهم باستخدام التّكنولوجيا لجمع المعلومات ذات الصّلة. وقد بدأت بالفعل معظم البلدان في إعادة تصميم مناهجها المدرسيّة، والجامعيّة لدعم هذا النموذج الجديد من التعليم، وتعزيز التّفاعل والعمل الجماعي المصغّر، واستخدام التكنولوجيا كعامل تمكين.
رويدًا رويدًا بدأ التّعليم يستوعب دور التكنولوجيا ويهضم تطبيقاتها المساعدة في العمليّة التعلميّة، وعلى الأخصّ بعد اجتياح فيروس كورونا العالم، ولجوء المدارس والجامعات إلى التعلّم من بعد. ولكن ظهور تطبيق الـ “تشات جي بي تي” (Chat GPT-3) أعاد خلط الأوراق، ووضع التعليم في مأزق حرج وأزمة حقيقيّة. فما هو هذا “تشات جي بي تي” الذي وصفه قطب التكنولوجيا إيلون ماسك (Elon Musk) على منصة تويتر بأنّه “جيد بشكل مخيف”؟
طورت شركة أبحاث الذكاء الاصطناعي “أوبن أيه آي” (Open AI) تقنية الـ “تشات جي بي تي” في 30 تشرين الثاني 2022. والـ “تشات جي بي تي” هو روبوت “دردشة”. وهذا الرّوبوت أو البرنامج يعمل باستخدام الذكاء الاصطناعي، إذ يتحاور مع المستخدم ويجيب على كل ما يطرح عليه من أسئلة بطريقة مفصّلة وواضحة. وهو قادر على تذكّر كلّ ما يطرح عليه من أسئلة خلال الحوار الذي يحصل وكأنّه بين شخصين. وفي حال إعطاء معلومات خاطئة يسمح للمستخدم بتصحيحه، ويعتذر عن تلك الأخطاء.
تمكّن هذا البرنامج في أقل من عام، من هزّ العالم كما نعرفه. فالشركة المصنّعة طرحته للاستخدام المجاني، ما جعل إمكانية الوصول إلى هذه المنصّة متاحة للجميع. ويمكن لأيّ كان إدخال المبتغى الذي يريده، والحصول على الإجابات التي أُسِّست على الفور بناءً على استفساراته. ببضع كلمات فقط، يمكنك الحصول على إجابات ومراجع في ثوانٍ. وهو ما جعل المستخدمين يعكفون عليه بنَهم، وبلغ عدد مستخدميه خلال شهرين أكثر من 100 مليون مستخدم. وقد وُصف من العديد من المتخصصين بأنه أفضل ما طُرح من نوعه على الإطلاق.
فما هي ميزات وقدرات التشات جي بي تي؟ ولماذا أثار مخاوف البعض وخاصة القيّميين على التعليم؟
لقد درّبت الشركة المصنّعة هذا النموذج باستخدام كميات هائلة من المعلومات المتاحة على شبكة الإنترنت وغيرها من المصادر العامة، بما في ذلك حوارات ومحادثات بين البشر، بحيث أصبح قادرًا على إنتاج نصوص أشبه بالنّصوص البشريّة من خلال تعلّم خوارزميات تقوم بتحليل عدد هائل من البيانات، ويعمل بصورة تشبه عمل الدماغ البشريّ. (وهو ما حدا بجيفري هينتون ([4]) Geoffrey Hinton في أيار الماضي إلى تقديم استقالته من شركة غوغل محذرًا من أن روبوتات الدردشة الذكية يمكن أن تصبح قريبًا أكثر ذكاء من البشر).
وعلى الرّغم من أن فكرة روبوت الدّردشة ليست بالجديدة، فإنّ ما يميز تشات جي بي تي من غيره هو قدرته الفائقة والفوريّة على شرح مفاهيم معقدة بكلمات بسيطة، وبإنتاج محتوى، بلغة متقنة، من دون الاقتباس المباشر من مصادر أخرى. ( ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّه غير متصل بشبكة الإنترنت، وإن كان قد غُذِّي ببيانات موجودة عليها).
تشمل استخدامات التشات جي بي تي الكثير من المجالات بطرق عديدة مرنة وعمليّة – من شرح مفاهيم علميّة معقدة إلى كتابة أكواد (رموز رقمية) تستخدم في البرمجة، إلى كتابة مقالات وقصائد وقصص جديدة بأيّ أسلوب تتخيله، وحتى تأليف دعابات عن أي موضوع تحدّده له. وهو ما سمح لهذا البرنامج بنموذجه اللغوي المميّز، أن يصبح سريعًا أداة عمل يمكن استخدامها في العديد من المجالات، بدءًا من المبيعات والتّسويق وحتى الوسائط والترفيه والكثير غيرها. وإنجاز أي بحث باستخدام التشات جي بي تي لا يستغرق أكثر من ثوانٍ معدودة حتى لو كان بحثًا متخصصًا كبير الحجم. وإن كان البحث غير كافٍ أو غير موسّع كل ما عليك فعله هو طلب المزيد.
من هنا يمكن أن نفهم القلق المتزايد بشأن تأثير (ChatGPT) على التعليم. وقد أشار مقال حديث على Fox Business، إلى المخاوف الأساسية التي تتمثل في “أن الطلاب سيبذلون جهدًا أقل أو حتى يستخدمون هذه المنصة كطريق مختصر”([5]). ولقد ذكّر المقال كيف تُعُمِل مع ويكبيديا عندما استخدمت للمرّة الأولى كمصدر مرجعيّ، وكيف قوبلت بالموقف الحذر نفسه.
ولكن هذه المقارنة لا يمكن أن تخفف من قلق المعلمين المتزايد من استخدام الطلاب لتشات جي بي تي كأداة “للغش” في الواجبات المنزلية، وحلّ المسائل العلميّة، وكتابة المواضيع والأبحاث والدراسات وحتى رسائل الماجستير والدكتوراه. وتقديم ما قاموا بأخذه من التطبيق كمهمتهم النهائيّة من دون أن يقوموا بأي مداخلات أو تحليل أو أي تفكير نقدي كجزء من العمليّة.
فهل فَرض الذكاء الاصطناعي نفسه على أنظمة التعليم من دون أن نشعر؟ وهل ستقوم التطبيقات الذكيّة بإنجاز كل ما هو مطلوب من المتعلمين في التخصصات كافة في دراستهم؟
غيّر الذكاء الاصطناعي قواعد اللعبة في كثير من قطاعات الحياة المختلفة. وقطاع التعليم ليس بمنأى عن هذه التحولات الكبيرة، إذ بات الكثير من طلبة المدارس والجامعات يستخدمون تلك الأدوات في دراستهم وإنجاز واجباتهم المنزليّة. فهل يمكن القول إنه من الخطأ الاستعانة بأدوات الذكاء الاصطناعي في العمليّة التعليميّة؟
يتميّز التشات جي بي تي بأنّه يستطيع تقديم كمّ هائل من المعلومات دون الانتقال من موقع إلى آخر. لذا يلجأ إليه طلاب اليوم بشكل كبير. وقد وجدت صحيفة فاريستي الطلابية التابعة لجامعة كامبريدج (Varsity Cambridge Newspaper)، أن 47.3% من طلاب الجامعة، استخدموا أدوات الذكاء الاصطناعي كوسيلة مساعدة لإكمال مساراتهم الدراسية. وترى الصحيفة “أن مهارات الذكاء الاصطناعي لا تقتصر على كتابة المقالات والأوراق البحثية، بل تتعداها إلى إنشاء برامج حاسوبية خلال ثوان معدودة، وتحويل كلمات المستخدمين إلى صور وتصميمات فنيّة إبداعيّة كما في برنامجي (Dall-E) و(Midjourney) وغيرها العديد”([6]).
هل من مفرّ من استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي؟ هل من سبيل لإبعاد هذا الجيل الإلكتروني من هذه الثورة التكنولوجية”؟
يؤكّد الطلاب في استطلاع صحيفة فاريستي لجامعة كامبريدج، أنّهم “سوف يستمرون باستخدام البرنامج ولكن ضمن حدود المعقول، لأنّ الاعتماد الكامل عليه، قد يكون سببًا رئيسًا في جعلهم أشخاصًا خاملين لا يبذلون أيّ مجهود في سبيل المعرفة”. فهو سهل، سريع ولكن..
واستخدام الذكاء الاصطناعي لا يقتصر على الطلبة. إذ بيّن استطلاع رأي أجراه مركز “إمباكت للأبحاث” في الولايات الأمريكية، “أن المعلمين باتوا يعتمدون على منصة الذكاء الاصطناعي بشكل أكبر من الطلاب. وكشف الاستطلاع أن 51% من المعلمين استخدموا منصة تشات جي بي تي في التحضير والتخطيط لحصصهم الدراسيّة([7])“.
استطاعت برامج الذكاء الحاليّة اجتياز المهارات الأساسية في هرم بلوم، وترى خبيرة الذكاء الاصطناعي الدكتورة منى الضميدي، أن هذا الأمر قد يعني إقصاء مهارات الحفظ والفهم والاستنتاج من الأهداف التعليميّة خلال السنوات القليلة القادمة([8]). ولكن هذا الذكاء ما زال يفتقر لمهارات متقدمة، مثل مهارة التقييم والتفكير النقدّي. ومن المؤكّد أنه في حال الاعتماد شبه الكليّ على هذه البرامج، قد يؤدي إلى ضعف المهارات العليا مثل التحليل والاستنتاج والتفكير النقدي، عند الطلبة كما عند المعلمين.
شكّل استخدام برنامج تشات جي بي تي هاجسًا عند بعض المؤسسات التعليميّة، في ما يتعلق بالنزاهة الأكاديمية والسرقات الأدبية. وقد قام معهد الدراسات السياسيّة في باريس المعروف باسم “سيانس بو” (Sciences Po)، بحظر استخدام تشات جي بي تي. ووضعت برامج لكشف النصوص المكتوبة آليا مثل ZeroGPT، للحدّ من الظاهرة السرقة الأدبية والغش.
هل هذا يعني ضرورة استبعاد التشات جي بي تي تمامًا من التعليم؟
طبعًا لا يمكن أن يكون ذلك منطقيًّا ولا ضروريًّا، إذا استُخدِمت هذه الأداة بحسن نيّة واتُخِذتِ الاحتياطات اللازمة، للتأكد من أنها تظل أداة مساعدة وليست عكازًا، ولا عملًا كاملًا منجزًا. بهذه الطريقة يمكن لكل من المعلمين والطلاب جني فوائد في التعليم من التشات جي بي تي.
في الواقع، لا بدّ لنا من التكيّف مع عاصفة التّغيير، واستعمال هذا البرنامج بطريقة فعّالة في التعليم ويمكن أن يحدث ثورة في عملية التعلّم، ويكون جزءًا من أدوات التعلّم الرّقميّة في الفصل الدراسي وفي تحضير الواجبات المنزلية والأبحاث وغيرها.
نشرت صحيفة نيويورك تايمز مقالة ذكرت فيها مثالًا جيدًا لتطبيق التشات جي بي تي. “فبدلًا من استخدامه لإنتاج المهمة المطلوبة بشكلها النهائيّ، يمكن أن يصبح أداة للمعلمين والطلاب لإنشاء الخطوط العريضة للعمل لتوجيه عملية إنشاء المحتوى الخاص بهم” ([9]).
ومن المتوقع أن يتضاعف تأثير الذكاء الاصطناعي في التعليم في القادم من الأيام، خاصة مع تطور تقنيات هذا الأخير. ولهذا التأثير أوجهٌ إيجابيّة وأخرى سلبيّة.
هناك العديد من الإيجابيات التي يمكن أن تقدّمها التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في مجال التعليم مثل:
- توفير إمكانيات أفضل للتعلّم والقيام بالأبحاث والدّراسات: تمكّن التكنولوجيا والإنترنت والذكاء الاصطناعي الطلاب من الوصول إلى معلومات وتحليلات، والقيام بدراسات معمّقة بسهولة ويسر، لم يعهدوه من قبل. ما يساهم في سهولة التعلّم وإمكانيته حتى للأفراد الذين يعيشون في مناطق نائية أو غير ميسّرة بموارد التّعليم.
- تعليم شخصي متخصّص: باستخدام التّحليلات والذّكاء الاصطناعي، يمكن للمعلمين تقديم تعليم مخصّص لكل طالب بشكل فرديّ بناءً على احتياجاته الخاصة ومستواه الأكاديمي([10]). وهو ما سيزيد من فعالية التعلم.
- تحسين تجربة التعلم: يتيح الذّكاء الاصطناعي للطلاب تجارب تعلّم مبتكرة من خلال تقنيات الواقع الافتراضي، والواقع المعزّز، والتعلم من بُعد، ما يوسع آفاق التعليم ويجعله أكثر تفاعلًا وتشويقًا([11]).
- موارد تعليميّة متاحة على نطاق واسع: ستتيح التكنولوجيا الوصول السهل إلى موارد تعليميّة عالية الجودة عبر الإنترنت، ما يقلل من الفجوة التعليمية ويسمح للأفراد بالتعلّم في أي وقت ومن أي مكان([12]).
- تحسين أداء المعلمين وأدوات تقيمهم: يسمح الذّكاء الاصطناعي للمعلمين باستخدام البيانات، والتحليلات لتحسين تدريسهم وتكييفه مع احتياجات الطلاب بشكل أفضل. وتقديم ملاحظات دقيقة وفعّالة تساعدهم في تحسين طرائقهم ووسائل الإيضاح التي يستخدمونها([13]).
- تعزيز التعلم على مدار الحياة: يمكن للتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي توفير فرص للتعلم المستمر وتطوير المهارات طوال حياة الفرد.
- توفير الوقت والجهد: قد يكون من إنجازات الذكاء الاصطناعي المهمّة، هو توفير وقت المعلمين والطلاب من خلال الأدوات والبرمجيات التّعليميّة التي تسهّل إعداد المواد وتقديمها([14]).
تؤكّد هذه الإيجابيات أهمية الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في تحسين تجربة التعلم وتوفير فرص تعليميّة أكثر فعالية. ومع ذلك لا يمكن بأي شكل من الأشكال غض البصر عن سلبيات استخدام الذكاء الاصطناعي في مجال التعليم، وهي بالمناسبة عديدة:
- تجاهل الجوانب الاجتماعيّة والإنسانيّة: قد يؤدي التّركيز الزائد على التكنولوجيا إلى إهمال الجوانب الاجتماعيّة والإنسانيّة في التعليم، مثل التّفاعل بين الطلاب والمعلمين وتطوير المهارات الشّخصيّة والاجتماعيّة([15]).
- اعتماد كبير على التكنولوجيا: في بعض الأحيان، يمكن أن يؤدي الاعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي إلى تراجع المهارات العقليّة المتقدمة عند الطلاب، وخاصة مهارة التحليل والاستنتاج والتفكير الناقد([16]).
- قلق بشأن الخصوصيّة: مع التكنولوجيا المتقدمة يأتي تهديد أمان البيانات، وخاصة عندما يتعلق الأمر ببيانات الطلاب وسجلات التعلّم. فالتعلم الآلي يسهّل الوصول إلى المعلومات والانتاجات الخاصة ، ما يتطلب معالجة وإدارة جيدة لحماية البيانات الشّخصيّة([17]).
- انعكاسات اجتماعيّة واقتصاديّة: قد يؤدي تحسين التكنولوجيا إلى تغييرات في سوق العمل وفقدان بعض الوظائف التقليدية، مثل الوظائف التعليميّة، التي قد تستبدل بالذكاء الاصطناعي. وقد بدأت بالفعل بعض المؤسسات التعليميّة باستبدال المعلمين بالروبوتات. ولا يقتصر الأمر على الوظائف التعليميّة دون غيرها، فمن المتوقع أن يجتاح الذكاء الاصطناعي 300 مليون وظيفة ويحلّ مكانها بدوام كامل([18]).
- تقليل التّفاعل الإنساني: قد يؤدي التّركيز الزائد على التكنولوجيا إلى تقليل التّفاعل الإنساني المباشر بين الطلاب والمعلمين وزملاء الدراسة. مما قد يؤثر على تجربة التعلّم والتّفاعل([19]). وقد بدأت بالفعل الدّعوات إلى أنسنة التكنولوجيا.
- إمكانيّة التّضليل: يعطي التّشات جي بي تي في بعض الأحيان إجابات خاطئة، ما يعجل من التّحقق والتّأكد من المعلومات أمرًا ضروريًّا. كما تبيّن، أنّه في يعض الأحيان، يعطي مراجع غير صحيحة أو دقيقة أو حتى موجودة في الواقع([20]). فوجب الحذر والتّدقيق في المراجع والمصادر كافة والتي يعطيها هذا التطبيق.
- إمكانيّة التّحيّز: إنّ التشات جي بي تي، مثله مثل البرامج الذكيّة كافة، قد يتحيّز لجانب من جوانب النقاش أو تحليلًا باتجاه معيّن، بناءً على معطيات مبرمج عليها. لذا لا يمكن اعتماد المعلومات التي يعطيها على أنها نهائيّة حاسمة أو حتى عادلة([21]).
على الرغم من أن التكنولوجيا والذّكاء الاصطناعي قد يكونان إضافة قيّمة للتعليم، لكن يجب مراعاة هذه السّلبيات وتطوير الاستراتيجيات، للحدّ من تأثيرها وتحقيق أقصى استفادة من الفوائد. ولا يجب استخدام التشات جي بي تي على أنّه عمل نهائيّ منجز ولكن كمساعد في العمليّة التعلميّة. وبشكل خاص يجب مراعاة التوازن بين التكنولوجيا والتّفاعل الإنساني في التعليم لضمان تحقيق أقصى فوائد التكنولوجيا مع الحفاظ على الأبعاد الإنسانيّة في عمليّة التعلّم.
ونتساءل أخيرًا لماذا يخشى النقاد من أن يكون الذكاء الاصطناعي خطيرًا؟
قليلة هي القواعد التنظيميّة المتبعة لاستخدام الذكاء الاصطناعي، لذلك حذّر الخبراء من أنّ تطوره السريع قد يكون خطيرًا. وقد نشر مركز أمان الذّكاء الاصطناعي (CAIS) – ومقره الولايات المتحدة – بيانًا عبر موقعه الإلكتروني، أيده العشرات من المتخصصين التكنولوجيين البارزين. جاء فيه: “أن استخدام الذكاء الاصطناعي قد يولّد معلومات خاطئة من شأنها أن تزعزع استقرار المجتمع، وفي أسوأ السيناريوهات، قال الخبراء إن هذه الآلات قد تصبح ذكية للغاية وهي تتولى زمام الأمور، ما قد يؤدي إلى انقراض البشرية”.
ترى رئيسة قطاع التكنولوجيا في الاتحاد الأوروبي مارغريت فيستاجر (Margrethe Vestager)([22]) أنّه لا بدّ من وضع “حواجز حماية” لمواجهة مخاطر الذّكاء الاصطناعي. وقالت في مقابلة لبي بي سي(BBC): “إنّ قدرة الذكاء الاصطناعي على تضخيم التحيّز أو التميّيز أصبحت مصدر قلق كبير، وسببًا ملحًّا لإيجاد حلّ”. وبالفعل، صوّت مؤخرًا أعضاء البرلمان الأوروبي لصالح قانون الذكاء الاصطناعي الذي اقترحه الاتحاد الأوروبي، وهذا القانون – الأول من نوعه – سيضع إطارًا قانونيًّا صارمًا يحكم استخدام الذكاء الاصطناعي، كما سيتعين على الشركات الامتثال له.
في المقابل يرى آخرون، إنه لا ينبغي لنا أن نشعر بنوع من “الهستيريا والهلع” بشأن الذكاء الاصطناعي، مثل رائدة التكنولوجيا مارثا لين فوكس (Martha Lane Fox) ، التي حثّت على التعامل مع قدرات الذكاء الاصطناعي بطريقة أكثر منطقيّة.
الخاتمة
سيدلو المستقبل بدلوه حول دور الذكاء الاصطناعي في نواحي حياة الإنسان كافة. والإنسان وحده، هو الذي يقرّر ويحدّد هذا الدور، من صنّاع البرامج، والشركات المصنّعة وحتى المستخدمين واحتياجاتهم. فهل سيتمتّع إنسان الحاضر والمستقبل بأخلاقيات لضبط العالم الافتراضي والحفاظ على الخصوصية والحرية الشخصيّة؟ أم سيكون هذا العالم رهنًا بالمصالح الفرديّة والحكومية لاستغلاله بالطرائق والوسائل كافة؟ وهل سينعم بوعي كافٍ ليحافظ على دوره ومهاراته العقلّية، من تحليل وتفكير واستنتاج؟ أم سيسلّم هذا الدور لآلة تتسلّل بهدوء وذكاء لاستبدال دوره كما يعتقد بعض المتشائمين؟
[1] – طالبة دكتوراه في المعهد العالي للدكتوراه – الجامعة اللبنانية في الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية – قسم الفلسفة.
PHD student at the Lebanese University Doctoral Higher institute in Literature, Humanities & Social Sciences- Philosophy Department. Email: lubnaawar@gmail.com
[2] –Ed Burns, Artificial intelligence (AI), TechTarget, Accelerator, A guide to artificial intelligence in the enterprise,2023.
[3] – لوحة رسمها الفنان لورينتيوس دي فولتولينا يصوّر فيها محاضرة جامعية خلال القرن الرابع عشر في جامعة بولونيا في إيطاليا,
[4] – عالم كمبيوتر وعالم نفس بريطاني كندي، اشتهر بعمله على الشبكات العصبية الاصطناعية. يُنظر إليه على نطاق واسع كأب روحي للذكاء الاصطناعي.
[5] –Breck Dumas, ARTIFICIAL INTELLIGENCE, FOXBusiness, August 3, 2023.
[6] –Michael Hennessey, Exclusive: Almost half of Cambridge students have used ChatGPT to complete university work ,Varsity Cambridge UK newspaper, Friday April 21 2023.
[7]– Carlos Rios-Campos, Elva Soledad Mendoza Cánova and others, Artificial Intelligence and Education, South Florida Journal of Development, Miami, April 06th, 2023.
[8]- خبيرة الذكاء الاصطناعي الدكتورة منى الضميدي (وهي مشرفة منظمة IEEE – الفرع الطلابي في جامعة النجاح الوطنية وعضو مجلس ادارة في مؤتمر ArabWIC والمدير الاداري لمنظمة Girls In Tech Palestineوتعمل حاليا كمدرس مساعد بقسم هندسة الحاسوب في جامعة النجاح الوطنية).
[9]– Natasha Singer, Despite Cheating Fears, Schools Repeal ChatGPT Bans, The New york Times, Aug. 24, 2023.
[10] -Marilyn Murphy, Sam Redding and Janet S. Twyman, Handbook on Personalized Learning for States, Districts, and Schools, Center on Innovations in Learning, 2016, pp.131-145.
[11]– P. Milgram, & F. Kishino, A taxonomy of mixed reality visual displays, IEICE TRANSACTIONS on Information and Systems, 1994, 77(12), pp,1321-1329.
[12] -C. Guan, , J. Mou, & Z. Jiang, Artificial intelligence innovation in education: A twenty-year data driven historical analysis, International Journal of Innovation Studies, 2020, Volume 4, Issue 4, p.134-147.
[13] –Cristobal Romero, Sebastian Ventura, Educational data mining and learning analytics: An updated survey, WIREs ,13 January 2020, pp. 30-37.
[14] -C. Cavanaugh, K. J. Gillan, J. Kromrey, M. Hess, & R. Blomeyer, The effects of distance education on K-12 student outcomes: A meta-analysis. Learning Point Associates/North Central Regional Educational Laboratory, 2004.
[15] – N. Selwyn, Minding our language: why education and technology is full of bullshit … and what might be done about it. Learning, Media and Technology,2016, 41(3), pp. 437-443.
[16] -L. Cuban, Oversold and underused: Computers in the classroom, Harvard University Press, 2001.
[17] -O. Tene, & J. Polonetsky, Big data for all: Privacy and user control in the age of analytics, Northwestern Journal of Technology and Intellectual Property, 2013, pp. 239-273.
[18]– European Commission , 2022, Artificial Intelligence and the future of education. https://ec.europa.eu/commission/presscorner/detail/en/ip_22_6338
- Brynjolfsson, & A. McAfee, The second machine age: Work, progress, and prosperity in a time of brilliant technologies. W. W. Norton & Company, 2014.
[19] -E. J. Helsper, & R. Eynon, Digital natives: Where is the evidence? British Educational Research Journal, 2010, pp. 503-520.
[20] -J. Rudolph, & S. Tan, ChatGPT: Bullshit spewer or the end of traditional assessments in higher education? 2023, Vol. 6 No. 1 Ed-tech Reviews. https://doi.org/10.37074/jalt.2023.6.1.9
[21]– L. Cuban, Oversold and underused: Computers in the classroom, Harvard University Press, 2001.
[22] – نائب الرئيس التنفيذي للمفوضية الأوروبية )2014- 2019 (لبرنامج ” أوروبا ملائمة للعصر الرقمي والمنافسة”.