عنوان البحث: دلالة الحذف في شعر خليل حاوي
اسم الكاتب: هناء أبو علفة
تاريخ النشر: 19/01/2025
اسم المجلة: مجلة أوراق ثقافية
عدد المجلة: 35
تحميل البحث بصيغة PDFدلالة الحذف في شعر خليل حاوي
The significance of deletion in Khalil Hawi’s poetry
Hana Abu Alfa هناء أبو علفة([1])
تاريخ الإرسال: 22-12-2024 تاريخ القبول: 3-1-2025
ملخص Turnit in:15%
يتناول هذا البحث بعض ظواهر الحذف من خلال مقاربة مقتطفات من ديوان خليل حاوي، لاستجلاء أبرز منطلقاته الفكريَّة ورؤيته الشِّعريَّة، وفهمها وكشف فعاليّتها في تشكيل البنية اللغويَّة، وتبيان تعلُّقها وترابطها مع تجربته الشِّعريَّة.
وتتجلَّى أهمِّيَّة هذا البحث في أنَّه يزيح اللثام عن عيِّنةٍ من نتاج الشَّاعر خليل حاوي الذي يعدُّ أحد أبرز الشُّعراء العرب المعاصرين الحداثيِّين الذين جسَّدوا مرحلة من التَّحوُّل في رؤى الشِّعر وفكره.
وقد عُولج البحث في قسمين، الأوَّل: الدِّراسة النَّظريَّة التي تحتوي تعريف الحذف وأهمِّيَّته وقميته والدَّليل على المحذوف وأنواعه. والثَّاني: الدِّراسة التَّطبيقيَّة على مقتطفاتٍ من شعر خليل حاوي.
وأبان البحث عن مقدرة لغويَّة كبيرة على التَّصرف في أسلوب الحذف الذي تتيحها اللغة، فميّزت الشَّاعر في أسلوبه وطريقته في التَّعبير.
الكلمات المفاتيح: الحذف- المتلقِّي- التَّقدير- دلالة
Abstract
This research deals with some of the phenomena of deletion through an approach to excerpts from Khalil Hawi’s poetry collection, to clarify his most prominent intellectual starting points and poetic vision, understand them and reveal their effectiveness in shaping the linguistic structure and clarifying their connection and interconnection with his poetic experience.
The importance of this research is evident in that it unveils a sample of the work of the poet Khalil Hawi, who is considered one of the most prominent contemporary Arab modernist poets who embodied a stage of transformation in the visions and thought of poetry.
The research was dealt with in two parts, the first: the theoretical study that includes the definition of deletion, its importance and value, and evidence of the deleted and its types. The second: the applied study on excerpts from Khalil Hawi’s poetry.
The research revealed a great linguistic ability to deal with the method of deletion that the language allows, which distinguished the poet in his style and method of expression.
Keywords: Deletion – recipient – estimation – significance
المقدِّمة
الحديث عن الحذف حديث عن ظاهرة تتَّصف بكونها تجلِّيًا في خفاء، وحضورًا في غياب، قد يستعصي الإمساك بها لتعدُّد مواقعها وكثرة محفِّزاتها، والخوض فيها تصوُّرٌ محدَّدٌ لطبيعة اللغة، إذ يتداخل فيها ما هو نحويٌّ بما هو بلاغيٌّ.
وقد سعى هذا البحث إلى تحليل هذه الظَّاهرة التي تعدُّ من أبرز عوارض التَّركيب في شعر خليل حاوي، إذ كثُر استخدامها وتنوَّعت أشكالها، وتضمَّنت أجزاء التّركيب معظمها من اسمٍ وفعلٍ وحرفٍ، لإبراز ما لأسلوب الحذف من بالغِ أثرٍ في توجيه المعنى وتعميق أفق النَّصِّ الدِّلاليِّ، وتوسيع فضائه الإيحائيِّ الذي يتعالق مع تجربة الشَّاعر.
أ- تعريفه
الحذف لغة: جاء في كتاب العين “الحذف قطف الشَّيء من الطَّرف كما يحذف طرف ذنب الشَّاة”([2])، وجاء في اللّسان: حذف الشَّيء يحذفه حذفًا: قطعه من طرفه… والحذافة: ما حذف من شيءٍ فطرح. وعن الجوهريِّ: حذف الشَّيء إسقاطه، ومنه حذفت من شَعري ومن ذنَب الدَّابَّة أي أخذت([3]).
الحذف اصطلاحًا: ذهب الزَّركشي إلى أنَّه “إسقاط جزءٍ من الكلام أو كلِّه لدليل”)[4](، وهو بهذا التَّعريف يبيِّن أنَّ الحذف يقع على الحركة والحرف والكلمة والجملة.
واﻟﺣذف ﻛﻣﺎ ﯾﻌرﻓﻪ “دي ﺑوﺟراﻧدDay Bogrand: “اﺳﺗﺑﻌﺎد اﻟﻌﺑﺎرات اﻟﺳَّطﺣﯾّﺔ التي ﯾﻣﻛن ﻟﻣﺣﺗواﻫﺎ اﻟﻣﻔﻬوﻣﻲِّ أن ﯾﻘوم ﻓﻲ اﻟذِّﻫن، أو أن ﯾوﺳِّﻊ، أو أن ﯾﻌدِّل، ﺑوﺳﺎطﺔ اﻟﻌﺑﺎرات اﻟﻧَّﺎﻗﺻﺔ”)[5](.
وهـو “ﻋﻼﻗﺔ داﺧل اﻟﻧَّص، وﻏﺎﻟﺑًﺎ ﻣﺎ ﯾوﺟد اﻟﻌﻧﺻر اﻟﻣﻔﺗرض ﻓﻲ النّصّ اﻟﺳَّﺎﺑق، وﻫـذا ﯾﻌﻧﻲ أنَّ اﻟﺣذف ﻋﺎدةً ﻋﻼﻗﺔ ﻗﺑﻠﯾَّﺔ”([6]). أي أنَّ اﻟﺟﻣﻠﺔ اﻟﺛَّﺎﻧﯾﺔ ﻓﯾﻬﺎ ﻓراغ ﺑﻧﯾويٌّ، ﯾﻬﺗدي اﻟﻘﺎرئ إﻟﻰ ﻣﻠﺋﻪ اﻋﺗﻣﺎدًا ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ورد ﻓﻲ اﻟﺟﻣﻠﺔ اﻷوﻟﻰ.
وﻫذا اﻟﻔراغ ﯾظﻬر ﻋﻧدﻣﺎ ﯾﻛون ﻓﻬم اﻟﻧَّصِّ ﺻﺣﯾﺣًﺎ، وﻓﺎﺋدة ﻓﻬم اﻟﻧَّصِّ ﻓﻬﻣًﺎ ﺻﺣﯾﺣًﺎ ﯾؤدِّي إﻟﻰ “ﻟذَّة اﺳﺗﻧﺑﺎط اﻟذِّﻫن ﻟﻠﻣﺣذوف”([7])، وإدراك اﻻﻧﻘطﺎع اﻟذي طرأ ﻋﻠﻰ ﻣﺳﺗوى ﺳطﺢ النَّصِّ، وذﻟك ﺑﺎﻓﺗراض وﺟود ﻋﻧﺻر ﺳﺎﺑق، ﯾﻌدُّ ﻣﺻدرًا ﻟﻠﻣﻌﻠوﻣﺔ اﻟﻣﻔﻘودة، ﻓﯾﺗرك اﻟﻌﻧﺻر اﻟﻣﺣذوف ﻓراﻏًﺎ، ﻋﻠﻰ ﻣﺳﺗوى اﻟﺑﻧﯾﺔ اﻟﺗَّرﻛﯾﺑﯾَّﺔ، ﯾﻣﻛن أن يُملأ ﻣن ﻣﻛﺎن آﺧر ﻓﻲ اﻟﻧَّصِّ. وﻻ ﯾﺗﺄﺗَّﻰ ذﻟـك إﻻَّ ﺑﺈدراك اﻟﻣﺗﻠﻘِّﻲ ﻟﻠﻘواﻋد اﻟﺗَّرﻛﯾﺑﯾَّﺔ ﻟﻠﻐﺔ، وﻣﺎ ﯾﻣﻠﻛﻪ ﻣن ﻣﻌﺎرف ﺳاﺑﻘﺔ، ﺗُﻣﻛِّﻧﻪ ﻣن ﻣﻌرﻓﺔ اﻟﻣﺣذوف.
ب- أهمِّيَّته وقيمته الإبلاغيَّة
ظاهرة الحذف من الظَّواهر المهمِّة التي عالجتها البحوث الأسلوبيَّة والنَّحويَّة، والبلاغيَّة بوصفها انزياحًا عن المستوى التَّعبيريِّ العاديِّ([8])، “لأنَّ بعض العناصر اللغويَّة يبرز دورها الأسلوبيِّ بغيابها أكثر من حضورها”([9])، وكثيرًا ما ربط البلاغيون الحذف بالإيجاز، إذ الحذف أحد نوعي الإيجاز، حسبما ذكر الرّمّانيّ، وهما: القصر والحذف. وعرَّفه أنَّه: “إسقاط كلمة للاجتزاء عنها بدلالة غيرها من الحال أو فحوى الكلام”([10])، وصاحب الطِّراز يقرِّر أنَّ “مدار الإيجاز على الحذف؛ لأنَّ موضوعه على الاختصار، وذلك إنِّما يكون بحذف ما لا يخلُّ بالمعنى، ولا ينقص من البلاغة، بل أقول: لو ظهر المحذوف لنزل قدر الكلام عن علوِّ بلاغته، ولصار إلى شيءٍ مستركٍ مسترذلٍ، ولكان مبطلًا لما يظهر على الكلام من الطَّلاوة والحسن والرِّقَّة”([11]).
وقد توسَّع البلاغيون في كشف فوائده وأسبابه وأدلَّته وشروطه([12])، واهتمُّوا به بوصفه شكلًا من أشكال العدول في البنية التَّركيبيَّة، وبحثوا في ماهيَّته، وكيفيَّته والغرض الدَّاعي لرجحان الحذف على الذِّكر، يقول الجرجاني مشيِّدًا بأهمِّـيَّة الإيجاز في الحذف، وﻗﯾﻣﺗﻪ اﻟﺳِّﯾﺎﻗﯾّﺔ، وﻣﺎ ﯾﺗرﻛﻪ ﻓﻲ اﻟﻧَّﻔس ﻣن ﺗﺄﺛﯾرٍ، إذ ﯾﺛﯾر ﻓﻲ اﻟﻣﺗﻠﻘِّﻲ آﻟﯾَّﺔ اﻻﺳﺗدﻻل، وﻣلء اﻟﻔراﻏﺎت، غير أنَّه لا يُعدُّ كلُّ حذف إيجازًا: “هو بابٌ دقيقُ المسْلك، لطيفُ المأخذ، عجيبُ الأمر، شبيهٌ بالسِّحر، فإنَّكَ ترى به تَركَ الذِّكْر، أفْصحَ من الذِّكْرِ، والصَّمتَ عن الإفادةِ، أَزْيَدَ للإِفادة، وتَجدُكَ أَنْطَقَ ما تكونُ إِذا لم تَنطِقْ، وأتمَّ ما تكونُ بيانًا إذا لم تبن”([13])؛ فهذا يبيِّن أثره في إكساب الكلام صياغة جماليَّة والمتكلِّم صفة الفصاحة.
ويرتبط الحذف ارتباطًا وثيقًا بالمعنى وبقدرته على التَّأثير، ذلك أنَّ الأثر الأسلوبيِّ له يتحقَّق بالاعتماد على التَّلميح والإيحاء؛ لأنَّه يُعدُّ “تحوّلًا في التِّركيب اللغويِّ، يثير القارئ، ويحفِّزه نحو استحضار النَّصِّ الغائب، أو سدِّ الفراغ، ثمَّ إنَّه يثري النَّصَّ جماليًّا، ويبعده من التلقِّي السَّلبيِّ، فهو أسلوب يعمد إلى الإخفاء والاستبعاد بغية تعدُّديَّة الدِّلالة، وانفتاح الخطاب على آفاقٍ غير محدَّدة، إذ تصبح وظيفة الخطاب الإشارة وليس التَّحديد، فالتَّحديد يحمل بذور انغلاق النَّصِّ على نفسه، ولا يبقى للقارئ فرصة المشاركة في إنتاج معرفة جديدة بالنَّصِّ ودلالته”([14]). فالطَّاقة الإيحائيَّة والجماليَّة التي ينتجها المبدع في الحذف، لا تقلُّ أهمِّـيَّةً عن دور المتلقِّي في إعادة ترميم ما هَدم التَّركيب، بوصفه شريكًا إبداعيًّا يُسهم في اكتشاف المحذوف.
وممّا لا ريب فيه أنَّ القارئ المثاليِّ له دورٌ فعَّالٌ في فهم النَّصِّ، فهو يشارك في تأويله بقواه العقليَّة والنَّفسيَّة، وهذا القارئ النَّاقد لا بُدَّ أن يمتلك عدَّته النَّقديَّة النَّاضجة التي تستوعب المحذوف من النَّصِّ([15])، وعليه يمكن القول إنَّ الحذف يستمدُّ أهمِّيَّته من أنَّه يُحدث مشاركة لغويَّة بين المرسل والمتلقِّي، فإذا كان الأوَّل قد أسهم في إرسال جزءٍ وإخفاء جزءٍ آخر، فإنَّ الثَّاني يقوم بتكميل واستحضار ما أبطنه المرسل، وفي ذلك إمتاعٌ له وتنبيه وإيقاظ لذهنه، وتجعله يتخيَّل ما هو مقصود. وعمليَّة التَّخيُّل هذه، تؤدِّي إلى “حدوث تفاعلٍ من نوعٍ ما بين المرسل والمتلقِّي، قائمٍ على الإرسال النَّاقص من قبل المرسل، وتكملة هذا النَّقص من جانب المتلقِّي”([16]).
ﻓﺎﻟﻘﺎرئ إذن يسهم ﻓﻲ إكمال اﻟﻧَّصِّ، وﻓﻲ ﻣلء ﻓراﻏﺎﺗﻪ، وﻫـو اﻟذي ﯾﺣﻛم ﻋﻠﻰ اﻟﻧَّصِّ، وﯾﺳﺗﺧرج ﻣﻌﻧﺎﻩ، وﯾﺗﻔﺎﻋل ﻣﻌﻪ وﯾﺣﻛم ﻋﻠﻰ ﺗﻣﺎﺳﻛﻪ ﻣن ﻋدﻣﻪ، وﻣن ﺛَمَّ “ﻓﺎﻟذي ﯾﻘﯾِّم اﻟﻧَّصِّ ﻫو اﻟﻘﺎرئ اﻟﻣﺳﺗوﻋب ﻟﻪ. وبقدر ﻣﺎ ﯾُﻘـدِّم اﻟﻧَّصُّ ﻟﻠﻘـارئ، ﯾﺿﻔﻲ اﻟﻘﺎرئ ﻋﻠـﻰ اﻟﻧَّصِّ أﺑﻌﺎدًا ﺟدﯾدةً، قد ﻻ ﯾﻛون ﻟﻬﺎ وﺟود ﻓﻲ اﻟﻧَّصِّ…، وﻋﻠﻰ ﻫذا اﻟﻧَّﺣو، ﻻ ﺗﺗﻣﺛَّل ﺣﻘﯾﻘﯾَّﺔ اﻟﻌﻣل اﻷدﺑﻲ إﻻَّ ﻣن ﺧﻼل تداخل اﻟﻘﺎرئ ﻣﻊ اﻟﻧَّصِّ”[17].
ت- الدّليل على المحذوف والقرائن
اشترط العلماء على ألَّا يحذف لفظ من الكلام إلَّا أن يدلَّ عليه دليلٌ لغويٌّ أو مقاميٌّ، وألَّا يؤدِّي الحذف إلى فساد المعنى، فالعرب لا تحذف الجملة والمفرد والحرف والحركة إلَّا عن دليلٍ دالٍّ على ذلك المحذوف، ولولاه لكانت معرفته من رجم الغيب([18]). فالحذف بقدر ما فيه من مآثر ومحاسن، بقدر ما فيه من مزالق قد يقع فيها المبدع، وليس الحذف تلاعبًا بالتّراكيب والألفاظ يجوز فعله كيفما شاء، بل هو ضرورة فنِّيَّةٌ ودلاليَّةٌ يقتضيها السِّياق والمعنى، ولهذا يتَّفق النَّحويُّون والبلاغيُّون على أنَّ الحذف ينبغي ألَّا يؤدِّي إلى الغموض، “فالأصل في المحذوفات جميعها على اختلاف ضُروبها أن يكون في الكلام ما يدلُّ على المحذوف، فإنْ لم يكن هناك دليلٌ على المحذوف فإنَّه لغوٌ من الحديث لا يجوز بوجهٍ ولا سببٍ”([19])، وشدَّد ابن جنِّيٍّ على ضرورة وجود دليلٍ على المحذوف في باب (شجاعة العرب)، بقوله: “وليس شيء من ذلك إلَّا عن دليل عليه وإلَّا كان فيه ضربٌ من تكليف علم الغيب في معرفته”([20]).
ﻓﻘد ﻳﻌﻤد المبدع في بعض ﺍﻷﺣﻴﺎﻥ ﺇلى ﺇﺳﻘﺎﻁ بعض أطرﺍﻑ التَّركيب، لدفع المتلقِّي ﺇلى الولوج لعالمه الدَّاخليِّ ومشاركته في تشكيل المعاني التي يهدف إليها، وكلُّ ذلك عن طريق دليل وقرينة تدلُّ على ذلك المحذوف، “وذلك من منطلق أنَّ النِّظام اللغويَّ ﻳﻘﺘﻀﻲ في الأصل ذكر هذه الأطراف، ولكن التَّطبيق العلميَّ من خلال الكلام قد يسقط أحدها اعتمادًا على دلالة القرائن المقاليَّة أو الحاليَّة”([21]).
ويهدف البلاغيون في بحث ظاهرة الحذف إلى رصد الإمكانات التّعبيريَّة في اللغة العربيَّة، وما تعطيه من نتائج، لكون “النِّظام اللغويِّ في الأصل يقتضي وجود أطراف يجمعها حضورٌ إسناديٌّ أو غيابٌ تركيبيٌّ مقدَّرٌ في الجملة؛ فالتَّطبيق اللغويُّ قد يسقط أحدهما اعتمادًا على دلالة القرائن المقاليَّة أو الحاليَّة، وقد يحرص هذا التَّطبيق على إبرازها لتدلَّ في موضعها دلالةً لا تتحقَّق بغيابها أو العكس”([22]).
ولا يخفى أنَّ السَّامع يستغني بهذا الدَّليل عن ذكر المحذوف، فيكون المحذوف معدومًا لفظًا، معلومًا عقلًا([23])، ومن شرائطهم أيضًا أمن اللَّبْس؛ كي لا تختلط المعاني، ويلتبس الفهم، وقد ذكروا أيضًا غير هذه الشُّروط([24]).
فإذا كان المحذوف غائبًا عن الصَّوغ في الظَّاهر، فلا بدّ أن يكون حاضرًا فيها في الباطن، إذ يستحضره المتلقِّي انطلاقًا من القرائن، والمشهور عند النُّحاة والبلاغيِّين أن تتفرَّع القرينة Sign إلى لفظيَّة وحاليَّة أو مقاليَّة ومقاميَّة، ومنهم من يضيف إليها القرينة العقليَّة ومن لا “يذكرها يكتفي بالحاليَّة عنها لعدِّها جزءًا منها”([25])، وهناك من “يضيف أيضًا القرينة الصِّناعيَّة، ولست هنا في محلِّ تفصيلها”([26]).
ث- أنواعه
يحصل الحذف على وجوه كثيرةٍ ومتعدِّدةٍ، فـ”قد حذفت العرب الجملة والمفرد والحرف والحركة”([27])، وﻗـد أﻓـرد اﺑن ﻫﺷﺎم ﻗﺳﻣًﺎ ﺧﺎﺻًﺎ ﺗﺣدَّث ﻓﯾﻪ ﻋن “اﻟﻘﺿﺎﯾﺎ اﻟﻣﺗﻌﻠِّﻘﺔ ﺑﺎﻟﺣذف، وذﻛر ﻓﯾﻪ أﻧواع اﻟﺣذف”([28])، وسأكتفي بتعدادها تجنُّبًا للإطالة: الحذف اﻻﺳميُّ، والحذف الفعليُّ، وﺣذف اﻟﺣرف أو اﻷداة، وحذف اﻟﺟﻣﻠﺔ.
- الدّراسة التّطبيقيّة
تجلّى في شعر خليل حاوي حذف النِّداء([29]) في قصيدة (حب وجلجلة):
“كيف لا أضرعُ في ذلٍّ وصمتِ:
رُدَّني، ربي، إِلى أرضي
أعِدني للحياة”([30]).
والتَّقدير: يا ربي، فجعل الجملة أكثر تكثيفًا واختصارًا، وعكس شدَّة الشُّعور وعمَّق الحالة الوجدانيَّة، وغايته في ذلك إظهار شدَّة التَّوسُّل والرجاء، إذ يظهر في حالة من الإلحاح الشَّديد على ربِّه، من دون الحاجة إلى النِّداء الصَّريح، وعَبَّر الحذف عن الحاجة المُلِحَّة والرَّغبة القويَّة في العودة إلى الأرض، ما يُبرز الشُّعور بالانتماء والحاجة إلى الرُّجوع. وفي القصيدة نفسها ورد حذف للجار والمجرور حين قال: “بي حنينٌ موجعٌ، نارٌ تدوِّي”([31]).
والتَّقدير: بي حنينٌ موجع في قلبي، أو موجع إليهم، وبي نار تدوِّي. وفائدة الحذف هنا التَّخفيف الذي يتمثَّل في الإشارة إلى أنَّ المتكلِّم لا يقوى على إتمام الكلام لما فيه من الضَّعف، فمن أجل أن يعبِّر عن مدى عمق الحنين وشدَّته وعن النَّار التي تحرقه، ترك المجال للقارئ تخيُّل أين يكمن هذا الألم، بالإضافة إلى أنَّ الحذف أضفى على العبارة إيحاءً وعمقًا، وزاد من تأثيرها على المتلقِّي، ما سمح بتفسيرات مختلفة بحسب السِّياق والمشاعر، وعزَّز من تأثير النَّصِّ العاطفي الذي يركِّز الشُّعور القويَّ بالحنين والألم. ومن حذف حرف العطف قوله في قصيدة (ليالي بيروت):
“آهِ والحقد بقلبي مِصهرٌ
أمتصُّ، أجترُّ سمومهْ”([32]).
حذف الواو العاطفة من قوله (أمتصُّ، أجترُّ) يؤدِّي جزءًا كبيرًا من المعنى في تجسيده، إذ ينتقل المشهد إلى المتلقِّي بأكبر دقَّةٍ ممكنةٍ، ثُمَّ إنَّ الجوَّ السَّريع الذي تولَّد من غياب حرف العطف أوّل ما يمكن للمتلقِّي ملاحظته، فالشَّاعر في موقف لا يسعفه الإبطاء في كلامه، ذلك أنَّ الحقد يدفعه إلى الانتقام حتَّى لو سيشرب سمَّه.
ويقول في قصيدة (سدوم):
“إنْ تُذكِّرْ عابر الدربِ
بحال الميتينْ
فهي لا تذكرُ، جوفاءَ
بلا أمس، بلا يومٍ وذكرى”([33]).
حذف الشَّاعر المفعول به من قوله: (فهي لا تذكرُ)، والتَّقدير: لا تذكر شيئًا أو لا تذكر الأحداث. ولعلَّه قصد بهذا الحذف التَّعميم في المفعول، والامتناع من أن يقصره المتلقِّي على ما يذكر معه من دون غيره، فالسِّياق يفترض ملء الفراغ الذي خلَّفه ترك المفعول، وهذا الحذف يسمح للفعل أن يمتدَّ، وينفجر من حيِّزه ليشمل كلَّ التَّلميحات التي يمكن أن يضعها المتلقِّي إلى الفعل كي تقع في دائرة الإخفاء، وقد جاء الحذف مناسبًا للموقف، فهذه القرية سدوم في موقف لا تحسد عليه، فلم يعد أحد يطأ أرضها أو يرعاها، ولم تعد تتذكَّر أيَّ شيءٍ لأنَّها جوفاء وخالية.
ومن حذف المنعوت([34]) قوله في قصيدة (جحيم بارد):
“هذيانٌ، سأمٌ، رعبٌ، سكوتْ
الرُّؤى السَّوداءُ، ربيِّ، صَرَعتْهُ
خَلَّفَتْهُ باردًا مُرًّا مقيتْ
ليت هذا الباردَ المشلولَ
يحيا أو يموتْ
ليته!
يا ليت ما سلَّفني دفئًا وقوتْ”([35]).
عمد الشَّاعر إلى التَّعبير في هذا البيت بأسلوبٍ وصفيٍّ أسهم في بنيته التَّركيبيَّة بالإشارة إلى حالةٍ نفسيَّةٍ معيَّنةٍ، فالفراغ الذي خلَّفه حذف المنعوت (الهذيان، السَّأم، الرُّعب، السُّكوت، الرُّؤى السّوداءُ)، ملأه أحد نعوته، وهو (البارد المشلول) الذي حجب باقي النُّعوت أو، بالأحرى، اختزل الشَّاعر جوهر الأشياء بهذا النَّعت، ليبرزه مركِّزًا عليه، وليبلِّغ المتلقِّي هيئة تشخِّص الحالة وهو يحسُّ الوجود بأكمله باردًا. إنَّ التَّلازم بين النَّعت والمنعوت هو ما جعل حذف المنعوت أمرًا غير مخلٍّ، فالنَّعت ملتصقٌ بمنعوته، إذ إنَّ ذكر هذا النَّعت يغني عن التَّصريح بالمنعوت. هذا من جهة ارتباط اللفظ بالمعنى، أمَّا من جهة التَّأثير، فإنَّ ذكر المنعوت قد يخفِّف من اهتمام المتلقِّي بالنَّعت المذكور، فلو قال: (هذا السَّأم البارد)، لتوجَّه انتباه المتلقِّي أوّلًا إلى صورة السَّأم وحده وما يحمله من معان، ثمَّ إلى النَّعت الذي سيحدِّد بعض ملامح السَّأم، وهي البرودة والشَّلل، لكن بحذف المنعوت جعل اهتمام المتلقِّي منصبًّا على النَّعت وحده الذي تأسَّس على عاتقه الصُّورة الشِّعريَّة.
ثمَّ حذف خبر ليت، والتَّقدير: (ليته يحيا أو يموت) وهو معلومٌ بدلالة قرينة السِّياق، لاستلزامه خبر قبله، ومن البدَهِيِّ أنْ يلاحظ المتلقِّي، أنَّ هذا الحذف قد صان الكلام من الثُّقل والتَّكرار، وأوحى بتأكيد التَّمنِّي الانتهاء من حاله الصَّامتة والسَّاكتة بأحد الأمرين إمَّا بالحياة أو بالموت، أي أن لا يبقى على حاله الموجعة.
وحذف الضَّمير من (يا ليت ما سلفني) والتَّقدير (ياليته ما سلفني) وهو اسم ليت، فأفاد في الاقتصار على الجزء الأكثر أهمِّيَّة في العبارة، لتكثيف الشُّعور وتوجيه انتباه المتلقِّي إلى الخبر الذي يعزِّز الإحساس بالنَّدم والرَّغبة في تغيير الماضي، فأعطى العبارة طابعًا أكثر تأمُّلًا وحزنًا، إذ يبدو المتكلِّم وكأنَّه غارقٌ في أفكاره غير قادرٍ على التَّعبير بشكلٍ كاملٍ عن حزنه.
وحذف الجار والمجرور في قصيدة (بعد الجليد)، يقول:
“أنت يا تموز، يا شمس الحصيد
نجِّنا، نجِّ عروق الأرض”([36]).
والتَّقدير: (نجِّنا من الجليد أو من الهلاك). وغرض الحذف هنا هو الإيجاز وتوسيع دائرة الدِّلالة لجعل العبارة أكثر تركيزًا وقوَّةً على تأكيد طلب الاستعانة، والنَّجاة من إله الخصب الشَّمس والحاجة الملِّحة لذلك، فالحذف عبَّر عن رغبة الشَّاعر في اختصار الكلام للتَّعبير عن حالة الطَّوارئ والضِّيق، قاصدًا المنادين لمساعدته في محاربة الظُّلم والظَّلام. وحذف الشَّاعر خبر كان في القصيدة ذاتها:
“إن يكن، رباه”([37]).
والتَّقدير “إن يكن الأمر كذلك، رباه”، قاصدًا الإيجاز والتَّركيز على حالة التَّضرع والقلق، فعكس حالة التَّردُّد وعدم اليقين التي يشعر بها، وأعطى الجملة بُعدًا شعوريًّا قويًّا، وترك المجال مفتوحًا أمام القارئ لتأمُّل المعنى، فأضفى على النَّصِّ طابعًا تأمليًّا وعاطفيًّا. ويستغني الشَّاعر عن حرف النِّداء في قوله (ربَّاه)، ومن الملاحظ أنَّ الحذف لم يكن للاختصار فحسب، وإنَّما كان دالًّا على قرب الصِّلة ما بين المنادى والمنادي، فوقع الحذف بصورة خاصَّة، إذ تلحُّ الرَّغبة على ذهن الشَّاعر في اختزال المسافات التي أحدثها البُعد والجفاء، فهو متيقِّننٌ أنَّه قريبٌ من ربِّه، فلا حاجة إلى أن يناديه أو يتوسَّل إليه من بعيدٍ، وبذلك يشعر المتلقِّي بقوَّة النِّداء حتَّى من دون التَّصريح به.
ومثال الاستغناء عن حرف النِّداء قوله في قصيدة (الجسر):
“ومتَّى، ربَّاه، نشتدُّ ونبني”([38]).
وحذف أداة النِّداء (يا) هنا يعكس شعور الشَّاعر بالقرب من الله، إذ يتحدَّث إليه مباشرة من دون الحاجة إلى استخدام أداة النَّداء، وكأنَّ العلاقة بينهم لا تتطلَّب تلك الوسيلة التَّقليديَّة للنِّداء، ثُمَّ إنَّ الحذف ساعد في اختصار الكلام وتركيز الانتباه على الطَّلب أو السُّؤال الموجَّه إلى الله، ما يجعل الدُّعاء أو التَّساؤل يبدو أكثر إلحاحًا وقوَّةً، فالشَّاعر يعاني من ألم الفراق والتَّشتُّت بين أبناء وطنه، وهو بحاجة إلى من يلمُّ شملهم. وفي القصيدة ذاتها:
“ويجري البحر ما بين جديد وعتيق
صرخة، تقطيع أرحام، وتمزيق عروق”([39]).
يعمد الشَّاعر إلى حذف المبتدأ (هي) وحرف العطف (الواو)، والتَّقدير: (هي صرخة وتقطيع أرحام)، للإسراع في صرف الانتباه إلى الخبر ولتكثيف المعنى، وجعله أكثر مباشرة في التَّعبير عن الفكرة، ما أضفى على الجملة طابعًا دراميًّا، إذ تقدَّم لفظ (صرخة) بشكلٍ مفاجئٍ وقويٍّ، فتجذب الانتباه مباشرةً إلى المشهد أو الفكرة المقصودة التي تُظهر مشاعر الشَّاعر، وما يعانيه من وجعٍ وحسرةٍ على الفراق وقطع أوصال المحبَّة بين الأمَّة إذ تجري الانقسامات فيها، فالبيت الواحد ينقسم قسمين والبحر الذي يرمز هنا إلى الضَّياع يسرح بهم بموجه العاتي فيميْز منهم الجديد والعتيق. ويعضد ذلك حذف حرف العطف الذي يفيد به التَّفريق، فلا يَتوهَّم المتلقِّي الاشتراك بالتَّعاطف، لإبداع نوعٍ من التَّشويق والغموض، إذ يترك للقارئ أو المستمع مهمَّة استكمال المعنى بذهنه، الأمر الذي يزيد من تفاعله مع النَّصِّ. ويقول في قصيدة (الناي والريح) في مقطع صومعة كمبردج:
“كذبٌ
دمي ينْحَرُّ، يشتمني، يئنُّ”([40]).
يهدف الشَّاعر من حذف المبتدأ (هو) والتَّقدير: (هو كذب) إلى تكثيف المعنى والاختصار، لتحقيق تأثير أقوى في التَّعبير عن الفكرة الذي يجعل العبارة أكثر حدَّةً وإلحاحًا، ويسهم في جذب الانتباه مباشرة إلى لفظ (كذب)، فيترك أثرًا صادمًا للقارئ، فالحذف يجعل التَّركيز على فعل الكذب الذي ينتج غليان الدَّم (دمي ينحَرُّ) الأمر الذي يعزِّز الشُّعور بالغضب واستحقار النَّفس الزَّانية والطَّامعة والمتباهية في اللقب والسُّلطة. ويقول في القصيدة ذاتها:
“ربِّي متى أنشقُّ عن أمِّي، أبي
كتبي وصومعتي وعن تلك التي تحيا تموت على انتظار”([41]).
إنّ الجوَّ السَّريع الذي تولَّد من غياب حرف العطف أوَّل ما يمكن للمتلقِّي ملاحظته، فالشَّاعر في موقف لا يسعفه الإبطاء في كلامه، فهو يستدعي أغلى ما عنده بداية، وهذه السُّرعة تتضافر مع شيءٍ آخر لتجسد المشهد، وهو الكامن في السُّؤال: لماذا وضع حرف العطف في قوله: (وصومعتي وعن تلك التي تحيا تموت)، ولم يضعه في (أمي، أبي كتبي)؟
لعلَّ أمَّه وأبيه وكتبه يشتركان في أمرٍ واحدٍ في نفسه، وكأنَّه يقول: أمِّي وأبي وكتبي في كفَّةٍ وكلُّ ما دون ذلك في كفَّةٍ أخرى. إذن، بؤرة المشهد تشعُّ وتُشاهد من جملة (أمي أبي كتبي)، ومسيرة تدفُّق الجمل المتعاطفة تتوقَّف عند كلمة (كتبي)، ومن ثمَّ يعاود التَّدفُّق والتَّرتيب بذكر كلمة (وصومعتي). وبمعنى آخر إنَّ وجود حرف العطف يوحي بفصل ما بين جنس المتعاطفين ولذلك لم يفصل بينهما.
والأمر ذاته بين كلمتي (تحيا، تموت) التي لم يذكر بينهما حرف العطف، لإفادة الاشتراك بين المتعاطفين، فالحياة والموت أصبحا سواء من كثرة انتظارها (تحيا تموت على انتظار). وفي القصيدة ذاتها يحذف اسم لعلَّ في قوله:
“وأشرب من مرارات الدُّروب بلا مرارهْ
ولعلَّ تخصب مرة أخرى”([42]).
والتَّقدير: (لعلَّها تخصب) بهدف الإيجاز واختصار العبارة وتكثيف المعنى ليجعل الجملة أكثر وضوحًا وتركيزًا، فبحذف الضمير (ها) يتوجَّه التَّركيز مباشرةً إلى الفعل (تخصب) والنتيجة المتوقَّعة، ما أضفى على النَّصِّ طابعًا إيحائيًّا، إذ يترك الشَّاعر للقارئ فرصة تخمين المحذوف واستحضار المعنى كاملًا، وهو إظهار توقه ولهفته لحياة أفضل.
وفي قصيدة (وجوه السِّندباد) يقول: “وجه من راح يتيه”([43]).
أراد الشَّاعر من حذف الظَّرف والمضاف إليه “يتيه بين الوجوه” أن يركِّز على الحدث نفسه من دون تقييده، وأن يجسِّد موقف التِّيه الذي كان فيه، فهو ليس له وجه يميِّزه من سواه، وإنَّما وجهه منسوجٌ من وجوهٍ متعدِّدةٍ؛ وجه الألم والغصَّة والغربة والجوع والسِّجن.
وفي القصيدة ذاتها حذف الشَّاعر خبر ليس حينما قال:
“أنت هل أنت بلى
لا، لستَ، لا، عفوا”([44]).
والتَّقدير: (لست أنت) لدلالة المبتدأ عليه، وقد أدى غرض الإيجاز وتكثيف العبارة، وأظهر الحيرة التي كانت تعتري الشَّاعر في تلك اللحظة، وهذا يتوافق مع العتمة والضَّباب اللذان يملآن المكان.
وفي القصيدة ذاتها في مقطع 6-الأقنعة القريبة، جسر واترلو، يقول:
“صورٌ تهوي، وأهوي معها
أهوي لقاع لا قرار”([45]).
حاذفًا خبر لا النَّافية للجنس الجار والمجرور والتَّقدير: (لا قرار له) قاصدًا تعظيم القاع الساقط فيه وسقطت معه كلُّ ذكرياته وأحلامه، وبذلك أظهر الحذف كمِّيَّة اليأس والضَّياع اللذين عاشهما الشَّاعر في لبنان البائس الذي أصبح حاله حال الشَّاعر. ويقول في القصيدة ذاتها في مقطع 9-الوجه السرمدي:
“إنَّ في وجهك آثارًا
من الموج، وما محّى، وحقّرْ”([46]).
لجأ الشَّاعر إلى حذف المفعول به والتَّقدير: (ما محَّى معالمك وحقَّرها)، لإثبات الفعل في ذاته للفاعل من دون النَّظر إلى تعلُّقه بمفعول، ليتاح له أن يصرف ذهن المتلقِّي إلى الحدث والتَّركيز عليه من دون الالتفات إلى من وقع عليه الحدث، فذكر المفعول قد يؤدِّي إلى التَّخصيص الذي يضيِّق حدود الحدث هنا، ويسدُّ أبواب التَّأويل على المتلقِّي، ولو ذكر المفعول وهو (المعالم) أو أي شيء يدلُّ على الوجه، لحصر معنى الفعل في جنس المفعول، ولصرف ذهن المتلقِّي إليه، وهذا خلاف ما يريد أن يصل إليه، فهو يريد إظهار فعل الموج، ولا يهمُّه نوع الإصابة. ومثال حذف المفعول قوله في قصيدة (السِّندباد في رحلته الثَّامنة):
“لن أدَّعي أنَّ ملاك الرَّبِّ
ألقى خمرةً بكرًا وجمرًا أخضرًا
في جسدي المغلول بالصّيقعْ…
لن أدَّعي ولست أدري كيف
لا، لعلها الجراحْ”([47]).
المتبادر إلى الذّهن أن يكون تقدير الحذف هو (لن أدَّعي أنَّ ملاك الرَّبِّ)، فالسِّياق يفترض ملء الفراغ الذي خلَّفه ترك المفعول، وبإيحاء من السَّطر الثَّاني يكون المتلقِّي محكوم، في الظَّاهر فقط بسياق ما هو مذكورٌ من مثيلات الكلمة المحذوفة في التَّركيب، لكنَّه ما يلبث أن يلاحظ الحيلة التي وضعها له الشَّاعر، إذ كان الشَّاعر بمقدوره أن يضع للفعل مفعولًا، وذلك بإعادة ذكره، فما الدَّاعي إلى حذفه إن كان لا يقدِّم معنى أو شيئًا جديدًا!. ولذلك أرى أنّ حذف المفعول يسمح للفعل أن يمتدَّ ليشمل كلَّ التِّلميحات التي يمكن أن يضعها المتلقِّي إلى الفعل كي تقع في دائرة الادِّعاء، ومن هذه التِّلميحات (لن أدَّعي شيئًا، لن أدَّعي ما حصل، لن أدَّعي أنِّي خفت، لن أدَّعي أنَّ الجراح…). وقد جاء الحذف مناسبًا للموقف، إذ يوحي باستغراق السَّامع في الادّعاءات التي أودت بالشَّاعر إلى ما هو عليه، فهو يستهجن ما ذكره من عودة دياره وشفاء جروحه، وعودة الدَّم إلى عروقه. فالشَّاعر عبَّر عمَّا يجول في خاطره من معنى على نحوٍ لا يمكن لأيِّ مفعولٍ أن يجسَّده لو عدَّى الفعل إليه، بل لضاع معنى التَّعميم، فالحذف أثبت المعنى في نفسه للشَّيء على الإطلاق، بمعنى أنَّه أمَّن معنى الشُّمول الذي تطلَّع إليه الشَّاعر، بينما إثبات المفعول لفعله لا يؤدِّي هذه الوظيفة الشُّموليَّة. ويقول في القصيدة ذاتها:
“مرآة داري اغتسلي
من همَّك المعقود والغبار”([48]).
حذف الشَّاعر أداة النِّداء إيجازًا واختصارًا بغية بيان العلاقة الوطيدة بينه وبين داره، وإظهار قربه وتعلُّقه بها، فهو يريد من داره أن تنفض عنها غبار الماضي وآثامه، وبدء حياةٍ جديدةٍ وبريئةٍ واستقباله بأبهى حلُّة ليرى نفسه بوضوح، كحياته التي بدأها من جديد بمعالم واضحةٍ بعد هذه الرِّحل الكثيرة، وقد نجح في إيصال هذه المشاعر للمتلقِّي. وفي القصيدة ذاتها يقول:
“أحببت لو كانت يدي سيلًا
ثلوجًا تمسح الذُّنوب
من عفن الأمس تنمِّي الكرم والطُّيوب…
أحببت، لا، مازال حبِّي مطرًا”([49]).
حذف الشَّاعر جملة المفعول، والتَّقدير: (أحببت لو…)، لأنَّه كان يريد أن يتمنَّى شيئًا إيجابيًا بعد فقدان الأمل، لكنَّه قال (لا) ليظهر للقارئ أنَّ حبَّه كافيًا لتلبية جميع طلباته إذ لا زال يستطيع بحبِّه أن يسقي أرض وطنه ويعيد الحياة فيها، وبذلك يكون قد نجح عن طريق الحذف بإيصال مشاعر التَّفاؤل التي يشعر بها للمتلقِّي. وفي القصيدة ذاتها حذف الشَّاعر الفعل في قوله:
“أعيد ما تحكي وماذا، عبثًا
هيهات أستعيد”([50]).
والتَّقدير: (وماذا أعيد)، لدلالة السِّياق عليه، وغرضه الإيجاز وتجنُّب التَّكرار، وقد خدم هذا الحذف في بيان مشاعر اليأس وفقدان الأمل بعد خسارة السِّندباد لحياته وماله وتجارته، وهو حال الشَّعب المضطَّهد الذي خسر حتَّى الأمل. وحذف أيضًا المفعول به، والتَّقدير: (هيهات أستعيد رزقي أو حياتي)، وغرضه من ذلك البيان بعد الإبهام غير أنَّه فتح المجال للقارئ بتأويل الكلام، فهو بمكانٍ لا يحسد عليه، إذ خسر كلَّ شيءٍ وليس لديه أمل بالاستعادة. وفي القصيدة ذاتها يحذف النَّعت والمنعوت في قوله:
“وكاهنٌ في هيكل البعل
يربِّي أفعوانًا فاجرًا وبومْ
يفتضُّ سرَّ الخصب في العذارى
يهلِّل السَّكارى
وتخصب الأرحام والكروم
تفوِّر الخمرة في الجرارْ”([51]).
حصل في المقطع أكثر من حذف، فقد حذف الشَّاعر المنعوت في قوله: (العذارى) و(السَّكارى)، والتَّقدير: (النِّساء العذارى، والنِّساء السَّكارى)، وحذف النَّعت في قوله: (وبومْ) والتَّقدير: (وبومًا فاجرًا أو ماكرًا).
يُخيَّل إلى المتلقِّي أنَّ حذف أكثر من كلمة من السِّياق ضرورةٌ يلجأ إليها الشَّاعر تجنُّبًا للإطالة، لكن يظهر له بعد التَّأمل أنَّ حذف المنعوت كان ليبرز النَّعت، فقد حذف الشَّاعر المنعوت (النِّساء) ليحصره في هذه اللفظة لا غيرها، أي أنَّ فعْل الفاحشة والإخصاب من هذا الكاهن يكون على النِّساء العذارى والسَّكارى فقط لا عند جميع النِّساء أو عند التي لا تسكر. أمّا الحذف الثَّاني، فهو حذف النَّعت في قوله: (بوم)، وقد أفاد الشَّاعر تعظيم النَّعت وتهويله، وتمكين النَّعت في المنعوت، إذ إنَّ تعظيم النَّعت حصل من جعل المنعوت نكرةً مطلقةً، فالشَّاعر لم يشأ أن يقيِّد اللفظ بنعتٍ محدَّدٍ، بل ترك للمتلقِّي فضاءً واسعًا لتخيُّل حالة البوم الَّذي يملكه الكاهن، ولو ذكر النَّعت لكان الذِّكر من دون فائدة؛ لأنَّ النَّعت الذي كان سيضعه لا يستطيع حمْل ما يفعل البوم من شؤمٍ وخرابٍ. أمَّا تمكين النَّعت في المنعوت، فتحقَّق في أنَّ الشَّاعر لم يجد لفظة تحقِّق التَّهويل في النَّعت (بوم)، فلجأ إلى استبدالها بذكر نعتٍ سابقٍ للأفعوان، وكأنَّ لفظ (فاجرًا) حلَّت محلَّ النَّعت من دون ذكره، فتمكَّن معنى النَّعت في ذات المنعوت مع الصُّورة التي بعدها، ودفعت بالتَّركيب للوصول إلى مبالغة ما كانت لتوجد لو ذكر النَّعت. ومن حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه قوله في قصيدة ذاتها:
“من مرح الأمواج في الخليج
كانت خطاها تكسر الشَّمس
على البلور تسقيه الظِّلال”([52]).
عمد الشَّاعر في هذه القصيدة التي ترمز لحدث الوحدة بين سوريا ومصر إلى حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه في قوله: (تكسر الشَّمس)، والتَّقدير واضحٌ لدى المتلقِّي، وهو (تكسر ظلَّ أو ضوءَ الشَّمس)، لوجود الصِّلة المعنويَّة، ولحذفه نوعٌ من الاختصار الذي أفاد بلاغةً فريدةً ما كانت لتوجد بذكر المضاف، وهي تعميق المعنى الذي يحاول تجسيده منبِّهًا على قوَّة التَّلازم والارتباط، أقصد معنى التَّجاوز من ضوء الشَّمس إلى الشَّمس نفسها، أو وصول الشَّمس لمحاذاة البلَّور والنَّوافذ، وكأنَّ الشَّمس بنفسها نزلت لتحتفل مع الأمَّة في وحدتها. ويقول في قصيدة (قطار المحطة):
“أمِّي تخاف النَّوم يفتحُ،
ثقلَ جفنيها على غضب السَّماء
بلى، بلى.. غضبٌ.. محال”([53]).
حذف الشَّاعر المبتدأ لدلالة القرينة عليه، وتقديره: (هو غضب، هو محال). وقد نجح الشَّاعر في جعل الجملة أكثر تركيزًا واختصارًا من خلال الحذف، ما زاد من قوَّتها وتأثيرها، وأظهر مشاعره من خلال التَّأكيد بالحذف وهي مشاعر الأسى والغضب على الحال شعبه ووطنه لبنان.
يلحظ أنَّ الحذف حقَّق وظيفته في الاختصار والإيجاز الذي من شأنه أن يعزِّز قضيَّة التَّلاحم في بنية النَّصِّ، إذ جاء مناسبًا للموقف وتجسيدًا لحالة الحدث الذي يتطلَّب سرعة في الإخبار، ما يعبِّر عن قلقٍ داخليٍّ تجاه أيِّ شيءٍ يزعج أمُّه ويوقظها من النَّوم حتَّى لو كان النَّوم نفسه، ولعلَّ الشَّاعر يرمز بلفظ الأمِّ إلى شعبه ووطنه لبنان اللذين يعيشان حالة من الغضب الشَّديد على ما هُم فيه.
وعليه فدلالة حذف المبتدأ في هذا الموضع هي التَّركيز على الخبر (غضب)، إذ ينساق الذِّهن وراء ما يحمله هذا الخبر من معانٍ من دون الاهتمام بما غيره، فكثافة المعنى فيه وليس في المبتدأ المفهوم من السّياق الذي يمكن تقديره بـ (هو). ويقول في القصيدة ذاتها:
“حلمٌ
يولِّده سواد القلب
يزهر في عروق موهنَهْ”([54]).
عمد الشَّاعر إلى حذف النَّعت([55]) (مخيف) ليبرز المنعوت (حلم)، لأنَّه الدَّعامة التي ستُبنى عليه الصُّورة الشِّعريَّة لكونه في بداية السَّطر الشِّعريِّ، وبها يستطيع شدَّ انتباه المتلقِّي ويترك لخياله فسحة من الحرِّيَّة لتصوُّر السِّمات المتعلِّقة بهذا المنعوت، فالنَّعت لم يعد ذا أهمِّـيَّةٍ كبيرةٍ، لأنَّ منعوته يمكن أن يقوم مقامه. إخفاء الشَّاعر للنَّعت يوحي بأنَّه يريد من المتلقِّي أن يقدِّرها اعتمادًا على تأثيره الانفعاليِّ بجوِّ القصيدة أو التَّركيب نفسه، وبذلك تكون تقديرات المتلقِّي توسُّعًا للمعنى في كلِّ لفظة يقدِّرها. ولعلَّ لتنكيره المنعوت دورًا كبيرًا في إضفاء العموميَّة، ولو أنَّه ذكر النَّعت لضيَّق من مساحة المعنى. ولا يخفى ما لدور تنوين التَّنكير في تدعيم المعنى، فقد أدَّى إلى توقُّف الإيقاع توقُّفًا كان مفتاحًا لتجسيد الموقف بصورة حقيقيَّة نوعًا ما، فالتَّوقُّف كان دلالة على كيفيِّة تشكُّل الحلم المخيف من سواد القلب، ما يعني أنَّ مكان الحلم معتمٌ، وهذه حالة التُّوتُّر أو الانفعال العاطفيّ التي كانت تنتاب الشَّاعر.
ويقول في قصيدة (لعازر عام 1962):
“لُفَّ جسمي، لُفّه، حنِّطْه، واطمُرْهُ
بكلسٍ مالحٍ، صخرٍ من الكبريتِ،
فحمٍ حجري”([56]).
حذف الشَّاعر حرف العطف الذي يربط بين الأفعال والأسماء، وأقام معادلة توزيعٍ للأفعال الذي ذكرها أوَّلًا على الأسماء بالتَّرتيب، إذ يمكن التَّقدير على النَّحو التَّالي: (لفَّه بكلس مالح)، و(حنِّطه بصخر من الكبريت)، و(اطمره بفحم حجريّ)، أو تقدير الأفعال جميعها لكلِّ اسم على حدةٍ. فالشَّاعر يريد أن يقدَّم المشهد أو الفكرة من دون أيِّ فاصلٍ أو تفاصيل إضافيَّةٍ، ليجعله أكثر تأثيرًا ومباشرةً، فأسهم في تسريع الإيقاع الشِّعريِّ الذي يعزِّز من شعور القارئ بالضَّغط أو الإلحاح على تنفيذ أفعال الأمر، وكأنَّ صيغ الأمر تنهال على جسد لعازر خوفًا من إمكانيِّة انبعاثه، إذ تلحُّ على إخفائه بمواد مميْتة. وهذا يعني أنَّ لعازر[57] الذي يمثِّل المجتمع العربيَّ لا يريد الانبعاث والحياة، بل يصرُّ على البقاء حيث هو، ذلك أنَّه يقول للحفار (عمق الحفرة)، لأنَّ الأمل دفن معه في حياة الموت، ولذلك يطلب من الدَّافن أنْ يهيِّئ جسمه للدَّفن بهذه الكيفيَّة بأن يغطَّى جسده بما صنعت أيديهم من هلاكٍ، وأن يبقى يحيا حياة الموت، فقد فضَّل البقاء في القبر على أن يبعث إلى الحياة من جديدٍ، ذلك أنَّه رأى أنَّ القبر بقساوته أرحم من الواقع الفاسد الذي كان يعيشه، رافضًا بذلك كل ما يمُتُّ للحياة بصلةٍ. بالإضافة إلى ذلك يظهر أنَّ حذف الأفعال تُشعر القارئ بالتَّركيز على الموادِّ الخامِّ التي تُستخدم في عمليَّة الإيذاء أو الدَّفن (الكلس، الصخر، الفحم) وعلى الصُّورة البصريَّة والملمس الحسِّيِّ لتلك الموادِّ، وهو ما يمكن أن يعزِّز الإحساس بالرَّهبة أو القسوة، ما يضفي على المشهد طابعًا دراميًّا مأساويًّا. ويقول في القصيدة ذاتها:
“ميتًا كئيب
غير عرق
ينزف الكبريت مسودّ اللهيب”([58]).
لجأ الشَّاعر إلى حذف جملة (لم يعد فيه شيء غير عرق…)، أو ليس واسمها (ليس فيه غير عرق…)، لإبداع تأثيرٍ شعريٍّ مكثَّفٍ يزيد من قوَّة العبارة، فهو يصف لعازر الذي عاد من حفرته ميْتًا وكئيبًا، ليصبح أشبه بكيان منهار لا يتبقَّى منه سوى العرق الذي ينزف الكبريت، وحذف (ليس فيه) يعزِّز فكرة الانهيار الكامل أو الفناء؛ فلم يعد هناك شيءٌ سوى العرق المحمَّل بالمعاناة، ما يجعل الصُّورة أكثر دراميَّة وتأثيرًا. ويقول في القصيدة ذاتها في مقطع (8-زوجة لعازر بعد سنوات):
“امسحي الميت الّذي ما برحتْ
تخضرُّ فيه لحيةٌ، فخذٌ، وأمعاءٌ تطولْ”([59]).
حذف الشَّاعر الفعل (تخضر) قبل لفظ (فخذٌ، وأمعاءٌ) وهو معلوم بدلالة قرينة السِّياق، لاستلزامه فعل قبله، ومن البدَهِيّ أنْ يلاحظ المتلقِّي أنَّ هذا الحذف قد صان الكلام من الثُّقل والتَّكرار وجعل العبارة أكثر تكثيفًا وقوَّةً من دون أن يؤثِّر ذلك على الفهم. ولعلَّ الحذف هنا أوحى بالتَّركيز على من وقع عليه حدث الاخضرار، إذ إنَّ (الفخذ والأمعاء) يتشاركان الفعل نفسه (تخضر) وهذا يؤكِّد على وحدة الأجزاء المختلفة للجسد في تعفُّنها. ومثلما نعلم أنَّ الاخضرار هو رمزٌ للخصب والنَّماء والتَّجدُّد والانبعاث، إلَّا أنَّ هذا النُّموَّ الذي أراده الشَّاعر هو نموٌّ مدمِّرٌ وحشيٌّ، فلا يمنح هذه الأعضاء النَّضارة والحيويَّة والقوَّة.
وعليه فإنَّ الحذف هنا منح النَّصَّ جمالاً أسلوبيًّا وكسر الرَّتابة النَّاتجة عن تكرار الفعل وأضاف عنصر التَّشويق في البناء والدِّلالة.
الخاتمة: تضمّنت ظاهرة الحذف في شعر خليل حاوي أجزاء التَّركيب معظمها من اسمٍ وفعلٍ وحرفٍ، وفي كلِّ جزءٍ أعطت دلالاتٍ وقيمًا تعبيريَّةً، فكانت ميْزةً أسلوبيَّةً ملحوظةً، وتعدُّ، في المقام الأوَّل، بمنزلة إشراكٍ للمتلقِّي في عمليِّة الإبداع، إذ تضمَنُ دوام يقظته محفّزةً إيَّاه على توليد الدِّلالات.
وكان الحذف يستدعي البحث وكشف الفراغات والفجوات التي يتركها وسدَّها، والغاية منه محاولة النَّصِّ السُّموّ بالمتلقِّي من خلال الولوج لميدان التَّأويل والاستكشاف، بغية الوصول إلى أعماق النَّصِّ، فأسهم بأنواعه في تلاحم النَّصِّ، وحقَّق وظيفته في الاختصار والإيجاز، والابتعاد عن التَّكرار، فكان في خدمة الدِّلالة والبعد الجماليِّ، علاوةً على حفاظه على الإيقاع، وأكثر أنواعه مقبولة لا تعوق مسألة الاتِّصال بين الشَّاعر والمتلقِّي. ويعود استخدام الشَّاعر لأسلوب الحذف إلى إحساسه بقيمته التَّأثيريَّة، وهي عمليَّةٌ مقصودةٌ استثمرها في تحقيق وظائف وقضايا ترتبط بذاته وتعبِّر عن محيطه.
وأخيرًا لا بُدَّ من الإشارة إلى أنَّ الدِّلالات والأغراض التي تنبثق من الحذف يمكن أن تختلف في كلِّ حالةٍ حسب ذائقة المتلقِّي، إلَّا أنَّ الحذف في معظم حالاته كان مؤدِّيًا لأغراض بلاغيَّةٍ تسهم في تشكيل رؤية الشَّاعر، ولو ذكر المحذوف لما تمثَّل أيٌّ من الأغراض، ولما كشف نفسيَّة الشَّاعر أو الحالة الشُّعوريَّة الموجودة في التَّركيب.
المصادر والمراجع
1- المصادر
- حاوي، خليل: ديوان خليل حاوي، دار العودة، بيروت، 2001.
- الكتاب المقدس، العهد الجديد، لوقا.
2- المراجع
- إبراهيم، نبيلة: القارئ في النص- نظرية التأثير والاتصال، مجلة فصول، القاهرة، مجلد 5، عدد 1، 1984.
- ابن جني: الخصائص، تحقيق: محمد علي النجار، المكتبة العلمية، مصر، د.ت.
- ابن عقيل: شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، تحقيق: محمـد محيي الدين عبـد الحميد، القاهرة، دار التراث ودار مصر للطباعة، 1980.
- ابن منظور: لسان العرب، دار صادر، بيروت، 1993.
- ابن هشام: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، تحقيق: مازن المبارك ومحمد علي حمد الله، دار الفكر، دمشق، 1964.
- أبو العدوس، يوسف: الأسلوبيَّة- الرّؤية والتّطبيق، عمّان، دار المسيرة، ط4، 2016.
- حجازي، عبد الرحمن: الخطاب السياسي في الشعر الفاطمي- دراسة أسلوبية، ط1، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005.
- حمودة، طاهر: ظاهرة الحذف في الدّرس اللغويّ، د.ط، الدّار الجامعيّة، الإسكندرية، 1998.
- خطابي، محمد، لسانيات النّصّ مدخل إلى انسجام الخطاب، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1991.
- الرّمّانيّ والخطّابيّ وعبد القاهر الجرجانيّ، ثلاث رسائل في إعجاز القرآن- في الدّراسات القرآنيّة والنّقد الأدبيّ، تحقيق محمّد أحمد ومحمّد سلام دار المعارف بمصر، القاهرة، ط3، 1976.
- الزّركشيّ: البرهان في علوم القرآن، تحقيق يوسف المرعشليّ وجمال الذّهبيّ وإبراهيم الكرديّ، دار المعرفة، بيروت، 1990.
- الزيود، عبد الباسط: من دلالات الانزياح التركيبي وجمالياته في قصيدة الصقر لأدونيس، مجلة جامعة دمشق، دمشق، المجلد23، العدد1، 2007.
- سليمان، فتح الله أحمد: الأسلوبيَّة مدخل نظريّ ودراسة تطبيقيّة، د.ط، القاهرة، مكتبة الآداب، 2004.
- عبد القاهر الجرجانيّ: دلائل الإعجاز، تحقيق: محمود شاكر، مطبعة المدني، القاهرة، ط3، 1992.
- عبد المطلب، محمد: البلاغة والأسلوبية، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، ط1، 1994.
- عبد المطلب، محمد: جدلية الإفراد والتّركيب في النّقد العربي القديم، الشّركة المصرية العالمية للنشر لونجان، القاهرة، ط1، 1995.
- عدمان، عزيز محمد: حدود الانفتاح الدلالي في قراءة النص الأدبي، مجلة عالم الفكر، الكويت، المجلس الوطني للثقافة، المجلد 37، العدد3، مارس 2009.
- العلوي، يحيى بن حمزة: الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز، المكتبة العصرية، بيروت، 1423هـ.
- الفراهيدي: العين، تحقيق: مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، دار الهلال، بيروت، د.ت.
- الفقي، صبحي إبراهيم: علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق الخطابة النبوية نموذجًا، مجلة علوم اللغة، ج9، العدد2، 2006.
- الكاتب، ابن الأثير: المثل المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مصر، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1939.
[1] – طالبة دكتوراه في الجامعة الإسالاميّة – قسم اللغة العربيّة – خلدة – لبنان – بيروت.
-PhD student at the Islamic University – Department of Arabic Language – Khaldeh – Lebanon – Beirut.Email: hanaaaboalfa93@gmail.com
[2] – الفراهيدي: العين، تحقيق: مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، دار الهلال، بيروت، د.ت، ج3، ص201، مادة (حذف).
[3] – ابن منظور: لسان العرب، دار صادر، بيروت، 1993، ج9، ص39-40.
[4] – الزّركشيّ: البرهان في علوم القرآن، تحقيق يوسف المرعشليّ وجمال الذّهبيّ وإبراهيم الكرديّ، دار المعرفة، بيروت، 1990، ج3، ص173.
[5]– الفقي، صبحي إبراهيم: علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق الخطابة النبوية نموذجًا، مجلة علوم اللغة، ج: 9، العدد2، 2006، ج2، ص215.
[6]– خطابي، محمد، لسانيات النّصّ مدخل إلى انسجام الخطاب، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1991، ص22-21.
[7]– اﻟﺰرﻛﺸﻲ، االبرهان في علوم القرآن، ج3، ص105.
[8]– سليمان، فتح الله أحمد: الأسلوبيَّة مدخل نظريّ ودراسة تطبيقيّة، د.ط، القاهرة، مكتبة الآداب، 2004، ص137؛ وأبو العدوس، يوسف: الأسلوبيَّة – الرّؤية والتّطبيق، عمّان، دار المسيرة، ط4، 2016، ص185.
[9] – عبد المطلب، محمد: جدلية الإفراد والتّركيب في النّقد العربي القديم، الشّركة المصرية العالمية للنشر لونجان، القاهرة، ط1، 1995، ص159.
[10]– الرّمّانيّ والخطّابيّ وعبد القاهر الجرجانيّ، ثلاث رسائل في إعجاز القرآن- في الدّراسات القرآنيّة والنّقد الأدبيّ، تحقيق محمّد أحمد ومحمّد سلام دار المعارف بمصر، القاهرة، ط3، 1976، ص76.
[11] – العلوي، يحيى بن حمزة: الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز، المكتبة العصرية، بيروت، 1423هـ، ج2، ص51.
[12] – انظر: ابن هشام: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ج2، ص668-687؛ والزّركشيّ: البرهان في علوم القرآن، ج3، ص173-206.
[13]– عبد القاهر الجرجانيّ: دلائل الإعجاز، تحقيق: محمود شاكر، مطبعة المدني، القاهرة، ط3، 1992، ص146.
[14]– الزيود، عبد الباسط: من دلالات الانزياح التركيبي وجمالياته في قصيدة الصقر لأدونيس، مجلة جامعة دمشق، دمشق، المجلد23، العدد1، 2007، ص172-171.
[15]– عدمان، عزيز محمد: حدود الانفتاح الدلالي في قراءة النص الأدبي، مجلة عالم الفكر، الكويت، المجلس الوطني للثقافة، المجلد 37، العدد3، مارس 2009، ص83.
[16]– سليمان، فتح الله أحمد: الأسلوبيَّة مدخل نظريّ ودراسة تطبيقيّة، ص137.
[17]– إبراهيم، نبيلة: القارئ في النص- نظرية التأثير والاتصال، ﻣﺠﻠﺔ فصول، القاهرة، مجلد 5، عدد 1، 1984، ص102-101.
[18]– ﺍﺒﻥ ﺠﻨﻲ: الخصائص، ﺘﺤﻘﻴﻕ: ﻤﺤﻤﺩ ﻋﻠﻲ النجار، المكتبة العلمية، ﻤﺼﺭ، ﺩ.ﺕ، ﺝ2، ﺹ360.
[19]– الكاتب، ابن الأثير: المثل المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مصر، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1939، ج2، ص81.
[20] -ابن جنّيّ: الخصائص، ج2، ص260.
[21] -عبد المطلب، محمد: البلاغة والأسلوبية، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، ط1، 1994، ﺹ200.
[22]– حجازي، عبد الرحمن: الخطاب السياسي في الشعر الفاطمي- دراسة أسلوبية، ط1، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005، ص194.
[23]– ﺍﺒﻥ ﻋﻘﻴل: ﺸﺭﺡ ﺍﺒﻥ ﻋﻘﻴل ﻋﻠﻰ ألفية ﺍﺒﻥ مالك، ﺘﺤﻘﻴﻕ: ﻤﺤﻤـﺩ محيي الدين ﻋﺒـﺩ الحميد، القاهرة، ﺩﺍﺭ التراث وﺩﺍﺭ ﻤﺼﺭ للطباعة، 1980، ﺝ1، ص243.
[24]– ابن هشام: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، تحقيق: مازن المبارك ومحمد علي حمد الله، دار الفكر، دمشق، 1964، ﺹ1030-786.
[25]– حمودة، طاهر: ظاهرة الحذف في الدّرس اللغويّ، د.ط، الدّار الجامعيّة، الإسكندرية، 1998، ص116.
[26]– للتفصيل انظر: طاهر حمودة: ظاهرة الحذف في الدّرس اللغويّ، ص116-124.
[27] – ابن جنّيّ: الخصائص، ج2، ص362.
[28]– ابن هشام: ﻣﻐﻨﻲ اللبيب، ج2، ص715-748.
[29] – ورد حذف النداء أيضًا في قوله: “آه ربي صوتهم يصرخ في قبري تعالْ!!”، حاوي، خليل: ديوان خليل حاوي، دار العودة، بيروت، 2001، ص132.
[30]– حاوي، خليل: ديوان خليل حاوي، ص132.
[31] – حاوي، خليل: ديوان خليل حاوي، ص133.
[32] – حاوي، خليل: ديوان خليل حاوي، ص56.
[33]– حاوي، خليل: ديوان خليل حاوي، ص113-114.
[34]– هناك أمثلة عن حذف المفعول كقوله في قصيدة الناسك: “الناسك المخذول في رأسي، يطل علي يسألني يحار”، حاوي، خليل: ديوان خليل حاوي، ص213.
[35]– حاوي، خليل: ديوان خليل حاوي، ص77-78.
[36]– حاوي، خليل: ديوان خليل حاوي، ص119.
[37]– حاوي، خليل: ديوان خليل حاوي، ص125.
[38] -حاوي، خليل: ديوان خليل حاوي، ص168.
[39]– حاوي، خليل: ديوان خليل حاوي، ص167.
[40]– حاوي، خليل: ديوان خليل حاوي، ص198.
[41]– حاوي، خليل: ديوان خليل حاوي، ص203.
[42]– حاوي، خليل: ديوان خليل حاوي، ص203.
[43]– حاوي، خليل: ديوان خليل حاوي، ص225.
[44]– حاوي، خليل: ديوان خليل حاوي، ص239.
[45]– حاوي، خليل: ديوان خليل حاوي، ص245.
[46] – حاوي، خليل: ديوان خليل حاوي، ص250.
[47] – حاوي، خليل: ديوان خليل حاوي، ص273-274.
[48]– حاوي، خليل: ديوان خليل حاوي، ص279-280.
[49] -حاوي، خليل: ديوان خليل حاوي، ص296-297.
[50]– حاوي، خليل: ديوان خليل حاوي، ص298.
[51]– حاوي، خليل: ديوان خليل حاوي، ص259-260.
[52] – حاوي، خليل: ديوان خليل حاوي، ص277.
[53] -حاوي، خليل: ديوان خليل حاوي، ص517-518.
[54]– حاوي، خليل: ديوان خليل حاوي، ص522.
[55]– ومن أمثلة حذف النعت، قوله في قصيدة السندباد في رحلته الثامنة: “أحيا على جمر طريٍّ طيبٍ وجوعْ، كأن أعضائي طيور عبرت، عبرت بحار، وحدي على انتظار”، حاوي، خليل: ديوان خليل حاوي، ص276-277.
[56]– حاوي، خليل: ديوان خليل حاوي، ص339-341.
[57] – “وكان رجل فقير اسمه لعازر، تغطي جسمه القردح، وكان ينطرح عند باب الرّجل الغنيّ، ويشتهي أن يشبع من فضلات مائدته، وكانت الكلاب نفسها تجي وتلمس قروحه” الكتاب المقدس، العهد الجديد، لوقا 16، ص220.
[58]– حاوي، خليل: ديوان خليل حاوي، ص359.
[59]– حاوي، خليل: ديوان خليل حاوي، ص361.