دراسة شاملة عن حقوق الإنسان في روايات عبد الرحمن منيف
دراسة الدكتورة خديجة شهاب نموذجًا
صباح محسن كاظم*
إنّ الروائيّ عبد الرحمن منيف من الروائيّين الذين تركوا بصمة خالدة في المشهد السرديّ العربيّ فقد تميّز بمنجزاته الأدبيّة الغزيرة بالقصّة، والرواية، والدراسات المتعدّدة يكتب للإنسان للحرّيّات والحقوق بقصصه ورواياته ال24 التي تعالج الأزمات، والانكسارات، والواقع المرير للأمّة والصراع في سبيل المحافظة على الأرض، ولديه القدرة في التعمّق بوصف العلاقات الإنسانيّة، والنماذج البشريّة لذلك جاءت دراسة الدكتورة خديجة شهاب من لبنان وافية شافية كافية بإظهار القيمة الجماليّة لمجمل المنتج الأدبيّ لمنيف بــ 686 صفحة عن المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر في بيروت، ومقتطفات ممّا ورد على غلاف الكتاب: “تهدف هذه الدراسة إلى تسليط الضوء على حقوق الإنسان في الوطن العربيّ، ورصد الأنظمة العربيّة في المحافظة عليها وتطبيقها، وذلك من خلال روايات عبد الرحمن منيف.
إنّها تتبّع معاناة الإنسان العربيّ، في ظلّ انتهاك حقوقه، وتشير إلى أساليب القهر التي تمارس في حقّه، وتقدّم دلائل علميّة تظهر أساليب الالتفاف عليها للاستفادة منها بغية تطويعها للمصالح الشخصيّة، أو لتغطية مشاريع كبرى وفق قوانين محلّيّة.
ولعلّ المنهج الموضوعاتيّ هو ما يناسب هذه الدراسة، إذ إنّه يستفيد من مناهج أدبيّة عديدة كالبنيويّة، ومنهج التحليل النفسيّ، والوجوديّة. هو مجموعة من التراكيب اللغويّة، والمشاعر، والانفعالات يقوم على علاقة جدليّة بحدس كلّ كاتب. يوقظنا على جماليّة النصوص، ويساعدنا في قراءتها قراءة متأنيّة.
استعرضت الدكتورة خديجة شهاب في تمهيدها ديباجة لائحة حقوق الإنسان بكلّ موادّها الــ 28 كمدخل للتفسير والتأويل لطروحاتها في تناول الكتاب.
في هذه الدراسة التحليليّة النقديّة اشتغالات واسعة وهي عميقة الرؤى تُظهر جهد الباحثة بشكل كبير بالغوص في أعماق الروايات لاستخراج تلك اللآلئ، والدرر الثمينة، وقد قدّمته على طبق من فكر ووعي طافت فيه أرجاء واسعة من عوالم الروائيّ العربيّ حيث أكّدت في التمهيد (ص 19): (يحمّل “منيف” رواياته رؤية أيديولوجيّة معيّنه، نلمح آثارها في ثنايا نصوصه من دون أن يتلفّظ بها في مستواها الصريح والمباشر. يعرض لقيم المجتمع العربيّ الموروثة، ويقلب القضايا الإنسانيّة الساخنة على غير وجه).
لعلّ الهدف الأسمى في أدب عبد الرحمن منيف هو الإنسان أوّلًا، والحرّيّة المتلازمة مع وجوده التي تؤمن بتعدّد الآراء، والتعبير من دون قيود، فالقدرات العقليّة تشلّ في الاستبداد، لذلك العالم الحرّ تطوّر بالحرّيّة تكنلوجيًّا، وحضاريًّا، وثقافيًّا، وفنّيًّا، ورياضيًّا من خلال الحرّيّة. في (ص22): (… ويتماهى “خريبط” في “مدن الملح” بوالي “بغداد”، فقد بدأ مَهَمّاته في السلطة كأمير “لموران”، ثمّ ما لبث أن “أعلن نفسه سلطانًا لها”. ترى هل نقل مفاهيم السلطة التي كانت لشيخ القبيلة، إلى الدولة الحديثة، فتصرّف على أساسها وبوحي منها؟ أم أنّه لا يعرف أسلوبًا آخر لتقلّد منصب السلطة؟ لعلّه كذلك، وهكذا تُغيّب إرادة المواطن في اختيار حاكمه، ويُعلن نفسه واليًا مدى الحياة!).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
** جامعة بغداد، كلّيّة التربية، بكالوريوس تاريخ، عضو اتّحاد الكتّاب والأدباء العراقيّين، له العديد من البحوث، والدراسات في الصحف والمجلاّت العربيّة.
كرّست الدراسة بمخطّطات مساندة للشروحات، والتفصيلات، في التحليل لإشكاليّات تلك الروايات بين صفحة وأخرى بالكتاب. نجد تلك المخطّطات التوضيحيّة، والتعبيريّة، والتحليليّة لمجرى الأحداث وتداعياتها، التي تعتمد ثنائيّة السلطة والحاكم المستبد، والعلاقة بينه وبين الشعب التي تركن إلى الاستئثار، والاستحواذ، والهيمنة، وبين الانقياد والطاعة، أو الرفض، والاحتجاج، والتضاد بالمطالب بين من يريد الاستغلال، ومن يناشد بالحقوق، لذا دعّمت المؤلّفة كلّ الصفحات بمخطّطات تعريفيّة توضيحيّة لمرادها في تفسير تلك الروايات، والصراع، والجدل المحتدم في الواقع السياسيّ، والاجتماعيّ، والاقتصاديّ، والثقافيّ، صراع السلطة بين الأخوة الأمير “فنر” و”خزعل” واغتيال “فنر”، فتنادى الأخوة إلى ترشيح “راكان” سلطانًا.
تسهب المؤلِّفة في تحليل النصّ بمعالجات نفسيّة حول السيطرة بالحكم، والصراع بين العثمانيّين، والفرنسيّين، والبريطانيّين، وخِيارات البريطانيّين بالنفوذ والسيطرة بتلك الأحداث مطلع القرن الماضي توحي بالصراع للسيطرة على بغداد، والعراق، والمنطقة. كيف يفكّر الآخر في إسناد من يمثّله ويدعمه، تذكر د. خديجة (ص 33): (ترغب عوامل الذات/ شيوخ القبائل ووجهاؤها، في أحد اجتماعاتها مع السلطان في أن “يترك لأبناء كلّ ولاية اختيار الوالي المناسب”، ولكن المرسل إليه/ الوالي يرفض هذا الموضوع. وهنا نرى برنامجين سرديّين مختلفين تمامًا، فالبرنامج السرديّ للعوامل الذات/ المرسل، يودّون ممارسة حقّهم في اختيار الوالي من بين أبناء القبيلة نفسها التي ينتمون إليها، أمّا البرنامج السرديّ للمرسل إليه/ السلطان، فإنّه لا يتوافق مع برنامجهم، وتظهر هنا الذات المضادّة، وهي وجهة نظره الرافضة كلّيًّا لما تقدّم به الشيوخ، ويرى أنّ الاختيار يجب أن يتمّ تبعًا لولائهم له).
تحاول فكّ الاشتباكات بمعالجات نفسيّة لطبيعة طلاّب السلطة، ومنافسيهم تقتبس المؤلِّفة (ص35) من رواية عبد الرحمن منيف “حين تركنا الجسر” (ص20 ): “الكبار هم الذين يخلقون الهزائم، والصغار هم الذين يموتون”.
ركّز عبد الرحمن منيف في منجزه “بداية الظلمات” والآن… هنا، على الدستور هو الضامن للحقوق والحرّيّات المغيّبة في مشهدنا العربيّ، التي سعى من خلال الثيمات الجماليّة، والفكريّة، والسياسيّة لإحقاق الحقوق، من خلال أدبه الملتزم، والجاد، والهادف، والرصين الذي يمثّل الذات العربيّة المستلبة من الاستعمار والحكام، وسطوة الطغاة في الاستبداد كما في رواية “الأشجار” و”اغتيال مرزوق” (ص 25) حيث تؤكّد شهاب في دراستها ص 44: (… ينتظم هذا الموضوع في ثنائيّة ضدّيّة، تعيّن/ تقيل تتوظّف/ تسرح في نسق يبدو متارجحًا بين رغبة الحاكم في أن يكون الجميع موالين له، وحاجة المواطن إلى الانفتاح على وظيفة في إدارة الدولة تؤمّن له الحياة الكريمة، وتختصر عليه كلّ المصاعب، وتلبّي بالتالي هذه الثنائيّات رغبتهما على التوالي. يتطوّر النصّ الروائيّ داخل هذه الثنائيّة باعتماده على القبول والرفض، ويظهر لنا ما يرغب إليه “منيف” وما يرغب عنه وفقًا لترابطه مع الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان، وإعطاء المواطن حقوقه في الوظيفة السياسيّة).
ثمّة تعامل بقسوة مع الموظّف في الوطن العربيّ، فمن لا يرغب به المسؤول يُفصل من وظيفته، ويُطرد بلا حقوق، وهو تكريس لمبدأ الولاء المطلق بانحناء وانصياع تامّين، فكلّ رأي مخالف يعدّه الحاكم هو خروج على طاعة الرئيس، يقتضي طرد الموظّف من وظيفته، وسجنه، وإبعاده، وعزله، كما في روايته “مدن الملح”.
تتبلور القوّة في المؤسّسة العكسريّة والأمنيّة التي تحصي أنفاس الأفراد. كما في تعيين “حمّاد” رئيسًا لجهاز الأمن واكبته عناصر أمنيّه لتكون في خدمته سُمّي لهذا الأمر “عبد المولى”.
مقتبس “سيرة مدينة” (ص 242) بالهامش (ص 47): (… بدأت معالم المنهج الأمنيّ، تتّضح في أحاديث الموظّف وتصرّفاته، وذهب بعيدًا في استعمال العنف متناسيًا أنّ القوّة “لا تدوم لنفس الجهة وبالمقدار نفسه”، فكان يلوم، ويحاسب، ويراقب…).
المواطن الفقير غالبًا هو الحريص على الوطن، والبلد، والوجود لأنّه يرى بيته هو الوطن، والوطن هو بيته، وتقع عليه المسؤوليّة في بناء البلاد، وخدمة العباد، والحرص الشديد في الدفاع عنه في الملمّات، وحين يواجه الأخطار يقوم بدرء العدوان بحياته، فالمُواطَنَة الحقيقيّة هي التشبّث بالوطن بالسراء والضراء.
تستمرّ المؤلِّفة بتحليل المواقف (ص 48): (ويتبدّى لنا البرنامج العنفيّ في الوظيفة الأمنيّة، ذلك أنّ الأمر ليس نزهة تقوم بها، بل مسؤوليّة كبيرة قد تؤدي الأخطاء في ممارستها إلى نتائج لا تحمد عقباها، فلا إهمال ولا تهاون، وتشير البنية الدلاليّة للرواية، أنّ الجميع موضع الرقابة، …).
وتستمرّ المؤلِّفة في مسارب شتّى، وأبعاد تحليليّة في آفاق رحبة، ومساحات شاسعة بروايات منيف كالأبعاد العسكريّة، والدينيّة، والإداريّة، والمشاركة بإدارة البلاد، إنّ تلك الكشوفات التي تتوغّل بالروايات تفكّك النسق الإبداعيّ الذي تشتغل عليه تجربة منيف الروائيّة، التي نسجها بحبكة فائقة لها دلالات عميقة في قصديّة مناوأة الاستبداد، والعنف السياسيّ الذي يمارس ضدّ الشعوب، وبالتالي يخلق التوتّرات، والصراعات التي وقودها الفقراء من المواطنين الذين لا ناقة لهم ولا جمل في عوالم المكر السياسيّ وسوق النخاسة، في (ص 64) تذكر المؤلِّفة: (لم يكن الحاكم في “أرض السواد” يتمتّع بأسلوب تفكير أفضل من الحاكم في “مدن الملح” أو في غيرها من الروايات، وكأنّهم جميعهم يختزلهم فكر واحد…).
حقًّا الحاكم المؤدلج نحو العسكرة والحرب، هو البحث عن المحافظة على عرشه، وسلطانه، وجبروته، وليس مصير الفقراء لذلك تقسو السلطة على مواطنيها، وتنسى وعودها الورديّة المبرقعة المزيّفة الخادعة، لا يحصد الشعب إلاّ الإغراءات بالخطابات، والوعود الكاذبة التي تمارس على ضحاياها وهم من المواطنين بالأساس، فالدائرة المقرّبة المتزلّفة للحاكم لا تصاب بأذى وسوء بالظروف المتعدّدة التي تحيط بالبلاد.