عنوان البحث: إنّي أخلع عروبتي عن كاهلي
اسم الكاتب: د. محمّد أمين الضنّاويّ
تاريخ النشر: 20/12/2024
اسم المجلة: مجلة أوراق ثقافية
عدد المجلة: 34
تحميل البحث بصيغة PDFإنّي أخلع عروبتي عن كاهلي
د. محمّد أمين الضنّاويّ[1]
أصبحَ السفحُ ملعبًا للنســــورِ فاغْضَبي يا ذُرى الجبالِ وثُوري[2]
حفظتُ تلك القصيدة كاملة منذ سنوات طويلة، حينذاك كنتُ تلميذًا في مدرسة المقاصد (ثانويّة عمر ابن الخطّاب)، انتابني شعور مزعجٌ إلى درجة أنّي عشت صراعًا بين رفض مضمون القصيدة، وقَبول واقعنا الذي نعيش، والذي صوّرَتْه أبياتها خير تصوير وبدقّة متناهية.
فالشاعر فيها يعبّر عن تدهور حال الأمّة العربيّة، وتقهقرها، وفقدانها لدورها الرياديّ في العالم، وهزائمها التي لم يعدّ لها حدود، فقد شبّهها بالنَّسر الذي ترك القمم حيث مسكنُه الطبيعيّ، وانحدر ليصبح في الحضيض، ويقيم في السفوح بدلاً من القمم، فقد نَسَلَ الوهن مِخلبيْه وأدمت منكبيْه عواصف الدهور.
مرّت السنون، وكانت تلك القصيدة رفيقة أفكاري وخصوصًا أنّي كنت من الناشطين في العمل السياسيّ والنضاليّ آنذاك. وكنت كلّما كبرت عامًا يزداد شعوري بالضيق والانزعاج من واقعنا الذي كنّا نعيشه مع حلم بأن يأتي يوم ويتغيّر الحال ويصبح أفضل، لكن الأحلام في بلادنا لا تتحقّق، فنحن شعوب ممنوع عليها أن تحلم، نحن شعوب غير مسموح لنا حتّى في أن نطمح بتغيير واقعنا نحو الأفضل، ولا حتّى نحو الأسوأ إذ إنّنا في الحقيقة ليس هناك واقع في الكون أسوأ ممّا نعيش.
حروب، نزاعات، قتل، مجازر، وأصوات مدافع تضجّ أينما كان في بلادي، في تلك البقعة الصغيرة من الأرض. إنّها جحيم حقيقيّ يسحق أرواحنا، وهي كما قال الشاعر الجاهليّ زهير بن أبي سُلمى[3] في معلّقته واصفًا الحرب:
رأَيْتُ المَنَايا خَبْطَ عَشْوَاءَ مَنْ تُصِبْ تُمِـتْهُ وَمَنْ تُخْطِىءْ يُعَمَّـرْ فَيَهْـرَمِ
ليس أصدق من هذا البيت ليصوّر حياتنا، وعلى الرغم من حظر الأحلام على المواطن كنتُ آمل أن تتغيّر تلك الحياة إلى الأفضل. لكن مع الأسف كبرتُ وصرتُ جَدًّا لحفيدة وحفيد يحمل اسمي، ولم يتغيّر أيّ شيء، لا بل كلّ شيء بات أسوأ ممّا كنا عليه، إلى درجة أنّنا صرنا نتوق إلى تلك الأيّام السالفة بكلّ ما نحمله منها من ذكريات، أقلّ ما يُقال فيها إنّها كانت سيّئة، مؤلمة، قاسية. إلاّ أن ما لم نكن لنتوقّعه هو أن يكون الآتي أسوأ، وأكثر إيلامًا، وأشدّ قسوةً ممّا سلف.
في الحقيقة وصلتُ إلى قناعة أنّني لم أعد أريد أن أكون عربيًّا، لا في الهُويّة، ولا في الانتماء. لا أريد هذه العروبة، ولا هذا الانتماء، وهأنذا أخلع عروبتي عن كاهلي عن رضىً، ولست نادمًا، ولن أندم على قراري هذا. لقد عانينا وتألمنا من العروبة والانتماء كثيرًا، ولم تعد تنفع لا المسكّنات، ولا العلاجات، ولا المساحيق، ولا حتّى الطبّ الصينيّ في تخفيف معاناتنا وآلامنا. أعتذر من نفسي من كثرة ما تسببتُ لها من آلام بسبب تمسّكي السابق وإصراري على أنّ العروبة هي الحلّ.
الحمد لله أنّي أدركت فشلي، واعترفت، واستقلت من عروبتي، فـ”أنْ تصلَ مُتأخّرًا خيرٌ من ألاّ تصلَ أبدًا”. فبالمختصر المفيد لم أعد أريد أن أكون عربيًّا والسلام.
[1] – أستاذ جامعيّ سابق، وأحد رئيسَيْ تحرير مجلّة أوراق ثقافيّة، مجلّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، ومدير تحريرها، له العديد من المؤلَّفات.
[2] – مطلع قصيدة للشاعر العربيّ السوريّ عمر أبو ريشة، بعنوان “النَّسر”، الديوان، مج1، دار العودة، بيروت – لبنان، 1998م، ص 158.
[3] – من معلّقة الشاعر الجاهليّ زهير بن أبي سُلمى، الديوان، دار الكتب العلميّة، ط1، 1988م، شرحه وقدّم له الأستاذ حسن فاعور، ص 110.