الازدواجية اللغوية التشاكل بين العاميّة والفصحى
Bilingualism The discrepancy between colloquial and classical
Dr. Bashir Faraj د ـ بشير فرج[1]
تاريخ الإرسال:30-1-2024 تاريخ القبول 10-2-2024
ملخّص
اللغة العربية لغة أصيلة وقديمة، قبل الإسلام، وتتميز اللغة العربية بأنها لغة الحياة والشعوب والعلم والحضارة، وهي لغة القرآن الكريم، وأن المسلمين عملوا على إثرائها والحفاظ عليها. واللغة العربية صالحة لشتى أنواع العلوم والمعارف الإنسانية. واستطاعت العربية أن تكون لغة العلوم النخبة فألف فيها علماء كبار، في الهندسة والصيدلة، والطب، والفلك، وغير ذلك من شتى أنواع العلوم. فظهرت آلاف من المصطلحات العلمية والمفردات بواسطة الترجمة التي قام بها علماء المسلمين، حيث نقلوا إلى العربية علوم اليونان وفارس والهند وتمثلوها تمثيلاً واعياً، وأضافوا إليها.
أصالة اللغة العربية
إن جذور اللغة العربية، قديمة، فاللغة العربية لغة سامية ولاحتفاظها بألفاظ كثيرة العدد من أصولها السامية القديمة، وظلت اللغة العربية أقوى اللغات السامية، والتي منها الحبشية والعبرية، وهي أكبر هذه اللغات؛ لأنّها لم تتعرض لتغيرات أساسية في أنظمتها المختلفة. واللغة العربية هي فصحى العرب على مرّ الزمن، وأدت مهمتها عبر الزمن وتوالي العصور من النواحي المختلفة، من أدبية وعلمية، وقانونية فمفرداتها وسعت جميع نواحي الحياة، وتاريخها عريق الأصل، واللغات السامية الجنوبية تشمل العربية واليمنية القديمة والحبشية السامية (وافي، 1973، ص20).
ورسول الله (ص) تلا «قرآناً عربياً لقوم يعلمون» ثم قال: ألُهم إسماعيل هذا اللسان العربي إلهامًا: (السيوطي، 1945، ص30 وما بعدها). أما عربية الشمال فتغلبت على عربية الجنوب وصارت لغة الجزيرة كلها جنوبيها وشماليها واحدة قبل الإسلام. (د. عبد الغفار حامد هلال، ص58، 59، اللغة العربية، مصر، مطبعة الحضارة العربية، 1957).
وإذا عدنا إلى نزول القرآن الكريم، فقد نزل بلغة فصحى هذه اللغة تتفوق وتعلو عن مستوى العامية، ولذلك أخذ الناس في صدر الإسلام يسألون كبار الصحابة عن تفسير آياته وألفاظه. (د. رمضان عبد التواب، فصول في فقه العربية، ص91، مصر، مكتبة دار التراث).
الكلمات المفاتيح: الفصحى – العامية – اللغة المحكية – اللهجة – القدسية – الإعراب – الازدواجية.
Research Summary
The Arabic language is an authentic and ancient language, before Islam. The Arabic language is distinguished by being the language of life, peoples, science, and civilization. It is the language of the Holy Qur’an, and Muslims worked to enrich and preserve it.
The Arabic language is suitable for various types of sciences and human knowledge.
Arabic was able to be the language of elite science, and great scholars were familiar with it, in engineering, pharmacy, medicine, astronomy, and other various types of sciences. Thousands of scientific terms and vocabulary appeared through translation carried out by Muslim scholars, who transferred into Arabic the sciences of Greece, Persia, and India, represented them consciously, and added to them.
The originality of the Arabic language
The roots of the Arabic language are ancient. The Arabic language is a Semitic language and because it retains a large number of words from its ancient Semitic origins, the Arabic language remains the strongest of the Semitic languages, including Ethiopian and Hebrew, which is the largest of these languages. Because it has not been subjected to fundamental changes in its various systems.
The Arabic language is the classical language of the Arabs over time, and it has fulfilled its mission over time and the succession of eras in various aspects, from literary, scientific, and legal. Its vocabulary has expanded all aspects of life, and its history is of ancient origin, and the southern Semitic languages include Arabic, ancient Yemeni, and Semitic Ethiopian.
As for the Arabic of the North, it prevailed over the Arabic of the South, and the language of the entire island, both south and north, became one before Islam.
If we go back to the revelation of the Holy Qur’an, it was revealed in a classical language, which is superior to the level of colloquial language. Therefore, people at the beginning of Islam began to ask the senior companions about the interpretation of its verses and words.
Keyword: Classical – colloquial – spoken language – dialect – sacredness – parsing – duality.
المقدّمة
يقول ابن عباس: «الشعر ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن، الذي أنزله الله بلغة العرب رجعنا إلى ديوانها، فالتمسنا ذلك منه». (الرازي، 1958، ص 116).
والأزهري المتوفى سنة 370هـ كان يهدف من معجمه «تهذيب اللغة» إلى تنقية اللغة العربية من الشوائب… وقد سنحت له الفرصة لكي يختلط بالبدو والعرب الخُلّص فنقل عنهم الكثير في معجمه «تهذيب اللغة» وقال عن نفسه: «فبقيت في أسرهم دهراً طويلاً، وكنا نشتّي الدهناء، ونتربع الصمان، ونتقيظ الستارين، واستفدت من مخاطباتهم ومجاورة بعضهم بعضاً، ألفاظاً حجة ونوادر كثيرة، أوقعت أكثرها في موقعها من الكتاب». (بشناتي، لا ت.، ص60).
ومنذ أن جاء الاستعمار إلى العالم الإسلامي، كان من ضمن أهدافه هدف واضح متكامل في مواجهة اللغة العربية الفصحى وتوسعها، وعمل بكل الوسائل والإمكانيات على محاربتها وتجميدها، وهو يهدف بذلك إلى هدم قيمنا ومفاهيمنا؛ لذلك ظهرت في ظل الاستعمار الدعوة إلى العامية، واللهجات المحلية واللغات القديمة، والحروف اللاتينية وهي دعوة كانت في مختلف جوانب الحياة من حديث وكتابة وإذاعة ومسرحيات وقصص، وقد رافقت تلك الدعوة، الدعوة إلى انتقاص اللغة العربية الفصحى، ومحاولة وصفها بالتعقيد، ووصف العامية باليُسر. (الجندي، 1982، ص ص 103 – 125).
إن خطر العامية اليوم داهم ومحدق سواء بين الشباب في القُطر الواحد الذين صاروا يتحدثون لغة مزيجة من أخلاط مختلفة اصطلح على تسميتها (لغة الشوارع). إن خطر العامية على التمسك بالإسلام وفهمه شديد، فإن الذي يستخدم العامية يكون أبعد من الألفاظ والتراكيب اللغوية الفصيحة، ومن ثم يكون أبعد عن فهم القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية الشريفة. إن من ينظر إلى واقع لغتنا اليوم يحار في طبيعة هذه اللغة التي نكتب بها المؤلفات الأدبية والعلمية والسياسية، وغير ذلك.
إن آباءنا وأجدادنا ربطوا الفصحى باللغة الكلاسيكية القديمة، وإن الكتّاب المحدثون يشعرون بأنهم يقلّدون القدامى في الاشتقاق والتصريف وتشكيل الكلمات وأحكام النحو والتركيب وتأليف الجمل. إن العربية كغيرها من اللغات تأثرت بعوامل متعددة وسعت إلى أن تحمي نفسها من الأخطار الداهمة والوافدة من الخارج، لتتخلص من أدران العُجمة، وتصون خصائصها من خطر الآفات الداخلية التي تحاول أن تنتابها كاللهجات والعاميات الدارجة. (انظر: طحان، ريمون ودنيز، 1984، ص 12 وما بعدها). وإذا عدنا إلى القديم فإن للعرب لهجات مختلفة بحسب القبائل، وأن هذه القبائل لم تشعر يوماً بالحرج لوجود ازدواج لغوي في المستويات اللغوية طالما كان لكل منهما مجال استخدامه وموضعه، التي يملكون أدوات كل منها ويتمكنون منها جميعاً. وجميع الشعوب والأمم تستخدم مستوى للتخاطب اليومي فيما بينها، ومستوى للأدب والعلم ودرجات الخطاب الأعلى.
فبرنادشو مثلاً لم يكن يكتب بلغة الشارع الإنجليزي، وكذلك دانتي في الألمانية، وهوجو في الفرنسية، وهذا ما يسمّى باللهجة المحليّة، وهي لون لغوي يتفرع من اللغة الأم ويستعمل في معاملات الحياة اليومية، ويتميز عن ألوان أخرى أكثر رصانة وإحكاماً، تستخدم حال الكتابة أو من محافل علمية أو أكاديمية مثلاً. إن العامية عندنا تكاد تكون لغة قائمة بذاتها لا فرعاً عن الفصحى لكن استقامتها على الألسن بحسب ظروف انتشار الجهل، وغلبة الأمية مما يزيد نفوذ العامية الدارجة.
إن اللغة العربية الفصحى مصدرها الأساسي هو القرآن الكريم، منذ اتخذت منه مثلها الأعلى؛ لأنها اللغة التي نزل بها الوحي على سيدنا محمد (ص)، لذا فقد نُزِّل بها آخر الكتب السماوية على محمد (ص). كما أن اللغة العربية الفصحى هي لغة الأدب العربي، شعره ونثره، منذ العصر الجاهلي حتى يومنا هذا، والفصحى هي التي تُدون بها المؤلفات، وتُكتب بها الصحف والمجلات، والمعاملات الرسمية، وغير ذلك. في مقابل ذلك تأتي العامية التي هي لغة الحديث اليومي، ويستخدمها كل الناس عامتهم وخاصتهم على حد سواء، في شتى نواحي الحياة، إن في البيت، أو الشارع، والسوق، والمقهى…
وعلينا التنبه إلى أن اللغة العامية التي تُستخدم ليست عامية واحدة، بل لهجات عامية كثيرة، «تتجاوز في عددها الدول العربية القائمة اليوم، وذلك لأننا نجد في كثير من هذه الدول لهجات عامية متعددة، تختلف فيما بينها، في الأساليب الصوتية، والتركيبة، والدلالية، اختلافات ؟؟؟؟». (النادري، 2005، ص 327).
والبعض يسمّى العامية بأسماء أخرى، كاللغة المحكية، والدارجة، واللهجة الشائعة وغير ذلك، يقول الطيب البكوش أحد الباحثين المحدثين في هذا المجال: «وإننا نفضّل استعمال كلمة «الدارجة» على «العامية»، لما تتضمنه الكلمة الأخيرة من دلالة طبقية، وصفات تحفيزية، استهجائية، لا تليق بالبحث العلمي المجرد». (البكوش، 1987، ص 174).
كما أن البعض من الباحثين حين دراسة الفصحى والعامية يميزون بين مصطلحات الازدواج اللغوي»، و«الثنائية اللغوية» فيرون أن أمر الفصحى والعامية نوع من الثنائية، وذلك لأنّهما فصيلتان من لغة واحدة والفرق بينهما فرق فرعي لا جذري، في حين أن الازدواجية لا تكون إلا بين لغتين مختلفتين، كما بين الفرنسية والعربية، أو الألمانية والتركية. (يعقوب، 1972، ص 146). وإذا عدنا إلى تاريخ العامية فمن الواضح أنها بدأت تظهر، في العالم العربي، «في عصر الفتوحات الإسلامية، بعد اختلاط العرب بالأعاجم، وتفشي اللحن بين الناس، غير أنها لم تتميز عن الفصحى تميزاً واضحاً إلا بعد زمن يصعب تحديده على وجه الدقة، استطاعت خلاله أن تكتسب سماتها الخاصة، في الألفاظ، ودلالاتها، وفي المادة الصوتية، والأساليب، والتراكيب، وقواعد النحو». (النادري، أسعد، 2005، فقه اللغة مناهله ومسائله، ص328، صيدا – بيروت، المكتبة العصرية). وهناك دعوات كثيرة تقول بصعوبة اللغة العربية الفصحى، وأنها لغة صعبة، تقعد بالأمة العربية عن التطور والتقدم الحضاري، وطالبت هذه الدعوات بإحلال العامية محل الفصحى فمثلاً «في سنة 1925م، نشر الأب مارون غصن (1881 – 1940م) كتاب «درس ومطالعة». وقد تنبأ فيه بموت العربية الفصحى، قياساً على ما عرفه من تاريخ اللغتين اليونانية واللاتينية، ودعا إلى الكتابة بالعامية السورية». (غصن، 1925، ص 185).
وفي سنة 1955م، نشر الدكتور أنيس فريحة كتابه «نحو عربية ميسرة»، ورأى فيه أن الفصحى لغة أجيال مضى عهدها، وأنها لذلك عاجزة عن التعبير عن الحياة. أما العامية فلغة حية، متطورة، نامية، تتميز بصفات تجعل منها أداة طيّعة للفهم والإفهام، وللتعبير عن دواخل النفوس. (فريحة، 1955، ص 117).
أين تكمن المشكلة؟
إن المشكلة الأساسية للفصحى والعامية، كما يرى ذلك الباحثون، هي أن الإنسان العربي يجد نفسه مضطراً لاستخدام أداتين لغويتين، تختلف كل واحدة عن الأخرى، من ناحية الأصوات، وقواعد بناء الجملة، وتصريف المشتقات، ودلالات الألفاظ، والأساليب، وإحدى هاتين الأداتين اللهجة العامية، وهي العامية المستخدمة في الحديث اليومي دون الكتابة، وتأتي مكتسبة بالتقليد والمحاكاة، من الطفولة الأولى، وتنمو معه، وتتأصل فيه.
في الوقت الذي هو في حاجة لتعلم العربية الفصحى في المدرسة، ويستخدمها كتابة دون الحديث اليومي. ويرى الدكتور علي عبد الواحد وافي: «اللغة، كما نعلم، وسيلة للتفاهم، والثقافة، والعلم، لا غاية مقصودة لذاتها. واضطرارنا إلى قضاء هذا الوقت الطويل، وبذل هذه الجهود الجبارة، في سبيل الإلمام بالوسيلة، يبدو، في نظر الناس، إسرافاً كبيراً في الوقت، والمجهود، وحالة شاذة ينبغي أن تتضافر الجهود على علاجها». (وافي، 1973، ص 154).
خصائص اللغة العربية الفصحى
تميزت اللغة العربية بخصائص قل أن توجد في غيرها من اللغات ونذكر بعضاً من تلك الخصائص:
1- البيان: وهو وصف قد خصه الله تعال بها فقال: ﴿بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبينٍ﴾ [الشعراء: 195]، وعندما يرد الوصف من الخالق كما يقول د. رمضان: فقد دل على تحقق هذه الصفة فيها بقدر عظيم، وعلى وفائها بالإبانة من أكمل الوجوه، وارتفاعها وسموها فوق مستوى العوام. (رمضان، 2016، ص 80).
وقد أثبتت التجارب أن الفصحى أطوع في التعبير وأدق في التصوير، والتفنن في أساليب الأداء من غيرها.
2- القدسية: الناتجة عن العلاقة الوطيدة بينها وبين المقدسات وهي القرآن الكريم، والسُّنَّة النبوية المشرفة، فهي وعاء الكتاب الخالد، فيها صُبَّ وبها نزل وحفظ وخلد (الموسى، 1987، ص 36). وبها يتم معرفة العلوم الإسلامية بمعرفة ألفاظها وقد قال الزمخشري: «وذلك أنهم لا يجدون علماً من العلوم الإسلامية، فقهها، وكلامها، وعلمي تفسيرها وأخبارها، إلاَّ وافتقاره إلى العربية بَيْنٌ لا يُدفع ومكشوف لا يتقنع» (انظر: الفيصل، 1992، ص 16 ـ 17)؛ فلا بد لكل عربي ومسلم يريد أن يفهم دينه عقيدةً وعملاً أن يُتقن العربية، وإلا كان فهمه لهذا الدين ناقصاً ومن هنا وجدنا أقطاراً دخلها الإسلام مع ضعف أهلها باللغة العربية مما كان له أبعد الأثر في عدم استيعاب أهل تلك الأقطار مفاهيم الإسلام وقيمه عن طريق القرآن الكريم واللغة العربية. (انظر: وافي، 1973، ص 148ـ 149).
3- الاتساع والمرونة: اللغة العربية تحدثت عن نفسها بلسان شاعرها حافظ إبراهيم الذي قال: وسعتُ كتاب الله لفظاً وغايةَ وما ضِقتُ عن آي بهِ وِعظاتِ. فلو قارنا العربية بغيرها من اللغات الاشتقاقية كالفرنسية والإنجليزية لوجدنا أن عدد كلمات اللغة الفرنسية خمس وعشرون ألف كلمة تقريباً، وكلمات اللغة الإنجليزية مئة ألف كلمة، أما العربية فعدد مفرداتها يزيد على أربعمائة ألف مادة لا كلمة، ومعجم لسان العرب يحتوي على ثمانين ألف مادة لغوية، ولسعتها نجد فيها للمعاني الشديدة تقارب الكلمات الخاصة بكل معنى مهما كانت درجة التفاوت فلا مجال للالتباس أو الإبهام اللذين هما آفة العلم والأدب، وكان لذلك أبعد الأثر عند أهلها في استيعاب مفاهيم الإسلام وقيَمه عن طريق القرآن الكريم واللغة العربية. (انظر: م. ن.، ص 18ـ 19).
فهي لغة مرنة قادرة على استمرار الحياة رغم تعاقب الحضارات عليها، وقد استطاعت خلال مراحل متعددة من عمرها أن تجدد نفسها، وكانت أُولَى صحوتها عند ظهور الإسلام ونزول القرآن بها، مما أعطى اللغة العربية ثروة لغوية جديدة، وصحوتها الثانية كانت عندما استطاعت أن تنقل المعارف الفارسية والسريانية والهندية فأدخلت إلى اللغة بالاشتقاق والنحت والترجمة مئات من الألفاظ العلمية والأدبية والفكرية، ثُم تلا ذلك صحوتُها في أول العصر الحديث على أيدي الزبيدي والبغدادي وأمثالهما، ثم دور مدرسة الألسن، إذ ترجمت المؤلفات الأجنبية إلى اللغة العربية، واليوم تُجَددُ اللغةُ العربية حيويتها من خلال مجامع اللغة في القاهرة ودمشق وبغداد والأردن وغيرها، فقد أضافت أكثر من سبعين ألف مصطلح علمي في مختلف الميادين الاجتماعية والاقتصادية والعلمية (انظر: فريحة، 1955، ص 117) يقول أحمد عبده: «واللغة عندما لا تساعد صاحبها في التعبير عن أفكاره فهذا ليس عيباً فيها وإنما في ضحالة الثروة اللغوية وفقرها لديه» (حسين، 1968، ص 375).
4- الإعراب: وهو سمة مميزة للغة العربية، وهو كما يقول الزمخشري: «أجدى من تفاريق العصا» وهو مثلٌ يضرب لما يكثر الانتفاع به، وذلك لأهميته العظيمة في تفسير القرآن الكريم وفهم معانيه ومعرفة فوائده، ويقول: «ومن لم يتق الله في تنزيله فاجترأ على تعاطي تأويله وهو غير مُعرب ركب متن عمياء، وخبط خبط عشواء، وقال ما هو تقول وافتراء وهراء، وكلام الله منه براء» (أبو مغلي، 1978، ص 43).
5- عدم انتمائها إلى بيئة محلية معينة: فلا يمكن القول عن اللغة العربية أنها لغة قريش وحدها أو هذيل أو تميم وإنما هي مزيج من لغة هؤلاء وغيرهم من العرب، وقد كونت لها شخصيةً وكياناً مستقلاً، وإن كانت لهجةٌ قريش قد أسهمت بنصيب أوفر من غيرها في بناء اللغة الفصحى المشتركة. (عبد التواب، 2016، ص 59).
6- دورها الكبير في توحيد الأمة: تمكنت اللغة العربية من جمع شتات الأمة أينما كانوا، وهذا أمر يتعلق بأكثر اللغات، بدليل: «أن اليهود عندما أرادوا تجميع شملهم المتفرق في جميع أنحاء العالم أعادوا إلى الحياة لغةً قديمةً جدّاً كانت ميتةً ومنحطةً منذ آلاف السنين، وكانت خطوتُهم الأولى التي أوصلتهم إلى إنشاء إسرائيل».
وهناك فرق واضح بين العربية والعبرية، فالعبرية لم تكن لغةً الأم لأحد، ولم يكن أحدٌ يتكلم بلهجةٍ وثيقةِ الصلة بها، أما العربيةُ فالناشئة من العرب جميعاً يكتسبون إحدى لهجاتها لغةً أمّاً ويتعلمونها ويمارسونها (عوض، 2000، ص 37).
الفصحى والعامية والازدواجية
اللغة العربية الفصحى
هي تلك الصورة الأدبية الرفيعة التي تمثل فصاحة الأدباء، والبلغاء من الشعراء والحكماء الذين اشتركوا جميعاً في تكوينها، وقد ازدهرت هذه اللغة ونمت وترعرعت في قلب الجزيرة العربية المتمثلة بمكة المكرمة، لأسباب وعوامل عديدة (انظر: البهنساوي، 1998، ص 45 – 47)، والفصحى مزيجٌ من لهجات متعددة، وليست لهجةً محكية لقبيلة معينة، والدليل على ذلك عدمُ قدرة أيِّ مجتمع أو قبيلة على البقاء منعزلةً عن القبائل العربية الأخرى، فلا بُدَّ لها من التأثير والتأثر بغيرها من القبائل، سواء في دلالة مفرداتها، أو قواعدها، أو أصواتها.
ودليل آخر على ذلك هو أنَّ الفصحى فيها خليط من القواعد في الصيغ والتراكيب، إضافة إلى وجود كثير من المترادفات مما يستحيل أن تكون لهجة قبيلة واحدة (انظر: نفوسة، 1964، ص 7، وانظر: مجاهد، 2013، ص 198)، ويؤكد هذا القولَ ما جاء في الخصائص: «وإذا كثر على المعنى الواحد ألفاظٌ مختلفة، فسمعت في لغة إنسان واحد، فإنَّ أحرى ذلك قد يكون أفاد أكثرها أو طرفاً منها من حيث كانت القبيلة الواحدة لا تتواطأ في المعنى الواحد على ذلك كله… وكلما كثرت الألفاظ على المعنى الواحد كان ذلك أولى بأن تكون لغةً لجماعات» (يعقوب، 1972، ص 146).
العامية
هي لغة الخطاب اليومي في البيت والمدرسة والمسجد والسوق والعمل، ولا تخضع لقوانين معينة، وتقبل التغيير والتبديل حسب الظروف، ويسميها بعضهم لهجة، ويعرِّفُها: بأنها مجموعة من الصفات اللغوية التي تنتمي إلى بيئة معينة، ويشترك في هذه الصفات جميعُ أفراد هذه البيئة، وبيئتُها هي جزء من بيئة لغوية أوسع وأشمل، تضم لَجَهَات كثيرةً لكل منها مميزاتها وخصائصها، ولا بد أن تشترك في مجموعة من الظواهر اللغوية التي تُيَسِّر اتصالَ أفراد هذه البيئات وتعاملَ بعضهم مع بعض (انظر: م. ن.، ص 35)، ونجدُ بعض الباحثين يسميها اللغةَ الهجينَ، أو اللغةَ المولَّدةَ؛ لأنها نشأت من تفاعل الشعوب والثقافات المختلفة بعضها مع بعض (انظر: فريحة، 1955، ص 137)، واللهجات العربية الحديثة أو العاميات مختلفةُ اختلافاً كبيراً عن بعضها، والاختلاف بين هذه اللهجات يرجع إلى أسباب عديدةٍ منها صوتية وهي الكثير الغالب، وقد يرجع إلى بنية الكلمة، أو يرجع إلى المعنى، أو إلى الجانب النحوي، كصيغ الأفعال وأنواع الجموع، وأدوات التعريف، ولكن نجد أن الجانب الدلالي والنحوي، إضافة إلى الصرفي، أقل حدوثاً من الجانب الصوتي؛ لأنّه إذا اختلفت معاني معظم الكلمات اتخذت أُسساً خاصة في بنيه الكلمات، وكذلك كان لها قواعد خاصة مختلفة عما سواها في تركيب الجمل ولا تسمى حينئذٍ لهجة، بل لغةً مستقلة، وإن ظلت تتصل ببعضها بظواهر لغوية تجعلها تنتمي إلى فصيلة لغوية واحدة (انظر: الجندي، 1982، ص 137).
1- ولا يمكن أن نسمي ما كان من لهجات عربية مختلفة في السابق عاميات، إذ لم تكن اللهجات العربية قديماً بعيدةً بُعداً كبيراً عن الفصحى، والدليل على ذلك أن القرآن الكريم نزل باللغة المشتركة، وقد تحدى العربَ جميعاً، ولم يثبت أنه كان يتحدى الشعراءَ والخطباءَ خاصة، بل كان يتحداهم جميعاً، قال تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتوا بِمِثْلِ هذا القُرْءانَ لا يَأْتونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهيرًا﴾ [الإسراء: 88]، وذلك لأنهم جميعاً قادرون على أن يتحدثوا باللسان المشترك الذي هو البلاغة الرفيعة والأسلوب العالي (الموسى، 1987، ص43).
أنواعها
تذكر المراجع أن أصول اللهجات العاملية المعاصرة تعود إلى لهجات العرب القديمة وتصنيفها إلى عدة أنواع منها:
– التضجع: وهو التراخي في الكلام، أو التباطؤ فيه وأصحابها (قيس).
– الاصنجاع: هو نوع من أنواع الإمالة الشديدة، تكون فيه الألف أقرب من الياء منها إلى أصلها الألف وأصحابها (قيس، تميم، أسد).
– التلتلة: كسر حرف المضارعة مطلقًا نحو (يعلم).
– الشنشنة: وهي إبدال الكاف شينا مطلقًا عند أهل اليمن خاصة في قولهم لبيك (لبيش) وهي لا تزال شائعة لدى أهل حضرموت.
– الكشكشة: وهي إبدال كاف المؤنثة في حالة الوقف شينًا: نحو (أعطيتش) في أعطيتكِ في حالة الوقف.
– لغة أكلوني البراغيث: بحيث يلحق أصحاب هذه اللهجة بالفعل فاعلين؛ مثل: جاؤوا الطلاب فالواو في جاؤوا فاعل، والطلاب فاعل. وقد اعتبر القدماء هذا من ضعيف اللغة العربية، وبعض المعاصرين يعتبره غير جائز؛ إذ يكتفي الفعل بفاعل واحد. وعلى الرغم من ذلك فقد ثار حول هذه اللهجة كثير من الجدل قديمًا، واحتج بها آخرون، وقد جاء بها فصيح الكلام من آيات قرآنية وأحاديث نبوية شريفة وأبيات من الشعر، فلا داعي لاعتبارها لهجة عامية، وليس هناك ما يمنع من اعتمادها في فصيح القول شعره ونثره، والشواهد التي تدعم هذا الرأي كثيرة.
والمجتمع العربي في الجاهلية كان مجتمعاً أمياً، والأميُّ يأخذ ما أخذ اكتساباً، ولا يكاد يتحول عما اعتاد عليه، والإسلام نفسه لم يُلزمه بذلك، فإذا كان ينتقل انتقالاً جزئياً محدوداً فإنه يتوسع ولا يتوقع، ويمتد ولا يرتد، وذلك لقلة الفروق بين لغة الأدب المشتركة ولغته هو، وإلا لكان من العسير عليه أن ينتقل بهذه السهولة إلى اللغة المشتركة، لو كان الاختلاف بينهما كما هو بين عاميتنا والفصحى (استيتيه، 2005، ص 602).
ودليل آخر يؤكد وجود علاقة قوية بين اللهجات العربية القديمة، وبين اللغة الفصحى، هو سرعةُ انتشار لغة القرآن في مصر والشام والعراق، فسرعةُ انتشار العربية في العراق مثلاً، التي كانت تتكلم الآرامية أكبر بكثير من انتشارها في إيران التي كانت تتكلم لغة من فصيلة لغوية أخرى هي الآرية، أو في تركيا التي كانت تتكلم لغة من فصيلة طورانية بعيدة عن العربية، وهذا يؤكد أن العاميات العربية تنتمي إلى اللغة العربية وترتبط بها ارتباطاً وثيقاً (م. ن.، ص 30).
والعامية لغة مرنة سهلة لا غنى عنها، لها القدرة على التشكل بالبيئات التي تحل بها أكثر من الفصحى، لأن الفصحى لغةُ الدين والثقافة والفكر، وذلك يَفرض عليها قيوداً معينة، مما دعا إلى وجود وسيلة تعبيرية أقدر على تلبية حاجات الناس اليومية العابرة وهي العامية» (عبده، 1973، ص 82)، وهذا لا يعني أبداً أن تحل العاميةُ محلَّ الفصحى، فلكل منهما مجالها، ووظيفتها، والعامية رغم مرونتها وسهولتها كما يبدو لنا، إلا أنها تمثل جسماً غريباً وحشياً غير مفهوم لدى أصحاب اللهجات الأخرى، لأن العاميات متعددة لا تكاد تنحصر.
أما أسباب وجود العاميات المختلفة في اللغة العربية فيمكن أن يرجع إلى أسباب عدّة منها ما يأتي:
1- انتشار اللغة العربية في مناطق لم تكن عربية اللسان، فاللغة العربية تغلَّبتْ على اللغات البربرية في المغرب، واليمنية والآرامية في العراق والشام، والقبطية في مصر، ولو تتبعنا مفردات العامية لوجدنا كثيراً منها يرجع إلى هذه الأصول السابقة (قاسم، 1974، ص 24. ووافي، 1973، ص 128. ونهاد الموسى، 1987، ص 71).
والتاريخ يحدثنا أن الجماعة التي رحلت إلى بلاد العراق وكونت مملكةَ بابل وآشورَ على أنقاض السومريين أصحاب البلاد الأصليين تغلبت لغتُهم على لغة السومريين، ومحتها بعد أن تأثرت بها (استيتيه، 2005، ص 119).
2- عوامل اجتماعية: نفسية وسياسية وجغرافية، وهي عواملُ لها أثر كبير في نشوء العاميات المختلفة، فطبقات المجتمع، والفرق في العادات والتقاليد والثقافة والتفكير، واستقلال البلاد أو استعمارها أو انفصالها عن بعضها من شأنه أو يؤثر في لغة الإنسان ويساهم في تطوُّرها وتغيُّرها.
3- القياس الخاطئ وخاصة عند الأطفال، كقول الطفل: كتاب أحمر وحقيبة أحمرة، فإذا عاش هؤلاء في معزل عن غيرهم – نوعاً مَّا – ولم يُصحح لهم الخطأ بعد مدة من الزمن اكتسبوا من ألفاظ العامية التي يستعملها الكبار والصغار أشياء كثيرة (نفوسة، 1964، ص 32 – 35).
4- تناوبُ الأصوات المتحدة أو القريبة في المخرج، وحلولُ بعضها مكان بعض، ومن أمثلة ذلك (ط، ت) (ص، س) (ق، ك)، وبعض الباحثين يرى أن التطور الطبيعي لأعضاء النطق واختلافها بين الناس والشعوب له أثر في اختلاف نطقهم بالحرف نفسه، بدليل اختلاف نطق الأبناء عن نطق آبائهم (فريحة، 1955، ص 137).
5- تغيُّر مدلول الكلمات تبعاً للحالات التي تُستخدم فيها، فكثرة استخدام الكلمة في المعنى المجازي يؤدي إلى نسيان المعنى الحقيقي، والاقتصار على المعنى المجازي، وقد يتغير مدلول الكلمة بسبب انتقالها من السلف إلى الخلف، أو لأن المعنى الذي كانت تدل عليه قد تغير، مثل دلالة القطار قديماً على مجموعة من الإبل التي تسير على نسق واحد في السفر، إلى وسيلة من وسائل الاتصالات حالياً (الموسى، 1987، ص 43).
6- دخولُ كلمات وأصوات جديدة من اللغات الأخرى المختلفة، كبعض الكلمات الإنجليزية والفرنسية والتركية، أو الأصوات كالصوت الذي بين الشين والجيم المعشطة يُنطق به في عامية العراق، مثل كلمة (عربنجي) الذي يُعتقد أنه انتقل إليها من اللغة التركية (الجندي، 1982، ص 140).
7- دخول بعض القواعد الجديدة كذكر الصفة قبل الموصوف؛ تأثراً بلغات أجنبية كالفارسية وغيرها.
8- ذوق العصر وما يتطلبه من كلمات ومصطلحات وأصوات (ابن هشام، 1964، ص 421 ـ 422)، ونلاحظ هذا بشكل جليٍّ في عصرنا، الذي هو عصر العولمة أو الأمركة، فأينما حللت تصدمك المصطلحات الإنجليزية في شتى مناحي الحياة، حتى ظهرت عندنا لغةٌ تسمى بين العامة (عربيزي) مناصفة بين اللغة العربية والإنجليزية، وهذه الظاهرة بدأت تتنامَى وتنتشر في معظم البلاد العربية.
الازدواجية
هي ظاهرة طبيعية موجودة في اللغات الإنسانية ومنها العربية، وهي تعني وجودَ مستويين من اللغة: مستوى خاص بالكتابة وهو الأسلوب الأدبي أو اللغة الفصحى، ومستوى آخر يستعمل في الحديث اليومي، وهو ما يسمّى بالعامية، أو اللهجات المحلية الخاصة بكل بلد عربي وتختلف كلٌ منهما (العامية والفصحى) عن الأخرى اختلافاً بَيِّناً في كثير من مظاهر أصواتها، ومفرداتها، ودلالة ألفاظها، وأساليبها، وقواعدها، وتصريف مشتقاتها، وهي ظاهرة طبيعية في كل اللغات.
وقد استغل الاستعمار هذه الظاهرة وأشعلها مشكلة أراد أن يحرق بها ذلك الرباط المقدس، رباط الفصحى الذي يشدُّ العرب من المحيط إلى الخليج بأواصر التفاهم والتضامن والوحدة (الجندي، 1982، ص 120)، مما جعل بعض الناس يعدُّ وجود هذه الظاهرة مشكلةً كبيرة، فدعوا إلى توحيد لغةِ الكتابة ولغةِ الحديث.
وانقسموا في ذلك إلى فريقين: فريق يرى أن نسمو بلغة الحديث إلى لغة الكتابة، ونعمل بكافة الوسائل والأساليب على تقريب العامية من اللغة الفصحى، وبذلك يتوحد المستويان أو يكادان، وتصبح العربية الفصحى لغةً طبيعية تنتقل من السلف إلى الخلف عن طريق التقليد، وفريق آخر يرى أن نهبط بلغة الكتابة إلى لغة الحديث، فنستخدم العامية في الشؤون التي نَستخدم فيها الفصحى، ونُوفر بذلك كثيراً من الجهد والوقت والمال الذي يُبذل في سبيل الإحاطة بلغة غير اللغة التي انتقلت إليهم من آبائهم، وكان لكل فريق مؤيدون وأنصار ومعارك اشتعلت لفترةٍ من الزمن بين الفريقين، إلى أن كتبَ الله لدعوة العامية الخيبةَ، ولداتها الاندحار والتقوقع (الجندي، 1982، ص 120).
وعند حديثنا عن الازدواجية لا بدَّ من الحديث عن الثنائية والثنائية تختلف عن الازدواجية، رغم أن بعض الباحثين لا يفرق بينهما (ابن جني، 2006، ص 373 ـ 374)، فالثنائية تعني قدرةَ الفرد على استعمال لغتين مختلفتين يمكن اعتبارُ كلّ واحدة منهما بوجه أو أكثر أصليةً بالنسبة له (انظر: عبد الحميد أبو سكين، معالم اللهجات العربية، 32 ويمكن الرجوع إلى إبراهيم أنيس، في اللهجات العربية، ص25)، فلا ترادف بين الازدواجية والثنائية، فالأُولى تعني وجودَ مستويين لغويين في إطار اللغة الواحدة: أحدهما رفيع والآخر عامي منحرف، أما الثنائية فتعني أنْ يكون المستويان اللغويان لسانين مختلفين، ولا يتعلق أحدهما بالآخر تعلقَ الفرع بالأصل (مجاهد، 2013، ص 199).
بين العامية والفصحى
اهتم الباحثون بتحديد العلاقة القائمة بين العامية والفصحى، وبتحديد خصائص وسمات كل منهما، كما اهتموا بتحديد الدور والوظيفة التي يجب أن يقوم بها كل منهما في مضمار التكامل بينهما. يقول الباحث سليمان العايد عن أوجه التشابه والاختلاف بين العامية والفصحى: ” نريد باللغة المنطوقة اللغة هذه التي يستعملها الناس في واقع حياتهم اليومي، وفي حركتهم المعاشية المتكررة، وما اعتادوا التعبير به عن أغراض ومطالب وشؤون الحياة؛ وهذا شامل للغة حين تنطق، وللغة حين تكتب، ما دامت بهذا الوضع، وعلى تلك الحال. كما نريد باللغة المكتوبة تلك التي اكتسبت صفة الثبات، وتتابعت الأجيال على التزام كتابها، وهذه تشمل ما ينطق من اللغة إذا اتسم بالتأنق والصنعة كما يفعل الخطباء”(العايد، 1996،4). واللغة هي لغة التخاطب الحيّ، وهي “لغة ينفك مستعملها من كثير من سمات اللغة الفصحى، كالإعراب، ونظام الجملة، واستعمال أدوات الربط، ويستعيض عنها بغيرها، ولا يحرص على تجنب اللحن، ويرسلها، دون تحضير أو تزوير. وكل ما لا ينطبق عليه هذا الوصف فليس بلغة خطاب، كالشعر والخطابة، والتأليف، مما يتعمل له الشاعر والخطيب والمؤلف، ويبذل فيه شيئًا من الصنعة، انتقاء واختيارًا وإحكامًا”(العايد،1996، 4). وتتميز اللغة المنطوقة بأنها لغة متحولة سريعة التغير، لا تكاد تثبت على حال، بما فيها من صواب “، بخلاف اللغة المكتوبة التي تقف في طريق التغير الذي يلحق لغة الكلام قد ضبطته معيارية دقيقة، تقف في وجه التغير السريع الذي هو طبيعة اللغة المنطوقة، ولها فائدة في تحسين وسائل الاتصال وصبغ اللغة المنطوقة بصبغة أدبية مشتركة (العايد، 1996، 4).
ومن خلال هذا التحديد لمصطلحي العامية والفصحى، يمكننا ملاحظة أهم الفوارق بينهما، تحريف النطق ببعض حروف اللغة، وتغييره كليًّا في بعض الأحيان، وإهمال إعراب أواخر الكلمات، وتغيير حركات حروف الكلمة في العامية. وهذه الفوارق تؤدي إلى فارق آخر مهم، هو أن الفصحى العربية تأخذ صورة واحدة لا تغاير فيها من حيث الجوهر، في حين تتعدد العاميات العربية بتعدد أنحاء الوطن الكبير واختلاف اللهجات. وواضح أن هذه الفوارق تضع الفصحى في مكانة متميزة، وتجعلها “الأُنموذج“ للسان الراقي الحريص على النطق الصحيح للحروف، وعلى الإعراب، وعلى سلامة الكلمة. ولافت أن العامية في بلد ما تتفاوت في درجة قربها من الفصحى بين حي وآخر. ولافت أيضًا أن هناك تشابهًا بين العاميات المختلفة في بلاد العرب في جوانب تحولها عن الفصحى صوتيًّا وصرفًا ونحوًا، وإن ذهب كل منها مذهبه.
الفروق بين العاميّة والفصحى
1- تتميز اللغة العامية بوصفها لغة شفوية يتحدث بها الناس دون أن يكتبوها في حين تتميز اللغة الفصحى بأنها لغة الكتابة والتدوين. والعامية لا تستخدم عادة في التوثيق والتدوين والكتابة الأدبية أو العلمية فهي لغة مشافهة وليست لغة كتابة كما هي حال الفصحى.
2- تأخذ العامية أهميتها بوصفها لغة الحياة اليومية والتواصل الاجتماعي في أشمل معانيه، أما الفصحى فهي اللغة الرسمية التي يجري تداولها في الإدارة والإعلام والأدب والسياسة والتعليم والكتابة والمحافل الدولية.
3- تعتمد اللغة العامية على السجية والانسيابية وعلى العادات اللغوية المألوفة ولا تخضع لمنطق القواعد اللغوية كما هي حال الفصحى التي تعتمد على منظومة من القواعد والمبادئ التي يجب مراعاتها أثناء الكتابة والحوار.
4- تراعي الفصحى متطلبات البيان اللغوي في أرفع مستوياته ضمن نطاق الصرف والنحو والألفاظ الدلالية المتقنة، وعلى خلاف ذلك تعتمد العامية الاقتصاد اللغوي واليسر اللفظي التعبيري دون اهتمام بمقتضيات الدقة اللغوية والبيان اللغوي المتطور.
5ـ تتنوع العامية بتنوع الجغرافية والطبقات والفئات الاجتماعية والمجموعات السكانية في حين تأخذ الفصحى طابع لغة وطنية شاملة على وحدتها على الرغم من التنوعات الاجتماعية والتباينات الاجتماعية.
6- يتضح تأثير العامية وحضورها الواسع في لغة الطبقات الاجتماعية الواسعة في حين يقتصر تأثير الفصحى في النخب الثقافية والاجتماعية ولدى أبناء المتعلمين من الطبقة الوسطى.
7ـ تتباين العامية بتباين اللهجات المحلية في البلد الواحد مثل: اللهجة المصرية، اللهجة اللبنانية، السوريةفي حين تتميز الفصحى بوحدتها وتجانسها وشمولها بوصفها لغة وطنية واحدة في مختلف جوانب الحياة الثقافية والسياسية والعلمية والأدبية.
8- تتصف العامية بفقرها العلمي حيث لا نجد في بنيتها مفردات علمية تتعلق بالعلوم والفنون والآداب. وذلك على خلاف العامية التي تتميز بثرائها العلمي وغناها الكبير بمفردات العلم وألفاظه ومعانيه.
9- تختلف العامية في البلد الواحد باختلاف طبقات الناس وتنوعهم الاجتماعي ولهجاتهم: لهجة الفلاحين، ولهجة العمال، ولهجة الطبقة البرجوازية. وهذا التباين الاجتماعي ليس له حضور في اللغة العربية الفصحى.
الدعوة إلى استخدام العامية
مشكلةُ الفصحى والعامية من المشاكل المعاصرة التي تواجه العربية، وهي أهم مظهر من مظاهر التحديات، وهي قضية صنعها الاستعمار وأعوانُه، عندما وجدوا لغةً عليا للفكر والأدب وهي الفصحى، وفي المقابل وجدوا لغةً مستعملة في التخاطب اليومي وهي العامية، وهذا أمر موجود في كل اللغات، وليس ثمة مشكلة في ذلك، لكنَّ الاستعمار استغل هذه الظاهرة الطبيعية في اللغات؛ ليحارب بها الفصحى لغةَ القرآن (زكريا، 1964، ص 37).
فكونها موجودةً لا يعني أن نركن إلى هذا الوضع الذي تُحاربُ فيه الفصحى؛ لأن العامية سريعة التبدل والتغير، فما تلبث أن تصبح بعد فترة من الزمن لغةً أخرى بعيدة عن العربية؛ لكثرة الدخيل والمولد «فقد باتت العامية في عصرنا الحاضر بعيدة كل البعد عن الفصيحة، فقد نمت في مناخ مشبع بالرطانات الأعجمية، مما زاد انحرافاتها الصوتية، والصرفية، وألفاظها الدخيلة، وتراكيبها البعيدة عن سَنَنِ العربية، فالهدفُ إذن هو العودةُ بهذه العامية إلى سابق عهدها، من حيث قربها من الفصحى، أي: إلى الحال السابقة للحكم الأجنبي» (فريحة، 1955، ص 145).
فقد بدأت الدعوةُ إلى العامية من علماء الغرب الذين اهتموا بدراسة اللهجات العربية العامية منذ القرن التاسع عشر الميلادي، وكان من مظاهر اهتمامهم إدخالُهم تدريسَ اللهجات العامية في مدارسهم وجامعاتهم، مثل فرنسا وروسيا وألمانيا وإنجلترا، ثم بدأ اهتمامهم بالتأليف في اللهجات العامية، فمنه ما ألفه أبناء العربية بإيعاز غربيًّ مثل كتاب “أحسن النخب في معرفة كلام العرب” لمحمد الطنطاوي، ومنه ما قام بتأليفه الغربيون أنفسهم (وافي، 1973، ص 156. ومجاهد، 2013، ص 206).
أما الكتب التي ألفها العرب آنذاك فلم يترتب على ظهورها أيةُ خطورة على حياة العربية الفصحى؛ وذلك لأن مؤلفيها وهم من أبناء العربية اكتفوا بتسجيل خصائص العامية؛ بدافع تسهيل دراستها على الطلاب الأجانب، والترفيه عن العامية حيناً، أو التثقيف والتهذيب حيناً آخر.
ويمكن القول: بأن الكتابة بالعامية آنذاك كانت من أجل إضحاك الناس أو النقد اللاذع للحياة الاجتماعية والسياسية (السيوطي، 2006، ص 101 ـ 102)، كما يقول د. نهاد الموسى: «كان الأخذ بها عملياً على مستوى جزئي، تدبيراً آنياً لتوعية العامة وتثقيفهم، ذلك أن الذين استسلموا لهذا التدبير كانوا يوقنون بالمزايا التي تذخر بها الفصحى شأن رفاعة الطهطاوي، وعبد النديم».
الدعوة إلى استبدال الكتابة واستخدام الحروف باللاتينية
اعتمد دعاة العامية ذرائع عدّة للدعوة إليها وإحلالها محل الفصحى نذكر بعضاً منها فيما يأتي:
1- يرون أن الفصحى لغةُ أجيالٍ مضى عهدها؛ لذا فإنها تعجز عن التعبير عن الحياة، فالعامية أسهل في التعبير لخلوها من الإعراب، والألفاظ الوحشية، والميِّتة، والمترادفات، والأضداد الكثيرة؛ ولمرونتها في قبول الأوضاع الأجنبية بلفظها الأعجمي، ولميلها إلى إطلاق القياس في الاشتقاق للنموِّ والتوسع (الجندي، 1982، ص 128 ـ 129).
2- إنَّ كثيراً من المسلمين من غير العرب لا يستعملون الفصحى أداة للتعبير نطقاً أو كتابة، فلا مسوغ لتعلُّق المسلمين بها، أما لغةُ القرآن فتبقى من اختصاص رجال الدين (استيتية، 2005، ص 122).
3- ويذهب أعداء الفصحى إلى أنَّ في اعتماد العامية اختصاراً لوقت طويل يمكن أن يُهدر في تعلم الفصحى وأحكامها، فالإنسان يفكر بمستوى لغوي معين، وغالباً ما يكون العاميةَ، وبعد أن تستقيم له الفكرةُ بقالبها العاميِّ يحتاج تحويلُها إلى قالب فصيح مكتوب جهداً فكرياً آخر، فعوضاً من أن يَنْصَبَ الجهدُ الفكري في المعنى ينصرفُ إلى الشكل الذي يظهر فيه (وافي، 1973، ص 130)، فهم يرون أنَّ تعلم الفصحى هدرٌ لعمر الطلاب وسببٌ للإعراض عن القراءة والأدب.
يقول فريحة: «إذا كان على الفرد منّا أن يقضي من العمر شطراً ثميناً في تعلُّم اللغة فماذا يتبقى من العمر للاستفادة من اللغة؟ إن عنصر الزمن ثمين جداً، لا بل هو أثمن شيء في الحياة، وقضاء شطر من الزمن في تعلم اللغة خسارةٌ مادية فادحة» (الفيصل، 1992، ص 25)، ورَدَّ عليه إميل يعقوب بقوله: إن الازدواجية أو الثنائية كما يسميها هي ظاهرة طبيعية في كل اللغات؛ لذلك على كل إنسان مهما كانت لغته أن يقضي شطراً من عمره في إتقانها وتعلم قواعدها، وإن كان العربيُّ يقضي وقتاً أطول في تعلم قواعد لغته، فيمكن إصلاح ذلك بإصلاح طرق التدريس وإعداد المعلم الصالح لهذا الأمر (الفيصل، 1992، ص 30).
4- وقال آخرون من دعاة العامية: إن الفصحى تبعثر الوطنية المصرية، وتجعلها شائعة في القومية العربية، وهذا ما سمى بالدعوة إلى التمصير، ويرون أن المتعلِّق باللغة الفصحى يشرب روح العرب، ويعجبُ بأبطال بغداد، بدلاً من أن يشرب بالروح المصرية، ويدرس تاريخ مصر، فبصره متجه أبداً نحو الشرق، وثقافته كلها عربية شرقية (هذا رأي لسلامة موسى نقله محمد محمد حسين في كتابه الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر. حسين، 1968، ص 371)، وقد رد الرافعي على هذا الرأي بقوله: «إنَّ الدعوةَ إلى تمصير اللغة نوعٌ من أنواع العصبية الوطنية الممقوتة والتي محاها الإسلام» (مجاهد، 2013، ص 206).
5- ويدعي هؤلاء أن بنية الفصيحة معقدة وقوانينها متعددة، ومتنها متسع، واصفين الفصحى بالجمود وعدم المرونة، إضافة إلى صعوبة تعليمها وتعلمها، فلها قواعد وأبنية ومتون، ليس من اليسير امتلاك ناصيتها (م. ن.، ص73)، أما وصفها بالجمود وعدم المرونة، فغير صحيح البتة، لأن الفصحى استطاعت أن تستوعب علوم الأمم السابقة والمعاصرة واللاحقة، وأن تقدم حضارة أسطورية امتدت آلاف السنين، وهي: اليوم قادرة على إعادة الكرة (ضيف، 2012، ص 20).
6- كذلك نجدهم يتذرعون بأن الفصحى غير قادرة على التعبير عن مطالب الحياة اليومية، أو غير قادرة على الوفاء بمطالب العلوم المستحدثة، والردُّ واضحٌ عليهم: بأن الفصحى قد عبرت عن مطالب الحياة بأدق تفاصيلها وأخص خصوصيتها، ولعل في الرواية والقصة والجريدة دليلاً كافياً، أما بالنسبة للعلوم فتجربة العربية واتساعها لهضم علوم الأوائل معروفة، وإن قيل: إن الإنجليزية والفرنسية هي اللغة التي يمكنها التعبير عن العلوم فقط فغير صحيح، فقد كانت الإنجليزية مجدبة من المصطلحات العلمية قبل القرن التاسع عشر الميلادي، وكانت الملكة اليزابيت تتحدث إلى السفراء الأجانب باللغة اللاتينية. وانظر إلى الصينية واليابانية وغيرها من اللغات التي اتسعت لتفي بمطالب العصر والعلوم كافة، وليست العربية بأقل منها (عوض، 2000، ص 14).
فشل الدعوة إلى العامية
على الرغم من هذه الحملة الشرسة، والتآمر المقيت على العربية من قِبَل الغرب، فقد باءت محاولاتُهم بالفشل، ويمكننا أن نوجز الأسباب التي أدت إلى فشل الدعوة إلى عامية العربية في النقاط الآتية:
1- وضوحُ الهدف أمام أنصار الفصحى وتمسُّكهم به، وإعلانُهم أن العربية الفصيحة هي المشروع العربي الإسلامي الناهض، بالإضافة إلى جهودهم العلمية في نشر الفضيلة وإحياء تراثها، فقد حمل مفكرو هذه الأمة لواء الجهاد، وتصدوا لما يحاك ضدَّها من مؤامرات، إذ بات هدف الأعداء مكشوفاً عارياً أمام الناس، وأصبحت فكرتُهم التي ينادون بها من تطوير اللغة بما يُلائم حاجة العصر كذبًا يريدون من ورائة فرضَ سيطرتهم على العالم العربي.
2- ضيقُ العامية ومحدوديتها وفقرها في المفردات، وعدم وجود نظام كتابي يمنعها من استيعاب الإنتاج الأدبي والعلمي، فهي مضطربة كل الاضطراب في قواعدها وأساليبها ومعاني ألفاظها، لذا فهي لا تقوَى أبداً على التعبير عن المعاني الدقيقة (نفوسة، 1964، ص 8 – 11)، ولا على كتابة الإنتاج الفكري، سواء العلمي أو الأدبي، وأكبر دليل على ذلك أن من حارب الفصحى ودعا إلى العامية، واتخاذها لغة الكتابة، اضطر إلى استخدام الفصحى بأسلوب شيق في التعبير عن غايته وغرضه.
3- ومن أسباب فشل الدعوى إلى العامية أنها تتغير بسهولة، فلا تثبت أصواتها على حال واحدة، ولا تستقر دلالاتُ مفرداتها، فنجد أنّ عامية الشباب تختلف عن عامية الشيوخ وعامية النساء تختلف عن عامية الرجال وعامية كل جيل تختلف عن الجيل السابق» (م. ن.، ص138)، فالعاميات رمال متحركة بسرعة متفاوتة، محكومة بظرف الزمان والمكان وتفاوت الأحوال الاجتماعية، ومعنى ذلك أننا نضطر على رأس كل خمسين سنة، أو كل قرن على أكثر تقدير إلى تغيير لغة الكتابة بلغة أخرى (الموسى، 1987، ص 193).
4- اتخاذ العامية لغة مشتركة ونبذُ الفصحى يؤدي إلى الانقطاع عن التراث الحضاري المشترك للعرب والمسلمين، وقطع صلة الأجيال بماضيها الذي تعتز به، وتنشئة جيل جديد من أبناء العرب لا يتذوق أساليب البيان العربي الأصيل، ولا يحول في ذوقه إلا أساليبُ البيان الغربي وموضوعاتُه، فإذا نفر الشباب من شعر المتنبي وأبي تمام، ومن أسلوب القرآن المعجز، فقد حكمنا على تراث الأدب العربي بالكساد، ثم بالموت وتقطعت عرى صلة الأجيال المقبلة من أبناء العرب بقيمهم، وإذا انقطعت صلتنا بقيمنا أمكن أن نُقاد إلى حيثُ يُراد بنا ولا تجمعنا بعد ذلك جامعة تجعل منا قوة تخيف الكائدين، وتأبى على الطامعين» (عبد التواب، 2016، ص80)، أضف إلى ذلك أننا سنضطر إلى ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة العامية حتى يفهمه الناس، مما يفقده الإعجاز اللغوي والبياني الذي اختص به القرآن دون سائر الكتب السماوية.
5- تعددُ العاميات واختلافُها إلى درجة التباين، مما يؤدي إلى إضعاف التواصل بين البلدان العربية، وبذلك تصبح العاميات عاملَ تفكيك لا عاملَ توحيد، وسيكون الاختلاف حتمياً في أي لهجة من اللهجات التي يتم اعتمادها لغة مشتركة للعرب كلهم.
6- الضرر السياسي على الصعيد القومي بفقدان الوعاء الثقافي، وضياع دعامة رئيسة من دعامات وحدة القومية العربية وهي الفصحى لأنها الرابط الأقوى بين الشعوب بخلقها نوعاً من الشراكة في الفكر والإحساس (نفوسة، 1964، ص 178).
7- تعددُ العاميات يؤدي إلى سوء الفهم، فبعض الكلمات في عامية بلد مّا، لها معنى يختلف تماماً عن معناها في بلد آخر، فكلمة (مبسوط) مثلاً في اللهجة المصرية والشامية تعني الفرح، ولكنها في اللهجة العراقية تعني الضرب الشديد، وغير ذلك مما يؤدي إلى اللبس وسوء الفهم، وقد يؤدي إلى استغلال بعض الخبثاء هذا التباين من أجل القدح (أنيس،1992، ص 230-231).
8- ومن أسباب فشل العامية ارتباط الفصحى بالقرآن الكريم، ولولا وجود العامل الديني لأصبحت كلُّ لهجة عامية لغةً قائمة بذاتها، وأقرب مثال على هذا أن أهلَ مالطا كانوا يتكلمون العربية، ونظراً لانسلاخها دينياً وقومياً عن جسم العالم العربي.
9- استحالةُ تقعيد العامية في قواعد منضبطة مما يؤدي إلى عدم إمكانية اتخاذها لغة أدبية، وذلك أن قيمة العامية كونها منطوقة، وقد نبعت مرونتها من هذا الأمر، فإذا دُونت جُمدت، وبات من المحتم نشوء عامية أخرى جديدة (استيتية، 2005، ص 145. وأنيس، 1992، ص17).
10- اختلاف التشريع الإسلامي عن الفكر الغربي، إذ من المعلوم أن الدعوة إلى العامية نبعت من بنات أفكارهم التي تعتمد على فلسفات مادية من شأنها انتقاص اللغات المتصلة بالكتب المقدسة وبالمسيحية وبالكنيسة، ومن هنا كان من الخطر نقلُ هذا الفكر الغربي وتطبيقهُ على اللغة العربية التي تختلف عن اللغات الأخرى اختلافاً تاماً، إذ جاء القرآن الكريم قبل أكثر من أربعة عشر قرناً، ووضع لها مقاييسها الخاصة وكيانها المستقل، وحال بينها وبين أن تخضع لما تطورت إليه اللغات الأوروبية القديمة، وأسلوب الفكر الغربي يعتمد على فصل الحاضر عن الماضي، وإعطاء الأسلوب سواء في الشعر أو النثر حريةً مطلقة لا تقوم على أي قاعدة أو أساسٍ، سواء أكان هذا الأساس نحوياً أم بلاغياً أم منطقياً (م. ن.، ص140). ثم بعد فشل الدعوة إلى العامية واندحارها، تنبه العلماء الغيورون على لغتهم إلى نقطة مهمة، وهي الازدواجية في اللغة، والتي أصبحت تتنامى مع تطور العصر، والانفتاح في شتى المجالات، مما جعلهم يخافون من تأثير العامية على الفصحى بسبب التباين الشديد بينهما، فحاولوا جاهدين التقريب بينهما بدراسة العاميات المختلفة، ومحاولة التقريب بينها وبين الفصحى نحوياً وصرفياً ودلالياً وصوتياً، وذلك بحصر الكلمات والأساليب التي انحرفت فيها العاميةُ عن الفصحى، وتبيان هذا الانحراف وتحديده، ومحاولة رده إلى أصله العربي الفصيح، والإشارة إلى الألفاظ العامية التي يُظن أنها منحرفة، ولكنها فصيحة، فليس كلُّ ما تستعمله العامة خطأ.
أنصار الفصحى
لقد انتصر للفصحى مجموعة من العلماء العرب والمستشرقين تذكر المراجع عددًا منهم:
مصطفى صادق الرافعي: فقد عارض رؤية لطفي السيد التي دعت إلى استخدام العامية قائلاً: “إن في العربية سراً خالداً هو هذا القرآن المبين الذي يجب أن يؤدي على وجهه الصحيح، وإلا لزاغت الكلمة عن مؤداها. فكيفما قلبت اللغة العربية وجدتها الصفة الثابتة التي لا تزول بزوال الجنسية وانسلاخ الأمة عن تاريخها (الجندي، 1982، ص 187).
عمر فروخ: أكد رؤية الرافعي وأضاف قائلاً: “فاللغة علاوة على كونها أداة التفاهم، فهي جامع موحد للقومية بأوسع معانيها وسياج للأمة وصلة بين ماضيها وحاضرها، وطريق مستقبلها وعنوان ثقافتها، فإذا كانت الأمة قديمة اللحمة في التاريخ، واضحة النسب في المجد، كانت أحرص على ماضي لغتها، لأنها لا تريد أن تفرط بشيء من تاريخها، فإن الأمة إذا بدأت تنسى تاريخها سهل على الحوادث أن توزعها بين الأمم المختلفة الطامعة بها، أو الطاغية عليها من كل جانب (فروخ، 1961، ص 97).
الأب صالحاني عليّ: فقد رد على الخوري مارون غصن قائلاً: “إن السبب الذي أوقع الكاتب في الخطأ هو أنه افترى في العربية لغتين؛ الأولى فصيحة، والأخرى عامية. وليس هذا بصحيح؛ لأن اللغة العربية لغة واحدة. أما ما يسميه لغة عامية فليس إلا الألفاظ والعبارات التي يستعملها الكتاب والأدباء، فالعامية نستعملها ممزوجة بالأخطار، ولها لهجات في الحركات عند التكلم تختلف باختلاف البلدان شرقًا وغربًا سهلاً ومدينة وقرية، ولا قاعدة لهذه الأغلاط واللهجات التي تسير العامية بموجبها (الجندي، 1982، ص 193).
الخلاصة
لغة الأمة في خطر، هذا صحيح، لا مبالغة فيه، إذن الأمة في خطر، وهذا صحيح أيضاً، لأن اللغة ليست ألفاظاً وتراكيب وصيغاً وأساليب، ولكنها مكوّن من مكونات الأمة، ومقوّم لوجودها المعنوي، وحجر الزاوية في بنائها الثقافي والحضاري، والركن الرئيسُ في الكيان القومي من جهة، ومن جهة أخرى هي صمام الأمان في ترابط العالم العربي والإسلامي وتماسكه وتآلفه وانسجامه، باعتبار أن اللغة العربية هي المقوّم الثاني بعد العقيدة الدينية من مقوّمات العالم الإسلامي.
المصادر والمراجع
− ابن جني، أبو الفتح عثمان (2006). الخصائص. تحقيق محمد علي النجار. بيروت: عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع. ج 2.
− ابن هشام. (1964). مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، تحقيق زكي مبارك وحمد علي حمد الله، دمشق: دار الفكر.
− أبو مغلي، سميح (1978). في فقه اللغة وقضايا العربية. عمان: دار جمدالوي.
− استيتيّة، سمير شريف (2005). اللسانيّات: المجال، والوظيفة، والمنهج. عمّان: عالم الكتب الحديث. إربد: جدارا للكتاب العالمي.
− أنيس، إبراهيم (1992). في اللهجات العربية. القاهرة: دار الفكر العربي.
− بشناتي، عبد المنعم. (لا ت.). المعاجم العربية، أهدافها وتطور أنظمتها، طرابلس، لبنان: مطابع دار البلاد.
− البكوش، الطيب. (1987). إشكاليات اندماج الدخيل في المعجم، تونس: مجلة المعجميّة، عدد 3، ص 41 ـ 60.
− البهنساوي، حسام. (1998). العربية الفصحى ولهجاتها، القاهرة: العربي للنشر والتوزيع.
− الجندي، أنور، (1402هـ، 1982م) الفصحى لغة القرآن، بيروت: دار الكتاب اللبناني.
− حسين، محمد محمد. (1968). الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، القاهرة: مكتبة الآداب.
− الرازي، أبو حاتم (1958). الزينة، تحقيق: حسين الهمداني، القاهرة. ج 2.
− السيوطي. (1945). المزهر في علوم اللغة، مصر: عيسى البابي الحلبي، دار إحياء الكتب العربية. ج 1.
− السيوطي، جلال الدين (2006). الاقتراح في أصول النحو. ط 2. تحقيق عبد الحكيم عطيّة. دمشق: دار البيروتي.
− ضيف، شوقي. (2012). تحريفات العامية للفصحى، مصر: دار المعارف.
− طحان، ريمون، وطحَّان، دنيز. (1984). اللغة العربية وتحديات العصر، بيروت: دار الكتاب اللبناني.
− عبد التواب، رمضان. (2016). فصول في فقه العربية، مصر: مكتبة دار التراث.
− عبده، داوود. (1973). أبحاث في اللغة العربية، لبنان: مكتبة لبنان ناشرون.
− عوض، أحمد عبده (2000). فى فضل اللغة العربية: تعلما وتحدثا والتزاما: معالجة قرآنية ونبوية وتراثية. لا مكان: مركز الكتاب للنشر.
− غصن، مارون. (1925). دروس ومطالعة، بيروت – لبنان: المطبعة الكاثولوكية.
− فروخ، عمر. (1961). القومية الفصحى، بيروت: دار العلم للملايين.
− فريحة، أنيس. (1955). نحو عربيّة ميسّرة، بيروت – لبنان: دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع.
− الفيصل، سمر روحي (1992). المشكلة اللغوية. بيروت: جروس برس.
− قاسم، عون الشريف (1974). دراسات في العاميّة. السودان: الدار السودانيّة.
− مجاهد، عبد الكريم. (2013). علم اللسان العربي، مصر: دار أسامة للنشر والتوزيع.
− الموسى، نهاد. (1987). قضية التحول إلى الفصحى، بيروت: دار الفكر.
− النادري، أسعد. (2005). فقه اللغة مناهله ومسائله، صيدا – بيروت: المكتبة العصرية.
− نفوسة، زكريا. (1964). تاريخ الدعوة إلى العامية، الإسكندرية: دار نسر.
− هلال، عبد الغفار حامد. (1957). اللغة العربية، مصر: مطبعة الحضارة العربية.
− وافي، علي عبد الواحد. (1973). فقه اللغة، مصر: دار نهضة مصر.
− يعقوب، إميل بديع. (1972). فقه اللغة العربية وخصائصها، بيروت – لبنان: دار العلم للملايين. ص 16.
[1] – أستاذ النقد والبلاغة المشارك رئيس مجلس قسم اللغة العربية وآدابها. الباحث: د. بشير فرج ـ أستاذ مشارك ـ النقد والبلاغة العربية ـ كلية العلوم الإنسانية ـ جامعة بيروت العربية ـ رئيس مجلس قسم اللغة العربية وآدابها. (لبنان)
Researcher: Dr. Bashir Faraj – Associate Professor – Arabic Criticism and Rhetoric – Faculty of Humanities – Beirut Arab University – Head of the Arabic Language and Literature Department. (Lebanon). Bashir.faraj@bau.edu.lb