عنوان البحث: خصائص السُّنن الإلهيّة في المنظور القرآني
اسم الكاتب: حيدر حميد سلطان
تاريخ النشر: 18/07/2024
اسم المجلة: مجلة أوراق ثقافية
عدد المجلة: 32
تحميل البحث بصيغة PDFخصائص السُّنن الإلهيّة في المنظور القرآني
Characteristics of Divine Laws in the Qur’anic Perspective
Hayder Hamid Sultan حيدر حميد سلطان([1])
Dr. Reza Shokrani أ. د. رضا شكراني([2])
Dr. Syyed Mahdi Lutfi أ. د. سيد مهدي لطفي([3])
تاريخ الإرسال:19-5-2024 تاريخ القبول:31-5-2024
الملخص
إنّ موضوع السُّنن من الحقائق المهمّة الموجودة في القرآن الكريم، التي جعلها الله قانونًا ساريًا على مخلوقاته جميعها، من دون تخلّف ولا تبدّل ولا محاباة لأحد، وقد جرت قدرته تعالى على جعل هذه السُّنن حاكمة على الكون بأسره؛ لتنظم لنا الحياة وتذلل صعوباتها، والجدير بالذكر أنّ هذه السُّنن لا تختلف ولا تتخلّف، ولا تجامل ولا تحابي، فهي عادلة، وتسري على المجتمعات كافة، فحياة البشرية على هذه المعمورة محكومة ومقننة بقوانين، لا يُمكن أن تتغير فهي ثابتة ومطردة؛ ليتنبه الإنسان إلى أهميتها، وضرورة الأخذ بقوانينها؛ لتحصيل مراده المطلوب، وهنا تكمن أهميتها في منظور الفكر البشري، ومع أهميتها تلك وتأكيد القرآن الكريم الأخذ بها، وعدم إهمالها، فإنّها لم تحظَ بالدراسة الكافية، وهي مختصرة بعدد قليل من الدراسات التي لم تستوعب هذه الحقيقة القرآنيّة المهمة والتي تكون منطلقًا لبقيّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة؛ وتكمن أهمّيّة هذه الدّراسة في إبراز بعض خصائص السُّنن الإلهيّة ومدى تأثيرها على الأُمم من الناحيتين الإيجابيّة والسّلبيّة، فكان لِزامًا علينا تأكيد هذا الموضوع وإبراز أهميته من خلال التعرف إلى هذه السُّنن الإلهيّة، ومدى تأثيرها على هذه الأُمة؛ ليتبيّن انحرافها عن المنهج السّماوي، وتسلط عليها الأُمم التي تسير بهم إلى الهوان، والتّضعيف، ونهب خيراتهم، وجعلتهم يرون في الإسلام عائقًا أمام تقدمهم، وليتبيّن لنا أنّ الانحراف عن المنهج السّماوي، سيؤدي حتمًا الى تدهور أحوال الأمم واندثار الحضارات، وقد كشفت هذه الدراسة أنّ مفهوم السُّنن الإلهيّة له معنى واحد يختصر المعانٍي المتقاربة جميعها والتي ذُكِرت سابقًا، وهو دلالتها على توالي الفعل واطراده على نهج واحد، وبيّنت أنّ بعض الآراء التي أسهبت في تعداد خواصها، هو إسهاب مفرط، ورأى الباحث أنّ اختصار خصائصها التي لها المعنى نفسه والدلالة نفسها، تكمن فائدته في تبويب هذا العلم كما بقيّة العلوم الأخرى، فالنّفاد وعدم التّخلف: هو الثّبات. والحكمة والعدل: هما الرّبانيّة. وبعد أن جمعت التّعريفات والأنواع التي اعتمدوها العلماء الذين كتبوا في السُّنن الإلهيّة كلًا حسب فنه، لذا جاءت هذه الدّراسة لتأكيد مفهوم السُّنن الإلهيّة، والتّعرف إلى أهميتها وأنواعها، وخصائصها وتناولت بعض الشّبهات وأجابت عليها لإزالة الغموض وجلاء فكرة وجود سنن الله في خلقه.
الكلمات الدّليليّة: السُّنن، السُّنن الإلهيّة، الرّبانيّة، الاجتماعيّة، الكونيّة، التأريخيّة.
Abstract
“The subject of divine laws (sunnah) is one of the most important truths found in the Holy Quran. God has made these laws applicable to all His creations, without deviation, change, or favoritism towards anyone. His divine power has established these laws to govern the entire universe, to organize our lives, and to ease its difficulties. It is noteworthy that these laws do not vary or deviate; they are just and apply to all societies. Human life on this earth is governed and regulated by unchangeable and consistent laws, so that people can recognize their importance and the necessity of adhering to them to achieve their desired goals.
Despite their significance and the Quran’s emphasis on adhering to them and not neglecting them, these laws have not been sufficiently studied. Only a few studies have briefly covered this important Quranic truth, which serves as a foundation for other human and social sciences. The importance of this study lies in highlighting some characteristics of the divine laws and their impact on nations, both positively and negatively. Thus, it is imperative to emphasize this subject and highlight its importance by understanding these divine laws and their impact on this nation, to reveal their deviation from the divine path, which leads to their subjugation by other nations, resulting in humiliation, weakening, and exploitation of their resources. These nations see Islam as an obstacle to their progress. It becomes evident that deviation from the divine path inevitably leads to the deterioration of nations and the collapse of civilizations.
This study has revealed that the concept of divine laws has a singular meaning that encompasses all the previously mentioned similar meanings, indicating the continuity and consistency of actions in a uniform manner. It also showed that some opinions that elaborated on enumerating their characteristics were overly detailed. The researcher believes that summarizing these characteristics, which have the same meaning and indication, is beneficial for categorizing this science like other sciences. The constancy and non-deviation imply stability, and wisdom and justice imply divinity.
After collecting the definitions and types used by scholars who wrote about divine laws, each according to their expertise, this study aims to reaffirm the concept of divine laws, recognize their importance, types, and characteristics, and address some misconceptions to clarify the idea of the existence of God’s laws in His creation.
Keywords: Traditions, Divine Traditions, The Divine, Social, Universal, Historical.
المقدمة
نظرًا لأهمية موضوع السُّنن الإلهيّة وتنوعها، فقد ذُكرت في القرآن الكريم في آيات عديدة ليتمكن الإنسان من استكشافها، والاستفادة في توظيفها وتسخير منافعها في عمارة الأرض، وبناء الحضارات ورقيّ الأمم وإنّ إهمالها وعدم الاهتمام بها من المسلمين، وعدم أخذ العبرة بالأقوام التي سبقتهم سيؤدي حتمًا إلى توقّف التّقدم والازدهار، وزيادة سوء حال العالم الإسلامي بالتبعيّة الفكرية للأكثر تفوقًا منه في إدارة الكون، مع أنّ المسلمين هم أهل منهج قويم في حسن إدارة الكون وتسخيره، فمن الخطأ الفادح أن يشعر المسلمون أنّ السُّنن الإلهيّة محابية لهم، ومتحيزة لهم لكونهم مسلمين، فلابدَّ من الأخذ بالسُّنن الإلهيّة التي جعلها الله قانونًا ثابتًا، فهناك أسباب ومسببات ومقدمات ونتائج لابدَّ من الأخذ بها، مع الاعتماد والتوكل على الله.
الأسئلة المهمّة الرئيسة التي تدور حولها هذه الدراسة:
- ما مفهوم السُّنن
- ما أهمية السُّنن الإلهيّة
2- ما أنواع السُّنن الإلهيّة
3- ما خصائص السُّنن الإلهيّة
وقد تمت هذه الدراسة متبعاً فيها المنهج الوصفي للوصول الى الفهم العام لخصائص هذه السُّنن الإلهيّة
المطلب الأول: شرح المفاهيم الرئيسة
أولاً: السُّنن لغة: جمع سُنَّة، والسُّنن لها معانٍ كثيرة في معاجم اللغة، وأنّ أهل اللغة اختلفوا في عدّ لفظ(سُنة) هل هو اسم غير مشتق (جامد) أو هو اسم مصدر من (سن). قال الجوهري وابن عاشور إنّ لفظ (سُن) غير مشتق، (الجوهري، إسماعيل، 1376ه، 2138) أمّا الأزهري فقال إنّها اسم مصدر (الأزهري، محمد، 1421ه، 210)، وكذلك كان هذا رأي أغلب المفسرين، “لم يذكروا لفعل (سن) مصدرًا قياسيًّا”) ابن عاشور، محمد، 4/ 67(، ومن جملة معانيها الطريقة: “يقال: استقامَ فلان على سَنَن واحد، ويقال: امضِ على سَنَنِكَ وسُنَنِكَ، أيّ: على وجهك”(الجوهري، إسماعيل، 1376ه، 2138) وقال ابن فارس”السين والنون أصل واحد مطرد وهو جريان الشيء وإطراده في سهولة “) ابن فارس، أحمد، 1404ه، 3/ 60). “ومما اشتق منه السُّنة وهي السيرة، وسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) سيرته التي يتحراها”) ابن فارس، أحمد، 1404ه، 3/ 61). وقالوا هي الاتباع: “يقال استسن بالشيء: أي: اتبعه”) الأندلسي، لأبي حيان، 1422ه، 3/ 60). وكذلك هي الدوام: سنَنْتُ الماءَ على وَجْهي أَي: أَرْسَلْتَهُ إرْسالًا من غيرِ تَفْريقٍ”) الزبيدي، محمد، 1414ه، 18/ 299). وقال ابن منظور هي حسن السياسة: “سنَّ الرجلُ إبله إذا أَحسن رِعْيتها والقيامَ عليها”) ابن منظور، محمد بن مكرم، 1405، 13/ 223).
ثانيًا: تعريف السُّنن اصطلاحًا: إنّ تعريف السُّنة اصطلاحًا له أهمية خاصة لارتباطه بالفعل الإلهي، ما أحدث نقاشًا قديمًا بين أهل الفقه والتّفسير والأصول والمحدثين، عرّفها أهل الفقه أنّها: الطريقة المُسلّم بها في الدّين من غير افتراض ولا وجوب، ينظر: (الجرجاني، أبو الحسن، 1971).
وعرّفها آخرون أنها: “تطلق في عرف الفقهاء على ما يقابل البدعة، ويراد بها كل حكم يستند إلى أصول الشّريعة في مقابل البدعة، فإنّها تُطلق على ما خالف أصول الشّريعة ولم يوافق السُّنة وهي بذلك ترادف كلمة المستحب “) الحكيم، محمد تقي، 1979هـ، 121 – 122). والمحدثين عرّفوها أنّها: “ما نُقِل عن النّبي (صلى الله عليه وسلم) من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقيّة أو خُلُقيّة أو سيرة، قبل البعثة أو بعدها، أثبت ذلك حكما شرّعيًا أم لا”) الباجي، ابن أيوب سليمان، 1/ 14)،
وكذلك اعتنى علماء الأصول بالسُّنة بوصفها كل ما يصدر عن النّبي من قول أو فعل أو تقرير يُنظر: (الأنصاري، محمد علي، 1420هـ، 3/ 508)، وقد أضاف الشّيخ البهائي في كتابه زبدة الأصول قيدين للتعريف أعلاه وهما (غير قرآن ولا عادي) فقال: “السُّنة هي قول النّبي (صلى الله عليه وآله)، أو فعله، أو تقريره، غير قرآن ولا عادي “(البهائي، محمد بن الحسين، 1423، 87). فقد أتضح لي من مجموع هذه التّعريفات الاصطلاحيّة المتقدمة، أنّ مفهوم السُّنة اصطلاحًا قد تنوع حسب ما كان يلحظ، ويعتني به علماء أهل كل فنٍ، فعلماء الفقه كانوا ينظرون إلى السُّنة بوصف النّدب، وتقسيم أعمال المكلفين، وما طلب منهم فعله طلبًا غير جازم، يستحق من يأتي به الجزاء، ولا يأثم من يتركه.
أمّا علماء الأصول فكانوا ينظرون إلى السُّنة بوصفها صادرة عن النّبي(صلى الله عليه وآله)، من أقوال أو أفعال أو تقريرات، وهي حجة يستنبط منها الأحكام الشّرعيّة بوصفها المصدر الثاني للتّشريع، وأمّا المحدثين فكان اهتمامهم ينصبّ على مدى صحة الأحاديث المنقولة عن النّبي (صلى الله عليه وآله)، وتقسيمها بين الحديث المقبول وهو الحديث (الصحيح والحسن)، والحديث المردود(الضعيف)، واهتمامهم بالصّفات الخلقية والخُلُقيّة للنّبي، وبعد أن عرفنا التّباين الحاصل في تعريف السُّنة لدى العلماء على اختلاف توجهاتهم وأشربتهم التي ينظرون بها حسب ما يرتبط بالعلم الذي يهتمون ببيانه.
وكذلك تبيّن لي من فحوى كلام الشّيخ البهائي في زبدة أصوله، أنّه بهذا القيد (غير قرآن ولا عادي)، أخرج القرآن الكريم من السُّنة التي هي قول النّبي (صلى الله عليه وآله)، وكذلك كلام النّبي العادي، كما لو أنّه (صلى الله عليه واله) طلب ماءً، فقوله هذا أيضًا ليس من السُّنة، والملاحظ هنا أن الشيخ البهائي قيّد تعريف السُّنة كما تقدم، ولم يذكر الحديث القدسي، فهو أيضًا قول النّبي (صلى الله عليه وآله)، ولا يدخل ضمن القرآن ولا الكلام العادي؟!
ثم أنّ هذين القيدين لا داعي لهما؛ لأنّ المسلمين في زمن النّبي يعرفون أنّ هذا الكلام هو قرآن، والنّبي (صلى الله عليه وآله)، يصرح لهم بذلك فلا يختلط عليهم المطلوب، وأمّا بعد وفاة النّبي (صلى الله عليه وآله)، فإنّ المسلمين كذلك يميزون القرآن الكريم من غيره، فلا يختلط عليهم حينئذٍ، وهذا يشمل الكلام العادي أيضًا.
المطلب الثاني: أهمية السُّنن الإلهيّة
اهتم القرآن الكريم بالسُّنن الإلهيّة، وأشار إليها مذكرًا بها، وأنّها هي التي تسيّر قوانين هذه الحياة، فقد جرت قدرة الله تعالى على جعل هذه السُّنن حاكمة على الكون بأسره؛ لتنظّم لنا الحياة وتذلل صعوباتها، وقد ذكّرنا الله تعالى بالأقوام السّالفة، وما جرى عليها؛ لنتعظ ولنهتدي إلى سواء السّبيل، قال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾) سورة النساء، الآية: 26)، والجدير بالذكر أنّ هذه السُّنن لا تختلف ولا تتخلّف، ولا تجامل ولا تحابي، فهي عادلة، وتسري على المجتمعات كافة، فحياة البشرية على هذه المعمورة محكومة ومقننة بقوانين، لا يُمكن أن تتغير فهي ثابتة ومطردة؛ ليتنبه الناس إلى أهميتها، وضرورة الأخذ بقوانينها؛ لتحصيل مراده المطلوب، “فإذا اهتدوا إلى تلك السُّنن سُعدوا، وحدث التّوافق بينهم، وبين أنفسهم، وبين مجتمعهم، وبينهم وبين الكون الذي يعيشون فيه، ويحصلون منه على كل ما يحتاجون إليه، ومن ثم يطلعون على أسراره، ويعثرون على كنوزه، وينعمون بخيراته، أمّا إذا انحرفوا عن تلك السُّنن فإنّهم يشعرون بالشّقاء لعدم التوافق بينهم وبين أنفسهم التي فطرها الله على تلك السُّنن، وبينهم وبين المجتمع الذي تجري أحداثه وفق السُّنن الإلهيّة سواء علم الناس بها أم جهلوها” (عمر أحمد عمر، 1412هـ، 3)، والجدير بالذكر أنّ هذه السُّنن تتنوع بحسب آثارها فمنها ما اختص بتحذير الإنسان وإنذاره، قال تعالى: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا﴾ سورة مريم، الآيتان: 97-98)، ومن ظواهر الحياة هو التّنظيم الدّقيق لهذا الكون الفسيح، والسُّنن الحاكمة فيه، وأنّ هناك جانبًا خفيًّا لهذه السُّنن هو المتسلط، وله الهيمنة الإلهيّة على هذا الكون وما فيه، ويُعدُّ القرآن الكريم الكتاب الأول الذي أشار إلى أهمية هذه السُّنن والإذعان لها، مذكرًا بحاكميتها على الكون والأفراد، سواءً ما ذكره تصريحًا أو تلميحًا بحسب المقتضى. فإنّنا لو تأملنا مجمل الآيات الشّريفة لوجدنا أنّ هذه السُّنن تؤثر على المحيط سلبًا أو إيجابًا، وتكمن أهميتها لشموليتها للعمران وللإنسان، ومن جملة هذه السُّنن تكذيب الأنبياء، فقد اعتاد بني البشر على تكذيب أنبيائهم على مرّ العصور، وقد أخبرنا القرآن الكريم عن صنيعهم بقوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾(سورة يوسف، الآية 110(، وعلى وفق قوانين السُّنن فإن الله تعالى لا يتخلى عن الذين أمنوا واستقاموا، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(سورة الأعراف، الآية: 96(، فإنّه تعالى أشار إلى أنّ التّقوى سببًا في نزول الخيرات،”وأن أبواب البركات مسبب لإيمان أهل القرى جميعًا وتقواهم، أيّ: إن ذلك من آثار إيمان النّوع الإنساني وتقواه لا إيمان البعض وتقواه، فإنّ إيمان البعض وتقواه لا ينفك عن كفر البعض الآخر وفسقه، ومع ذلك لا يرتفع سبب الفساد وهو ظاهر” (الطباطبائي، محمد حسين، 1390هـ، 8/ 195).
ومن تلك السُّنن التي أكدها القرآن الكريم هي سُنة الإِمْهَال، إذ إنّه تعالى يُمْهِل العباد؛ لاقتضاء المصلحة المترتبة على ذلك، والتي يكون بها خير المجتمع وصلاحه، قال تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾(سورة آل عمران، الآية: ١٧٨).
“وبعد أن أَمهلهم الله تعالى، كان من لطفه أن حذرهم وأنذرهم، قبل نزول سخطه، وتغير حالهم المرتبط برضاه وعدمه، قال تعالى: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ (سورة النساء، الآية: 165). وعلى كل حال فإنّ هذه الآية من الآيات التي فيها دلالة على لزوم اللطف عن طريق إرسال الأنبياء والرسل! وتدل على أنّ سنة اللّه قائمة على عدم تعذيب أيّة أمة قبل إرسال الرّسل إليها”)الشّيرازي، ناصر مكارم، 1421 ه، 12/ 245).
ومن بعد أن أمهلهم الله تعالى ولم يستجيبوا، وشدد في إنذارهم وتحذيرهم، حتى يرجعوا ويتعظوا عما كانوا عليه، فلا ينزل العذاب على قومٍ بغتة حتى تأتي قبله سُنن ناذرة ومحذرة لئلا يقعوا في العذاب، فكانت السُّنن حاكمة وفق مقتضاها على أنّه تعالى توَعدَ الذين يتولون ولايلتزمون بأوامره ونواهيه، بالاستبدال بقوم آخرين، قال تعالى: ﴿هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾(سورة محمد، الآية: 38). وقد أشار المفسرون إلى بيان معنى هذه الآية الشّريفة بما نصه: “أن تُعرِضوا عن دعوة اللّه، وتُصرّوا على التّمرد والعصيان يذهبكم ويأتِ بخلق جديد يسبّحون بحمده ولا يعصون له أمرًا) مغنية، محمد جواد،1424ه، 7/ 81).
ومن جزاء عاقبة الأعمال أنّ السُّنن قد تجري ليس وفق أهوائنا ولاتبعًا لاعتقاداتنا، وإنّما هي محكومة وفق قوانين شاملة وعامّة سرت على الأقوام السّابقة، ولا تتخلّف عنها الأمم اللاحقة، قال تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾(سورة النساء، الآية: 123). “فلا إشكال فى عدم اشتراط الإيمان بالنّبي (صلّى اللّه عليه وآله)، لأنّ الكلام فى معاملة اللّه تعالى لكلّ الفِرَق أو الأمم المؤمنة بنبي ووحي بخصوصها الظّانة أنّ فوزها في الآخرة كائن لا محالة؛ لأنّها مسلمة أو يهوديّة أو نصرانيّة أو صابئة مثلًا، فاللّه يقول إنّ الفوز لا يكون بالجنسيّات الدّينيّة وإنّما يكون بإيمان صحيح له سلطان على النّفس، وعمل يصلح به حال الناس، ولذلك نفى كون الأمر عند اللّه بحسب أماني المسلمين أو أماني أهل الكتاب، وأثبت كونه بالعمل الصالح مع الإيمان الصحي”) رضا، محمد رشيد، 1414ه، 1/ 337).
والجدير بالذكر أنّ هذه السُّنن قائمة، وتجري وفق أنظمة دقيقة، لا يُمكن أن تتعداها، وهي شاملة للمخلوقات جميع التي تدب على هذه المعمورة، وهذه المسألة بحد ذاتها جديرة بالبحث، وتسليط الضوء، وهنا تكمن أهميتها في منظور الفكر البشري.
المطلب الثالث: أنواع السُّنن الإلهيّة
أولاً: السُّنن التّأريخيّة: اهتم القرآن الكريم ببيان حقيقة هي غاية في الأهمية، وهي أنّ السُّنن التّأريخيّة تبدأ حركتها منذ خلق آدم (عليه السّلام)، وأنّ للتأريخ سُنن ثابتة، كما هو الحال بالنسبة إلى السُّنن الكونيّة، وقد أثبتتها النّصوص القرآنيّة بطرق مختلفة وأساليب متعددة، فحثت على الاستفادة من الحوادث التأريخيّة السّابقة للأمم؛ بغية الاعتبار وأخذ الموعظة، واستعرضت الحركة التّاريخيّة للأمم الغابرة من غير الإنس، كقصة الملائكة وسجودها لآدم، وما رافقها من أحداث، ودور الشّياطين في تضليل وانحراف البشريّة ينظر: (الصدر، محمد باقر1434ه/ 40). لذا نجد القرآن الكريم يُحثنا دائمًا ويوجهنا إلى أخذ العبرة من تجارب الأمم الخالية، واستخلاص المنفعة منها بما يصلح لإفادة الحاضر والمستقبل “وأكد تدبّر الماضي وقراءته قراءة تأريخيّة مثمرة ومهمة، وكثيرًا ما يشدّ النّاس إلى التّاريخ، ويركز كثيرًا على ربط كلمة ماضي بالأولين؛ ليبين أنّ المسألة لها صلة بكل أطوار التّاريخ، والحاضر والمستقبل له جذور ممتدة من الماضي، وهنا يتضح أنّ النّظر بما حدث في الماضي، هو الذي سيحدث في الحاضر والمستقبل، وتلك هي أهم قاعدة في منهج السُّنن التّأريخيّة، بعد هذا ينبغي على الإنسان الباحث عن الحقيقة النّظر في تاريخ الأمم نظرة دقيقة فاحصة؛ لفهم طبيعة ما يجري في الحاضر (الحسيني المغربي، إدريس ، 115 – 116) ويتحدّث القرآن عن الحركة التّاريخيّة للعلوم ونشوئها وتطورها، كمراحل خلق السّموات والأرض، ومراحل النّشأة والتكوين للعناصر الحياتيّة على الأرض، وتاريخ تكوّن الأعراق البشريّة، واختلاف الألسن والألوان، وغيرها مما لا حصر له، فما من علم إلّا وله بداية نشأ منها وانطلق من عندها ليكوّن بذلك سجلًا تاريخيًا يدوّن فيه سير هذه الحركة التّاريخيّة لهذا الصنف من العلم أو ذاك، ولهذه الأمة أو تلك ينظر: (السيّد، رضوان، 1404هـ/35).
ونلاحظ في القرآن الكريم “أنّ هذه الحقيقة، حقيقة أنّ للتّأريخ سُننًا وأنّ السّاحة التأريخيّة عامرة بسنن، كما عمرت كل السّاحات الآخر من هذه السُّنن وهذه الحقيقة نراها واضحة في القرآن الكريم” ينظر: (الصدر، محمد باقر، 1434ه، /53-54).
ولهذا فإنّ القرآن الكريم يلفت أنظارنا إلى ملكوت السّماوات والأرض؛ لمعرفة السُّنن الكونيّة والنّظر إلى تاريخ الأمم وأحوال المجتمعات، وأنّ السُّنن الكونيّة والعادات الجارية التي لها الحاكمية على سير الأمم في حركتها وتطورها، وإنّ التدبر في السُّنن التّأريخيّة تهدف إلى إثارة الفكر البشري، وتستدعي منه أن يبحث عن الحقّ، وتدفعه الى التّساؤل عن خلاصة التّجارب البشرية، ليستخلص العبرة، ويطلع على القوانين التي يسير على أُسسها أولو الألباب، وهي التي تفسر لنا حركة التّاريخ تفسيرًا حقيقيًّا، وإذا كانت السُّنن التّأريخيّة قد أثبتها القرآن الكريم من خلال استعراض سوره وآياته التي خصصت لمعالجة أحوال الأمم السّابقة بأبعادها جميعها؛ زادت من تجارب الجماعات البشريّة عبر الزّمان والمكان؛ لتدارك مغبة الأخطار المتوقعة الحصول.
ثانيًا: السُّنن الاجتماعيّة: إنّ المصطلح العام للسُنن الاجتماعيّة في المنظور الإسلامي له علاقة وثيقة بالنّصوص القرآنيّة، وهي داخلة ضمن المنظومة الإسلاميّة، التي تشتمل على مفاهيم عَقَديّة وفكّريّة، وفي ذات الوقت، لا يُمكن فهم مداليلها، إلّا عند تتبعها من خلال الغور في الآيات القرآنيّة، وقد أكد القرآن الكريم بيان مسألة السُّنن الاجتماعيّة، وأشار إلى الرؤية الإسلاميّة في تفسير ظواهر المجتمع والتأريخ. وأنّ تفاعل النّاس مع بعضهم ينتج ظاهرة اجتماعيّة، “تحتاج في ظهورها ورسوخها في المجتمع إلى عزائم قاطعة، وهمم عالية من نفوس قويّة، لا يأخذها في سبيل البلوغ إلى مآربها عيّ ولا نصب”(الريشهري، محمد، 4 /3649)، وهذه سنن اجتماعيّة، قائمة وثابتة، مادام هناك تنوع في المجتمع، فوجود الخير يقابله وجود للشّر، وعليه وكونها سنن، فهي سارية – دون تمييز- على الجميع “إذ إنّ الأوضاع القائمة في المجتمعات البشرية غير المهذبة، جعلت من النّاس طبقة أكابرهم يستغلون موارد طبقة الأصاغر ظلمًا وإجرامًا، ويحتالون في الاستحواذ على مشاعر النّاس وإبقائهم في الجهل والضلال، غير أنّ الظلم لا يدوم وسيدور عليهم الحقّ من حيث لا يشعرون”) معرفة، محمد هادي، 1410ه،3، /230).
وإنّ علماء الاجتماع، يتناولون المسائل الاجتماعيّة، ويغورون في غمارها، من خلال التّعرف إلى السُّنن الاجتماعيّة؛ لأنها تُعدُّ مصدرًا مهمًّا، ومادةً أساسيّة في دراسة البحوث الاجتماعيّة، ودليلهم على ذلك، أنّ علم الاجتماع هو أحد المعارف العلميّة والعمليّة التي تُناط بها مهمة الكشف عن القوانين التي تسيّر وتقنّن حركة البشر ضمن حدود المجتمع ينظر: (الحكيم، منذر، 1432ه ،235).
ومن هنا تبيّن أن القرآن الكريم اهتم بمسألة السُّنن الاجتماعيّة، واستعراضه للقصص والأمثال القرآنيّة، لم يكن الهدف منها لسردها فحسب، فلا يذكر القصّة بكامل تفاصيلها وأحداثها، وغالبًا ما يُهمل مكان وقوعها، وزمان أحداثها، وغالبًا لا يُذكَر أشخاصها، وإنّما يأخذ من القصة ما فيها من العِبَر والمواعظ، وبيان السُّنن الاجتماعيّة في العصور الماضية، والأمم السّالفة؛ لتعتبر بها الأجيال اللاحقة.
ثالثًا: السُّنن الكونيّة: خلق الله تعالى سُنة الموت التي هي مآل كل الأحياء، وهذه هي الحقيقة التي لا مناص منها، وهي اليقين الذي لا فرار منه، والنّهاية المحتومة للمخلوقات جميعها، وبناءً على أنّ الله تعالى أوجد هذا الكون وجعله مقننًا، وفق منظومة من القوانين والأنظمة التي نظمت فلسفة البقاء، ولولاه لاكتظت الأرض، وضاقت بما وسعت قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾(سورة الأنبياء، الآية: 34)، فمن سُنن الحياة سُنة الموت، وأنّ كلّ النّاس سيرحلون عن هذه الدّنيا، وهذه النهاية التي لابدَّ أن يصلها كل مخلوق، حتى يكون للحياة معنى، وإنّ القرآن الكريم خاطب الإنسان خطابًا جعله في جو رهيب، وبيّن له أنّه لابدَّ أن يصل إلى هدفه. وإنّ الموت لا يفرّق بين أحد حتى أكرم خلق الله يموت، قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾(سورة الأنبياء، الآية: 35)، وهنا إشارة قرآنيّة تبيّن لنا أنّ الموت شربة يتذوقها الإنسان، ولا بدَّ له من تجرع مذاقها، والإحساس بمرارتها؛ لذا علينا الاعتبار بمن مضى من الخلق، وإنّها لعبرة عظيمة لمن اعتبر) المدرسي، محمد تقي، 1429هـ، 5/213-214).
قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ (سورة فاطر، الآية: 41)، “أيّ: إنّ اللّه يمنع السّموات أن تضطرب من أماكنها، فترتفع أو تنخفض ويمنع الأرض من مثل ذلك، ويحفظهما برباط خاص، وهو ما يسميه العلماء نظام الجاذبيّة، فالعوالم جميعها من الأرض والقمر والشّمس والسّيارات الأخرى تجرى في مدارات خاصة بهذا النّظام الذي وضع لها، ولو لا ذلك لتحطمت هذه الكرات المشاهدة، وزالت عن أماكنها، لكنها به ثبتت فى مواضعها، واستقرت في مداراتها”) المراغي، أحمد مصطفى ،22 / 137).
رابعًا: السُّنن النّفسيّة: جعل الله الحجج البالغة في السّير في الأرض والتّفكر في الخلق وما آلت إليه مصائر الأولين، ثم أمرنا بالنّظر إلى أنفسنا؛ لنبصر من عجائب دقة خلقه، وعظيم صنعه، قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (سورة فصلت، الآية: 53)، “لأهل المعرفة مما يجدونه من العقاب إذا ألمّوا بذنب، ومن الثواب إذا أخلصوا في طاعة”) القشيري، عبد الكريم بن هوازن، 1420، 3/339).
وإنّ الله تعالى خلق البشريّة، وجعلهم مختلفين بما يتناسب مع قابلياتهم واستعداداتهم؛ ليبذل كل فرد فيهم قصارى مجهوده لنيل رضا ربه، وهنا يكمن سرّ علو مراتب بعضهم، ومن هنا يحوز كلٌ منهم على استحقاقه، بحسب ما يقدّمه من أعمال في هذه الدّنيا، فينشئ التّمايز بين المؤمن والكافر أو المؤمن والمنافق، وأنّ الإرادة الإلهيّة تركت للإنسان أن يختار مكانه سواء في الجنة أو النار، وأن يحدد مصيره الذي هو ملاقيه من خلال ما قدمه من أعمال بإرادته، وأنّ الله تعالى من فضله بيّن للإنسان طريق الهدى، وطريق الضلال، وأوكل ذلك للإنسان هو الذي يختار مصيره بنفسه، وأن الاختلافات جميعها بين أهل الحقّ، وأهل الباطل أو بين أهل الحقّ أنفسهم، منشؤها التّفاوت في عقولهم ونفسياتهم، وإدراكاتهم، وترجيحاتهم لآرائهم وتوجهاتهم، وهذه هي سنة الحياة التي جُبلت على وجود الصراع بين الحقّ والباطل، وعلى الرّغم من تسالم النّاس على استحسان الحسن واستقباح القبح، نرى أنّ البعض قد يميل إلى اتباع الباطل، والابتعاد من الحقّ، ولو تساءلنا لماذا؟ قد يكون الجواب أنّ هناك مجموعة من العوامل، قد تجتمع وتكون سببًا في انحراف الإنسان عن جادة الصّواب، مثل اتباع الهوى والنّفس الإمارة بالسّوء، ولعل أكثرها أهميّة تأثير المجتمع السّلبي، فالفطرة السليمة هي الأساس الذي فطر الله تعالى عليه الناس، قال النّبي (صلى الله عليه وآله): ” كل مولود يولد على الفطرة، إنّما أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجسانه”(علم الهدى، علي بن الحسين،1998م، 2/82) (ابن أبي جمهور، محمد بن زين الدين، 1405هـ، 1/35) (الحر العاملي، محمد بن حسن، 1418ه،1/224).
ومن هدي الله سبحانه وتعالى أن يوفق الإنسان طالما كان عمله صالحًا، ويسلب عنه التوفيق مادام متمسكًا بحبائل الشيطان، ونفسه الإمارة بالسوء يُنظر: (المدرسي، محمد تقي، 1429هـ، 8/354-355)، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(سورة الرعد، الآية: 11)، وإن كان هناك صراعًا خارجيًا بين القبح والجمال الذي عبرنا عنه بالحقّ والباطل، فهناك صراع داخلي في داخل كل نفس، إن ارتقت هذه النفوس، واكتسبت ملكات نورانيّة، فإنّها ستحظى بنفحات ربانيّة تكون سببًا في ارتقائهم، وعلى إثر هذا التّغيير الإيجابي، سوف ترتقي المجتمعات والأمم لما هو أفضل؛ وبذلك تتحقق سُنّة الله تعالى في التّغيير، وأنّ مدار هذا التغيير يبدأ بالنّفس البشريّة، ثم ينعكس إيجابيًا على سعادة الإنسان.
المطلب الرابع: خصائص السُّنن الإلهيّة
إنّ الله سبحانه وتعالى خصّ السُّنن بخصائص لاتنفك عنها، والمتأمل في الآيات الحاكية عن السُّنن الإلهيّة يلحظ ذلك بيسر، وذلك لأنّ حكمة الله وعدله اقتضت أن لا محاباة فيها، فهي تسري على الجميع من غير تبديل ولا تحويل، ولم يختلف الباحثون في تسميتها أو عدّها إلّا الشّيء اليسير، “إنّ السُّنن الإلهيّة هي عكس السُّنن والقوانين التي يضعها البشر إذ تقتضي مصالحهم في يوم أن تكون هناك سُنة أو قانون معين، وفي يوم آخر يُمكن أن تنقلب هذه السُّنة أو القانون إلى عكسه تمامًا) الشيرازي، ناصر مكارم، 1421ه، 9/83). وإن كانت بعض المسميات تختلف إلّا إنّه لا مشاحة في الاصطلاح، ويُمكن اجمال هذه الخصائص بما يلي:
أولًا: الرّبانيّة: تعدُّ خاصيّة الرّبانيّة من خصائص السُّنن الإلهيّة المهمّة، بوصف أنّ بقيّة الخصائص تنبثق منها، أيّ: أنّها من صنع الله، هو الذي أودعها في الخلق وأخضعهم لها، فهي مظهر من عدل الله وحكمته، نسبها لنفسه قال تعالى:(سُنة الله) أي: أنّ مصدرها الله تعالى، وهذا يرجعنا إلى أنّ ربانيّة السُّنن تؤكد أنّ الحوادث الكونيّة هي من تدبير الله وحكمته وقدرته، وليس كما يدعي المُلحِدون من أنّ الكون وهذه الحوادث من خلق الصدفة، فربّانيّة السُّنن تربطنا عقائديًا بالله عز وجل وإيماننا بأنه هو من أوجد هذه السُّنن، وهي حكمته في خلقه وكلماته ومشيئته، وليس ذلك لغيره.
وبما أن السُّنن الإلهيّة قد ذُكرت في القرآن الكريم إمّا بصورة صريحة أو على نحو الإشارة، فهي بذلك جزء من القرآن الكريم الذي قال عنه الله تعالى: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾(سورة فصلت، الآية: 42) ولذا قلنا إنّها ربانيّة، أيّ: هي من عند الله، فهذه القوانين السّارية في الكون، وفي أنفسنا هي من منه تعالى، كما قال في كتابه العزيز: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ﴾(سورة النمل، الآية: 88).
ثانيّا: الثبات: إنّ ثبات السُّنن الإلهيّة له من الأهمية ما لا يخفى على المطّلع بهذا الشّأن، فكل قوانين الكون تشترك بهذه الخصوصيّة، فهي لا تتغير ولا تتبدل ولا تتحول، بدليل قوله تعالى: ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ﴾(سورة فاطر، الآية: 43)،
قال الشوكاني في بيانه لثبات السُّنن بما نصه: “سُنة اللّه فيهم؛ أن ينزل بهؤلاء العذاب كما نزل بأولئك، فلا يقدر أحد أن يبدّل سنة اللّه التي سنها بالأمم المكذبة من إنزال عذابه بهم بأن يضع موضعه غيره بدلًا عنه، وأن يحوّل ما جرت به سُنة اللّه من العذاب، فيدفعه عنهم، ويضعه على غيرهم، ونفي وجدان التبديل والتحويل؛ ونفي وجودهما” (الشوكاني، محمد، فتح القدير، 1414ه، 4/408).
وإن القرآن الكريم أكد في مواضع عديدة قضية ثبات سُنن الله وعدم تغييرها، وبالجملة فإنّ في هذا العالم ثمة قوانين ثابتة لا تتغير، قد عبّر عنها القرآن الكريم بالسُّنن الإلهيّة، فلا سبيل إلى تغيرها، فكما أنّ هذه القوانين حكمت في الماضي، فإنّها حاكمة في الحاضر والمستقبل، وهي جزاء للمستكبرين الكفرة الذين لم تنفع معهم الإرشادات والمواعظ الإلهيّة المتوخاة من هذه السُّنن يُنظر: (ناصر مكارم الشيرازي، 14/116)، فالآية سالفة الذّكر والتي هي محل بحثنا هنا تصدرت بـ (لن) التي تفيد التأبيد، وتنفي وجود أيّ إمكانيّة لتبديل سنن الله في المستقبل، ولولا ثبات السُّنن على هذا الحال لما تمكن الإنسان من أن يستفيد منها، ولم يكن استخلاف البشر على وجه هذه الخليقة ممكنًا، وكيف لهم أن يستخلفوا في عالم لا ثبات له؟! وكيف يُمكن للإنسان أن يسخّر ما في العالم الذي لا تضبطه سُنة، ولا يحكمه قانون؟! انظر: (كنعان، أحمد محمد، 1441ه، 68).
وقد أشاروا إلى أنّ “السُّنن الإلهيّة لا تقبل الاستبدال ولا التّعويض الكامل، ولا التّغيير النّسبي لجهة الشّدّة والضّعف أو القلّة والزيادة، من جملتها أنّ الله سبحانه وتعالى يوقع عقوبات متشابهة بالنسبة إلى الذنوب والجرائم المتشابهة ومن الجهات جميعها، لا أن يوقع العقاب على مجموعة ولا يوقعه على مجموعة أخرى، ولا أن يوقع عقابًا أقلّ شدة على مجموعة دون أخرى، وهكذا قانون يستند إلى أصل ثابت، لا يقبل التبديل ولا التحويل”) مكارم الشيرازي، ناصر، 14، /116). وان هذه الخاصية (الثبات) في السُّنن الإلهيّة، تُعدُّ القانون الذي يسري على الجميع من دون محاباة.
ثالثًا: الاطراد: إنّ القوانين التي جعلها الله تعالى نظامًا للخليقة، والتي تتصف بعدم التّبدل والتّغيير تجري على الأمم بثبات واطراد، فما حصل من حوادث في الأمم التي سبقتنا نتيجة فعل ما، قد تتكرر نفس النتائج لاحقًا بصرف النّظر عن طول الحقبة الزّمنيّة، فتشابه المقدمات يعني تشابه النتائج، وعلى هذا توافقت التّعريفات اللغويّة والاصطلاحيّة، “يُقال اطَّرد الشيء اطَّرادًا: إذا تابع بعضه بعضًا”) المصطفوي، حسن، 1417ه، 7/65).
وقد يأتي الاطراد بمعنى الجريان، كما أشار لذلك الحموي بقوله: “الاطراد في اللغة مصدر اطرد الماء وغيره إذا جرى من غير توقف”) ابن حجة الحموي، علي بن محمد، 160).
وقد توافق المعنى اللغوي والاصطلاحي لهذه المفردة مع الاستعمال القرآني لها، كما في قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾(سورة الروم، الآية: 9)، نبّهت هذه الآية الشّريفة إلى أصل من أصول العلم المهمّة التي تستفاد من السّير في الأرض، والاطلاع على أحوال الأمم السّالفة، وهو العلم بِسُنن اللّه في الشّؤون العامة للبشرية المُعبر عنه بلغتنا الحديثة بعلم الاجتماع، وفي الآية الشّريفة إشارة أخرى، وهي التأمل والنّظر في أحوال الأمم وآثارها الخاصّة بالقوة الحربيّة، وموارد الثّروة الزّراعيّة، وسائر شؤون العمران، وكيف كان عاقبة ذلك وأسبابه؛ ليعلم أنّ القوة والثّروة لا تحول دون هلاك الأمة إذا استحقت ذلك بالظلم وكفر النّعمة، وغالبًا ما يُشير القرآن الكريم، ويؤكد مسألة القوة التي تأتي بعد بيان سُنة اللّه في الأولين، وأنّها لا تبديل لها ولا تحويل، فهي ترشد إلى الاعتبار بقوة الأمم وآثارها في الأرض، فلم تكن تلك القوة واقية لهم من عذاب اللّه إيّاهم نتيجة ذنوبهم وكفرهم يُنظر:) رضا، محمد رشيد، 1414 ه، 8/290).
وهذا المعنى قد أشار إليه المفسرون، في أكثر من مورد، من أن مصير البشريّة مترابط في ما بينها، فما جرى على الأولين يجري على الآخرين؛ لكي تبقى الصلة وثيقة بين الأجيال جميعًا، ومن جملة هؤلاء المفسرين صاحب تفسير في ظلال القرآن، وقد قال: “وهي دعوة إلى التأمل في مصائر الغابرين، وهم ناس من الناس، وخلق من خلق اللّه، تكشف مصائرهم الماضية عن مصائر خلفائهم الآتية، فسُنّة اللّه هي سُنة اللّه في الجميع، وسُنة اللّه حقّ ثابت يقوم عليه هذا الوجود، بلا محاباة لجيل من الناس، ولا هوى يتقلب فتتقلب معه العواقب، حاشا للّه رب العالمين! وهي دعوة إلى إدراك حقيقة هذه الحياة، وروابطها على مدار الزّمان، وحقيقة هذه الإنسانيّة الموحدة المنشأ والمصير على مدار القرون، كيلا ينعزل جيل من النّاس بنفسه وحياته، وقيمه وتصوراته، ويغفل عن الصّلة الوثيقة بين أجيال البشر جميعًا، وعن وحدة السُّنة التي تحكم هذه الأجيال جميعًا؛ ووحدة القيم الثابتة في حياة الأجيال جميعًا) السيد قطب، 1425ه، 5/2760).
أيّ: أنّها سُنن تتكرر على المخلوقات كافة، وذات منهج واحد فهي لا تتوقف ولا تتأجل، وأنّها حجة على الخلق جميعهم كلما وجدت الظروف الملائمة من غير فرق بين مؤمن وكافر، فمن أخذ بالأسباب حصل على النتيجة ذاتها، وكأنّما هي معادلات رياضيّة لها نتيجة واحدة، إن كانت ذات مقدمات واحدة فهي ليست عشوائيّة، ولولا اطرادها لما تمكّنا من أخذ العبرة منها، وقد قال تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾(سورة آل عمران، الآية: 137)
رابعًا: العموم والشّمول: قال علماء اللغة إنّ العام والشّامل له المعنى نفسه، وهو ضد الخاص “يَعُمُ عَمّا فهو عامّ إذا بلغ المواضع كلها”) الفراهيدي، الخليل بن أحمد، 1409ه، 1/94). وإنّ خاصّية العموم في السُّنن الإلهيّة تجعل من المؤمنين غير متكلين على إسلامهم بقدر اتكالهم على أعمالهم، قال تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ (سورة النّساء، الآية: 123). “هذا بيان من اللّه لحقيقة الأمر فى المسألة، فإنّه لما نفى أن يكون الأمر منوطًا بالأمانيّ والتّشهيات وغرور الناس بدينهم، كان من يسمع هذا النفي جديرًا بأن يتشوف إلى استبانة الحقّ، والوقوف على حكم اللّه فيه، ويجعله موضوع السؤال، فبيّنه عز وجل بصيغة العموم، والمعنى أن كل من يعمل سوءًا يلقَ جزاءه؛ لأنّ الجزاء بحسب سُنة اللّه تعالى أثر طبيعي للعمل، لا يتخلف في أتباع بعض الأنبياء وينزل بغيرهم – كما يتوهم أصحاب الأماني والظنون”) رضا، محمد رشيد، 1414هـ، 5/434).
لقد أتصفت السُّنن الإلهيّة بهذه الخاصّية التي شملت الأحياء جميعهم؛ لتكون مظهرًا من مظاهر عدل الله تعالى، إذ إنه لا يمكن لأحدٍ التّخلف عنها، فالجميع متساوون بما فيهم الأنبياء(عليهم السلام)، فسُنن الله تعالى لها الحاكميّة على جميع البشريّة، قال تعالى: ﴿قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾) سورة إبراهيم، الآية: 11).”إن معنى العموم والشّمول الذي يميز هذه السُّنن، وهو مقتضى العدل الرّباني، ومظهر من مظاهر الحكمة الإلهيّة، كما أنّه يمثل جزءًا مهمًّا من التّصور الصحيح لحقيقة الأُلوهيّة وخصائصها، وحقيقة العبوديّة ووظائفها، وحقيقة الجزاء على الأعمال، وأيّ انحراف عن جادة الصواب في تصور هذه الخاصيّة ينتج عنها نتائج مرة مدمرة، تفسد الحياة والأحياء، ومن هنا فقد كشف القرآن عن هذه الخاصية بوضوح، في مواضع كثيرة، وأكدها بصورة حاسمة جازمة تليق بجدية الحياة، فلا فوضى ولا محاباة ولا سلبيّة”) الحميد، حسن بن صالح، 1442هـ، 82) ، أيّ: أنّها سُنن تشمل البشر جميعًا عامة لا تستثني أحدًا منهم، وليست خاصة بجيلٍ دون آخر ولا أقوام دون آخرين، فهي حاكمة على الجميع؛ وذلك من عدل الله تعالى، ومقتضى حكمته.
وإن هذه الآية مثال واضح على أن خاصية العموم والشّمول التي تتصف بها السُّنن الإلهيّة شاملة على الأفراد كلّهم لا تنخرم في أمّة، ولا يُستثنى حال من الأحوال، وهي استنكار على من يطمع بعدم شموله بالسُّنن الإلهيّة في كونه حاله استثناءً، فسنن الله عامّة لا تُحابي أحدًا بل إنّها تسري على الجميع بالتأثير نفسه فلا تغرنكم أمانيكم، وهذا من عدل الله في خلقه، وقد يرد تساؤل: إن كانت السُّنن الإلهيّة لاتحابي أحدًا وهي شاملة للجميع أيّ: أنّ لها التأثير نفسه على الأفراد جميعهم، فكيف نستطيع أن نفهم قوله تعالى: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (سورة الروم، الآية: 47) في هذه الآية أكد الله سبحانه وتعالى أنّ سُنة النّصر والغلبة تكون في صالح المؤمنين، وليس في صالح من يستفيد من اتباع هذه السُّنة سواء أكان كافرًا أو مؤمنًا، فكما قلنا إنّ هذه السُّنة لها خاصيّة الشّمول والعموم وتسري على الجميع؟
وللإجابة على هذه التّساؤل نقول: لا يوجد تناقض بين خاصية السُّنن الإلهيّة، وهذه الآية لجهة العموم والشّمول، وهي سارية على الجميع، إن كانوا ملتزمين باتباعها ففي هذه الىية المباركة يؤكد الله سبحانه وتعالى أنّ سُنة النّصر ستكون في صالح المؤمنين؛ لالتزامهم بأوامره تعالى، وهذه أحد شروط النصر، وقد قال تعالى: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾) سورة الحج، الآية: 40)، وهذا الشرط لم يتحقق عند غير المؤمنين؛ لذا جعل الله من مقومات النّصر الإيمان بالله والالتزام بما أمر به.
هناك خاصيّة أخرى قال بها السيّد محمد باقر الصدر: وهي حريّة الإنسان واختياره، ذكرها في كتابه (مقدمات في التّفسير الموضوعي للقرآن) يقول: “إنّ السُّنن القرآنيّة في التأريخ ذات طابع علمي؛ لأنّها تتميز بالاطراد الذي يميز القانوني العلمي، وذات طابع ربّاني؛ لأنّها تمثل حكمة الله، وحسن تدبيره على السّاحة التّأريخيّة، وذات طابع إنساني؛ لأنّها لا تفصل الإنسان عن دوره الإيجابي، ولا تعطّل فيه إرادته وحريته واختياره، وإنّما تؤكد أكثر فأكثر مسؤوليته على السّاحة التّأريخيّة”) الصدر، محمد باقر، 68).
وناتج هذا الرأي هو حلّ لإشكال مقدر وهو: إذا قيل إنّ السُّنن الإلهيّة ثابتة ومطردة، ولايُمكن تغييرها فذاك يسلب حريّة الإنسان واختياره، ويجعله مُنقادًا لسُنن الكون، وإذا سلّمنا أنّ الإنسان حرّ بتصرفاته، فنسلب بذلك قانونيّة السُّنن الإلهيّة، فيحدث بذلك تعارض بين قانونيّة السُّنن التّأريخيّة، واختيار الإنسان وحريته، وهذه هي الحقيقة الثالثة التي أتى بها السيّد الصدر لتحلّ هذا الإشكال، والتي مازال القرآن الكريم يؤكدها، وهي اختيار الإنسان وإرادته في مجال استعراض السُّنن الإلهيّة.
نتيجة البحث
- تبيّن من خلال ما تقدم من استعراض التّعريفات اللغويّة أنّ لفظ (سُنة) غني بالاشتقاقات وله معانٍ عديدة ذكرها أهل اللغة، وقد اختلف أهل اللغة في عدّ لفظ (سُنة) هل هو اسم مصدر أم اسم جامد، أغلبهم قال إنّه اسم مصدر من (سُنَّ).
- إنّ الدّلالات المعجميّة جميعها التي ذكرت أصل الفعل (سُنَّ) لها معنى دلالي واحد، وهو جريان الشّيء واطراده. فالطريقة هي الدّوام والاستمرار على عمل ما، وهو ما يسمى بـ (الاطراد)، وكذلك السيرة والاتباع والدّوام وحسن السياسة، لها معانٍ متقاربة تدل على توالي الفعل واطراده على نهج واحد.
- عند تتبعي للبحوث التي كُتبت في السُّنن الإلهيّة وجدت أنّ معظم الباحثين أكثروا في وضع خصائص للسُنن الإلهيّة، فمنهم من قال بخاصيّة الواقعيّة أو النّفاد، وعدم التّخلف أو الحكمة أو العدل، كلّ هذه المسميات وجدتها تندرج تحت العناوين التي ذكرناها أعلاه. فالنّفاد وعدم التّخلف: هو الثّبات، والحكمة والعدل: هي الرّبانيّة، فلا داعي لتكرارها؛ لأنّها تحمل الدلالة نفسها، ولكن أتت تحت مُسمى مغاير.
- إنّ السُّنن الإلهيّة كما أسلفنا تتسم بالاطراد والثبات والشّموليّة، أيّ: أنّها تسري على الجميع من دون استثناء، فهي قانون ثابت لا دخل لحريّة الإنسان فيه، نعم، إذا قلنا إنّ الإنسان حر ببعض اختياراته إن أراد اتباع السُّنن، أو أراد إهمالها، فهو بذلك تكن له الحريّة في المقدمات وليس النتائج، فيستطيع الإنسان أن لايتهيأ للمعركة وهو له الحريّة بذلك، وهذه من المقدمات، ولكن النّتائج أنه لايتمكن من النّصر، فإن تهيأت له المقدمات وأعد إعدادًا جيدًا للمعركة ستكون النّتائج بصالحه. وهنا قد لا نستطيع أن نجعل حريّة اختيار الإنسان احدى خصائص السُّنن الإلهيّة، وإن قد سلَّمنا بسلب الحريّة والاختيار؛ لإضفاء صفة العدالة الإلهيّة على القوانين والسُّنن الإلهيّة التي لها الحاكميّة على تصرفات الإنسان وسَير الكون.
- قد يتبادر الى الذهن من خلال ما تقدم إن كانت السُّنن ثابتة لاتتغير، ومطردة لاتتبدل، وشاملة للجميع لاتتخلف، فما بال المعجزات التي حدثت للأنبياء التي كسرت قوانين الكون، فجعلت النار الحارقة على إبراهيم (عليه السلام) بردًا وسلامًا، قال تعالى: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾) سورة الأنبياء، الآية: 69)، وجعلت البحر لموسى(عليه السلام) يفقد خاصيته، ويصبح جامدًا كالصخر، قال تعالى: ﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيم﴾ (سورة الشعراء، الآية: 63).
وللإجابة على هذا التّساؤل لابدَّ لنا أن نعرف أن أول خاصية للسُنن هي الرّبانيّة أيّ: أنّها من عند الله، وهو المتحكم بها، وهو الذي أودع بها هذه الخواص، وهو القادر على أن يسلب منها ويعطّلها متى ما أراد، واقتضت الحكمة الإلهيّة، لذا كانت المعجزة التي يجريها الله لبعض أنبيائه هي خرق مؤقت لذلك القانون الذي وضعه الله في الأشياء، ومنها هذه السُّنن ليتبيّن للناس القدرة الإلهيّة في التّحكم بالسُّنن الكونيّة، وتكون دليلًا على صدق دعوى النّبي، فثبات السُّنن واطرادها هي القاعدة الأساسيّة والخاصيّة الثابتة في السُّنن، ولايستطيع الإنسان خرقها، بل أمرها بيد الله هو المتحكم فيها، وهو الحاكم لها، وليس المحكوم بها.
- هناك حكمة أخرى من خرق القانون الإلهي الذي أودعه الله سبحانه وتعالى في السُّنن الإلهيّة، وهي أنّ الله عندما جعل فيها خواص ثابتة، وجعل تعطيل هذه الخواص بيده وحده، فهو الخالق لها والمتحكم بها؛ لتكون دليلًا على قدرة الله وإمضاء مشيئته في الخلق، ولا يتوهم المتوهم أنّ قوانين الكون تسير بثبات فلا حاجة لوجود الله مادامت الصدفة أو العلم هو المتحكم، وأنّ القوانين الفيزيائيّة لا يُمكن أن تتخلف، فالكل سائر وفق قوانين رياضيّة من غير حاجة إلى مدبّر ومسيّر لهذه القوانين، وهنا يأتي العلم متحيرًا أمام قانون الإحراق الذي جعل الله فيه النّار بردًا وسلامًا، ولايمكن إلا أن نسلّم أنّ الأمر كلّه بيده، هو الذي وضع في الأشياء خواصّها، وهو القادر على أن يسلب منها متى ما شاءت الحكمة الإلهيّة.
المصادر والمراجع
- القرآن الكريم.
- ابن أبي جمهور، محمد بن زين الدين، عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية، تحقيق: مجتبى العراقي، دار سيد الشهداء للنشر، قم المقدسة، 1405هـ.
- ابن عاشور، محمد الطاهر، التحرير والتنوير، تونس، دار سحنون.
- ابن فارس، أحمد بن فارس بن زكريا، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، مكتبة الإعلام الإسلامي، 1404ه.
- ابن منظور، لسان العرب، نشر أدب الحوزة، نشر ادب الحوزة، 1405.
- الباجي، ابن أيوب سليمان بن خلف بن سعد، التعديل والتجريح، تحقيق: أحمد البزار، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، مراكش.
- البهائي العاملي، زبدة الأصول، تحقيق: فارس حسون كريم، ط1، مدرسة ولي العصر (ع) العلمية، 1423ه.
- الجرجاني، أبو الحسن، التعريفات، الدار التونسية للنشر، توث 1971.
- الجوهري، إسماعيل بن حماد، تاج اللغة وصحاح العربية، دار العلم للملايين، ط1، بيروت، 1376 ه.
- الحر العاملي، محمد بن حسن، الفصول المهمة في أصول الأئمة، تحقيق: محمد بن محمد الحسين القائيني، مؤسسة الإمام الرضا عليه السلام للمعارف الإسلامية، ط1، قم المقدسة، 1418 ه.
- الحسيني المغربي، إدريس، الخلافة المغتصبة.
- الحكيم، محمد تقي، الأصول العامة للفقه المقارن، ط2، مؤسسة آل البيت (ع) للطباعة والنشر، 1979هـ.
- الحكيم، منذر، مجتمعنا، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1432ه – 2011م.
- دروزة، محمد عزة، التفسير الحديث، دار الغرب الإسلامي، ط2، بيروت، 1421ه.
- رضا، محمد رشيد، تفسير المنار، دار المعرفة، ط1، بيروت، 1414 ه.
- الريشهري، محمد، ميزان الحكمة، تحقيق ونشر: دار الحديث للطباعة والنشر والتوزيع، ج4، ط1، ص3649.
- الزبيدي، تاج العروس، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1414ه.
- الزمخشري، محمود بن عمر، (ت: 538هـ)، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، دار الكتاب العربي، ط3، بيروت،1407 ه، ج2، ص330.
- السيّد، رضوان، الأمة والجماعة والسلطة، دار اقرأ للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1404هـ- 1984م.
- الشيرازي، ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مدرسة الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)، ط1، قم المقدسة،1421 ه.
- الصدر، محمد باقر، المدرسة القرآنية، مؤسسة دار الكتاب الإسلامي، قم المقدسة، ط2، 1434ه.
- الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، ط2، بيروت، 1390هـ.
- علم الهدى، علي بن الحسين، غرر الفوائد ودرر القلائد، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربي، ط1، القاهرة، 1998 م.
- عمر أحمد عمر، السُّنن الإلهيّة في النفس البشرية، دار حسان للطباعة والنشر، ط1، دمشق، 1412ه.
- القشيري، عبد الكريم بن هوازن، لطائف الإشارات، تحقيق: إبراهيم البسيوني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط3، القاهرة،1420 ه.
- القمي المشهدي، محمد بن محمد رضا تفسير كنز الدقائق وبحر الغرائب، حسين دركاهي، وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، مؤسسة الطباعة والنشر، طهران،1410 ه.
- الكوفي، فرات بن إبراهيم، تفسير فرات الكوفي، تحقيق: محمد كاظم، مؤسسة الطبع والنشر في وزارة الإرشاد الإسلامي، ط1، طهران، 1410 ه.
- المدرسي، محمد تقي، تفسير من هدى القرآن، دار القارئ للطباعة والنشر، 1429هـ، ج5، ص213-214.
- المراغي، أحمد مصطفى، تفسير المراغي، دار الفكر، ط1، بيروت.
- معرفة، محمد هادي، التمهيد في علوم القرآن، مركز إدارة الحوزة العلمية، قم المقدسة، 1410ه.
- مغنية، محمد جواد، التفسير الكاشف، دار الكتاب الإسلامي، قم المقدسة،1424ه.
[1] – طالب دكتوراه في كلية الإلهيات ومعارف آهل البیت (عليهم السلام) قسم علوم القرآن والحديث جامعة اصفهان إيران (البحث مستل من أطروحة الدكتوراه)
-PhD student at the Faculty of Theology and Knowledge of the People of the House (peace be upon them), Department of Qur’anic and Hadith Sciences, University of Isfahan Iran (the research is taken from a doctoral thesis Email: alh@9829gmail.com
[2]– أستاذ مشارك في كلية الإلهيات ومعارف أهل البيت قسم علوم القرآن والحديث جامعة اصفهان إيران (الكاتب المسؤول)
– Associate Professor at the Faculty of Theology and Knowledge of Ahl al-Bayt Department of Qur’anic and Hadith Sciences, University of Isfahan Iran (responsible writer) Email: r.shokrani@ltr.ui.ac.ir
-[3] أستاذ مشارك في كلية الإلهيات ومعارف أهل البيت قسم علوم القرآن والحديث جامعة اصفهان إيران (الكاتب المسؤول)
-Associate Professor at the Faculty of Theology and Knowledge of Ahl al-Bayt, Department of Qur’anic and Hadith Sciences, University of Isfahan Iran (responsible writer), Email: lotfi@ltr.ui.ac.ir