الشيخ حبيب آل إبراهيم بين الإصلاح الدينيّ والواقع الاجتماعيّ في منطقة
بعلبك (1933م – 1965م)
فؤاد يوسف بلوق[1]
المقدّمة
الشيخ حبيب آل إبراهيم يُعدُّ من أبرز الشخصيّات، والهامات الشيعيّة في بعلبك في خمسينيّات القرن الماضي (1886م – 1965م)، إذ إنّه يحمل في داخله مخزونًا فكريًّا، وعلميًّا، ودينيًّا، مكّنه من العمل في غير ساحة وخصوصًا اختراقه للسّاحة العراقيّة التي كانت ترزح تحت نير الانتداب البريطانيّ، واستطاع في حِقبة وجيزة أن ينشر أفكاره، ويقف في وجه الانتداب الإنكليزيّ الذي عمل على تأسيس رأس جسر ثابت له في جنوب العراق. وفي سنة 1933م استقرّ به المقام في مدينة بعلبك، وبقي فيها لحين وفاته سنة 1965م.
وفي سنة 1933م زارته وفودٌ عشائريّة وعائليّة بعلبكيّة في بيروت، حيث كان يقيم، وطلبت منه القدوم إلى مدينتهم، والإقامة الدّائمة بين ظهرانيهم، لأنّ منطقتهم كانت خاليةً وقتئذٍ من علماء الدّين ورجال العلم والثقافة، وبعدها زار المدينة، واستطلع أحوالها، واتّخذ قرارَ الاستجابة لطلبهم، فانتقل إلى مدينة بعلبك ليمضيَ فيها ثلاثًا وثلاثين سنة، إذ عاش وعلّم وبلّغَ ومات، ليُنقل جثمانه بعد ذلك إلى العراق، ويُدفن فيه. قليلةٌ هي الدّراسات التي تناولت الشّيخ حبيب آل إبراهيم، وهي دراساتٌ سطحيّة غير معمّقة، تناولت سيرة حياته الشخصيّة، أو أعماله الشّعريّة والأدبيّة، أو مراسلاته العلميّة مع علماء العلويّين في سوريا، وأهمّيّة هذه الدراسة أنّها ستتناول محاولة الإصلاح الدينيّ للشّيخ حبيب التي حاول أن يزرعها في نفوس أبناء المنطقة والتي كانت تصطدم بالواقع الاجتماعيّ، وسأدرس، وأحلّل، وأقارن، وأبيّن الأثر الذي تركه الشّيخ في المنطقة.
ستعالج هذه الدراسة أيضًا أعمال الشّيخ حبيب آل إبراهيم، وإبراز شخصيّته، والإضاءة على أعماله، وإحياء مرحلة مُهِمَّة من تاريخ بعلبك, وقسَّمتُ هذه الدراسة “الشيخ حبيب بين الإصلاح الدينيّ والواقع الاجتماعيّ في منطقة بعلبك من سنة 1933م إلى سنة 1965م”، إلى مقدّمة، وثلاثة فصول، وخاتمة، عالجت في الفصل الأوّل “سيرة الشّيخ وأعماله”.
وأمّا الفصل الثاني فهو تمهيد ضروريّ للفصل الثالث، لأنّني كتبت فيه لمحة تاريخيّة عن التّشكّل – السكّانيّ، والحالة الاجتماعيّة والثقافيّة، والعادات والتقاليد، قبل مجيء الشيخ حبيب إلى مدينة بعلبك.
وبعد أن بيّنت ما ذكرته في الفصل الثاني، انتقلت إلى الفصل الثالث، وهو الفصل المخصّص لأعمال الشيخ حبيب النهضويّة في بعلبك.
- فرضيّتا الدراسة
أوّلهما، إنّ البِنية الاجتماعيّة القائمة على العشائريّة والقَبَليّة، تشكّل عائقًا أمام إحداث تغيير ثقافيّ، وأصلاح اجتماعيّ، ودينيّ على مستوى المنطقة، ولكن هذه البِنية تستمدّ مفاهيمها من جذور دينيّة، على الرغم من عدم وجود مؤسّسة دينيّة تقوم بنقل التراث، والثّقافة الدينيّة إلى الأسرة، والعائلة، كما أنّ بروز الشّيخ حبيب آل إبراهيم كان قد ساهم في تكوين عمل مؤسّساتيّ، وأحدث تغييرًا، وسدَّ فراغًا حاصلًا في البِنية العشائريّة والقَبَليّة، وإن لم يكن على النّحو الجذريّ.
وثانيهما، إنّ الأفكار، والمفاهيم المشفوعة بالتجربة المسبقة في النجف للشّيخ حبيب آل إبراهيم، وقدرته على فهم البِنية الاجتماعيّة، والعشائريّة التي خبرها هناك، ساعدته على أن يستلهم النّموذج الأنسب لإحداث التّغيير المرجو في البِنية الاجتماعيّة، والعشائريّة لمنطقة بعلبك. فهو يأتي من خلفيّة دينيّة، وثقافيّة.
- المنهج
اتّبعت في هذه الدراسة المنهج التاريخيّ – التّجميعيّ – التّحليليّ، من خلال جمع النّتاج الفكريّ، والمعرفيّ، والثقافيّ للشيخ، ثمَّ القيام بدراسةً تحليليّة على ضوء الواقع المعيش لأبناء منطقة بعلبك في تلك الحِقبة، لأخلص إلى تبيان الأثر الذي تركه الشيخ. وعلّني في هذه الدّراسة أضيف شيئًا جديدًا، يسهم في الإضاءة على المشروع الإصلاحيّ الذي بدأه الشّيخ في منطقة بعلبك بين العامين 1933 و1965م.
- الفصل الأوّل: سيرة الشيخ وأعماله ومصنّفاته
1ـ أسرته ونشأته
“الشيخ حبيب بن الحاج محمّد بن حسن بن إبراهيم بن حسن ياسين”، هذا ما ذكره الشيخ حبيب عن نسبه([2])، ونلاحظ أنَّ “ياسين” هو الاسم الذي ختم به الشيخ سلسلة نسبه.
“ويذهب حفيده الشيخ جعفر إلى أنّ “ياسين” هو علمٌ على أسرة كبيرة ترتفع بأصولها البعيدة إلى قبيلة همدان اليمانيّة([3])، هاجر فرع منها إلى جبل عامل، ونزل في قرية “حنويه”، قضاء صور، وعرفت هناك باسم “آل إبراهيم” نسبة إلى والد جدّ الشيخ، ثمَّ غلب على قسم منها لقب “سقسوق”، ولا يزال القسم الأكبر من الأسرة يحمل هذا اللقب([4]). ثمّ تحوّل الاسم أخيرًا إلى “المهاجر” بسبب خطأ في القيود الرسميّة في إحصاء رسميٍّ، حيث كان الشيخ حبيب أثناءه في “العراق” فكتب في الحقل المُخصّصِ أنَّه “مهاجر” في مقابل مقيم”([5]).
وُلدَ الشيخ حبيب في قرية “حنويه” من قضاء صور، سنة 1304ه/ 1886م تقريبًا([6]), ولما درج الشيخ اختار لـه والده معلِّمًا للقرآن هو الشيخ محمّد بن حسن مروّة، في قرية عين بعال بجوار “حنويه”، فكان يذهب صباحًا ويؤوب مساء، وقد اكتسب سورًا وآيات جديدة ([7])، ثمَّ انتقل بعد وفاة شيخه الأوّل إلى شيخ آخر من آل خاتون([8])، وبعد القرآن اشتغل بالعلوم العربيّة في عقود محافل “حنويه” بإشراف الشّيخ محمّد عليّ عزّ الدين([9]).
لم يدرك الشيخ حبيب الأيّام التي ازدهرت فيها قريته بحضور هذا الشّيخ، وإنّما عاصر خلفه الشيخ إبراهيم بن حسن عزّ الدين، الذي لم يكن له مكانة جدّه العلميّة، فلم ينجح في جذب الطّلاب إلى حلقات دروسه لأنّه كان “كثير العبادة، يحبّ الاعتزال بنفسه”([10]).
ثمّ حالت الظّروف الحياتيّة بينه وبين متابعة التّحصيل، فاستغلّ شبابه في ممارسة الرّياضة وركوب الخيل، لكن هاجس العلم دعاه إلى تذليل الصعاب، وبعزيمة نادرة اجتاز امتحانًا في (عكا) أنجاه من الجنديّة الإجباريّة، وحرَّر تنقّلاته، فسافر في 12 ربيع الأوّل سنة 1028ه/ 1910م إلى النّجف لاستكمال علومه الدينيّة.
2- عودته إلى الوطن
في شهر ذي جّة الأولى، وبعد إقفال المدارس في العديد من الأقطار العربيّة، آب الشيخ إلى لبنان بعد أن أقام خمس سنوات في النجف، وجدها قصيرة، فغادرها.
وبعد أن زار مراقد الأئمة(ع)، التقى الشيخ بأبيه، الذي خفّ لملاقاته إلى (الكاظميّة)، وانطلق الرّكب المؤلّف من خمسة أشخاص: والد الشّيخ الحاج محمّد، والشيخ وزوجته الحاجة فاطمة الصائغ، وإبناهما عليّ([11]) وسليمان، وفي بعض الطريق بدأت تظهر أعراض المرض على الأب، وما إن وصلوا إلى “مسكنه” على الضفّة الشاميّة من الفرات، حتّى أسلم الرّوح ففجع به، وتابع الشّيخ سفره باتّجاه “حلب”، ومنها إلى “بيروت” بالقطار الحديديّ، وصولًا إلى بلدة “حنوية”([12]).
أقام في وطنه زهاء الخمس سنوات، من المحرم 1333هـ/ تشرين الأوّل 1915 م حتّى رمضان 1337هـ/ آب 1919م. شهد أثناءها ويلات الحرب العالميّة الأوّلى، وقد سجّل في مذكّراته “حديث النعم” وصفًا مؤثّرًا لها([13]). وظلّ الشيخ يترقّب انتهاء الحرب، وما إن خمدت نارها حتّى شدّ رحاله إلى العراق من جديد.
3- الرحلة الثانية إلى العراق وأعماله فيه
باع الشيخ حبيب أثاث منزله، وكلّ ما آل إليه من تركة والده، “واستغرب الناس منّي ذلك، لما يرونه بظاهر الأمر من صلاح الحال، وإنّي أعلم ما لا يعلمون”([14])، وفي رمضان 1337ه/ آب 1919م، غادر الشيخ “حنويه”، وما إن استقرّ به الحال في النجف حتّى انصرف بكلّه إلى متابعة الدراسة، فقال ما نصّه في “مذكّراته حديث النعم”: “اعتمدت فقهًا وأصولًا بحثي الشيخين الجليلين الأوحدين الشيخ عليّ الشيخ باقر الجواهريّ([15])، والشيخ أحمد آل كاشف الغطاء([16]) دام ظلّهما”([17]).
بدأ الشّيخ كتابة هذه المذكّرات “في النجف في شهر صفر سنة 1339هـ/ تشرين الثّاني 1920م([18])، وختمها في 25 ربيع الأوّل من سنة 1339ه/ كانون الأوّل 1920م، أي إنّه أمضى في كتابتها شهرين إلاّ قليلًا، وكان آنذاك في الرابعة والثلاثين من عمره تقريبًا([19])، ويظهر أنّ الشيخ حبيب اتّصل بمرجع الشّيعة السيّد الأصفهانيّ([20])، الذي كان أحد اثنين يتربّعان على قمّة الحركة العلميّة في النّجف، ثانيهما الشيخ محمّد حسين النائينيّ([21])، وكان الاثنان يتكاملان: النائينيّ رجل تنظير سياسيّ/ اجتماعيّ، وأمّا الأصفهانيّ فقد كان رجل إدارة من الدّرجة الأوّلى([22])، اتّصل به الشيخ حبيب، فكان من ثمار هذا الاتّصال أن جعل الأصفهانيّ الشيخ حبيب وكيلًا عنه في مدينة “الكوت” في العراق سنة 1921([23]).
أـ الشيخ حبيب في “الكوت”
كانت “الكوت” يومذاك بلدة صغيرة، على فرع من فروع نهر دجلة، نهضت على أنقاض مدينة “واسط” التي بناها الحجّاج بن يوسف الثّقفيّ، ثمَّ اندثرت، ليحلّ محلّها حصن عسكريّ صغير (كوت)، هو الذي منحها اسمها الجديد، إلى بلدة نمت حول الحصن، من عائلات العسكريّين الذين كان قسمٌ كبيرٌ منهم من الأكراد الشّيعة، وغدت البلدة مركزًا من أهمّ المناطق الزراعيّة في العراق، تقطنها بطون، وأفخاد قبيلة شُمّر التي ترجع بأصولها إلى “نجد”، وبني ربيعة([24]).
أمضى الشّيخ حبيب في “الكوت” مدّة خمس سنين فَقَدَ أثناءها ابنه الأكبر الشّيخ عليّ، الذي توفِّي غرقًا في نهر “دجلة”، وكان في الثامنة عشرة من عمره([25]).
في “الكوت” بنى الشيخ علاقات طيّبة مع زعماء عشائر المنطقة، كما غدا شخصيّة بارزة ومحبوبة، تتمتّع بولاء جماهيريّ واسع، لما يتمتّع به الشّيخ من قوّة وحضور.
ب – الشّيخ حبيب في العمارة وأعماله فيها
وفي سنة 1927م، وجد الشّيخ حبيب نفسه ملزمًا بنزول “العمارة”([26])، لمقاومة التّبشير البروتستانتيّ على يد الاستعمار الإنكليزيّ.
وباسم السيّد المسيح، أراد الإنكليز أن يدخلوا قلوب العراقيّين، بحثوا عن نقطة الانطلاق فوجدوها في “العمارة”، لأنَّ معظم سكّانها من البدو، خيّم عليهم شبح الفقر، واحتواهم الجهل، وتفشّت بينهم الأمراض، وباسم الإنسانيّة المغرضة مسح المبشّرون فقر أهل العمارة ببذل العطايا، وخفّفوا أمراضهم بالتطبيب المجانيّ، وغزوهم فكريًّا بتأسيس مكتبة، وإلقاء المحاضرات، والندوات في الباحات، والبيوت، والخيام، ووزعوا الكتب مجانًا([27]).
أمام هذا الواقع، أراد الشّيخ حبيب المواجهة، فبحث عن الحلول، فلمسها في نشر الوعي الدينيّ، والوقوف بالمرصاد للمبشّرين، ونقض نشراتهم، فكتب الشيخ:
- “منهج الحقّ”، أراد فيه تبيان حقيقة مقاصد الحملة التبشيريّة وأهدافها، حيث إنّ عامّة الناس كانوا مأخوذين بالمظهر الخيريّ لأعمالهم، فأراد الشيخ فضحهم، فكان كتابه هذا وهو أوّل ما طبع من مصنفاته، صدر في سنة 1928([28]).
- “المحاضرات العماريّة”، وهو تحرير للدروس التي بدأ يلقيها من على منبر مسجده في “العمارة” في مواجهة الحملة التّبشيريّة، صدر العام 1928م([29])، وأهداها إلى السيّد أبي الحسن الأصفهانيّ([30]).
3 – “قُلْ جاء الحقّ”، صنّفه ردًّا على كتاب “منار الحقّ”، وهذا من الكتب التي نشرها البروتستانت في “العمارة”([31]).
4 – “محمّد الشفيع” صنّفه ردًّا على كتاب “من يشفع فينا”، الذي كتبه ونشره المبشّرون، ونالوا فيه من شخص النبيّ محمّد(ص) توصّلوا فيه إلى القول إنّ السيّد المسيح(ع) هو وحده المؤهّل للشّفاعة بالخاطئين، وإنّ محمّدًا(ص) لا يصلح لها، بل هو بحاجة إلى من يشفع له؛ ولقد انتشر كتاب “محمّد الشفيع” انتشارًا هائلًا في جنوب العراق، وطبع طبعات كثيرة جدًّا، فكان له أثر كبير في فضح المبشّرين ومقاصدهم([32]).
5 – “الانتصار” موضوع هذا الكتاب قراءة نقديّة للتوارة والإنجيل، وكأنَّ الشيخ بدأ في هذا الكتاب بمرحلة الهجوم، بعد أن اكتفى بمؤلَّفاته السابقة بالدفاع([33])، وهو آخر ما صنّفه في “العمارة”، كتبه العام 1932م([34]).
هذا ما قام به الشيخ من مجهود فكريّ، تصنيفيّ في الردّ على مصنّفات المبشّرين، أمّا من الناحية العلميّة، أو في الحقل الاجتماعيّ، تمكّن الشيخ من تأسيس عيادة طبّيّة بعد أن أدرك خطورة التطبيب المجانيّ الذي يقوم به المبشّرون، حيث يذكر القنصل الرّوسيّ في البصرة في نهاية القرن التاسع عشر، وبدايه القرن العشرين “أنّ الطبيب في المستوصف المجانيّ للمبشّرين الأميركان، كان يلقّن المرضى حقائق تعاليم المسيح قبل أن يباشر في فحصهم”([35]).
لذلك، أنشأ الشيخ عيادة مجانيّة، في مقابل المستشفى الكبير للمبشّرين، وأوكل أمر العيادة إلى طبيب شابّ لبنانيّ مسيحيّ اسمه “أسادور” بعد أن أصدر فتوى تحرم التعامل مع مستشفى البروتستانت([36])، وأثنى الشيخ الطبيب اللبنانيّ مشيدًا بكياسته، ونبله وإخلاصه وبراعته، وفي السنوات الأخيرة من حياته في العمارة أصدر الشيخ “مجلّة الهدى” التي أوكل إدارتها إلى السيّد عبد المطّلب الهاشميّ (ت 1967م).
صدرت “مجلّة الهدى” شهريًّا مدّة ثلاث سنوات، وتوقّفت عن الصدور على أثر خروج الشيخ النهائيّ من العمارة، أي العام 1932م([37]).
وأمّا العمل الأخير في مواجهة التّبشير الاستعماريّ عند الشّيخ فهو الاهتمام بالشأن التربويّ، حيث أسّس بعض المدارس، ويظهر أنّها مدارس ابتدائيّة عرفت باسم “الهدى”([38])، وهكذا، توزّعت نشاطات الشيخ في العمارة لمواجهة التبشير الإنكليزيّ على:
- الرّد بتصانيف ومؤلّفات فكريّة.
- تأسيس “مجلّة الهدى” والمكتبة المحمّديّة.
- إنشاء مستوصف طبّيّ.
- تأسيس مدرسة الهدى الابتدائيّة.
وبذلك غدا الشيخ حبيب صاحب الكلمة الأولى في العمارة، وجنوب العراق، التفّ الشعب حوله حتّى إنَّ الملك فيصل خشي النفوذ المتزايد للشيخ، فخاطب أهل “العمارة” معاتبًا في إحدى زياراته لهم: “الملك فيصل ملك العراق باستثناء العمارة فملكها هو الشيخ حبيب آل إبراهيم”([39]). بَيْدَ أنّ الشيخ حبيب غادر العمارة سنة 1351هـ/ 1932م نهائيًّا في خطوة شبه مفاجئة([40])، وعاد إلى وطنه لبنان.
4 – مدينة بعلبك “الإقامة والوفاة”
أوائل سنة 1352ه/ 1933م استقرّ الشيخ في مدينة بعلبك، وسبب استقراره نهائيًّا فيها يرجع إلى محض التوفيق ذلك أنَّ الجمعيّة الخيريّة الإسلاميّة العامليّة، التي أسَّسها الزّعيم الشيعيّ رشيد بيضون في بيروت، درجت، ولا تزال، على إحياء مراسم عاشوراء باحتفال حاشد، طلبت من الشيخ حبيب أن يخطب في المحتفلين. وكان من حُسن التوفيق أن يشهد الاحتفال بعض أهل بعلبك([41])، فتأثّروا بما سمعوه من كلام الشيخ، فزاروه، وحدّثوه بحاجتهم إلى عالم دين، وبعد مراجعات، وتوضيحات، وممانعات، وزيارة قصيرة للشيخ للمدينة، تدخّل المرجع الدينيّ أبو الحسن الأصفهانيّ، وأقرّ سكنى الشيخ حبيب في بعلبك([42]).
وهكذا كان، استقرّ الشيخ في العام 1933م في بعلبك، ووهب أهلها ثلاثًا وثلاثين من عمره وعلمه، وَعَظَهُم، أرشدَهم، فضَّ خلافاتهم، وأسّس لهم المساجد، والمدارس، ومطبعة، وزرع في نفوسهم المعرفة الدينيّة، وخلق جيلًا مؤمنًا مثقّفًا، هذه الأعمال ستكون محور الفصل الثالث.
صنّف الشيخ في بعلبك خمسة عشر كتابًا([43])، وفي العام 1945م، أقام الشيخ حبيب علاقة تاريخيّة مع العلويّين في سوريا، على أساس أنّهم من الشّيعة الإماميّة، ويحتاجون إلى العناية، والرعاية نتيجة القهر، والفقر، والظلم الذي عاشوه مع الأتراك، وبالفعل سعى إلى تأسيس مدرسة عصريّة لهم، وساهم في إنشاء” الجمعيّة الخيريّة الإسلاميّة الجعفريّة” في اللاذقيّة، وأرسل بعثة علميّة من الشباب العلويّين.
وفي العام 1952م، زار الشيخ مراقد الأئمة(ع) في العراق وإيران، وفي “قم” المقدّسة استجازه السيّد شهاب الدين المرعشيّ النجفيّ([44]). وفي العام 1958م زار الشيخ “العمارة” بدعوة من أحد أصفيائه الباقين على قيد الحياة([45])، وفي العام 1964م، زاره السيّد محمّد باقر الصدر (ت 1982م) في بعلبك([46])، فضلًا عن السيّد أبو الحسن الأصفهانيّ([47])، (1946م)، وفي صباح 10 ربيع الأوّل 1384ه/ 12 شباط 1965م وافى الشيخ الأجل في بعلبك على أثر نوبة قلبيّة، ونقل جثمانه بناء لوصيّته إلى النجف الأشرف، ودفن في الغرفة السّادسة على يمين الداخل من الباب الجنوبيّ إلى الصّحن الشريف المحيط بمرقد الإمام عليّ(ع)([48]).
5 ـ مصنّفاته([49])
نستطيع أن نوزّع مصنّفات الشيخ على ثلاث مراحل:
- مرحلة النجف/ مرحلة العمارة/ مرحلة بعلبك.
- مصنّفات مرحلة النجف
- رسالة في “العمارة” ذكرها في ذيل كتابه “حديث النعم”([50])، وهي أوّل محاولته في التصنيف، وهي بالتأكيد لم تطبع، بقيت مخطوطة، وهي مفقودة اليوم.
- “حديث النعم” هي سيرة ذاتيّة بقلم الشيخ ذكرناها سابقًا، طبعت في كتاب مستقلّ، بالتعاون مع المستشاريّة الثقافيّة للجمهوريّة الإسلاميّة في بيروت، في العام 1995م.
- “البيّنة التامّة في الوقائع بعد العامّة” ذكرها في “حديث النعم”([51]). هي مفقودة اليوم.
- مصنّفات مرحلة العمارة
- “منهج الحقّ”، أوّل ما طبع من مؤلّفات الشيخ في حياته، صدر العام 1928م.
- “المحاضرات العماريّة” طبعت العام 1928م([52]).
- “قل جاء الحقّ”، صنّفه ردًّا على كتاب “منار الحقّ”، وهو من الكتب التي نشرها البروتستانت في العمارة، وهو مفقود اليوم.
- “محمّد الشفيع”، صدر العام 1928م([53]).
- “نهج التدريس في مدرسة الهدى”، وهو مفقود اليوم([54]).
- مصنّفات “مرحلة بعلبك”
- “الانتصار”، صدر العام 1934م([55]).
- “الجواب النفيس على مسائل باريس”، وهو في الجواب عن أسئلة وجّهها الدكتور سليم حيدر، الذي كان آنذاك في باريس، إلى مفتي بعلبك الشيخ عليّ التقيّ زغيب، فأحالها الشيخ زغيب مشفوعة بكتاب منه إلى الشيخ حبيب، طالبًا منه الإجابة عنها([56])، كتبه الشيخ حبيب سنة 1934م، وطبع في مطبعة العرفان في صيدا العام 1934م.
- “فصول الكلام في مختصر تاريخ الإسلام”، كان في نيّة المؤلِّف أن يُتمّه في أربعة وعشرين جزءًا، ولكن صدر منه جزءين فقط، طبع في مطبعة العرفان بصيدا، سنة 1934م.
- “الخطاب المُنير في عيد “يوم الغدير””، هو مفقود، ذكره الشيخ حبيب في ما أحصاه من كتبه على الغلاف الخارجيّ الأخير من كتابه “اليتيمة” تحت عنوان: “المطبوع من مؤلَّفات المهاجر العامليّ حبيب آل إبراهيم”([57]).
- “اليتيمة”، كتاب رمى مؤلِّفه إلى التّعريف بما انتخبه من الكتب القديمة، والحديثة وبمصنّفيها، مع بيان ما يمتاز به كلّ كتاب منها، طبع طبعة وحيدة في مطبعة العرفان، صيدا، سنة 1934م، ويذكر أحد تلامذته اليوم، وهو الحاج إبراهيم المنينيّ (لا يزال حيًّا)، أنّه وتيمُّنًا بكتاب اليتيمة للشّيخ حاول أن يؤسِّس مكتبة خاصّة به، جمع فيها أسماء الكتب التي ذكرها الشيخ حبيب في “اليتيمة”([58]).
- “ذكرى الحسين”، طبع في مطبعة العرفان صيدا العام 1935م.
- “المطالب المُهِمّة”، كتاب صنّفه الشيخ حبيب تعليقًا على مقالة لمحمّد إسعاف النّشاشيبيّ([59])، طبع الكتاب في مطبعة العرفان في صيدا، العام 1936م.
- “سبيل المؤمنين”، متن فقهيّ تعليميّ على نسق كتاب “الصّراط المستقيم”، بَيْدَ أنّه أوسع منه مادّة وأوفى شرحًا، انتشر في جبال العلويّين في الساحل السوريّ، طبع طبعة ثالثة العام 1953م على نفقة السيّد جعفر المرعشيّ ليوزّع مجانًا على العلويّين.
- “المولد والغدير”، قصيدتان ملحميّتان يبلغ مجموع أبياتهما زهاء الثلاثماية بيت، صدر العام 1941م.
- “المثل الأعلى في الصبر والصلاة”، كتاب بيّن فيه ما يتعلّق بالصبر والصلاة، صدر العام 1943م.
- “أنا مؤمن”، سلسلة من ثلاثة أجزاء، وضعها للتّعليم الدين في الصفوف الابتدائيّة في مدارسه، اتّبع في صياغة دروسها طريقة مبتكرة، كلّ درس منها يبدأ بلازمة هي “أنا مؤمن عرفت… إلخ”، صدر العام 1955م.
- “الإيمان في أصوله وفروعه”، سلسلة من جزءين، وضعها كسابقتها للتعليم الدينيّ، في المرحلة المتوسّطة، صدر سنة 1957م.
- “الحقائق في الجوامع والفوا
التعليقات مغلقة.