نمر صبّاح، قِراءَة في كتاب “نمر صبّاح وليوبولد سنغور (لقاء مبدعين ولقاء ثقافتين)”
للدكتورة دلال عبّاس[1]
نسرين رجب*
يتجلّى اهتمام الدكتورة الباحثة دلال عبّاس في الكشف عن واحدٍ من حيوات المبدعين بحقّ الذين لم يستسلموا لعثرات الطريق، فجاهدوا، وعاندوا الظروف، والأسباب ليكونوا ما هم عليه، فهي الباحثة المجِدّة تفكيرًا في ما يدور أمامها وحولها، في سعيِها للكشف عن شخصيّةٍ أخفاها الزمن بين طيّات ذكرياته، فانطلقت من رواية “أجنحة التيه” لجواد صيداويّ للتعريف بشخصيّة أدبيّة وفكريّة جديرة بالاهتمام، ولم تلق حظّها من التكريم بين أهلها ووطنها، وقد اعتمدت في بحثها على ما زوّدها به الدكتور حاتم صبّاح شقيق نمر صبّاح من كتب وترجمات شعريّة، ودراسة عن أطروحة دكتوراه غير منشورة عن جرجي زيدان، وبعض رسائل وصور، فضلًا عمّا أمدّها به ولداه عليّ ودينا من كتب مترجمة، وشعر كتبه في ابنته ديانا، وعلى شهادات من أساتذة وشخصيّات ممّن تتلمذوا على يد المعلّم نمر، ومذكّرات وقصائد جاءت في ديوان جمعه والده الحاج توفيق وكتبه بنفسه. بدأت فكرة الكتاب من خلال مداخلة بحثيّة بعنوان “الدكتور نمر صباّح، مبدع خارج الوطن” قدّمته للمشاركة في “المؤتمر الثقافيّ الأوّل لمدينة النبطيّة، في نادي الشقيف العام 1997.
الولادة
من أرض عاملة ومن النبطيّة تحديدًا إلى فرنسا وأفريقيا – السِنغال – تاريخ حافل بالمجد صنعه الرجُل بعرق العلم والاجتهاد، فتمايَز، وجدّ حتّى انوَجد باحثًا تربويًّا، ومترجمًا، وشاعرًا مُبدِعًا.
وُلِد نمر صبّاح في مدينة النبطيّة 1920، من عائلة لها إرثها الثقافيّ والشعريّ، ذكرت الدكتورة نماذج من شعر والد نمر صبّاح الذي كتب باللهجتين المحكيّة اللبنانيّة، والفصحى العربيّة، تعبّر هذه النماذج عن العفويّة، والبساطة في صناعة العبارات الشعريّة من دون تكلُّف، وفي التعبير بتلقائيّة عن الكثير من خواطر العيش وهمومه ومنها دلائل عن حياة نمر، جاءت في رسائل عتاب، ومحبّة كان يُرسلها الأبُ لابنه، منها:
يا هل ترى بسفح النباطيّــــة | بعــد الفراق بنلتقي سويّــة | |
يا ابني بخاف الموت يدركنا | فــي غيبتك صرنا ختياريّة[2] |
مرحلة الدراسة والتعليم
تعلّم نمر الصباح في مدرسة النبطيّة الابتدائيّة التي كان يديرها عبد اللطيف فيّاض، في زمن كانت ظروف التعليم فيه تعيسة، وخصوصًا في المناطق البعيدة عن العاصمة بيروت، وتاريخ جبل عامل يشهد بقصص الإهمال، والحرمان الذي لاقاهُ الأهالي من دولتهم، وكأنّهم ليسوا من نسيجها، وهو أمرٌ لم يمنع الحالمون من أمثال نمر من ملاحقة طموحاتهم وتحقيقها في بلاد الاغتراب إذا ما ضاقت بهم أرض الوطن، اجتهد على نفسه ليعوّض النقص في الموادّ التعليميّة، وتحسين مستواه في اللغة الفرنسيّة، ولكي يتمكّن من الفوز في دار المعلّمين الابتدائيّة التي كانت قد أُنشئت في العام 1924 في بيروت، التي كانت هي الطريق الوحيد أمام أبناء الطبقة المتوسِّطة لمتابعة دراستهم الثانويّة، تخرّج نمر في العام 1938 وعُيِّن مُدرّسًا في مدرسة ذات معلّم منفرد في قريَة العبّاسيّة ولاحقًا في الدوير، إلى أن نُقل إلى النبطيّة في العام 1943، التحق بالجامعة اليسوعيّة مُندفعًا بمعاناته وطموحه الشخصيّ، وسافر بعدها إلى فرنسا 1948 على نفقته الخاصّة، بهدف تعرُّف الأساليب التربويّة الحديثة التي درسها نظريًّا في دار المعلّمين، التي حاول تطبيقها عمليًّا في أثناء مرحلة تدريسه.
أنجز أطروحته الأولى لنيل درجة الدكتوراة في التربية، وعلم النفس في العام 1950، وفي العام 1952 أنجز أطروحة في الأدب العربيّ من جامعة ليون، ونال تهنئة رئيس الجامعة ثم ميدالية الأكاديمية الفرنسية (جائزة شارل قرم)[3] فأقيم له حفل مهيب في القصر التاريخيّ “أوتيل دو فيل” حضره أعضاء الأكاديميّة، وأساتذة الجامعة، والمسؤولون الرسميّون، والإداريّون، ورجال العلم والأدب.
كان لشدّة ثقته بذاته وقوّة حضوره الأكاديميّ في فرنسا يؤمن بأنّ لبنان سيستدعيه للاستفادة من علمه وخبرته، ولا سيّما في المجال التربويّ، لوضع نظريّاته التربويّة التي وردت في كتابه “التطوّر الثقافيّ في لبنان، والتوجّه الجديد للمدرسة اللبنانيّة”[4]، ولكن أمله قد خاب، فلم يكن لأبناء منطقته أن يتولّوا وظيفة بكلّ سهولة، وإن حصل ذلك للأكفاء فلا يمكن من دون واسطة، وحتّى الواسطة لم تشفع له، كان على أهل جبل عامل إن أرادوا وظيفة، أو مدرسة، أو طريقًا، أن يتوسّطوا لدى أحد الزعيمين السياسيَين في الجنوب: الأسعد أو عسيران، وكان آل صبّاح من أنصار عادل عسيران في حينه الذي كان من أقطاب السياسة الحاكمة في المنطقة، وتنقل المؤلِّفة عن رسائل من والد نمر الحاج توفيق للنائب المذكور حيث يعده بتأمين منصب لنمر في وزارة التربية، وهكذا رجع نمر إلى وطنه محمّلاً بالأمال، ولكنّ النائب أخلف وعده، فجاء في قصيدة للحاج توفيق: “تناسى يوم محنته فكنّا نصول/ له إذ ما الفخر ولى، فقد أهملت الناس حتّى/ محبّك مذ رأى الإهمال ملّا…” عاد نمر خائب الرجاء إلى فرنسا في العام 1954، استدعي للتدريس جزئيًّا في المدرسة التطبيقيّة للعلوم العالية في السوربون، وكان طيلة مدّة إقامته في فرنسا التي امتدّت حتّى نهاية 1959 فاعلًا في التجمعات الفكريّة، والأدبيّة للطلاّب العرب في فرنسا، كذلك شارك في تجمّع الطلبة العرب والأفريقيّين، وهناك تعرّف إلى ليوبولد سنغور، في العام 1960 سافر إلى موريتانيا لتدريس اللغة العربيّة في جامعتها، فبقي هناك سنتين، يعاني من صعوبة العيش لجهة تأخّر الرواتب، واضطراب أحوال البلاد، حتّى يستدعيه سنغور – الذي أصبح رئيس السنغال – إلى داكار العاصمة ويسلّمه عمادة كلّيّة الآداب فيها، فيفتتح قسمًا لتعليم اللغة العربيّة، يشرف عليه بنفسه، إضافة إلى مَهَمَّة التدريس، وينال وسام الاستحقاق من حكومة السنغال تقديرًا لجهوده، برتبة أوفيس كوموندور في القصر الجمهوريّ. لم يعد إلى لبنان إلا لمامًا في الإجازات الصيفيّة لعيادة أهله والإطمئنان على أحولهم حتّى وفاته في العام 1981. ولم تستطع النبطيّة التي حملها في قلبه طيلة سنيّ اغترابه أن تفيه حقّه من التكريم، بسبب العدوان الإسرائيلي، فكتب عنه سعيد صبّاح في مجلة الراية، ونعته جريدة السفير اللبنانية معرِّفة به وبآثاره وبقصيدة رثاء من صديقه ياسر بدر الدين “وانطفأ نمر صبّاح..” قتلته الغربة هو الغريب في وطنه، “مات نمر صبّاح وهدأ في قلبه نبض التراب” كما جاء في القصيدة.
نمر صبّاح معلّمًا
أوردت المؤلّفة شهادات لعدد من أساتذتها الذين كانوا تلاميذه في المرحلة المتوسّطة قبل سفره إلى فرنسا، جاء في هذه الشهادات، الحديث عن معلّمٍ متميّز الحضور والأداء، منهم الأستاذ حبيب جابر، والأستاذ إسماعيل إبراهيم من مآثره؛ التشديد على المطالعة بالفرنسيّة، وضرورتها للتقوية في مادّة الإنشاء الفرنسيّ، حيث ألزمهم شراء بعض روائع قصص الأدب الفرنسيّ الحديث، فكلّ تلميذ يشتري كتابَيْن ويتبادلون الكتب خلال العام، شجّعهم على استعمال القاموس لشرح الكلمات الصعبة، وكان حريصًا على تصحيح فرض الإنشاء أسبوعيًّا لتلامذته، وفي شهادة الفنان طارق غندور كلام عن نمر المعلّم الأنيق، المتميّز في حضوره واعتداده بذاته، وشخصيّته المتفاخرة التي لم تمنعه من إظهار حسّ الدعابة والمرح.
نمر صبّاح باحثًا تربويًّا وأدبيًّا
أنجز كتابه “التطوّر الثقافيّ في لبنان، والتوجّه الجديد للمدرسة اللبنانيّة” في العام 1950، – كتبه باللُّغة الفرنسيّة – وتكمن أهمّيّته – في رأي الباحثة – أنّه من أوائل الدراسات التي عالجت مشاكل التعليم في لبنان في النصف الأوّل من القرن بالاستناد إلى النظريّات التربويّة الحديثة، إضافة إلى مباحث أستاذه واصف بارودي، الذي كان أوّل العاملين على معالجة مشكلة التربية، والداعين إلى تعميم التعليم الرسميّ، وتطويره في المناطق اللبنانيّة كلّها.
كان نمر صبّاح قادرًا على إدراك الهوّة بين نظريات دار المعلّمين، وما طبّقه فعليًا في أثناء دراسته في فرنسا من نظريّات تربويّة حديثة، ولم يغفل الحديث عن كلّ ما يتعلّق بمنظومة التعليم من قريب، أو من بعيد، فتحدّث عن مراحل التعليم منذ العهد العثمانيّ حتّى الانتداب الفرنسيّ، عن دور الإرساليّات الأجنبيّة، عن سلطة المعلّم، عن شخصيّات تربويّة كان لها دورها الفاعل منها عبد اللطيف فيّاض وحياته المهنيّة والتعليميّة، واصف البارودي الذي عُيِّن في العام 1936 مفتّشًا تربويًّا عامًّا وكان المدافع الأوّل عن المدرسة الرسميّة، تحدّث عن مساوئ التعليم الدينيّ في بلد متعدّد الطوائف، حيث كلّ طائفة تؤمن بامتلاكها للحقيقة الكونيّة، ورفض الآخر وتكفيره، فيقول: “إنّ تعدّد وجهات النظر في المجال الدينيّ، والعامّ ستكون له في المستقبل نتائج وخيمة اجتماعيًّا، وسياسيًّا، فهذه التجمُّعات غير المحدّدة، وغير المُضرّة في البداية ستتضخّم بالتدرّج، وتلغَّم، وتتفجّر، وينبثق عنها كِيانات بعدد المجموعات، والمذاهب، والمعتقدات. وسيصل بها الأمر إلى تهديد وحدة الدولة، تضيف المؤلّفة بعد عرضها للكتاب “أنّك تقرأه فتدرك أنّ المشاكل التربويّة… لا تزال هي نفسها في الجوهر على الرغم من تغيُّر الظروف والمعطيات…”[5]. وتؤكّد على أهمّيّة أن يُترجم هذا الكتاب بالعربيَّة.
أنجز في العام 1952 أطروحة دكتوراة في الأدب العربيّ عن “جرجي زيدان وآثاره الأدبيّة”، وهي دراسة غير منشورة، عالج فيها مشاكل النهضة الأدبيّة، حياة زيدان، مؤلّفاته، وآثاره الصحافيّة، وفكره، وأعماله الأدبيّة والتاريخيّة.
نمر صبّاح مترجمًا
طَبَع نمر في العام 1978، على نفقة الجالية اللبنانيّة في السنغال ترجمته لكتاب ليبولد سينغور “أسس العنصريّة الأفريقيّة، أو المزنجة والعروبة” وأعطاه عنوان: “الانتساب الى العرق العربيّ: تأمّلات حول قضيّة الثقافة”، كان سينغور رئيس جمهوريّة السنغال مثقّفا نادرًا، عالمًا، وفيلسوفًا وشاعرًا، اعتمد في كتابه على التحليل العميق لمعطيات علوم الإناسة، والإثنيّات، والخصائص العرقيّة والألسنيّة، استطاع نمر أن ينقل المعنى من اللغة الفرنسيّة إلى اللغة العربيّة من دون تحريف، فهذا الكتاب دراسة منبثقة عن مؤتمر مؤسّسة الوحدة الأفريقيّة وأهدافه أبعد من السياسيّين كما يقول سينغور إنّه أي هذا الأمر هو الأسس الثقافيّة لمصيرنا المشترك، يقول سنغور في ختام كتابه “لقد حان الوقت أن نتخلّص نحن المستعمرين القدماء من مركبّات النقص التي زرعها في أنفسنا المستعمرون القدماء…”
تتحدّث المؤلّفة[6] عن العلاقة المميّزة بين نمر صبّاح وسينغور، والتزام كلّ منهما بقضايا شعبه من دون الشعور بالدونيّة، وعقدة نقص تجاه المستعمر، وعن أسلوبه في الترجمة التي لم يتّبع فيها نمطًا واحدًا فهو مُترجم أمين في الكتب الفكريّة، ولكنّه شاعر في الكتب الشعريّة أكثر من كونه مترجمًا، وهذا ما تجلّى في ترجمته لديوان “أناشيد الظلال”.
نمر الصبّاح شاعرًا
تجلّت شاعريّة نمر صبّاح في الشعر المترجم أكثر منها في الشعر الشخصيّ، “كان شعر نمر في المرحلة الأولى أقرب إلى النظم، وكان بحاجة إلى كثير من الدربة، والمِران، وإلى كثير من الصقل”[7]، فالمعاناة والجهد الذي عاناه في سنين دراسته حالت بينه وبين أن يجد وقتًا كافيًا لتجويد شعره، وجاءت قصائده في مناسبات عديدة، ومنها في رثاء الأقارب، ومنها قصائد متبادلة مع والده تجلّى فيها عتاب الأحبّة.
ظهرت شاعريّته الفذّة في ترجمته لـديوان “أناشيد الظلال”، وقد ساعدته الصداقة الحميمة التي تربطه بسنغور حامل شعلة التغيير في أفريقيا السوداء وأوّل الدُعاة إلى إحياء قيَم الثقافة الأفريقيّة الأصيلة، على الإبداع في ترجمة مضامين شعره، تتحدّث المؤلّفة عن نمر الناقد الأدبيّ الذي لم تكن تعوزه أدوات النقد الحقيقيّة، يحدّد قيم المزنجة كما جاءت في كلام سينغور ثم يعرّف مذهب سنغور السياسيّ الذي يرتكز على المزنجة بقيَمها الأفريقيّة العريقة، واتّجاهاتها الاشتراكيّة، ورؤيته لأفريقيا متطوّرة، ومتحضّرَة، ونامية، تحدّث عن طفولة سنغور في قرية دجيلور حيث ولد ثمّ في جوال التي أطلق عليها اسم مملكة الطفولة حيث الطبيعة الساحرة، إيمانه الكاثوليكيّ، وحفاظه على عقائده الزنجيّة، دراسته لليونانيّة، واللاتينيّة إضافة إلى الفرنيّة والإنكليزيّة. وتنوُّع شعره كتنوُّع الإثنيّات في أفريقيا، عن لغة سينغور تأثّره بالشعراء، والثقافة الغربيّة، وحضور الارتجال الأفريقيّ بكلّ غنائيّته وأهازيجه…
ويتحدّث عن الإيقاع وضرورته لتحقيق الانسجام في القصيدة، وما يحمله في ذاته من صوَر وحلقات رقص على الطام طام، أشطُر منغّمة مكرّرة مشحونة بالصور والألوان، ولولا الأسماء الأفريقيّة في ترجمة نمر الصبّاح لما خطر ببال القارئ أنّه أمام شعر مترجم – كما تقول الدكتورة – فشاعريّته المخبّأة وجدت متّسعًا لها في ترجمة المعنى والروح السنغوريّة وعلى الطريقة العربيّة بكلّ خصائصها الفنّيّة من وزن وإيقاع، ومفردات، وصور فنّيَّة، يتماهى مع النصّ، ويبدع من وحيه شعرًا عربيًّا جميلاً، فيضاعف الإبداع في ترجمته، فالصورة تصبح صورًا والمعنى معانٍ، لجأ إلى التأويل دافعًا بالنصّ نحو مزيد من الانفتاح، والعمق، والغنى متنقّلًا من فضاء ثقافيّ إلى آخر، فالترجمة الحرفيّة للمقطع الشعريّ تظهر فقيرة في مقابل ترجمة صبّاح الغنيّة والمدهشة في تركيبها للمعاني.
مثال عن ترجمة حرفيّة لمقطع من شعر سينغور[8]:
“ضعي كفّيك البلسميّتين فوق جبيني، كفيك الأنعم من الفراء”.
تقابلها ترجمة نمر:
قومي ضعي كفّيك فوق جبيني | كفّاك بلسمُ عاشق مفتون | |
ويداك إن لمس الحريرُ حريرها | جُنّ الحريرُ به لغير جنون |
يبدو الفرق جليًّا بين الترجمة الحرفيّة بما هي عليه من نقلٍ حرفيّ للمعاني من دون خصوصيّة تعبّر عن روح الناقل، والترجمة التأويليّة لنمر الصبّاح التي تعكس مقدرة شعريّة، وإبداعًا في اسلتهام المعاني وتخصيبها.
حتّى إنّه يشطح داخل النصّ المترجم للتعبير عن معاناته الشخصيّة وشوقه إلى الأهل والوطن[9]:
إيه يا روحُ قِدّي نارَ دمي | فوق ثغري، أشعلي الحِمَمْ | |
وعلى الأوتار من قيثارتي | أنت يا روح اعصفي عصف الدِّيمْ |
ومن المقاطع الشعريّة المترجمة – التي أوردتها الباحثة – مقطعًا من قصيدة “أغانٍ لسنيار”، حيث يستحيل على القارئ الظنّ أنّ هذه القصائد مقتبسة لولا الأسماء الأفريقيّة التي ترِد فيها، كمثال عن ذلك[10]:
“مرّت على جفنيَّ من حَلَكِ الدّجنّة كفُّ نورْ
وعلى الضباب يمرُّ في “كنغوي” يُسئمه المرورْ
كصبابةٍ طغتِ ابتسامتُكِ المليئةُ بالسرور
فشدا الفؤادُ كما شدَتْ للفجر، أجواقُ الطيور…”
لقد وجد نمر صبّاح ذاته داخل شعر سينغور وترجم إحساسهُ بالجمل الشعريّة بعربيّة فاتنة، “فعواطف الإنسان هي هي، إلى أيّ عرق انتمى، وإلى أيّ ثقافة انتسب” كما تقول الباحثة، وتضيف أنّه “لا يجب أن يُقرأ النصّ بالفرنسيّة ثمّ بالعربيّة، يجب أن يقرأ كلّ منهما على حدة”[11]، فلِكُلّ نصّ خصوصيّته التي تعكس روح كاتبه سواء كان المؤلّف، أو المترجم. ثمّ تعرض من الصفحة 83 حتّى 164 قصائد من ديوان “أناشيد الظلال” حيث النصّ المترجم بأسلوب نمر صبّاح، وأصله الفرنسيّ كما جاء على لسان سينغور، ثمّ ديوان “قرابين سوداء”.
تختم الدكتورة دلال كتابها بملاحق هي عبارة عن صور لرسائل التقدير الموجهة من الجامعة الفرنسيّة إلى نمر، وعن جائزة شارل قرم التي نالها في العام 1952م، عن غلاف كتاب سينغور الذي ترجمه نمر بالعربيّة، وعن غلاف كتابه في التربية والتعليم بلغته الفرنسيّة الأصليّة.
تُعرفُ الشعوب من أُدبائها ومُثقّفيها، ويُعرفُ المُبدِعون من آثارهم الخالدة، من العطفة التي يحدثونها في طريق مستقيم، فيُخالِفون، ليس لدواعي أن يُعرفوا، بل لكي يوجدوا اختِلافًا يقي الإنسانيّة اجترار معارفها في محاولاتها لبناء أنموذجها الحضاريّ، تحقيقًا لقوله عزّ وجل “جعلناكُم شعوبًا وقبائل لتعارفوا”[12]، يُمثل الدكتور نمر الصبّاح أنموذج الإنسان الحُرّ العالم، والمجاهد في سبيل الخروج من قوقعة البلدة، والوطن إلى رحاب الإبداع في أرض الله الواسعة.
* طالبة دكتوراه في اللغة العربيّة، قسم اللغة العربيّة، الجامعة اللبنانيّة.
[1] عبّاس دلال؛ نمر الصبّاح وليوبولد سنغور (لقاء مبدعين ولقاء ثقافتين)، لجنة الصبّاح الوطنيّة، طبعة أولى 2000.
صورة عن جائزة شارل قرم التي نالها نمر في العام 1952م، ص 167. [3]
[4] هذا الكتاب هو دراسة أكاديميّة معمّقة صدر باللغة الفرنسيّة، بعنوان: et l’orientation nouvelle de l’ecole Libanaise l’evolution culturelle au liban,